العدة شرح العمدة [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، -ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! نعود إلى ما بدأناه من كتاب العدة شرح العمدة في فقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

قال المصنف رحمه الله: باب النفاس: وهو الدم الخارج بسبب الولادة، أي: أن دم النفاس يختلف عن دم الحيض، فدم النفاس له سبب، وسببه هو: الولادة، فأي دم ينزل من المرأة بعد ولادتها نسميه: دم نفاس.

كما أن الحيض قد يطلق عليه نفاس، والنفاس قد يطلق عليه حيض، كما قد يطلق على الكسوف خسوفاً، وقد يطلق على الخسوف كسوفاً، وهذه من العبارات المترادفة التي يحل بعضها بدلاً عن بعض، والدليل: في البخاري في كتاب الغسل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع وهو في ذي الحليفة فوجدها تبكي، قال: (ما يبكيك يا عائشة أنفست؟)، أي: أحضتِ، قال البخاري في تبويبه: باب من سمى الحيض نفاساً، ثم جاء بهذا الحديث وفقه البخاري في تراجمه، والبخاري قد قسم كتابه إلى كتب، وقسم الكتب إلى أبواب، وهذا منهج التصنيف عند البخاري رحمه الله تعالى، وعدد كتب البخاري في الصحيح: سبعة وتسعون كتاباً، بدأها بكتاب: بدء الوحي، وختمها بكتاب: التوحيد، وتحت كل كتاب يأتي بأبواب، ولا ينبغي لطالب علم أن يعيش بمعزل عن البخاري ، وهناك شروح كثيرة للبخاري ، أجمعها وأكثرها تفصيلاً هو كتاب: فتح الباري للعلامة: ابن حجر العسقلاني المصري رحمه الله تعالى، وقيل للشوكاني صاحب نيل الأوطار وصاحب فتح القدير: ألا تشرح لنا البخاري ؟ فقال: لا هجرة بعد الفتح.

وهناك عمدة القارئ للعيني ، وهناك شرح صحيح البخاري لـابن بطال ، وشرح صحيح البخاري للكرماني ، وشرح صحيح البخاري للزركشي ، وفتح الباري لـابن رجب الحنبلي ، وهناك شروح عديدة لصحيح البخاري تصل إلى أكثر من خمسين شرحاً.

أقول لإخواني: البخاري يضع باباً بهذا العنوان باب: من سمى الحيض نفاساً.

قال: وهو الدم الخارج بسبب الولادة.

حكم دم النفاس

حكمه الشرعي حكم الحيض -إلا أنه يختلف عن الحيض في أحكام سنبينها- فيما يحل ويحرم، ويجب ويسقط به.

وقد تحدثنا عما يحرمه الحيض وقلنا: يمتنع على الحائض عدة أشياء:

أولاً وثانياً: فعل الصلاة ووجوب الصلاة، فيمتنع عليها أن تصلي، ويمتنع عليها أن تقضي الصلاة، فتسقط عنها الصلاة ووجوب قضاء الصلاة.

ثالثاً: فعل الصيام لكن لا يسقط الوجوب؛ لأن الصيام ينبغي عليها أن تقضيه.

رابعاً: مس المصحف عند جمهور العلماء.

خامساً: الطواف بالبيت.

سادساً: المكث في المسجد.

سابعاً: سنة الطلاق.

ثامناً: الوطء في الفرج.

تاسعاً: الاعتداد بالأشهر، هذه أشياء تحرم على المرأة إذا حاضت، وما يمتنع عليها وهي حائض يمتنع عليها وهي نفساء، هذا قول المصنف، ولا خلاف عليه أن دم النفاس يأخذ نفس حكم دم الحيض.

أكثر مدة لدم النفاس

قال: وأكثره أربعون يوماً، قال: ولأن دم النفاس دم حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، يقول العلماء: دم الحيض ينزل في حال عدم الحمل، فإذا حملت المرأة انقطع عنها الحيض، لأنه غذاء للجنين في بطن أمه، إذاً يتحول ثم ينحبس هذا الدم وينزل بعد الولادة؛ لأن دم النفاس دم حيض احتبس لأجل الحمل، فنادراً ما تجد امرأة تحيض وهي حامل، وربما يحدث هذا ولكن الغالب أن علامة الحمل أن ينقطع الحيض عن المرأة.

قال: وأكثره أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت: (كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة)، وأجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين أن النفساء تضع الصلاة أربعين يوماً وهذا أكثره، إلا أن ترى الطهر قبل الأربعين، والمعنى: أن أكثر مدة للنفاس أربعين يوماً. فلو أن امرأة ولدت واستمر معها الدم بعد الأربعين فينبغي لها أن تغتسل وأن تتطهر، وإن استمر الدم فإنه يأخذ حكم دم الاستحاضة، أي: أنها تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها وتصوم وتطوف وكل شيء يجوز في حقها؛ لأن الدم الذي ينزل بعد ذلك ليس دم نفاس ولا دم حيض وإنما هو دم استحاضة وبمعنى أصح (نزيف)، ولذلك فإن أكثر مدة للنفاس أربعون يوماً، فإذا انقطع الدم قبل الأربعين فعليها أن تغتسل وأن تتطهر وأن تصلي، لا كما يفهم الكثير من النساء أنه لا بد أن تبقى إلى الأربعين. والمرأة الحامل لها حكم خاص، قال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وهذا حكم خاص بالمرأة، لأن المرأة الحامل عدتها تنتهي بوضع الحمل، فإذا طلق الرجل زوجه وهي حامل في الشهر الثاني فيبقى لها سبعة أشهر على المعتاد، وعلى هذا يبقى على انقضاء العدة سبعة أشهر، فله أن يراجعها إن كان طلاقه رجعياً في هذه المدة؛ لأن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن، فإن وضعت الحمل بعد أسبوع فقد انقضت العدة، وبانقضاء العدة لها أن تتزوج، إن لم يراجعها الزوج في هذه المدة، فلها أن تتزوج غيره، أو إن كان مات عنها الزوج فلها أن تتزوج، كما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة بنت قيس بعد أن وضعت الحمل، رخص لها أن تتزوج بعد موت زوجها بمدة قليلة، فلا يشترط أن تبقى أربعة أشهر وعشراً؛ لأنها حامل والحامل لها عدة خاصة.

لكن ابن تيمية له رأي، وقد قال الأطباء: إن هذا الرأي معتبر وهو: إذا زادت مدة دم النفاس عن أربعين، فإن المرأة تصلي وتصوم، إلا الجماع فلا تجامع إلا بعد الستين يوماً وهذا رأي شيخ الإسلام، لأنه يرى أن الرحم بعد الولادة لا يعود إلى مكانه الطبيعي إلا بعد الستين يوماً، فسألت طبيباً للنساء فقال: بالفعل إن جامع الرجل المرأة بعد الولادة وقبل الستين يوماً ربما يترتب على ذلك نزيف شديد، فقول شيخ الإسلام : بجواز كل شيء على المرأة النفساء إلا الجماع فيكون بعد الستين، هو الراجح إن شاء الله، والله تعالى أعلم.

قال: ولا حد لأقله، يعني: يمكن أن يستمر الدم يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام، إلى غير ذلك لا حد لأقله، ولكن أكثره أربعون يوماً.

ومتى رأت الطهر اغتسلت وهي طاهرة، قال في الشرح معلقاً: ومتى رأت الطهر -وليس لأقله حد- فهي طاهر تغتسل وتصلي، كالحيض، وإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس.

والمقصود: إذا انقطع الدم بعد أسبوع تغتسل وتصلي، وبعد أسبوعين عاد الدم مرة أخرى في الأربعين فيأخذ حكم دم النفاس.