خطب ومحاضرات
شرح الفتوى الحموية [16]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد:
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: (فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها) وذكر ما ذكره: يحيى بن سالم صاحب التفسير المشهور: حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه). وذكر من حديث أسد بن موسى ، ثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) ].
اختلف أهل العلم في الكرسي على قولين: القول المشهور هو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه أنه موضع القدمين، والأثر الذي جاء عن ابن عباس في هذا أثر ضعيف؛ ولذلك قال بعض أهل العلم: إن الكرسي خلق عظيم من مخلوقات الله جل وعلا الله أعلم به، وهو كما وصف الله سبحانه في كتابه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255] ولكن هل هو موضع القدمين أم لا؟! هذا جاء في أثر عن ابن عباس وهذا الأثر فيه نظر.
[ ثم قال في باب الإيمان بالحجب قال: ومن قول أهل السنة: إن الله بائن من خلقه، يحتجب عنهم بالحجب، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5] وذكر آثاراً في الحجب].
الحجاب المذكور هو ما ورد في الحديث من أن: (حجابه النور جل وعلا، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فهو جل وعلا محتجب بهذا الحجاب العظيم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عنه، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ ! قال :نور أنى أراه؟!).
[ ثم قال في باب الإيمان بالنزول قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره. إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع كانوا يقولون: إن النزول حق، قال ابن وضاح : وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال: نعم أومن به، ولا أحد فيه حداً، وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أقر به ولا أحد فيه حداً ].
ما ذكره أهل السنة هو أن لا يكيفوه بكيفية معينة، وإلا فهم يعلمون معنى النزول الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، ولكن حد ذلك وحقيقته لا يعلمها إلا الله، والنزول صفة من الصفات الفعلية، وهي لا تستلزم اللوازم الباطلة التي يذكرها المتكلمون، بل يثبتها أهل السنة والجماعة على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى.
[ قال محمد : وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض، وهو أيضاً بين في كتاب الله، وفي غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ].
فالنزول يقتضي أنه في العلو، ولذلك كان من أدلة علو الله سبحانه وتعالى أنه سبحانه وتعالى على عرشه.
[ قال تعالى: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أم أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً [الملك:16-17] وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَـدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَـمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وقال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] وقال سبحانه: يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ [النساء:158] وقال: بلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] ].
كل هذا دال على علو الله سبحانه وتعالى، وقد تقدم ذكر أدلة العلو، وأن العلو دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل، فاجتمعت في إثباته جميع الدلائل، والشيخ رحمه الله إنما ذكر بعض الآيات الدالة على علوه سبحانه وتعالى، وإلا فالآيات -كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله- أكثر من أن تحصى.
[ وذكر من طريق مالك قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها) قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جداً، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض لا إله إلا هو العلي العظيم.
وقال قبل ذلك في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه، قال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً ].
فمن كمال علمهم بالله عز وجل أنهم يسكتون عما سكت، وأن العلم فيما لم يذكره الله سبحانه وتعالى عن نفسه أو لم يذكره عنه رسوله هو السكوت والجهل، وهو تمام الانقياد والعبودية لله عز وجل؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يحيطون به سبحانه وتعالى علماً، ومن تمام كماله أن عجزت العقول عن إدراك حقيقة ما أخبر، فضلاً عن أن تدرك كل صفاته وأسمائه جل وعلا.
قال: [ يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً، والعجز عما لم يدع إليه إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه وعلى لسان نبيه.
صفة الوجه
صفة الوجه من الصفات الخبرية، والمؤولة يؤولون هذه الصفة يقولون : إن الوجه يراد به الذات فأطلق الوجه وأراد به الذات فيكون الكلام (كل شيء هالك إلا ذاته) وهذا وإن كان صحيحاً أن الوجه يطلق ويراد به الذات، ولكن هذا لا ينفي أن تكون الآية دالة على إثبات صفة الوجه لله عز وجل؛ لأنه لا تضاف هذه الصفة إلا لمن كان له وجه، أما من لم يكن له وجه فلا تضاف إليه.
وبعضهم قال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: إلا جهته يعني: كل شيء فان وذاهب إلا ما قصد به الله جل وعلا، هذا من تأويلاتهم وهو معنى صحيح، لكن هذا أيضاً لا ينفي ما فروا منه من إثبات هذه الصفة.
صفة النفس لله سبحانه وتعالى
يؤخذ من قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إثبات النفس لله سبحانه وتعالى، وقد جاء ذلك في بعض كلام أهل العلم، وبعضهم يقول: إن (نفسه) في هذا الموضوع وأمثاله إنما يراد بها الذات يعني: (يحذركم الله ذاته).
صفة اليد لله سبحانه وتعالى
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فيه إثبات التسوية له سبحانه وتعالى، وقد جاءت الآيات مبينة أنه سبحانه وتعالى سواه بيده، وفيه إثبات النفخ له سبحانه وتعالى.
وأما قوله (مِنْ رُوحِي) فـ(من) هنا ليست للتبعيض بل هي (من) البيانية أي: من الأرواح، والإضافة ليست إضافة صفة، وإنما هي إضافة تشريف وإضافة خلق، يعني: من الأرواح التي خلقها.
[وقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقال سبحانه: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]. ].
اليدان يؤولها المؤولة بأنها النعمة، ويجاب عليهم بأن التثنية تنفي هذا المعنى، هذا وجه.
الوجه الآخر: أن اليد لا تضاف إلا لمن كان متصفاً بها، فهذان وجهان في بيان دلالة هذه الآية على إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى، وهي صفة خبرية.
إثبات المعية والسمع والرؤية
هذه ثلاث صفات له سبحانه وتعالى: المعية، والسمع، والرؤية.
صفة الكلام
دل على أن الله سبحانه تعالى يتكلم، وأكد هذا الفعل بالمصدر لتأكيد معناه، وقد أول أهل التعطيل هذه الآية فذكروا لها نوعين من التأويل:
قالوا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى فجعلوا المُكِلم هو موسى، والمُكَلم هو الله جل وعلا؛ حتى ينفوا عنه سبحانه صفة الكلام, وأولها آخرون فقالوا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً أي: جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً، فأولوا (كَلَّمَ) وهذا من التأويل المذموم؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وحملوا اللفظ على معنىً مرجوح يحتمله النص لغير قرينة، فالأصل أن يحمل الكلام على التكليم، وهم حملوه على الجرح.
إثبات الإحاطة المكانية والزمانية لله تعالى
هذه الآية فيها إثبات الإحاطة المكانية والإحاطة الزمانية له جل وعلا، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وبهذا يصدق قوله جل وعلا: والله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54] زماناً ومكاناً.
قوله: (ومثل هذا في القرآن كثير) أي: الآيات التي فيها إثبات الصفات له سبحانه وتعالى.
وقد قال وهو أصدق القائلين: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] وقال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] ].
صفة الوجه من الصفات الخبرية، والمؤولة يؤولون هذه الصفة يقولون : إن الوجه يراد به الذات فأطلق الوجه وأراد به الذات فيكون الكلام (كل شيء هالك إلا ذاته) وهذا وإن كان صحيحاً أن الوجه يطلق ويراد به الذات، ولكن هذا لا ينفي أن تكون الآية دالة على إثبات صفة الوجه لله عز وجل؛ لأنه لا تضاف هذه الصفة إلا لمن كان له وجه، أما من لم يكن له وجه فلا تضاف إليه.
وبعضهم قال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: إلا جهته يعني: كل شيء فان وذاهب إلا ما قصد به الله جل وعلا، هذا من تأويلاتهم وهو معنى صحيح، لكن هذا أيضاً لا ينفي ما فروا منه من إثبات هذه الصفة.
[وقال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] وقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وقال تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]].
يؤخذ من قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إثبات النفس لله سبحانه وتعالى، وقد جاء ذلك في بعض كلام أهل العلم، وبعضهم يقول: إن (نفسه) في هذا الموضوع وأمثاله إنما يراد بها الذات يعني: (يحذركم الله ذاته).
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الفتوى الحموية [23] | 2836 استماع |
شرح الفتوى الحموية [8] | 2291 استماع |
شرح الفتوى الحموية [17] | 2164 استماع |
شرح الفتوى الحموية [27] | 2162 استماع |
شرح الفتوى الحموية [15] | 1970 استماع |
شرح الفتوى الحموية [10] | 1871 استماع |
شرح الفتوى الحموية [2] | 1854 استماع |
شرح الفتوى الحموية [3] | 1844 استماع |
شرح الفتوى الحموية [6] | 1842 استماع |
شرح الفتوى الحموية [20] | 1795 استماع |