خطب ومحاضرات
العدة شرح العمدة [45]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد.
فلا زلنا مع كتاب الحج والعمرة، من كتاب العدة شرح العمدة للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى، ومع باب الفدية.
قال رحمه الله: [ وهي على ضربين ] أي على نوعين:
[ أحدهما على التخيير ] الضرب الأول من الفدية أن المكلف يخير بين فعل وفعل، ففي علم الأصول فرق بين التخيير بين فعل وفعل، وبين الانتقال من فعل إلى فعل، أي: إن عجز عن الفعل الأول ينتقل إلى الفعل الثاني، مثال ذلك: كفارة اليمين، تجد أن الكثير من الناس يقولون لمن أراد أن يكفّر عن يمينه: صم ثلاثة أيام، وهذا خطأ؛ لأن الصيام لا يصار إليه إلا إذا عجز عن الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة، يقول الله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89] وكلمة (فمن لم يجد) معناها: أنه لا يستطيع أن ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن الإطعام، لكنه مخير بين الإطعام والكسوة وتحرير رقبة، فإذا انتقل إلى الكسوة وهو قادر على الإطعام فكفارته صحيحة؛ لأنه مخيّر بين الثلاث.
فدية الأذى واللبس والطيب
ذكرنا أن محظورات الإحرام تسعة، وكل محظور من هذه المحظورات له حكم، فربما كانت له فدية، وربما لم تكن له كالنكاح ، وما له فدية منها ما هو على سبيل التخيير، ومنها ما هو على الترتيب.
قال: [ وهي فدية الأذى ] والأذى هو أذى الرأس فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196] الأذى يعني حلق الشعر للأذى، وليس كالمذهب شعر الصدر أو شعر القدم أو شعر اليد، إنما النص جاء بشعر الرأس، فالمذهب قاس الشعور الأخرى على شعر الرأس، وهذا كلام مرجوح.
[ واللبس ] أي: لبس المخيط [ والطيب ] أي: التطيب [ فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعامه ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، أو ذبح شاة ].
فلو أن رجلاً تطيب وهو محرم ذاكراً غير ناس، متعمداً غير مخطئ؛ لأن الناسي له حكم، والمخطئ له حكم، فإذا كان المحرم يعرف الحكم فجاء بالطيب وتطيب، أو لبس المخيط أو كان لا يستطيع أن يخلع الجوارب من قدمه لعذر طبي، فيلبس وعليه فدية، والفدية على التخيير بين ثلاثة: إما صيام ثلاثة أيام في أي وقت، أو الإطعام، أو ذبح شاة، وإن استطاع أن يذبح وانتقل إلى الصيام فلا شيء عليه، وإن استطاع أن يصوم وأطعم فلا شيء عليه، والإطعام هنا يكون ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، والصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفي الرجل المعتدل من أرز أو تمر بحسب غالب قوت أهل البلد.
قال: [ ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، أو ذبح شاة. أما فدية الأذى فهي على التخيير لما سبق في محظورات الإحرام، وحديث كعب بن عجرة المتفق عليه، وأما فدية اللبس والطيب فهي مقيسة على فدية الأذى، لكونه ترفه بذلك في إحرامه، فلزمه الفدية كالمترفه بحلق شعره، ولا فرق بين قليل الطيب وكثيره، وقليل اللبس وكثيره؛ لأنه معنى حصل به الاستمتاع بالمحظور، فاعتبر مجرد الفعل كالوطء، وليس الحكم في كل دم وجب لترك واجب، يعني أن ذلك على التخيير لا على الترتيب ].
فلو أن رجلاً لا يستطيع أن يخلع (الفنيلة الحمالة) لعذر في جسده، نقول له: أحرم واترك (الفنيلة) على جسدك وعليك الفدية، ويخير بين ثلاثة أشياء، لحديث كعب بن عجرة أنه كان به أذى من رأسه، فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق الرأس وأن يفدي.
ولو أن رجلاً تطيب وهو ناس فلا شيء عليه؛ لأن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام وهو ناس فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً أثر الطيب يبدو من إحرامه، فأمره أن يزيل عن نفسه الطيب وأن يتم النسك، ولم يأمره بفدية؛ لأنه ناس أو مخطئ غير عالم بالحكم، والخطأ معناه: أنه ظن أن هذه الزجاجة ماء وهي طيب، فوضع الماء على وجهه فإذا به طيب، فهنا لا شيء عليه رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
قال رحمه الله: [ وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب، يعني: أن ذلك على التخيير لا على الترتيب ].
هذا الكلام يحتاج إلى استدراك؛ لأن ترك الواجب لا بد ألا ينتقل إلى الصيام إلا إذا كان عاجزاً عن الذبح، أي: أن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] معناه: أنه لا يخير بين الذبح والصيام إلا حينما لا يستطيع الذبح.
فدية قتل الصيد
والمقصود: أن من قتل صيداً فعليه مثله، ويشترط أن يكون وحشياً مباحاً، ومعنى وحشي: أنه لا يقتنى في البيوت، ومعنى مباح: أنه ليس بحرام، فقال: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] أي أنه يحكم بالمشابه أو المماثل ذوا عدل.
قال المصنف رحمه الله: [ فمن قتل الصيد ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء، فأما إن اضطر إلى أكله فيباح له أكله بلا خلاف نعلمه، ويلزمه ضمانه؛ لأنه قتله لحاجة نفسه ودفع الأذى عنه من غير معنى حدث في الصيد يقتضي قتله فلزمه جزاؤه كحلق الرأس لدفع الأذى عنه ].
فلو أن رجلاً اصطاد لسبب شرعي، كأن بلغ به الجوع مبلغه، وإن لم يصطد هلك، في هذه الحالة نقول له: يلزمك ضمان هذا الصيد لصاحبه إن كان له صاحب، ولذلك من أسباب نقصان عقود التأمين: أنها تجعل الضامن شريكاً في التأمين، والمفروض شرعاً أن الضامن هو المتسبب في التلف، فلو أن رجلاً صدم سيارة في الطريق العام، فيرفع القضية على شركة التأمين، وكان من المفترض أن من يلتزم بالضمان من أتلف، لكن هنا يدخل طرف ثالث يفسد العقد، فمن أسباب فساد عقود التأمين الأربعة التي ذكرها العلماء: أن من يلتزم بالضمان ليس هو المتسبب في التلف، وعندنا في الشريعة أن من أتلف شيئاً يلزمه الضمان، فالضمان على من أتلف لا على شركة التأمين التي تتاجر بعقود ضرر وربا.
قال: [ وإن صال عليه ] يعني: صال عليه الصيد [ فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله قتله ولا ضمان عليه ].
أي: أنه اعتدى عليه الطائر، ولا يستطيع أن يدفعه عن نفسه إلا بقتله، فله قتله ولا ضمان عليه.
[ لأنه ألجأه إلى قتله فلم يجب ضمانه كالآدمي الصائل ] والصائل: هو المعتدي الذي يبدؤك بالقتال، فيلزمك أن تدافع عن نفسك وإلا أصبحت مقصراً، أي: أن رجلاً جاء إلى دارك واعتدى عليك، وأراد أن يدخل البيت وأن يأخذ مالك، أو أن يعتدي على عرضك، فهذا يسمى في الشرع صائل، ولا بد أن ندفعه، كابن آدم لما قال لأخيه: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28] أي: أن ابن آدم الأول هو الصائل، والآخر هو المعتدى عليه.
ما معنى قوله: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28]؟
قال بعض العلماء: المعنى: لئن بسطت إلي يدك لتبدأني بالقتال فلن أبسط إليك يدي لأبدأك بقتال، فهو كف عن البدء، وليس معنى ذلك أنه كف عن الدفاع.
وقال بعضهم: أي: لن أبدأ بقتلك إلا إذا بدأت بقتلي، هذا المعنى المقصود في الآية، ولا يؤخذ من الآية أن الصائل تسلّم له نفسك، وتقول: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28] فهذا الكلام غير صحيح، لكن شرعاً لا بد أن تدفع عن نفسك، (من مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد)، (قيل: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار)، وهذا هو الحكم الشرعي؛ لأنك هنا تدافع عن نفسك.
ما يضمن من الصيد
رأى المحرم صيداً في شبكة فأراد أن يخلّصه من الشبكة، أو من فم السبع، وهو يخلّصه مات وتلف، فلا ضمان عليه؛ لأن العبرة هنا بالنية، والنية عنده أن يخلّصه فلا ضمان عليه.
قال: [ لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به، كما لو داوى ولي الصبي فمات بذلك.
ولا فرق بين العامد والمخطئ في وجوب الجزاء ].
هناك محظورات لا فدية على صاحبها إن ارتكبها ناسياً أو مخطئاً، ولو افترضنا أن رجلاً اصطاد صيداً وهو محرم خطأ، أي أنه وجه حجراً في أمر مشروع له أن يقذفه، فجاء في صيد فمات، فهنا تلزمه الفدية حتى وإن كان مخطئاً.
[ لما روى جابر قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشاً) ].
والضبع هو حيوان يشبه الكلب، فهذا إذا اصطاده المحرم فعليه كبش، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على من اصطاد ضبعاً بكبش.
[ وقال في بيض النعام يصيده المحرم ثمنه ولم يفرق، ولأنه ضمان إتلاف أشبه مال الآدمي، وعنه: لا كفارة في الخطأ ].
أي أن الرواية الأخرى عن أحمد أنه لا كفارة في الخطأ، والرواية الأولى أنه يلزمه.
[ لأن الله سبحانه قال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] فدليل خطابه أنه لا جزاء على الخاطئ ].
إنما هنا نلزمه بالضمان بحكم الوضع لا بحكم التكليف، فعندنا أحكام تكليفية وأحكام غير تكليفية، فلو أن ابنك الصغير قذف حجراً في زجاج جارك فأتلف الزجاج، فيلزمك أنت الضمان بخطاب الوضع؛ لأنه غير مكلف، فيلزم وليه الضمان، ولو أن مجنوناً أتلف شيئاً يلزم من يقوم على رعايته الضمان.
والرواية الأولى عن أحمد هي الأرجح.
ضابط الصيد
[ والمستخبث من الحشرات ] ولو أن محرماً اصطاد مثلاً صرصاراً، فنقول هذا مستخبث من الحيوانات ولا فدية عليه.
قال: [ وما عليه ملك فما ليس بوحشي يباح للمحرم ].
أي أنه أليف ويقتنى في البيوت، ولو أن محرماً اصطاد دجاجة، فالدجاج هنا تربى في البيوت فهي ليست وحشية، وإنما أليفة وتربى في البيت.
قال: [ يباح للمحرم ذبحه وأكله كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج ] المحرم يذبح دجاجاً حتى وإن اصطاده [ لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً، والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء، ولو توحش الانسي لم يجب فيه جزاء؛ ولهذا وجب في الحمام اعتباراً بأصله ].
فالأصل في الحمام أنه طائر لا يؤلف، ولكن الإنسان ألفه وأعد له مكاناً يعود إليه آخر النهار، والأصل فيه أنه طائر غير مألوف، فيلحق بأصله، فإن اصطاد المحرم حماماً يلزمه فدية؛ لأن الأصل في الحمام أنه وحشي، ولا يستلزم أن يكون مفترساً، وإنما هنا وحشي بمعنى أنه غير مألوف، فلو أن محرماً اصطاد ضباً، والضب قد ألفه صاحبه، فهنا أيضاً العبرة بالأصل لا بالتغير.
[ والواجب في صيد البر دون صيد البحر؛ لقوله سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96] إذا ثبت هذا فجزاء الصيد مثله من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] ].
لذلك الحمام والظبي قضي فيه بشاة، والنعامة قضي فيها ببدنة.
الشاهد: أنه إذا اصطاد المحرم صيداً يحرم عليه، فلا بد أن يحكم فيه ذوا عدل في المقابل، فإن اصطاد حماماً يلزمه شاة، وإن اصطاد ظبياً يلزمه شاة، وإن اصطاد نعامة يلزمه بدنة وهكذا.
ما يضمن به الصيد
لذلك في الأضحية يشترط أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام، كما قال ربنا سبحانه: مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36].
[ وهي الإبل والغنم لقوله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، وليس المراد حقيقة المماثلة؛ فإنها لا تتحقق بين النعم والصيود، لكن أريد المماثلة من حيث الصورة والمشابهة من وجه، وكونه أقرب بهيمة الأنعام به شبهاً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على وجوب المثل، فقال عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية : في النعامة بدنة ].
وأقرب شبه للنعامة هي الجمل، فهذه المماثلة من حيث الشبه.
[ وحكم أبو عبيدة وابن عباس في حمار الوحش بدنة، وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة، وحكموا في الحمام بشاة، إلا الطائر فإن فيه قيمته في موضعه ].
والمعنى: أن هذه التي اصطادها المحرم جعلنا لها مثل ما قتل من النعم يحكم به رجلان منا.
يقول السائل الكريم: الضبع لا يحل أكله، هل معنى ذلك أنه ليس فيه فدية؟
نحن نشترط في الصيد الذي يصطاده المحرم شروطاً: أن يكون مباحاً، أي: ليس محرماً، وإنما محرم أن تصطاده، وكذلك وحشي أي لا يؤلف، فإن تحقق هذان الشرطان جاز أن تصطاده.
ثانياً: أن بعض البلاد تأكل الضبع، وأنا أخبرت أن هناك بلاداً أكثر وجبة لها هي الضبع.
قال: [ إلا الطائر فإن فيه قيمته في موضعه، وهذا هو الأصل في الضمان بدليل سائر المضمونات من الأموال، وتعتبر القيمة في موضع الإتلاف، كما لو أتلف مال آدمي قوم في موضع الإتلاف كذا هاهنا ].
بمعنى الطائر إلا الحمامة، فلو أن محرماً اصطاد طائراً يقوّم بقيمته؛ لأنه ليس له مماثل في المعنى، فيقوم بالقيمة في موضع الإتلاف.
[ إلا الحمامة ففيها شاة والنعامة فيها بدنة، لما سبق من قضاء الصحابة رضي الله عنهم.
ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً ].
فهو هنا أيضاً بالخيار بين أن يقوّم بإخراج المثل، أو أن يقوم بطعام، فيطعم عن كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً.
[ وعن أحمد أنها على الترتيب ] أي أن إحدى الروايتين عن أحمد أنها على التخيير، والأخرى أنها على الترتيب، أي أنه لا ينتقل إلى الإطعام أو الصيام إلا إذا عجز عن المثل.
[ فيجب المثل أولاً ].
أولاً لو كان على الترتيب يجب المثل.
[ فإن لم يجد أطعم، فإن لم يجد صام، روي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن هدي المتعة على الترتيب وهذا آكد منه، فإنه يفعل محظوراً، وعنه: لا طعام في الكفارة، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام؛ لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح. كذا قال ابن عباس ، ودليل الرواية الأولى قوله سبحانه: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] ].
فكلمة أوْ هنا للتخيير، إذاً إما أن يلزم بالمثل أو بالإطعام، أو بالصيام عن كل مد يوماً.
[ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل شيء أو فهو مخير، وأما ما كان فإن لم يجد فهو للأول الأول؛ ولأن هذه الفدية تجب بفعل محظور، فكان مخيراً بين ثلاثتها كفدية الأذى ].
وهو الراجح أنه مخير بين واحدة من الثلاث.
ولأقرب لك المفهوم: لو أن محرماً اصطاد حمامة وجاء يقول لك: ما الحكم؟ تقول له: أنت مخير بين ثلاثة أشياء:
1- أن تذبح شاة؛ لأن الصحابة قضوا في الحمامة بشاة.
2- أو تطعم بقيمة الشاة فقراء.
3- أو أن تصوم عن كل مد يوماً.
[ فإذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم؛ لأن الله سبحانه قال: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، وإن اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم، والدراهم بالطعام، ويتصدق به على المساكين لكل مسكين مداً من البر كما يدفع إليهم كفارة اليمين، وإن اختار الصيام صام عن كل مد يوماً؛ لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام، فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار، وعنه ] يعني: رواية أخرى عن أحمد ، والرأي الأول هو الراجح.
هل هناك من الأشياء التي يصطادها المحرم شيء لا مثل له في المعنى؟
نعم. الجراد، فإنك لو نظرت إلى الجراد لتحقق فيه، فالجراد يؤكل للحديث: (أحل لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان فهما السمك والجراد، وأما الدمان فهما الكبد والطحال) وإن كان فيه ضعف، ولكن أنا أستأنس به هنا؛ لأنه في بعض البلدان الجراد يؤكل وكذلك الضبع يؤكل.
فهناك من الأشياء التي تصطاد ما لا مثل له كالجراد، فكيف أقومه؟ بقيمة، لا أستطيع إلا أن أحوّله إلى قيمة، أو آمر بالصيام عن كل مد يوماً.
إذاً النوع الأول من أنواع الفدية على التخيير وهي أربعة: شعر الرأس، لبس المخيط، الطيب، قتل الصيد.
قال رحمه الله: [ أحدهما على التخيير: وهي فدية الأذى واللبس والطيب ].
ذكرنا أن محظورات الإحرام تسعة، وكل محظور من هذه المحظورات له حكم، فربما كانت له فدية، وربما لم تكن له كالنكاح ، وما له فدية منها ما هو على سبيل التخيير، ومنها ما هو على الترتيب.
قال: [ وهي فدية الأذى ] والأذى هو أذى الرأس فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196] الأذى يعني حلق الشعر للأذى، وليس كالمذهب شعر الصدر أو شعر القدم أو شعر اليد، إنما النص جاء بشعر الرأس، فالمذهب قاس الشعور الأخرى على شعر الرأس، وهذا كلام مرجوح.
[ واللبس ] أي: لبس المخيط [ والطيب ] أي: التطيب [ فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعامه ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، أو ذبح شاة ].
فلو أن رجلاً تطيب وهو محرم ذاكراً غير ناس، متعمداً غير مخطئ؛ لأن الناسي له حكم، والمخطئ له حكم، فإذا كان المحرم يعرف الحكم فجاء بالطيب وتطيب، أو لبس المخيط أو كان لا يستطيع أن يخلع الجوارب من قدمه لعذر طبي، فيلبس وعليه فدية، والفدية على التخيير بين ثلاثة: إما صيام ثلاثة أيام في أي وقت، أو الإطعام، أو ذبح شاة، وإن استطاع أن يذبح وانتقل إلى الصيام فلا شيء عليه، وإن استطاع أن يصوم وأطعم فلا شيء عليه، والإطعام هنا يكون ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، والصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفي الرجل المعتدل من أرز أو تمر بحسب غالب قوت أهل البلد.
قال: [ ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، أو ذبح شاة. أما فدية الأذى فهي على التخيير لما سبق في محظورات الإحرام، وحديث كعب بن عجرة المتفق عليه، وأما فدية اللبس والطيب فهي مقيسة على فدية الأذى، لكونه ترفه بذلك في إحرامه، فلزمه الفدية كالمترفه بحلق شعره، ولا فرق بين قليل الطيب وكثيره، وقليل اللبس وكثيره؛ لأنه معنى حصل به الاستمتاع بالمحظور، فاعتبر مجرد الفعل كالوطء، وليس الحكم في كل دم وجب لترك واجب، يعني أن ذلك على التخيير لا على الترتيب ].
فلو أن رجلاً لا يستطيع أن يخلع (الفنيلة الحمالة) لعذر في جسده، نقول له: أحرم واترك (الفنيلة) على جسدك وعليك الفدية، ويخير بين ثلاثة أشياء، لحديث كعب بن عجرة أنه كان به أذى من رأسه، فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق الرأس وأن يفدي.
ولو أن رجلاً تطيب وهو ناس فلا شيء عليه؛ لأن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام وهو ناس فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً أثر الطيب يبدو من إحرامه، فأمره أن يزيل عن نفسه الطيب وأن يتم النسك، ولم يأمره بفدية؛ لأنه ناس أو مخطئ غير عالم بالحكم، والخطأ معناه: أنه ظن أن هذه الزجاجة ماء وهي طيب، فوضع الماء على وجهه فإذا به طيب، فهنا لا شيء عليه رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
قال رحمه الله: [ وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب، يعني: أن ذلك على التخيير لا على الترتيب ].
هذا الكلام يحتاج إلى استدراك؛ لأن ترك الواجب لا بد ألا ينتقل إلى الصيام إلا إذا كان عاجزاً عن الذبح، أي: أن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] معناه: أنه لا يخير بين الذبح والصيام إلا حينما لا يستطيع الذبح.
قال: [ وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم، أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد، وقال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] ].
والمقصود: أن من قتل صيداً فعليه مثله، ويشترط أن يكون وحشياً مباحاً، ومعنى وحشي: أنه لا يقتنى في البيوت، ومعنى مباح: أنه ليس بحرام، فقال: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] أي أنه يحكم بالمشابه أو المماثل ذوا عدل.
قال المصنف رحمه الله: [ فمن قتل الصيد ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء، فأما إن اضطر إلى أكله فيباح له أكله بلا خلاف نعلمه، ويلزمه ضمانه؛ لأنه قتله لحاجة نفسه ودفع الأذى عنه من غير معنى حدث في الصيد يقتضي قتله فلزمه جزاؤه كحلق الرأس لدفع الأذى عنه ].
فلو أن رجلاً اصطاد لسبب شرعي، كأن بلغ به الجوع مبلغه، وإن لم يصطد هلك، في هذه الحالة نقول له: يلزمك ضمان هذا الصيد لصاحبه إن كان له صاحب، ولذلك من أسباب نقصان عقود التأمين: أنها تجعل الضامن شريكاً في التأمين، والمفروض شرعاً أن الضامن هو المتسبب في التلف، فلو أن رجلاً صدم سيارة في الطريق العام، فيرفع القضية على شركة التأمين، وكان من المفترض أن من يلتزم بالضمان من أتلف، لكن هنا يدخل طرف ثالث يفسد العقد، فمن أسباب فساد عقود التأمين الأربعة التي ذكرها العلماء: أن من يلتزم بالضمان ليس هو المتسبب في التلف، وعندنا في الشريعة أن من أتلف شيئاً يلزمه الضمان، فالضمان على من أتلف لا على شركة التأمين التي تتاجر بعقود ضرر وربا.
قال: [ وإن صال عليه ] يعني: صال عليه الصيد [ فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله قتله ولا ضمان عليه ].
أي: أنه اعتدى عليه الطائر، ولا يستطيع أن يدفعه عن نفسه إلا بقتله، فله قتله ولا ضمان عليه.
[ لأنه ألجأه إلى قتله فلم يجب ضمانه كالآدمي الصائل ] والصائل: هو المعتدي الذي يبدؤك بالقتال، فيلزمك أن تدافع عن نفسك وإلا أصبحت مقصراً، أي: أن رجلاً جاء إلى دارك واعتدى عليك، وأراد أن يدخل البيت وأن يأخذ مالك، أو أن يعتدي على عرضك، فهذا يسمى في الشرع صائل، ولا بد أن ندفعه، كابن آدم لما قال لأخيه: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28] أي: أن ابن آدم الأول هو الصائل، والآخر هو المعتدى عليه.
ما معنى قوله: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28]؟
قال بعض العلماء: المعنى: لئن بسطت إلي يدك لتبدأني بالقتال فلن أبسط إليك يدي لأبدأك بقتال، فهو كف عن البدء، وليس معنى ذلك أنه كف عن الدفاع.
وقال بعضهم: أي: لن أبدأ بقتلك إلا إذا بدأت بقتلي، هذا المعنى المقصود في الآية، ولا يؤخذ من الآية أن الصائل تسلّم له نفسك، وتقول: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28] فهذا الكلام غير صحيح، لكن شرعاً لا بد أن تدفع عن نفسك، (من مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد)، (قيل: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار)، وهذا هو الحكم الشرعي؛ لأنك هنا تدافع عن نفسك.
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
العدة شرح العمدة [13] | 2696 استماع |
العدة شرح العمدة [68] | 2619 استماع |
العدة شرح العمدة [26] | 2594 استماع |
العدة شرح العمدة [3] | 2517 استماع |
العدة شرح العمدة [1] | 2474 استماع |
العدة شرح العمدة [62] | 2373 استماع |
العدة شرح العمدة [19] | 2336 استماع |
العدة شرح العمدة [11] | 2332 استماع |
العدة شرح العمدة [56] | 2301 استماع |
العدة شرح العمدة [15] | 2236 استماع |