تفسير سورة الواقعة [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

ففي سورة الواقعة بين ربنا جل جلاله بعضاً من نعيم أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم، وأخبر جل جلاله أنهم في سدر مخضود، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سدرة المنتهى بأن: ( نبقها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة، وأنه قد غشيها من نور الله ما لا يستطيع له وصفاً )، فأهل الجنة متمتعون بالسدر، وهذا السدر مخضود: قد خضد شوكه، فليس فيه أذى، فمكان الشوكة ثمرة.

ومن نعيمهم كذلك أنهم في طلح منضود، والطلح هو: شجر الموز، ومنضود أي: متتابع متراص، بعضه فوق بعض، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]، فهم في ظل لا ينحسر ولا يزول، بل هذا الظل دائم، كما قال ربنا جل جلاله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا[الرعد:35]، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: ( في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ).

وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:31]، وهذا الماء يجري من تحت أرجلهم في غير أخاديد، وهذا الماء لا ينقطع بل هو مسكوب، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الماء ( أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وآنيته بعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ).

فهم في: سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:28-31]، ثم بعد ذلك: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:32-33]، فاكهة من كل ما تشتهيه أنفسهم، كما قال جل من قائل: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، وهذه الفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة، ليست كفاكهة الدنيا تكون حيناً، وتنقطع حيناً، وتتاح لك حيناً، وتمنع عنك حيناً بسبب فقر أو مرض، أو ارتفاع ثمن أو شح، أو غير ذلك، وإنما هذه الفاكهة مستمرة.

وأخبرنا ربنا جل جلاله بأنها دانية منهم قريبة من أفواههم، لا يحتاج الواحد منهم إذا اشتهى تمراً أن يصعد إلى نخلة فيقطف، ولا أن يحمل حجراً فيضرب، ولا يحتاج مئونة، وإنما كما قال ربنا جل جلاله: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]، أي: قريب، فهم في فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة.

وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:34]، للمفسرين في الفرش قولان:

القول الأول: بحمله على ظاهره: أي أنه ما يفرش على السرير من ثياب، وما يوضع من جوهر، وما يوضع من حجال، وما يوضع من حلي، قالوا: هذه هي الفرش.

وأكثر المفسرين على تفسير الفرش بالمعنى المجازي وهو: النساء؛ لأن المرأة تسمى: فراشاً، بدليل قوله بعدها: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:35-36]، فالكلام عن النساء، فأهل الجنة في فرش مرفوعة، وإذا حملت على المعنى الحقيقي بأنها فرش، فلا غرابة أيضاً؛ لأن الله عز وجل قال في نعيم أهل الجنة: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [الغاشية:13]، فهنا أيضاً: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:34].

قال الله عز وجل: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]، هل المراد بذلك الحور العين اللائي أنشأهن ربنا جل جلاله إنشاءً وأعدهن لأهل الجنة؟ أو أن المراد النساء المؤمنات الطيبات اللائي كن في الدنيا يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة، ويطعن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ أنشأهن الله عز وجل في الجنة إنشاءً جديداً بعد ما قبضن في الدنيا وهن عجائز شمطاً عمشاً رمصاً، أعاد الله عز وجل إنشاءهن، مثلما أن رجال الجنة كذلك سيجعلهم الله عز وجل في طول آدم عليه السلام ستون ذراعاً في السماء، وفي حسن يوسف عليه السلام، وفي سن المسيح ابن مريم عليه السلام ثلاث وثلاثين سنة، كذلك نساء الدنيا ينشئهن الله إنشاءً جديداً، فيدخلن الجنة على هذه الصفة من الكمال والجمال والحسن والبهاء والصفاء، لا يعتريهن شيء مما كان في الدنيا من هرم أو مرض أو شيخوخة أو غير ذلك.

قال الله عز وجل: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:36]، أبكاراً: جمع بكر، وهن على هذه الحال الوقت كله، وليس وصفاً عارضاً في لحظة ما أو في يوم ما، بل هن في الجنة أبكار على الدوام، كلما أتاها زوجها وجدها بكراً.

قال الله عز وجل: عُرُباً [الواقعة:37]، عرباً: جمع عروب، أي: متحببات متعشقات لأزواجهن، يتكلمن مع الأزواج بالكلام الهين اللين الناعم، الذي يسبي الألباب، ويأسر القلوب، ويتمنى السامع أنها ما سكتت، ثم إنها تغني لزوجها فتقول: ( نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا يمتن، نحن المقيمات فلا يظعن ) فهن متحببات متعشقات لأزواجهن، يدخلن السرور عليهم، بكل ما يستطعن، فهن بيض الوجوه، خضر الثياب، صفر الحلي، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير.

أَتْرَاباً [الواقعة:37]، أتراباً أي: على سن واحدة، يقال: هذه ترب هذه، أي: مثيلتها في السن، ويقال: هذا الرجل قرن هذا، أي: مثيله في السن، فالرجال المتماثلون في السن يقال لهم: أقران، والنساء المتماثلات في السن يقال لهن: أتراب.

كلهن على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، قالوا: لأن هذا هو سن اكتمال الشباب والأنوثة، فإنها بعد ذلك تصير شيخة وقبل ذلك لا تزال صبية، أما ثلاث وثلاثون فسن اكتمال الشباب والأنوثة.

قال الله عز وجل: لأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:38] هذا النعيم كله لأصحاب اليمين من أهل الجنة، وكلمة اليمين: مشتقة من اليمن؛ لأنهم ميمونون مباركون، كانت أعمالهم مباركة، وأقوالهم مباركة، وأحوالهم مباركة، وقبل ذلك قلوبهم مباركة، انطوت على المعتقد الصحيح في العبودية لله عز وجل وحده.

وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال أدنى أهل الجنة منزلة فقال: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من توبقه ذنوبه فيدخله الله النار، ثم بعد ذلك إذا استغاث بالله رب العالمين، يقول الله جل جلاله له: عبدي! اذهب فادخل الجنة، فيقول: يا رب! وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أعطياتهم )، يعني: أن الجنة قد أخذ كل إنسان فيها مكانه ونال جائزته، ( فيقول الله عز وجل: أترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب! فيقول الله عز وجل: فإن لك هذا ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت يا رب! فيقول: ولك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك وقرت عينك، قال موسى عليه السلام: يا رب! فمن أعلى أهل الجنة منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي فلم تر عين ولم تسمع أذن )، فهذا أدنى أهل الجنة منزلة في مثل هذا النعيم، فما بالكم بالأولين الذين أراد الله كرامتهم والإحسان إليهم!

قال الله عز وجل: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40]، وهناك لما قال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:10-12]، قال: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14]، هذه في المقربين، أعلى أهل الجنة منزلة، ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ [الواقعة:13] أي: من الأمم المتقدمة، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما أصحاب اليمين، وهم دون المقربين فإنهم: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40]، يدل على هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - والحديث في الصحيحين - : عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك! يقول الله عز وجل: أخرج بعث النار من ولدك، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول له: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذلك حين تضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قال الصحابة: يا رسول الله! فمن يكون ذلك الواحد؟ قال عليه الصلاة والسلام: إن يأجوج ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، وإني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر الصحابة رضي الله عنهم، فقال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة -أي: النصف- فكبروا، قال: والذي نفسي بيده لأنتم ثلثا أهل الجنة )، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلة من الآخرين يشغلون ثلثي الجنة، ثم هم ثلثا أهل الجنة؛ ولذلك قال ربنا جل جلاله: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40].

أما ما قاله بعض المفسرين رحمهم الله: بأن هذا الموضع ناسخ للموضع الأول، فقوله جل جلاله: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40]، ينسخ قوله: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14]، فهذا ليس بصواب؛ لأن هذا من الأخبار، والنسخ يدخل في الأحكام، أما الأخبار فلا يدخلها نسخ؛ لأن الأخبار صدق محض، أما الأحكام فالله عز وجل ينشئ فيها حيناً بعد حين وفق مصالح عباده، وما يحقق عبوديتهم لله عز وجل على الوجه الذي يريده في كل حين؛ ولذلك نقول - وهذا الذي رجحه العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير أضواء البيان بأن الموضع الأول: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14] المراد بالثلة من الأولين: الأمم السابقة، وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:14] أي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بالنسبة للمقربين الذين هم أعلى أهل الجنة درجة، وأما هذا الموضع: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40]، فالمراد به: أصحاب اليمين، وهم جماعة كثيرة من الأمم السابقة وأكثر منهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الله عز وجل: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40].

ثم قال سبحانه: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة:41]، هذه عادة القرآن دائماً إذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار، وإذا ذكر الأبرار ذكر الفجار، وإذا ذكر المؤمنين ذكر الكفار، وهذا معنى التثنية: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ[الزمر:23]، يثني فيه الأخبار، يذكر هؤلاء ويذكر هؤلاء؛ ولذلك تقرءون في القرآن: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وتقرءون في القرآن: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:12-13]، وتقرءون في القرآن: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، وتقرءون في القرآن: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:43-44]، ثم تقرءون بعدها: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:45-46]، فربنا جل جلاله فيما مضى ذكر أصحاب اليمين، وهاهنا يذكر أصحاب الشمال نعوذ بالله من حالهم؛ ولذلك يقول: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة:41]، والاستفهام هنا: للتهويل، أي: هم في هول وهم وغم، وضيق ونكد.

سبب تسميتهم بأصحاب الشمال

سموا أصحاب شمال؛ إما لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم فيأخذونها من وراء ظهورهم، والواحد منهم يندب حظه ويبكي نفسه، ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]، يبكي على نفسه، نسأل الله العافية!

أو سموا أصحاب الشمال؛ لأنهم يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار؛ أو لأنهم يكونون عن شمال العرش؛ بخلاف أولئك الطيبين فإنهم عن يمين العرش؛ أو سموا أصحاب شمال أو أصحاب مشأمة؛ لأنهم مشئومون، كانت أعمالهم وأقوالهم ومعتقداتهم شؤماً عليهم، عياذاً بالله.

السموم والحميم واليحموم لأصحاب الشمال في النار

ثم يذكر ربنا جل جلاله بعض أحوالهم: قال عز وجل: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ [الواقعة:42]، السموم: ريح حارة من ريح جهنم تضيق معها أنفاسهم ويكونون في غاية القلق، حتى لا يكاد الواحد منهم يجد ما يتنفسه، كما قال ربنا جل جلاله: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:13].

وقوله: وَحَمِيمٍ [الواقعة:42]، الحميم: ماء تناهى حره يقطع أمعاءهم، كما قال ربنا جل جلاله: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، وقال سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19-20]، يعني: أن هذا الماء الحار الذي يصب عليهم -والعياذ بالله- يؤثر عليهم ظاهراً وباطناً، أما الظاهر: فإنه يصهر جلودهم، وأما الباطن: فإنه يقطع أمعاءهم، وقال الله عز وجل: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29].

وقال الله عز وجل: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16-17]، فهذا حالهم الجو جو معتم، جو سيئ، جو خانق، ثم بعد ذلك الشراب شراب حار، يصهر الجلود، ويقطع الأمعاء.

قال: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة:43]، اليحموم هو: اللهب الذي يصحبه دخان، قال الله عز وجل: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33]، وهناك لما تكلم عن أهل النار قال: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ [المرسلات:29-31]، فهم يقولون: هذا الظل يا ليته ما كان! كما أن الماء الحميم يا ليته ما كان! والهواء الذي يهب عليهم السموم يا ليته ما كان!

فالجو خانق، والشراب حارق، والظل لا يغني عنهم شيئاً.

قال الله عز وجل: لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:44]، أي: لا فيه برد فيخفف ولا فيه كرامة لهم.

ثم بين ربنا جل جلاله ثلاثاً من جرائمهم:

من جرائم أصحاب الشمال في الدنيا الترفه والانغماس في ملذاتها مع الغفلة عن الآخرة

الجريمة الأولى: قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45]، وهي: أنهم كانوا في الدنيا مشغولين بمطاعمهم ومشاربهم، ومناكحهم ومراكبهم وملابسهم، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، الواحد منهم كان همه بطنه وفرجه، كان همه أن يتنعم في الدنيا: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ[الحجر:3]، فما فكروا أبداً في لقاء الله عز وجل، ولا عملوا على تعظيمه وإجلاله، وإنفاذ شرعه وتطبيق دينه، والركوع والسجود له، والخوف منه والرهبة من عذابه، هذا كله لم يخطر لهم على بال.

كانوا أهل ترف، وما ذكر الترف في القرآن إلا مذموماً، قال الله عز وجل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16]، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، هكذا أهل الترف في الدنيا: أهل ضحك، أهل سرور، أهل فرفشة، ولربما لو سمعوا من يذكر بالموت، أو من يذكر بالآخرة، أو من يذكر بعذاب القبر ونعيمه، أو بالجنة والنار نفروا منه، وغضبوا من كلامه، وقالوا له: لم تعكر علينا صفونا؟! لم تفسد علينا عيشنا؟! دعنا نتمتع، لا داعي لهذا الكلام، كف عنا حديثك: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45]، أي: يحبون الترف والتنعم؛ ولذلك قال الله عز وجل في الحديث: ( وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، ومن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة )؛ ولذلك الإنسان المسلم الطيب يأكل من طيبات ما رزقه الله، ويتمتع بالدنيا، لكنه في الوقت نفسه يدع شيئاً للآخرة، فالآخرة دائماً على باله، يجوع أحياناً، يصوم لله عز وجل في رمضان، ويصوم لله تطوعاً من أجل ظمأ ذلك اليوم وجوعه، يسهر في قيام الليل في رمضان وفي غير رمضان، من أجل أن يريحه الله عز وجل في ذلك اليوم، لا يحرص على أن يستوفي كل الطيبات في هذه الدنيا؛ ولذلك ذم الله قوماً فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]، فالذين يحرصون على أن يبلغوا غاية المتعة في كل شيء، لا يدعون شيئاً للآخرة، الواحد منهم ما خرج من عينه مثل رأس الذباب من خشية الله، ما دمعت عينه قط، ولا أطعم لله قط، ولا سقى لله قط، ولا كسا لله قط، وإنما عمله كله من أجل الدنيا؛ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45].

إنكار البعث

الجريمة الثانية: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46]، والحنث العظيم فسره المفسرون بأنه الجرائم الكبار، والموبقات العظام، كانوا عليها مصرين، وعلى اقترافها حريصين، وأعظم الحنث: الشرك بالله؛ لأن الله عز وجل أخذ علينا العهد والميثاق لما خلق أبانا آدم عليه الصلاة والسلام حين مسح على ظهره، وأخرج ذريته ونثرهم بين يديه، وأخذ عليهم العهد: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى[الأعراف:172]، فالملحد والشيوعي والدهري واليهودي والنصراني والوثني والمجوسي والمؤمن.. كلهم قالوا: بلى، لكن بعضهم حنث بهذا العهد، ونقض ذلك الميثاق بعدما خرج إلى الدنيا، أخرجه الله إلى الدنيا ضعيفاً جاهلاً لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، فلما اكتملت قوته صار يمشي وللأرض منه وئيد، وأول من تكبر عليه وكفر به هو الله رب العالمين، الذي أوجده وخلقه، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، وعلمه ما لم يكن يعلم، فكفر به وجحد ما بينه وبين الله من عهد، ذكر بالله مراراً فلم يتذكر، أنذر بعذاب الله فسخر؛ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46].

ولذلك لو تأملتم في أولئك المجرمين، كم ذكروا بالله عز وجل! انظروا إلى موسى عليه السلام مع فرعون، كم من آية أراه إياها، كم من موعظة ألقاها على سمعه، كم من دليل ساقه إليه، ومع ذلك الرجل مصر على كفره، حتى بعدما رأى البحر ينشق، وموسى عليه السلام ومن معه يدخلون فيمشون على اليابسة، التفت فرعون إلى جنوده، وقال: انظروا، هذا البحر قد انشق لي من أجل أن أتبع عبيدي هؤلاء الآبقين، يزور على الناس؛ ولذلك هذا المسكين ما لجأ إلى الإيمان الكاذب المدعى إلا بعد ما أدركه الغرق: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ[يونس:90]، وهو كذاب؛ لأن الله قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، فلو نجا من الغرق لرجع إلى الكفر بالله عز وجل، هذا طبعه؛ ولذلك قال الله عز وجل: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46].

من جرائم أصحاب الشمال في الدنيا إنكار البعث

الجريمة الثالثة: كانوا يكذبون بالبعث: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، يستنكرون! مثل ما مر معنا في سورة يس، لما جاء أبي بن خلف فطحن العظم البالي في كفه ثم نفخ فيه، وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد ما صارت رميماً؟!

هكذا كانوا يستبعدون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً[الواقعة:47]، وهذا من جهالتهم، فإن العظام لا تبقى عظاماً، وكما قيل: ثلاث لثلاث: اللحم للدود، والعظم للتراب، والروح إما للجنة وإما للنار، فالميت إذا دفن بعد حين يتغير حاله، ويختلف أمره، فلا يبقى اللحم لحماً، ولا يبقى العظم عظماً، اللهم إلا من كانوا من عباد الله الصالحين، فإنهم يبقون على حالهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )، وكذلك الصالحون؛ ولذلك شهداء أحد لما جاء السيل فكشف قبورهم، أخرجوهم رطاباً يتثنون على هيئة الرجل النائم بعد دفنهم بست وأربعين سنة، وأصابت المسحاة -الشيء الذي يحفرون به- رجل حمزة فخرج منها الدم؛ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

فهؤلاء كانوا يطرحون هذا السؤال بهذه الجهالة والسذاجة: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، أي: لو فرض أننا سنبعث، وأولئك الآباء الذين ذهبوا في الدهر الأول هل هم أيضاً سيبعثون؟! كانوا يسخرون بمثل هذا الكلام، وكانوا يقررون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء، فيقولون: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ[الجاثية:24]، كانوا يقولون: أرحام تدفع وأرض تبلع، فهذه هي القضية عندهم، ناس يجيئون، وناس يذهبون، وكانوا يظنون أن الموت هو نهاية الأمر، ولكنهم مساكين، وكما قيل:

ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء

فليس الموت فناء محضاً، ولا عدماً مطلقاً، وإنما الموت مفارقة الروح للبدن إلى حين، فبمجرد ما يدخل الإنسان في قبره تعاد الروح في البدن، ومن مات فقد قامت قيامته، فيبدأ الحساب، ويأتيه الملكان ويجلسانه وينتهرانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟

ولذلك ربنا جل جلاله يرد عليهم فيقول: قُلْ[الواقعة:49]، أي: قل يا محمد! لهؤلاء المكذبين بالبعث، المستبعدين وقوعه، إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ [الواقعة:49]، المتقدم والمتأخر، السابق واللاحق، الذكر والأنثى، الشاب والشيخ، المؤمن والكافر، البر والفاجر، إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، كما قال ربنا جل جلاله: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ[التغابن:9]؛ ولذلك من أسماء يوم القيامة يوم الجمع؛ يجمع الله فيه المظلوم مع الظالم، والمحكوم مع الحاكم، والرسول مع من كذبوه، كل رسول سيأتي ومعه قومه، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:50]، وهذا اليوم اختص الله عز وجل نفسه بعلمه، قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ[لقمان:34]، وقال: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً[الأعراف:187]، وقال: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات:42-44]، ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن الساعة، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: أنا وأنت في عدم العلم بها سواء، فالساعة علمها عند ربي جل جلاله، لا يعلم وقتها تحديداً وتعييناً إلا هو.

طعام أصحاب الشمال في النار

قال الله عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ[الواقعة:51]، عبدة الأوثان، والجاحدون للربوبية أو الألوهية، والمكذبون بالبعث والمعاد، لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة:52]، نسأل الله السلامة والعافية! هم في جوع تكاد تتقطع منه أكبادهم، فإذا سألوا الله الطعام، فإنه يطعمهم من الزقوم، وقد أخبر ربنا جل جلاله بأنها شجرة خبيثة بشعة منتنة قبيحة؛ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:62-64]، تنبت في النار والعياذ بالله، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ [الصافات:65-68]، والذي يحملهم على أن يأكلوا من الزقوم هو الجوع، لكنه: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:7]، مثل ما أن الريح التي تهب عليهم ريح سموم، ومثل ما أن الظل الذي يريدون أن يأووا إليه لهب ومعه دخان، قال الله عز وجل: لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ [المرسلات:31]، كذلك هذا الزقوم الذي يأكلونه لا يغني عنهم شيئاً، وهم مع الزقوم يأكلون الضريع، أخبث الشوك وأنتنه، ومع الضريع كذلك يأكلون الغسلين، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة:35-37].

لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة:52-53]، يملئون بطونهم من ذلك الشجر المنتن الخبيث، كالمستجير من الرمضاء بالنار.

شراب أصحاب الشمال في النار

قال الله عز وجل: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ [الواقعة:54]، من ذلك الماء الذي يغلي حتى تناهى حره، فهم يأكلون طعاماً ينزل في بطونهم حميماً، ثم يشربون عليه من الحميم.

قال الله عز وجل: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:55]، الهيم: الإبل العطاش، وقال بعض المفسرين: الهيم: داء يصيب الإبل فتشرب ولا ترتوي، لا تزال تشرب تشرب.. حتى تموت، لكنها لا ترتوي، يصف ربنا جل جلاله حال أهل النار والعياذ بالله بأنهم كالبهائم، يعبون من ذلك الحميم عباً، قال سبحانه: هَذَا نُزُلُهُمْ[الواقعة:56]، أي: هذه هي ضيافتهم.

وبالمقابل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ) أما هؤلاء مستضافون في النار والعياذ بالله.

هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56]، أي: يوم الحساب، سمي يوم القيامة بيوم الدين؛ لأنه يدان فيه الناس، يجزون على أعمالهم، تقول العرب: كما تدين تدان، وتقول العرب:

حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن

وتقول العرب:

اعلم يقيناً أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تدان

أسأل الله أن يختم لنا بالحسنى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.