خطب ومحاضرات
هيا بنا نؤمن [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله، الحمد لله جلت قدرته، وتجلت حكمته، ونفذت مشيئته، وعمت رحمته، وتقدست أسماؤه، وتكاثرت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، نداء نعيد ذكره ورفعه، فنحن مؤمنون؛ غير أننا نريد أن نكمل النقص، وأن نقوي الضعف، وأن نعظم الأثر، وأن يكون إيماننا هو ذلك الإيمان الذي غرسه النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه فعمرت بالتقوى، وأشاعه في نفوس أتباعه فنضحت بالخير والهدى.
إن الإيمان منبع كل خير، ومصدر كل هداية، وأساس كل إصلاح، إنه نور كل قلب، وطمأنينة كل نفس، ورشد كل عقل، إنه إخلاص كل نية، وصلاح كل عمل، إنه خير الدنيا وفلاح الآخرة، إنه عند كل مؤمن محور وقطب رحى حياته؛ لأجله يعيش، ولأجل نشره والذب عنه يقضي ويضحي، ولأجل نشره والتعريف به يجهد ويبذل.
الإيمان في حقيقة أمرنا وحياتنا ومنهجنا الإسلامي هو قضية القضايا، فهو القضية الكبرى التي لأجلها خلق الله الخلق، وخلق السماوات والأرض، وخلق الجنة والنار، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كل ذلك لأجل قضية الإيمان.
وقد وقفنا وقفات ماضية مع صور إيمانية نحن في أشد الحاجة إليها وفي أعظم الافتقار إليها في زمن الفتنة والمحنة وغلبة الأهواء واضطراب الآراء، في الزمن الذي تغيرت الأمور، وصار بعض المعروف منكراً وبعض المنكر معروفاً، في الزمن الذي توالت الدعوات في تغيير الشرائع والأحكام حتى وصلت إلى طلب تغيير الأحاديث والآيات!
إن هذا أمر في غاية الأهمية، ونحن قد استعرضنا صوراً من فتنة النساء، أو فتنة المال، أو الاهتمامات التي وقعنا في كثير من جواذبها ولا عصمة لنا منها ولا قوة لنا في مواجهتها إلا بالإيمان بالله جل وعلا.
نمضي اليوم إلى صور أخرى نرى فيها قصوراً ونقصاً، ويظهر من خلالها حاجة ماسة إليها وفقر، إنها الغفلة عن الله، وإظهار الاستغناء عن الله، وعدم الشعور بالضعف والذل والانكسار بين يدي الله، وعدم الشعور الدائم بالحاجة الماسة إلى أن يفضي بهمه وغمه بين يدي مولاه، وعدم الرجوع عند كل خطب وأثناء كل كرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن المؤمن هو الذي يتوكل على الله، وينيب إليه، ويخلص له، ويستمد منه ذلكم الأمر المهم؛ لأن القلب المؤمن موصول بالله، ولأن اليقين الراسخ في النفس يجعل الثقة لا تعطى إلا لله، والقوة لا تطلب إلا من الله، والنصر لا يستنزل إلا من عند الله، ولأن المؤمن الحق يعرف أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا هدى ولا تقى إلا في منهج الله، ولا صلاح ولا راحة ولا حياة طيبة إلا باتباع شرع الله.
إن الأسئلة المهمة التي نرى ضعفها في واقع حياتنا وتجعلنا نتساءل هي: أين الالتجاء إلى الله والدعاء له؟ وأين الافتقار إلى الله والقنوت له؟ وأين الركون إلى الله والقنوت له؟ وأين نحن في واقع الحياة من هذا الأمر، ونحن نرى المؤمنين والمسلمين في كثير من أحوالهم يلتمسون القوة عند أهل الأرض في شرق أو غرب، ويلتمسون العون عند هذا المخلوق أو ذاك؟ كأنما خلت قلوبهم من صلة عظيمة بالله وافتقار شديد إليه، وكأنما لا يستحضرون المعاني الإيمانية التي ضرب الله عز وجل لنا بها المثل في أعظم الخلق وأشرفهم وهم رسله وأنبياؤه، فالرسل والأنبياء مع كل ما آتاهم الله عز وجل ضربوا لنا المثل في أنهم كانوا القدوة في افتقارهم إلى الله؛ فهم الذين صوروا لنا في واقع حياتهم لجوءهم إلى الله، وكثرة دعائهم وتضرعهم وانكسارهم وذلهم وإخباتهم لله، لقد كانت ألسنتهم رطبة بذكر الله، وأيديهم مرفوعة بالدعاء إلى الله، وأعينهم دامعة من خشية الله، وقلوبهم مملوءة بحبه وخوفه سبحانه وتعالى.
فهذا نوح عليه السلام تكالب عليه قومه، وحاصروه من كل جانب مع ثلة قليلة من أهل الإيمان كانوا معه، ولكنه كما قال الله عنه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، وجاء الجواب سريعاً: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12]، فما التمس عوناً من هنا أو هناك، بل كان يعرف القوة ومصدرها والنصر ومنزله فمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نبي الله يونس قال عنه سبحانه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وجاء الجواب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].
وهكذا في قصة أيوب عليه السلام قال سبحانه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].
وهكذا في قصة زكريا قال عز وجل: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89].
وهكذا في قصة يوسف عليه السلام نجد استنجاده واستعصامه بالله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].
ففي كل الصور: صور العداء، صور الفتنة، صور الإغراء، صور الفقر، صور الغنى، كان الاستمداد واللجوء والتضرع والابتهال والصلة الدائمة بالله دليلاً على إيمان حي في القلوب، وعلى نور مشرق في النفوس يدفع الإنسان دائماً وأبداً إلى أن يستشعر فقره وضعفه وذله وانكساره وحاجته لله سبحانه وتعالى.
فكروا أحبتي! وليدر كل في نفسه هذا السؤال وفي خاطره تلك الصور من حياته: كم مرة في يومه، أو في أسبوعه، أو في شهره بل ولا أبالغ إن قلت: في عامه انكسر بين يدي الله، وشعر أنه في شدة الحاجة إليه، وأن ليس عنده ما يفضي به إلى الله؟ فكم نحن في غفلة نلتمس أسباب نجاتنا وعون حياتنا وشفاء أمراضنا من الأسباب البشرية دون أن تتعلق قلوبنا برب البرية سبحانه وتعالى؟
يقول ابن القيم رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به سبحانه وتعالى، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه.
إنها نعمة يسوقها الله لمن أحب؛ فيجعله لا يرى أحداً، ولا يتعلق بأحد، ولا يرجو أحداً إلا خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؛ لأنه قد ملئ قلبه بهذا الإيمان، واستشعر دائماً من إيمانه أهمية الصلة بربه، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مرة.
قال الشاعر:
فقيراً جئت بابك يا إلهي ولست إلى عبادك بالفقير
غنياً عنهم بيقين قلبي وأطمع منك بالفضل الكبير
إلهي ما سألت سواك عوناً فحسبي العون من رب قدير
إلهي ما سألت سواك هدياً فحسبي الهدي من رب نصير
إذا لم أستعن بك يا إلهي فمن عوني سواك ومن مجيري
لسان حال المؤمن افتقار إلى الله يستحضر به قول الله جل وعلا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فلمَ لا نلجأ إلى الله إلا إذا ادلهمت الخطوب، وتوالت الكروب، وعظمت الرزية، وكبرت البلية؟ ولمَ لا تكون القلوب دائماً مفضية إلى خالقها، منيبة إليه، موصولة به، راجية منه؟ ذلك هو حال المؤمن، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يشجع كل مؤمن ويحيي هذه المعاني في قلبه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً، حتى يضع فيهما خيراً). رواه الترمذي .
لا يخيب من دعا الله، ولا يضل من استهداه ولا يخذل من استنصر بالله سبحانه وتعالى، دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في غير وقت الصلاة فوجد أبا أمامة جالساً، فسأله: (ما لك يا
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
إن الله سبحانه وتعالى بيده مفاتيح كل شيء، بيده الخلق والأمر، فما بالنا نغفل عن هذا ولا نجعل إيماننا دافعاً لأن نستحضر هذا المعنى بكل ما جاءت به الآيات وما وردت به الأحاديث؟ قال عز وجل: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، فمن يملك الملك حتى يعطيك؟ ومن يملك العز حتى يعزك؟ فما بالنا قد التجأنا إلى أسباب الدنيا وركنا إليها، واعتمدنا عليها كأن لا إيمان في القلوب ولا يقين؟ فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا المعنى الذي تجلى دائماً وأبداً في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وأسلافنا من المؤمنين إلى يومنا هذا عندما جعلوا قلوبهم معلقة بالله سبحانه وتعالى!
هناك صورة أخرى من صورنا المحزنة المؤلمة التي علاجها جزماً وقطعاً في هذا الإيمان وروائه ونوره وإشراقه وآثاره:
كم نرى صوراً فيها القلوب متنافرة، والنفوس متشاحنة، والصفوف متخالفة؟
كم نرى الخلاف وهو شائع، والاعتداء وهو ذائع؟
كم نرى صوراً من القتل باسم الإسلام يحصل؟
كم نرى صوراً من التدمير بدعوى الإصلاح تقع؟
كم نحن في حاجة إلى أن نؤكد معنى الإيمان الأعظم ودلالته الكبرى في أخوة القلوب واتحاد النفوس وارتباط الصفوف وتكاتف المؤمنين؟
كم نحن في حاجة إلى أخوة الإيمان وعصمة الإسلام؟
كم نتساءل اليوم: أين القلوب المتآخية؟ وأين النفوس المتصافية؟ وأين الرحمة الغامرة؟ وأين المودة العامرة؟ وأين نحن من قول الله جل وعلا: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]؟
وأين نحن من قوله جل وعلا في وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وأين نحن من القصر الذي يتضح من قوله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]؟
لا يكون إيمان كامل إلا بأخوة صادقة، ولا تقوم أخوة حقيقية إلا على إيمان صادق.
أين نحن من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)؟
وأين المعنى المتجلي في الصورة العظيمة الفريدة التي لم يسطر تاريخ البشرية مثلها أبداً، صورة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؟ فالمهاجرون تركوا ديارهم فنزلوا على قلوب إخوانهم قبل أن ينزلوا في دورهم، إنها صورة تجلت في آيات القرآن، كما في قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فهل رأت الدنيا صورة من الوحدة والألفة والمحبة مثلما كان بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرون وأنصار، وأوس وخزرج، وفرس وروم وأحباش، كلهم إخوة مؤمنون تربطهم رابطة الإيمان، ومحبة تتدفق من القلوب، ومودة تشيع في النفوس، وأكف بعضها بأيدي بعض، ليس بينهم اختلاف ولا شحناء ولا بغضاء، ذلك هو داعي الإيمان الذي يدعونا ويجعل المؤمن عندنا والمسلم أولى أحد نحبه ونواليه، ونسأل عن حاله، وننصره وندعو له، ونهتم لهمه ونغتم لغمه، وندفع عنه بقدر استطاعتنا وجهدنا وطاقتنا.
إن أمر المؤمن عظيم، وإن الإضرار به وإلحاق الأذى به صغيراً كان أو كبيراً أمر خطير وعظيم في الإسلام؛ ألم نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يحزنه)؟ أي: أن مجرد هذا الفعل البسيط بأن تهمس لأخ لك دون الثالث الذي ليس في المجلس غيره قد يدور في ذهنه أن الكلام عليه، فيدخل حزناً في قلبه، ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ونبه إلى أهمية مراعاة مشاعر أخيك المؤمن وعدم فعل أي شيء يحزنه أو يغضبه، في الحق وبموافقة الشرع، فإذا زاد الأمر فإن الخطب عظيم، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى مسلم بحديدته فهو يتوجأ بها في نار جهنم إلى يوم القيامة)، هذا بمجرد الإشارة، فكيف بنا ونحن تتجدد في بلادنا وفي بلاد المسلمين أفعال من القتل والتدمير والأسلحة الكثيفة الكثيرة التي أعدت لتحصد أرواح مؤمنين، وتدمر ممتلكات مسلمين، وتثير الرعب في أهل الإيمان والإسلام، وتجعل الضغينة والأحقاد هي العلائق والصلات بين المجتمع المسلم! أين هذا من الإيمان؟! وأين هذا من حقائق الإسلام وتشريعاته؟! وأين هو من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن هم فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى)، هذه صور هي من حقيقة إيماننا، وليست قضية إرهاب ذكره لنا الساسة وشاع بين العالم، بل هذه هي حقائق أخوة الإيمان؛ فبمجرد هذه الإشارة بالحديدة أو الإخافة للمسلم يأتيك وعيد شديد وخطر عظيم، بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل إلى مسجد ومعه سهام فليأخذ بنصالها)، أي: لا يجعل السهم موجهاً للناس وإن كان سائراً لا يقصد لهم أذىً، فكيف بإهراق دم مسلم؟ نسال الله عز وجل السلامة.
وقد مرت بنا أحاديث كثيرة في هذا المعنى إلا أن تجدد الأحداث يعيد إلينا حقائق الأحكام التشريعية الإسلامية وضوابطها التي تعظم حرمة المسلم والتي تعظم وحدة المسلمين وأخوتهم.
ومن جهة أخرى ننظر إلى هذا المعنى في حدث أيضاً مهم، أحسب أن كثيراً من الناس لم يلتفت إليه، ولم يسترع انتباهه، من دواعي هذه الأخوة الإيمانية ومن أثار الإيمان ودلائله: أن نهتم بأمر كل مسلم في شرق الأرض وغربها، وأن ندعو له، وأن نتذكر حاله، وأن نستشعر كربه، وأن نمده ونعينه بما نستطيع، فهل لا يوجد في أهل الإسلام من يحل به كرب أو يحيط به خطب أو يقع عليه اعتداء؟
إن ذلك يقع لا أقول: في كل يوم بل في كل لحظة وساعة، فأين نحن من حبال الود الإيمانية والرابطة الإسلامية ولو استشعاراً بالقلوب وتأثراً في النفوس؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم رأى قوماً من مضر دخلوا المسجد وعليهم علائم الفقر وثيابهم مرقعة تمعر وجهه صلى الله عليه وسلم -أي: تغير حزناً على حالهم وتأثراً بمنظرهم- ثم دعا الناس لعونهم ولإغاثتهم، فتجمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه بهذا المنظر الذي فيه التكافل والتكامل والتعاضد الذي جسد قلوباً مؤمنة حية وأخوة صادقة عملية، فأين نحن اليوم من هذا؟ وأين نحن من أحوال إخواننا المسلمين في أرض فلسطين؟ وإن الحدث الجلل تقترب ساعته وتتوالى أحداثه، إنه حدث وخطب جلل من اعتداء قريب على المسجد الأقصى تنادى إليه من يسمونهم هم بأنفسهم المتطرفين من اليهود عليهم لعائن الله، فإنهم يتجمعون في يوم الأحد بعد غد ليقتحموا المسجد الأقصى وساحاته، ويتنادى أهل فلسطين في أرض القدس وفي الأراضي التي يستطيعون فيها الوصول إلى المسجد الأقصى لكي يكونوا فيه هناك على مدى أيام ثلاثة ليلاً ونهاراً؛ ليذودوا عنه، أفلا يستحقون أن نتذكرهم، وأن نتذكر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نغتم لذلك ونحزن، كما أبى صلاح الدين رحمه الله أن يتبسم والمسجد الأقصى في قبضة النصارى في عهده؟ ألا يستحق ذلك منا أن نتابع وأن نهتم وأن نعرف أن القضية خطيرة؟ لأن إخواننا في أرض فلسطين ممنوعون من دخول المسجد الأقصى منذ أربع سنوات، فمنذ انطلاق انتفاضة الأقصى أهل غزة وأهل الضفة لا يستطيعون الوصول إلى المسجد والصلاة فيه، أليس هذا هو مقتضى الإيمان؟ فليس الإيمان كلمات تقال فحسب، وليس هو مجرد صلاة وصيام وأذكار وتلاوات فحسب، بل هو هذه الروح الإيمانية التي تتجاوز الحدود، وتتجاوز الأعراف والقوانين الدولية؛ لتكرس الأخوة الإيمانية.
ويحزنني -وأظنه يحزن كل مؤمن منكم- أننا في هذا الوقت بالذات ومع هذا الخطب بالذات تطالعنا صحف هذا اليوم بقضية تشير إلى أنها موضع اهتمام كبير، وأنها موضع اهتمام الشباب والشابات في المدارس والجامعات والكليات، وأنهم يوصي بعضهم بعضاً، وأنهم يتحفزون ويحتشدون ويتجمعون؛ لكي يقوموا بمهمة عظيمة، يا ترى ما هي؟! إنها مهمة التصويت لإنجاح مشارك في برنامج الغناء المعروف: استار أكاديمي!!
أين نحن من هذا الذي يجري في واقع أمتنا، وذاك الذي يريد أن يصرفها عن كل أمر مهم، وعن كل قضية عظيمة، وعن كل مسألة ينبغي أن تهتم وتغتم وتنشغل بها قلوب المؤمنين، ويتدارسونها فيما بينهم؟ عجبت لذلك ولا عجب في مثل هذا الأمر الذي يجمع النقائض ويؤكد لنا مرة ثانية وثالثة أننا بحاجة إلى هذا النداء: هيا بنا نؤمن، وأننا بحاجة إلى أن نجدد نداء بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نؤمن ساعة.
نسأل الله عز وجل أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن من تقوى الله تجديد الإيمان وإحياؤه في القلوب؛ حتى تُعمر هذه القلوب بتقوى الله سبحانه وتعالى، وإن الصور التي نجد فيها المفارقات الإيمانية بين ما هو مطلوب منشود وما هو واقع محزن كثيرة.
ولعلي أختم هذا المقام بقضية مهمة خطيرة لا تقل خطراً عن كل ما ذكرناه، وهي متعلقة بالإيمان وحياته في القلب، تلكم هي الصفة المهمة: صفة الخشوع الإيماني، فالقلوب الخاشعة تتبعها العيون الدامعة والجباة الخاضعة والألسن الضارعة، إن أمراً يملأ قلب المؤمن بهذا الإيمان يجعله دائماً يستحضر عظمة ربه جل وعلا، ويستحضر خوفه، ويستحضر تعظيمه وإجلاله وتقديره سبحانه وتعالى كما ينبغي، قال عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
إن هذا أمر مهم؛ لأنه يتعلق بصلواتنا اليومية وفريضتنا الثانية بعد التوحيد والشهادة، هذه الصلاة التي جوهرها الخشوع تدعونا اليوم -ونحن نعرف حالنا، ولا نحتاج أن نكشف أو نهتك سترنا- إلى أن نسأل: أين القلوب الخاشعة؟ تلك القلوب التي يصفها ابن القيم رحمه الله فيقول: الخاشع لله عبد، قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهواته، وصار مخبتاً لربه، والله جل وعلا يقول في وصف المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، فجعل ذلك الوصف أول الأوصاف؛ لأنه يتعلق بأعظم العبادات، ويتعلق بالجوهر العظيم في هذه العبادة، وروى الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً).
إنه أمر لو تدبرناه وكنا صرحاء لقلنا عن حالنا: إننا نصلي وقلوبنا لاهية، وعقولنا منشغلة، وأجسادنا خاوية من حقيقة استحضار عظمة من نقف بين يديه، قال بعض السلف كلاماً نفيساً أحسب أننا لو تأملنا فيه فقد يزيد حزننا؛ لكننا نحتاج إلى ذلك، قال: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك، فما الظن بمن يُهدى إليه جارية شلاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد أو الرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح؟ فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها.
إن الخشوع جوهر هذه الصلاة التي يحصل بها حقيقتها وجوهرها، كما روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن في وقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه).
وفي حديث عند البخاري وغيره جدير بأن نطبقه، وأن نبحث عن الخلل الكبير الذي سنكتشفه عند تطبيقه، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه -وفي رواية: لا يحدث فيهما نفسه- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، إنهما ركعتان جرب صلهما وحاول ألا يكون فيهما خاطر ولا فكر ولا انشغال بغير الصلاة وما فيها مع استحضار عظمة من تناجيه بها؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي ويسمع لصوته أزيز كأزيز المرجل من خشوعه وبكائه صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس قالت عائشة : (يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف إذا صلى بكى، فبكى الناس لبكائه).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن الفاروق رضي الله عنه بكى في صلاة الفجر حتى سمع بكاؤه من وراء الصفوف).
وهكذا سنجد الأمثلة كثيرة، فكم نحن في حاجة إلى إحياء الإيمان؛ لتحيا قلوبنا، ونخشع في صلاتنا؟ وكم هي الأمور كثيرة؟ وكم هي حاجتنا إلى هذا النداء عظيمة؟ فهيا بنا نؤمن، وهيا بنا نجدد إيماننا، وهيا بنا نتواصى بقول الله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم عظم إيماننا، ورسخ يقيننا، واملأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واشغل جوارحنا بطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا اللهم ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في أرض العراق وفي أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم احفظ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، اللهم نجه وسلمه من اليهود المجرمين المعتدين.
اللهم هيئ لإخواننا في أرض الإسراء من أمرهم رشداً، اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، واجعلهم للحق ناصرين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم مكن لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! وحد اللهم كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين!
اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء!
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه.
اللهم أدم عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين عن بلاد الإسلام والمسلمين.
اللهم احفظ دماء المسلمين، واحفظ اللهم أعراضهم، اللهم واحقن دماءهم، واصرف عنهم الشر والبلاء والأذى وكيد الأعداء يا رب العالمين!
اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء!
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
هيا بنا نؤمن [1] | 1786 استماع |
هيا بنا نؤمن [3] | 979 استماع |
هيا بنا نؤمن [4] | 456 استماع |