الحرب الصليبية في البلقان
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
قد عرف كل قارئ وكاتب وواعٍ وسامع حقيقة ما تسميه أوربة (المسألة
الشرقية) وهو إزالة دول الإسلام من الشرق -وبعبارة أخرى من الأرض- وجعلها
قسمة بين الدول الغربية -وبعبارة أخرى المسيحية- وأول ما يهمهم من بلاد
المسلمين ما كان منها في أوربة، فإن من طباع الأوربيين وغرائزهم الموروثة
شدة العصبية على من لم يكن منهم وعدم احتمال وجوده بينهم. بل كانوا لا يحتمل بعضهم من بعض مخالفة في دين ولا مذهب، ولذلك أبادوا الوثنيين من أوربة لما صار أكثرهم نصارى، وأبادوا المسلمين من غربي أوربة (الأندلس) ولا يزالون يعملون لإبادتهم من شرقيها (تركية أوربة) ولا تنس ما جرى بينهم من الحروب لاختلاف المذاهب النصرانية حتى غلب كل مذهب في دولة أو دول.
ولولا فضل اليهود والأحرار المارقين من النصرانية على أوربة بتأسيس الماسونية الداعية إلى الحرية والمساواة بينهم وإزالة السلطة الدينية لظلت الدماء تُراق حتى يبيد أهل مذهب واحد جميع المذاهب كما أباد دين واحد جميع الأديان. كانت الدولة العثمانية أقوى من جميع دول أوربة بأسًا، ولكنها لم تكن قطّ أقوى عقلاً ورأيًا، فكانوا يستفيدون من قوتها بحسب دهائهم، حتى صاروا بارتقاء العلوم والفنون وما يترتب عليها من الصناعات أقوى منها.
حينئذ طفقوا ينتقصون بلادها من أطرافها، فأزالوا سلطانها عن بلاد اليونان والرومان والبلغار، وأسسوا من البلاد التي كانت لها عدة إمارات وممالك بجوارها تأسيسًا تدريجيًّا، وأخذوا على عاتقهم حمايتها منها، فإذا أغارت إحدى هذه الإمارات أو الممالك على شيء من بلاد الدولة حتى عندما كانت تحت سيادتها ساعدتها أوربة على امتلاك ما أغارت عليه، وإذا وقعت حرب انتصرت فهيا العثمانية وأخذت شيئًا من بلاد إحدى هذه الممالك ردته أوربة إليها ولم تسمح للعثمانية بأن تستفيد من انتصارها شيئًا. والأصل في ذلك القاعدة المتفقة عليها بين دول أوربة كافة ونقل عن اللورد سالسبوري التصريح بها وهي (ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب) . هذا هو الواقع الذي تمدح به أوربة في رأيي، وإنما يذم منكره والمكابر فيه من منافقي بلادنا وغيرهم، وهذا ما ظهر للعيان في الحرب الحاضرة فقد صرح بعض ملوك التحالف البلقاني ووزراؤه بأن هذه الحرب صليبية محضة المراد منها إنقاذ المسيحيين من سلطة (الترك الكافرين) وصرحت الدول العظمى في أول الأمر عندما كن يعتقدن أن الدولة العثمانية أقوى من البلقانيين ويُرجى أن تنتصر عليهم بأنهن لا يسمحن للغالب في هذه الحرب بأن يأخذ شيئًا من ملك المغلوب بل يجب أن تبقى البلاد كلها على حالتها الحاضرة التي تواثقت الدول كلها على حفظها فلما ظهرت بوادر الغلبة للبلقانيين على الترك بدا لهم، ولم تخجل دولة ولا جريدة لدولة من التصريح بأنه لا يمكن حرمان دول البلقان من ثمرة انتصارها. هذا قول إجمالي وجيز في تصرف أوربة في الدولة العثمانية إلى هذا اليوم وهو تصرف العاقل الحكيم في القاصر الجاهل.
وإنني أعتقد أن أوربة لم تكن في الماضي ولا في الحاضر شرًّا علينا من أنفسنا، ولو وجد في الدولة عقلاء مصلحون لتيسر لهم النهوض بها بمساعدة أوربة نفسها، ومن لا يصلح نفسه لا يصلحه غيره.
والدولة تعرف في الجملة ما هي أوربة وهي الآن منها كالمريض بين يدي ممرضه الذي يعالجه عند شدة الألم بالمورفين الذي يسكِّن آلامه في الحال، ليسلبه الحياة في الاستقبال، ولكنه لا يرى في نفسه غِنى عنه، فهي تلقي نفسها بين يدي أوربة، وتقول لها: تصرفي كيف شئت ولكن تكرمي بالرفق واللين. إن الدول العظمى تقدر الآن على اقتسام جميع بلاد الدولة العثمانية بحيث يكون سقوطها أهون عليهن من سقوط مراكش بل من أخذ طرابلس الغرب الذي لم يتم لهن في سنة، وقد يتم هذا في شهر؛ لأنه تبين لهن أن القوة العسكرين العثمانية التي كان يُخشى بأسها غير منظمة كما يجب ولا أعد لها مال يمكن به جمعها، وإيجاد عمل كبير بها، وأما القوة المعنوية فقد هدمن أركانها بأيديهن وأيدي المتفرجين في الآستانة وغيرها، فهن لا يخشين من استعمالها إياها، ولكن منهن من تداري بعض المسلمين في بلادها، فهن الآن قادرات على أن يبطشن البطشة الكبرى وما هي منهن ببعيد.
وقد كانت الدولة تعتمد على خلافهن وخلاف البلقانيين في المصالح والقسمة وهذا أقبح جهلها بالسياسة وأضره، وإذا جاز أن تتفق دول البلقان، وهي أكثر تنازعًا وأقل حكمة وعلمًا من الدول الكبرى وأن يعقدن بينهن اتفاقًا ربما كان دائمًا وكنّ به دولة عظيمة متحدة، فكيف لا يجوز اتفاق أولئك. إذا اكتفت أوربة هذه المرة بسياسة الجرح فالتخدير فقطع بعض الأعضاء وإبقاء بقية الجسم وتركت التصدي لمثل هذه (العملية) زمنًا طويلاً فإنني أعد ذلك منها إحسانًا إلى الدولة.
ولكنها لا تحسن هذا الإحسان إلا إذا كان فيه المصلحة لها. أما الإحسان الخالص بعدم بتر شيء من جسم الدولة وفاء بعهد الدول قبل الحرب فهو المنة التي يعجز عنها الشكر.
ولعله يكون متعذرًا إذا تم الفوز للبلقانيين، وإنما يكون ممكنًا إذا أُديل للعثمانية منهم فطردتهم من بلادها إلى حدود بلادهم على الأقل وما كل ممكن يقع. إن الذي يستنتج من مجموع صحف أوربة هو أن الدول الكبرى تخشى عاقبة هذه الحرب إذا تم الفوز للباقانيين، وهذا إنما يكون إذا كانت غير متفقة على تقسيم البلاد العثمانية كلها، فإن التنازع بينهم على الأوربية منها أشد، وهو على أشده بين النمسة وإيطالية وروسية ورومانية.
ومحل الخوف من وجهين: أحدهما: أن الحكومات البلقانية المتحدة قد خرجن بهذه الحرب من حَجْر وصاية الدول الكبرى وأعلنّ الرشد والتصرف الاستقلالي حتى أنهن يصرحن بأنهن لا يقبلن وساطة أوربة في الصلح بينهن وبين الدولة العثمانية.
وإذا كان الأمر كذلك كما هو الظاهر فلم يبق للدول الكبرى نفوذ ولا سلطان لا على الدولة العثمانية فإذا هي أُظفرت قدرن على حفظ السّلم العام بحرمانها من ثمرة الظفر وإلا فقد خرج الأمر من أيديهن إذا كان بينهن خلاف ما، ويظهر أن حكوماتهن حريصات على الوفاق وعلى حفظ السّلم العام، وأن شعوبهن تميل إلى البلقانيين لمكان الدين والمذهب والانتصار للصليب على الهلال والنصرانية على الإسلام - فالمستقبل مجهول الآن. أما نحن المسلمين فقد صرح سلطاننا برأي حكومتنا أن هذه الحرب سياسية لا دينية.
والمراد بهذا أن الدولة لا تعدها حربًا دينية بالمعنى الذي تفهمه أوربة وسائر النصارى من لفظ الجهاد الديني وهو ما قام به الصليبيون من قبل ومن بعد. وهو أن يقوم أهل دين على دين آخر لإبادتهم أو إثخانهم وإزالة سلطانهم، والحق أن هذه الحرب لا يراد بها عند دولتنا هذا المعنى.
وإنما هي دينية بمعنى آخر ٍإسلامي عادل وهو أن أعداءنا قد اعتدوا علينا لأجل ديننا وسلطاننا وراموا أخذ بلادنا من أيدينا فيجب علينا شرعًا أن نقاومهم بكل ما نستطيع وأن نجاهدهم بأموالنا وأنفسنا - وهذا ما يعتقده جمهور المسلمين. يترتب على كون الحرب دينية بهذا المعنى أنه يجب على كل مسلم أن يساعد الدولة عليها بما يستطيع من مال أو نفس، وأن تبذل فيها الزكاة الشرعية إما مقدار سهم الغزاة فقط عند من يعتقدون أن الزكاة يجب صرفها إلى جميع الأصناف المستحقة لها إن وجدوا، وإما صرفها كلها عند من يقول يجوز أداؤها إلى صنف واحد.
ويمكن أن يقال في هذه الحرب: إنه يجوز صرف سهام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل إلى هؤلاء المقاتلين فيها؛ لأن الدولة عاجزة في هذا الزمن عن كفايتهم. إننا نرى ميل الشعوب النصرانية إلى البلقانيين مما نقرأه عن الجرائد الأوربية مع علمهم بأنهم باغون معتدون، فالواجب على جميع الشعوب الإسلامية أن تميل إلى الدولة العثمانية، بل يجب ذلك على كل شعب يرجح الحق والإنسانية والسلم على الباطل والوحشية وإراقة الدماء.
ولكن هل يوجد في الأرض شعب متصف بهذه الصفة؟ لا لا. لا تحتاج الدولة إلى من يجاهد معها بنفسه فإن عندها جيشًا كثيرًا يكفي لرد عدوان المعتدين إذا وجد العُدة والمؤنة الكافية.
على أن هذه الحرب لا يطول أمرها إلى أن يدركها من يريد إمداد الجيش العثماني بنفسه من الأقطار البعيدة.
فالواجب الجهاد فيها بالمال الذي يتوقف عليه كل شيء، وهو الذي يمكن إرساله بسرعة البرق من المشرق والمغرب والجنوب والشمال. إن المسلمين أنشأوا في بعض الأقطار يجمعون المال للإعانة الحربية ولجمعية الهلال الأحمر كما نذكر ذلك في باب الأخبار من هذا الجزء، ولكن يظهر لنا من قلة ما يبذلون أنهم لا يزالون غير شاعرين بكنه الحال، وخطر زوال الاستقلال، فإذا كانت هذه الصاخّة الكبرى لم توقظهم فمتى يستيقظون (إنا لله وإنا إليه راجعون) . أما المغرورون من أوشاب الآستانة والرومللي الاتحاديين ومن على رأيهم فلا تحاسبهم الآن على غرورهم التي قذفنا في هذه الهُوة، ولنا معهم كلام آخر بعد انتهاء الأزمة، وإنما نذكِّر الناس بأن هؤلاء قد جمعوا ملايين كثيرة من أموال العثمانيين وزعموا أنهم يريدون بها حماية الدستور وترقية المملكة، فأي الأمرين أحق أن ينفق في سبيله مال الأمة: أحفظ الدولة وسلامة أملاكها وشرفها؟ أم حفظ الدستور بغير دولة؟ إن زعماء هذه الجمعية قد استخفوا الأمة العثمانية سنين حكموها باستبدادهم، ولا يزالون محتقرين لها، وقد خرج الأمر من أيديهم، ومن ضروب هذا الاحتقار والاستخفاف قول طلعت بك وجاويد بك أنهما يرغبان التطوع في الجيش! ! ولو دخلاهما وأمثالهما في الجيش ما زادوه إلا خبالاً يبغونه الفتنة وفيه سماعون لهم، وإنما الجيش في أشد الحاجة إلى خزائن جمعيتهم لا إلى تصديهم لحرب لا غناء لهم فيها إلا غناء الغانيات. المال المال هو الذي يغني الدولة عن كل ما عداه ولا يغني عنه تطوع المتطوعين، وماذا تعمل الدولة بالمتطوعين يُحشرون إلى حيث لا يجد الجند المنظم خبزًا يُشبعه إذا هو اجتمع برمته. ألا إن المسلمين لم يستيقظوا من رقادهم، فيشعروا بالخطر الذي حاق بهم، وكل هذه الصيحات والقوارع التي تقدمت قيام ساعتهم، لم تنبههم من غفلتهم ولا بصرتهم بسوء عاقبتهم، {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْراطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} (محمد: 18) . إذا انتهت هذه الحروب بخروج الولايات المقدونية من سلطة الدولة وخرج معها من رؤوس المتفرنجين الذين ربتهم لنا مدارس الآستانة غرورهم بأنفسهم وبجيشهم ومن رؤوس معظم العثمانيين والملايين من المسلمين غير العثمانيين غرورهم بهم وبقوتهم، وبقي للدولة استقلال صحيح ولو في بلادها الأسيوية فقط - فإنني أعد هذه الحرب والخسار فيها من أكبر نعم الله على الدولة والإسلام. إن الخطر ينذر هذه الدولة بالهلاك من زمن طويل، وقد عجل عبد الحميد خطواته في زهاء ثلث قرن، وعجلت جمعية الاتحاد والترقي خطواته في ثلاث سنين، بأشد من تعجيل عبد الحميد لها في ثلاثين سنة ونيف، ولم يقم أحد من المسلمين في كل هذه المدة بمشروع يدرأ الخطر، ويكفل مستقبل الإسلام المنتظر. طالما نبهنا الدولة في زمن عبد الحميد إلى وجوب تعميم التعليم العسكري في جميع البلاد، وإيجاد قوة محلية منظمة في كل قطر من أقطارها ورجا من أرجائها، وكنا استحسنا مشروع الألايات الحميدية في الأناطول وطرابلس الغرب فلم تكن كما رجونا وأملنا.
وكنا اقترحنا على الدولة أن تنقل مركز العاصمة إلى دمشق الشام فإن لم يرض زعماء الترك فإلى قونية، وأن تؤلف من عرب الجزيرة جيشًًا منظمًا يكون لها ردءًا وملتحدًا، يمد جيش الأناضول إذا هوجم من جهة الشرق، ويخشى المستعمرون لأفريقيا صولته من جهة الغرب، فتضطر إنكلترا إلى الاتفاق مع الدولة في مسألة مصر وغير مصر، وأما ما كان يجب عمله بعد الدستور -وهو الركن الشديد- فطالما ذكرناه في المنار تلميحًا وتلويحًا، وفصلناه لبعض العقلاء من العثمانيين تفصيلاً، فما يعوزنا الرأي ولكن يعوزنا العاملون، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، ولا يبالون بسعاية المفسدين، ولا بنباح الكُتَّاب المستأجرين، ورُب رأي أو عمل يعده ضعفاء العقول وأصحاب النظر القصير في وقت من الأوقات ضارًّا ويرمون صاحبه بالخيانة، يظهر في وقت آخر أنه مستقر النفع ومستودعه الذي لا يغني عنه غيره.
وإذا فأتت الفرصة للعمل به يتحسرون لفواتها ويتمنون لو نفذ ذلك الرأي قبل ذلك. الخطوب الاجتماعية كالأمراض الجسدية (لكل داء دواء إلا الموت) فطوبى للأمة التي تعرف قيمة أهل الرأي الصحيح الذي تنكشف به الخطوب وتعمل برأيهم وتهتدي بهديهم، وويل للأمة التي تجهل قيمتهم، وتصغي أفئدتها إلى المفتونين المنفرين عنهم، من طلاب المنفعة العاجلة، والشهرة الباطلة، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين (وما ربك بظلام للعبيد) .