تفسير سورة الأنعام - الآيات [17-26]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد؛ الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

تقدم معنا الكلام في أن هذه السورة المباركة قد نزلت دفعة واحدة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جاءت على سبيل المجادلة للمشركين الذين أعرضوا عن الدعوة وصدوا عن سبيل الله، وأبوا الانقياد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يريدون الشبه، وقد قال الله عز وجل في ما مضى من الآيات مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:10-12].

وهذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنبياء من قبله قد استهزئ بهم وسخر منهم، وقد أنزل الله بالمستهزئين الساخرين العقوبات، وهؤلاء المشركون على الدرب نفسه.

ولعل سائلاً منهم سأل: لم لا تنزل بنا العقوبات عاجلة غير آجلة، فالله عز وجل أجابهم بقوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ[الأنعام:12]، يعني: في ذلك اليوم ستحاسبون أيها المشركون! وستجازون على سخريتكم واستهزائكم.

ثم إن المشركين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا له مالاً حتى يصير أغناهم، أو أن يملكوه عليهم حتى يصير سيداً فيهم, قال الله عز وجل: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ[الأنعام:13], الله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الغني عن العالمين، هو بكل شيء عليم, هو على كل شيء قدير, هو القادر على أن يحول بطحاء مكة ذهباً لنبيه عليه الصلاة والسلام, فليس محمد صلى الله عليه وسلم محتاجاً لعروضكم أيها المشركون؛ لأن الله الذي أرسله له ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم.

ثم قال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:14-16], يلقن الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم حجته, قل لهؤلاء المشركين: لا يمكن أن أتخذ غير الله ولياً؛ لأن وليي الله جل جلاله، هو فاطر السموات والأرض، هو مبدعهما على غير مثال سابق؛ لأن وليي الله جل جلاله هو الذي يطعم ولا يطعم، ولا يمكن أن أتخذ غيره ولياً؛ لأني أعبد الله عز وجل بالخوف مع الرجاء، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]، وهو يوم القيامة، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16].

ثقة رسول الله والأنبياء قبله بالله عز وجل

قال الله عز وجل مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ[الأنعام:17], كأن المشركين تهددوه وتوعدوه، قالوا له: يا محمد! لئن لم تنته لنفعلن بك كذا وكذا، ولننزلن بك من العذاب كذا وكذا، كما هي عادة المشركين الأولين؛ فقد قالوا لنوح: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116], وقالوا للوط: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء:167], وقالوا لشعيب: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91], وهكذا كان المشركون يتوعدون أنبياءهم ويهددونهم ويخوفونهم، ولكن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا أهل ثقة بالله؛ ولذلك لما هدد قوم إبراهيم إبراهيم عليه السلام: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68], كان إبراهيم عليه السلام يجيبهم بقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81], الله عز وجل هاهنا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لو قدر الله عليك ضراً فلا بد أن ينزل بك، ولو قدر الله لك خيراً فلا بد أن تناله، ولا يستطيع أحد منعه، كما قال ربنا في آية أخرى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].

أيها الإخوة الكرام! هذا المعنى التوحيدي، هذا المعنى في الإيمان بقضاء الله وقدره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يلقنه صغار المسلمين قبل كبارهم، والحديث الذي نحفظه جميعاً: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ), وفي القرآن الكريم نقرأ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51-52].

أيها الإخوة! الإيمان بالقدر يسكب في القلب طمأنينة، وفي النفس راحة، فلا يعيش المسلم مع الهواجس والوساوس؛ لولا كذا لكان كذا، لو لم أقل كذا لما حصل كذا، لو لم أفعل كذا لما حصل كذا..

الجانب البلاغي في الآية

وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17], الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأصل المس وضع اليد على الشيء، وقد يكون وضع اليد مباشرة أو بواسطة، وقد استعير هذا المعنى للإيصال، يعني: أن يصلك الله عز وجل بشيء تكرهه فلا كاشف له إلا هو.

وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17], الضر ضد النفع، والمراد به الشر الذي هو ضد الخير، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17] أي: بشر. ثم قال بعدها: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام:17]، وهو من أساليب التنويع وفصاحة القرآن، لم يقل الله: وإن يمسسك الله بشر، وإن يمسسك بخير، وإنما قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ[الأنعام:17], قال ابن عطية رحمه الله تعالى: وناب الضر في هذه الآية مناب الشر، وإن كان الشر أعم منه مقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة، فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة، ومثل هذه الآية قول ربنا: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، فإذا ذكر الجوع ذكر الظمأ، لكن الله عز وجل لم يقل: إن لك ألا تجوع فيها ولا تظمأ، بل ذكر مع الجوع العري، إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119].

ثم قال سبحانه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ[الأنعام:17]، بأي نوع من أنواع الخير، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].

صور من ثبات الصحابة على التوحيد

إن معنى الآية: يا محمد! إن قدر الله عليك الضر فلا يستطيع أحد كشفه عنك إلا أن يشاء الله جل جلاله، وإن قدر لك الخير فلا يستطيع أحد منعه عنك؛ لأن الله عز وجل على كل شيء قدير، ومقدراته مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلا قدرة خالقها.

وهذا المعنى الوارد في الآية نقش في قلوب الصحابة نقشاً، فكانت جارية رومية يقال لها: زنيرة قد آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الضعيفة المملوكة، فلم يكن لها عشيرة تحميها ولا قبيلة تدفع عنها، فأخذ المشركون يعذبونها ويعذبونها؛ فيلقونها في حر الشمس، ويجيعونها ويعطشونها ويضربونها ويضعون على صدرها الصخرة العظيمة.. ومن شدة العذاب ذهب بصرها رضي الله عنها وعميت، وتصوروا تلك الحالة لامرأة بطبعها ضعيفة -بل الإنسان بطبعه ضعيف- سلط عليها أنواع الأذى من قبل أناس لا يرجون لله وقاراً، فلما ذهب بصرها وما عادت ترى شيئاً قال لها المشركون: أذهب بصرك اللات والعزى, هذه من بركات اللات والعزى، فقالت: كذبتم، وبيت الله! ما تنفع اللات والعزى ولا تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على رده إن شاء؛ فرد الله عليها بصرها! لأنها آمنت بأن النفع والضر بيد الله جل جلاله.

وكذلك بعض الصحابة عليهم من الله الرضوان، فقد خرج أحدهم مهاجراً ثم رجع إلى مكة وأبى أن يدخل في جوار المشرك الذي كان في جواره، فبدأ المشركون يعتدون على ذلك الصحابي، فضربه أحدهم حتى فقأ عينه، فجاء المشرك الذي كان يجيره وقال له: يا ابن أخي! ما كان أغناك عن هذا، أما كان خيراً لك جواري؟! فقال له: لا أرضى بجوار غير جوار الله، وقد كانت عيني الأخرى أحوج لما أصابت أختها في سبيل الله. هكذا كانوا رضوان الله عليهم.

قال الله عز وجل مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ[الأنعام:17], كأن المشركين تهددوه وتوعدوه، قالوا له: يا محمد! لئن لم تنته لنفعلن بك كذا وكذا، ولننزلن بك من العذاب كذا وكذا، كما هي عادة المشركين الأولين؛ فقد قالوا لنوح: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116], وقالوا للوط: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء:167], وقالوا لشعيب: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91], وهكذا كان المشركون يتوعدون أنبياءهم ويهددونهم ويخوفونهم، ولكن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا أهل ثقة بالله؛ ولذلك لما هدد قوم إبراهيم إبراهيم عليه السلام: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68], كان إبراهيم عليه السلام يجيبهم بقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81], الله عز وجل هاهنا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لو قدر الله عليك ضراً فلا بد أن ينزل بك، ولو قدر الله لك خيراً فلا بد أن تناله، ولا يستطيع أحد منعه، كما قال ربنا في آية أخرى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].

أيها الإخوة الكرام! هذا المعنى التوحيدي، هذا المعنى في الإيمان بقضاء الله وقدره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يلقنه صغار المسلمين قبل كبارهم، والحديث الذي نحفظه جميعاً: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ), وفي القرآن الكريم نقرأ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51-52].

أيها الإخوة! الإيمان بالقدر يسكب في القلب طمأنينة، وفي النفس راحة، فلا يعيش المسلم مع الهواجس والوساوس؛ لولا كذا لكان كذا، لو لم أقل كذا لما حصل كذا، لو لم أفعل كذا لما حصل كذا..

وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17], الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأصل المس وضع اليد على الشيء، وقد يكون وضع اليد مباشرة أو بواسطة، وقد استعير هذا المعنى للإيصال، يعني: أن يصلك الله عز وجل بشيء تكرهه فلا كاشف له إلا هو.

وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17], الضر ضد النفع، والمراد به الشر الذي هو ضد الخير، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17] أي: بشر. ثم قال بعدها: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ [الأنعام:17]، وهو من أساليب التنويع وفصاحة القرآن، لم يقل الله: وإن يمسسك الله بشر، وإن يمسسك بخير، وإنما قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ[الأنعام:17], قال ابن عطية رحمه الله تعالى: وناب الضر في هذه الآية مناب الشر، وإن كان الشر أعم منه مقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة، فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة، ومثل هذه الآية قول ربنا: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، فإذا ذكر الجوع ذكر الظمأ، لكن الله عز وجل لم يقل: إن لك ألا تجوع فيها ولا تظمأ، بل ذكر مع الجوع العري، إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119].

ثم قال سبحانه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ[الأنعام:17]، بأي نوع من أنواع الخير، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].

إن معنى الآية: يا محمد! إن قدر الله عليك الضر فلا يستطيع أحد كشفه عنك إلا أن يشاء الله جل جلاله، وإن قدر لك الخير فلا يستطيع أحد منعه عنك؛ لأن الله عز وجل على كل شيء قدير، ومقدراته مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلا قدرة خالقها.

وهذا المعنى الوارد في الآية نقش في قلوب الصحابة نقشاً، فكانت جارية رومية يقال لها: زنيرة قد آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الضعيفة المملوكة، فلم يكن لها عشيرة تحميها ولا قبيلة تدفع عنها، فأخذ المشركون يعذبونها ويعذبونها؛ فيلقونها في حر الشمس، ويجيعونها ويعطشونها ويضربونها ويضعون على صدرها الصخرة العظيمة.. ومن شدة العذاب ذهب بصرها رضي الله عنها وعميت، وتصوروا تلك الحالة لامرأة بطبعها ضعيفة -بل الإنسان بطبعه ضعيف- سلط عليها أنواع الأذى من قبل أناس لا يرجون لله وقاراً، فلما ذهب بصرها وما عادت ترى شيئاً قال لها المشركون: أذهب بصرك اللات والعزى, هذه من بركات اللات والعزى، فقالت: كذبتم، وبيت الله! ما تنفع اللات والعزى ولا تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على رده إن شاء؛ فرد الله عليها بصرها! لأنها آمنت بأن النفع والضر بيد الله جل جلاله.

وكذلك بعض الصحابة عليهم من الله الرضوان، فقد خرج أحدهم مهاجراً ثم رجع إلى مكة وأبى أن يدخل في جوار المشرك الذي كان في جواره، فبدأ المشركون يعتدون على ذلك الصحابي، فضربه أحدهم حتى فقأ عينه، فجاء المشرك الذي كان يجيره وقال له: يا ابن أخي! ما كان أغناك عن هذا، أما كان خيراً لك جواري؟! فقال له: لا أرضى بجوار غير جوار الله، وقد كانت عيني الأخرى أحوج لما أصابت أختها في سبيل الله. هكذا كانوا رضوان الله عليهم.

يقول الله عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].

هذه الآية تأكيد لمعنى الآية الأولى، إذ هو القاهر جل جلاله، لا يتصرف متصرف ولا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته, ليس لأحد من الناس الخروج عن ملكه وسلطانه، بل الجميع ملوكاً ومملوكين، حكاماً ومحكومين، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، أغنياء وفقراء مدبرون مقهورون, فالله جل جلاله هو القاهر، فهو المستحق للعبادة وحده، وهو القاهر الغالب المكرِه جل جلاله، لا ينفلت من قدرته أحد، خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة، ولانت لقدرته الشدائد الصلاب، فهو رب الأرباب ومسبب الأسباب، عنت له الوجوه ودانت له الخلائق.

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، العباد جمع عبد، يجمع العبد على عباد وعبيد، لكن كلمة العباد تطلق في القرآن غالباً ويراد بها البشر، والعبيد البشر وغيرهم.

هذا القهر من الله عز وجل ظاهر نلمسه فينا وفي غيرنا؛ فقد يصيبنا ما لا نحب كالمرض والموت والذي قدره هو الله، الواحد منا لو خير والله ما كان يريد أن يفارق حميمه أو صديقه، ما كان يريد أن يفارق والده أو ولده لكن الله عز وجل قهر العباد بالموت, الواحد منا لو خير ما يريد أن يصيبه مرض ولا وجع ولا ألم ولا هم ولا غم.. ولكن الله عز وجل قهرنا بذلك كله، ثم إننا نريد أشياء يمنعها الله عز وجل عنا، العقيم يريد الولد، والعزب يريد الزوج، والفقير يريد الغنى.. لكن الله عز وجل أوجد كل واحد منا مقهوراً؛ وهناك أمور يستطيع فعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة أخرة، أما ترون الواحد منا يمشي على الأرض، يدب دبيباً وللأرض منه وئيد، ثم بعد ذلك فجأة يصيبه الله عز وجل بالخدر في رجله، فيصرخ من الألم ولا يستطيع أن يقوم فضلاً عن أن يمشي، هذا يحصل، قد يكون الواحد منا ذا قوة وعنفوان، يدخل ويخرج وينزل ويصعد، ثم فجأة يبتليه الله عز وجل بمرض يقعده عن الحراك أياماً ولربما شهوراً.

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، لكنه ليس قهراً عن تسلط، أو تجبر أو قائماً على العبث.. معاذ الله!

ثم قال سبحانه: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، الحكيم: المحكم لما صنع وفعل، والمحكم لما قدر، وهو الخبير جل جلاله من خبر الأمر إذا علمه وجربه.

ثم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المشركين المتجبرين: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19].

سبب نزول قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم...)

سبب نزول هذه الآية -كما ذكر الواحدي -: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد! ما نرى أحداً مصدقك بما تقول، قد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؟! يقول المشركون للنبي عليه الصلاة والسلام: ما نرى أحداً يصدقك في الذي تزعم أن الله أرسلك، وقد سألنا أهل العلم بالكتاب الأول، سألنا اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؟! كانوا يقولون هذا الكلام وحالهم كما قال ربنا: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً[النمل:14]، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].

الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بالليل يرتل القرآن ترتيلاً بالصوت الشجي وصدره يغلي كأزيز المرجل، يأتي الأخنس بن شريق فيقعد مقعداً يسمع وأبو سفيان بن حرب يقعد في مكان آخر ولا يرى صاحبه، و عتبة بن ربيعة في مقعد ثالث، و الوليد بن المغيرة في مقعد رابع، وكل منهم يظن نفسه وحده، ثم بعد ذلك إذا انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته وتفرق القوم التقوا فلام بعضهم بعضاً.. لماذا تأتي لتسمع؟! ويقول الآخر: وأنت لم أتيت؟ ثم يتواعدون ألا يعودوا، وفي اليوم الذي بعده يجذبهم القرآن بحلاوته وطلاوته وحسن نظامه وجودة معانيه واتساق ألفاظه، فيأتون ويسمعون فإذا تفرقوا التقوا فلام بعضهم بعضاً، ثم خلا الأخنس بن شريق بـأبي جهل ، وقال له: يا أبا الحكم ! ما ترى فيما يقول محمد؟ ما رأيك فيما تسمع؟ قد مرت بنا ليالي ونحن نسمع، قال له أبو جهل : والله! إني لأعلم أن محمداً على حق، وأنه صادق لا يكذب، ولكننا تنافسنا وبنو عبد مناف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، حتى إذا تجاثينا بالركب وكنا كفرسي رهان قال بنو عبد مناف: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً! هكذا.

فهاهنا يقول الله لنبيه قل لهم: يا مشركون، يا من تطلبون شهادة، أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]، أكبر شهيد في الوجود هو الله، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28], قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه: أي شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان، وما انتظر منهم جواباً! بل أمره الله جل جلاله أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التي لا يماري فيها عاقل، ولا يجادل فيها إلا مكابر، وهي أن شهادة الله أكبر شهادة وأقواها وأزكاها؛ لأنها شهادة من يستحيل عليه الخطأ، والكذب، وقد شهد الله جل جلاله لمحمد صلى الله عليه وسلم بصدقه فيما يبلغه عنه، فلماذا تعرضون عن دعوتي وتتنكبون الطريق المستقيم؟!

(قل) يا محمد: (أي): اسم استفهام، شَيْءٍ ))، كلمة الشيء تطلق على الموجود، خالقاً أو مخلوقاً، أَكْبَرُ شَهَادَةً ))، بمعنى: أقوى وأعدل، وأعظم وأجل. قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، هذا تهديد، قل: أنا أكلكم إلى الله جل جلاله الذي يسمع كلامنا، ويرى مكاننا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، وهو الذي أرسلني، وقد سمع جل جلاله جوابكم لي، واعتراضكم علي، وتكذيبكم إياي.

الحكمة من إنزال القرآن على رسول الله

ثم قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19], الله جل جلاله أنزل عليّ هذا الكتاب المعجز لأنذركم به، والقرآن إنذار وتبشير، لكنه اقتصر على الإنذار لأن المخاطبين في حال مكابرتهم لا يليق بهم إلا الإنذار، فهم ليسوا أهلاً للبشارة؛ لأنذركم به يا من تعاصرونني وتسمعونني وترونني، وأنذر من يأتي بعدكم ممن يبلغه هذا الخطاب ويسمع هذا القرآن ولو لم تحصل بيني وبينه مشافهة. قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه؛ لأن القرآن الذي نتلوه الآن هو نفسه الذي تلاه محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقال يعض المفسرين المعنى: لأنذركم به وأنذر من بلغ الحلم.

زعم المشركين آلهة مع الله ورد الله عليهم في ذلك

قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى [الأنعام:19].

أي: قل: يا مشركون! إن كنتم تدعون دعوى تحققونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أن مع الله جل جلاله آلهة أخرى فإني لا أشهد، قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام:19]، جل جلاله، وهذه القضية التي كانت بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين المشركين، كانوا يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، نحن عندنا آلهة كثيرة، عندنا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهبل وذو الخلصة.. وغيرها، فقد كان حول الكعبة وحدها ثلاثمائة وستون صنماً.

يقولون: محمد يريد أن نترك هذا كله ونستمسك بإله واحد، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله, الله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19].

شمول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة

هذه الآية دالة على عموم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[الأنعام:19]، كما في قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107], وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ:28]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1], إنذاره عام عليه الصلاة والسلام، كفر به أولئك المشركون، فموعدهم النار وكذلك كل من يكفر به, قال الله عز وجل: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]، لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[الأنعام:19]، قل: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19].

سبب نزول هذه الآية -كما ذكر الواحدي -: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد! ما نرى أحداً مصدقك بما تقول، قد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؟! يقول المشركون للنبي عليه الصلاة والسلام: ما نرى أحداً يصدقك في الذي تزعم أن الله أرسلك، وقد سألنا أهل العلم بالكتاب الأول، سألنا اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؟! كانوا يقولون هذا الكلام وحالهم كما قال ربنا: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً[النمل:14]، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].

الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بالليل يرتل القرآن ترتيلاً بالصوت الشجي وصدره يغلي كأزيز المرجل، يأتي الأخنس بن شريق فيقعد مقعداً يسمع وأبو سفيان بن حرب يقعد في مكان آخر ولا يرى صاحبه، و عتبة بن ربيعة في مقعد ثالث، و الوليد بن المغيرة في مقعد رابع، وكل منهم يظن نفسه وحده، ثم بعد ذلك إذا انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته وتفرق القوم التقوا فلام بعضهم بعضاً.. لماذا تأتي لتسمع؟! ويقول الآخر: وأنت لم أتيت؟ ثم يتواعدون ألا يعودوا، وفي اليوم الذي بعده يجذبهم القرآن بحلاوته وطلاوته وحسن نظامه وجودة معانيه واتساق ألفاظه، فيأتون ويسمعون فإذا تفرقوا التقوا فلام بعضهم بعضاً، ثم خلا الأخنس بن شريق بـأبي جهل ، وقال له: يا أبا الحكم ! ما ترى فيما يقول محمد؟ ما رأيك فيما تسمع؟ قد مرت بنا ليالي ونحن نسمع، قال له أبو جهل : والله! إني لأعلم أن محمداً على حق، وأنه صادق لا يكذب، ولكننا تنافسنا وبنو عبد مناف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، حتى إذا تجاثينا بالركب وكنا كفرسي رهان قال بنو عبد مناف: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً! هكذا.

فهاهنا يقول الله لنبيه قل لهم: يا مشركون، يا من تطلبون شهادة، أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]، أكبر شهيد في الوجود هو الله، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28], قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه: أي شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان، وما انتظر منهم جواباً! بل أمره الله جل جلاله أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التي لا يماري فيها عاقل، ولا يجادل فيها إلا مكابر، وهي أن شهادة الله أكبر شهادة وأقواها وأزكاها؛ لأنها شهادة من يستحيل عليه الخطأ، والكذب، وقد شهد الله جل جلاله لمحمد صلى الله عليه وسلم بصدقه فيما يبلغه عنه، فلماذا تعرضون عن دعوتي وتتنكبون الطريق المستقيم؟!

(قل) يا محمد: (أي): اسم استفهام، شَيْءٍ ))، كلمة الشيء تطلق على الموجود، خالقاً أو مخلوقاً، أَكْبَرُ شَهَادَةً ))، بمعنى: أقوى وأعدل، وأعظم وأجل. قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، هذا تهديد، قل: أنا أكلكم إلى الله جل جلاله الذي يسمع كلامنا، ويرى مكاننا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، وهو الذي أرسلني، وقد سمع جل جلاله جوابكم لي، واعتراضكم علي، وتكذيبكم إياي.

ثم قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19], الله جل جلاله أنزل عليّ هذا الكتاب المعجز لأنذركم به، والقرآن إنذار وتبشير، لكنه اقتصر على الإنذار لأن المخاطبين في حال مكابرتهم لا يليق بهم إلا الإنذار، فهم ليسوا أهلاً للبشارة؛ لأنذركم به يا من تعاصرونني وتسمعونني وترونني، وأنذر من يأتي بعدكم ممن يبلغه هذا الخطاب ويسمع هذا القرآن ولو لم تحصل بيني وبينه مشافهة. قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه؛ لأن القرآن الذي نتلوه الآن هو نفسه الذي تلاه محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقال يعض المفسرين المعنى: لأنذركم به وأنذر من بلغ الحلم.