هيا بنا نؤمن [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله العزيز القهار، القوي الجبار، الرحيم الغفار، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، له الحمد على ما وعد به المؤمنين من النصر والتمكين، وله الحمد على ما بسط وجعل من ولايته لعباده المؤمنين الصالحين، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، أرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وجعله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

لا اجتماع للأمة إلا بالكتاب والسنة

أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول ونداؤنا مستمر: هيا بنا نؤمن، ولعلنا في وقفتنا الأخيرة هذه نكمل معاني بدأناها، ونزيد مقارنة مهمة توقفنا على ذلك الفيض الرباني والعطاء الإلهي الذي اختص به الله جل وعلا أهل الإيمان، وميزهم به عن غيرهم من أهل الجحود والنكران، ونذكر ما جعله الله سبحانه وتعالى من إشراق النفوس وطمأنينة القلوب لأهل الذكر والطاعة، وما كتبه كذلك من طمس البصيرة وقسوة القلب على أهل الغفلة والمعصية.

ونمضي مع الإيمان لنرى بجلاء ووضوح أن فيه جواباً لكل سؤال، وحلاً لكل مشكلة، وتذليلاً لكل صعب، وإنارة لكل ظلمة؛ فإن الله جل وعلا خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، ولم يدعهم سدى، بل أتم عليهم نعمته بنور الإيمان وهدي الإسلام وتشريع الأحكام، وبيان ما بعد هذه الحياة الدنيا مما يترتب عليه الثواب والعقاب.

وهنا ومضة مهمة في أمر عظيم كبرت فيه الرزية وعظمت فيه البلية، ذلكم هو أمر خفاء الحق والتباسه بغيره من الباطل، وضلال الآراء وعدم وضوح الرؤية، وهذا أثر من آثار ضعف الإيمان وضعف الاستقاء من نبعه العذب الصافي، وضعف الاستنارة بنوره المشرق الوضاء.

إن الهداية في الأمور المختلف فيها أمرها عظيم، ومرجعها إلى الإيمان.

ونحن نعلم أن الأمر المهم لأمتنا هو الاجتماع لا الافتراق، والائتلاف لا الاختلاف، والتوحد لا التمزق، ولا يصلح شيء من ذلك إلا بعصمة الإيمان وهدى الرحمن سبحانه وتعالى، قال عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213]، هذه نعمة الله الابتدائية التي أراد الله عز وجل أن يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى؛ فأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ووضح جل وعلا للخلق طريق الحق وسبل الباطل، ثم وقع اختلاف الناس من بعد، قال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213]، فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف في واقع الحياة في أمم سابقة وإلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ كانت النتيجة هي كما أخبر الله عز وجل بقوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].

إن الهداية لمعرفة الحق رغم وجود الشبهات وكثرة الشهوات مرجعها إلى الإيمان، والعصمة من ضلال الآراء واستبداد الأهواء إنما تكون بعصمة الإيمان.

ذلكم مبدأ مهم في واقعنا اليوم، فالأمة هي الجماعة على المقصد الواحد، كما ذكر ابن عطية في تفسيره، فلن نكون أمة إلا باجتماع وائتلاف له قاعدة راسخة وأساس متين ومعالم واضحة، تلكم هي معالم الإيمان في القرآن والسنة.

الفرقة مخالفة للمقصد الذي جاء لأجله الأنبياء

قال عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال القاسمي : أي وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد، وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم. أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، تلك هي الأمة الواحدة.

وثمة آراء واجتهادات يمكن الاختلاف فيها مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن عصمة الإيمان ورابطة الائتلاف على معاقد الإيمان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عاصمة من التباس الحق واضطرابه في أذهان الناس من جهة، وعاصمة من افتراق يؤدي إلى احتراب من جهة أخرى.

قال القاسمي رحمه الله في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213]: بدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، فقد أنزل الله الكتاب، وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، ليكونا مرجعاً حاسماً لكل خلاف وجامعاً كاملاً للآراء الاجتهادية في المقاصد الكبرى والمعالم العظمى، فجعل بعض الناس ذلك الذي جعل لنزع الخلاف مثاراً للخلاف، وما ذلك إلا من ضعف الإيمان واستبداد الأهواء في القلوب؛ لأن الله جل وعلا قد بين أن ما وقع من الاختلاف لم يكن لقصور في وضوح الآيات والبينات، بل كما قال جل وعلا: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213] فأي سبب كان سبب هذا الاختلاف؟ قال: بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]، إنه الحسد والهوى والفتنة التي أوجزتها الآيات في هذه الكلمات البليغة.

أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول ونداؤنا مستمر: هيا بنا نؤمن، ولعلنا في وقفتنا الأخيرة هذه نكمل معاني بدأناها، ونزيد مقارنة مهمة توقفنا على ذلك الفيض الرباني والعطاء الإلهي الذي اختص به الله جل وعلا أهل الإيمان، وميزهم به عن غيرهم من أهل الجحود والنكران، ونذكر ما جعله الله سبحانه وتعالى من إشراق النفوس وطمأنينة القلوب لأهل الذكر والطاعة، وما كتبه كذلك من طمس البصيرة وقسوة القلب على أهل الغفلة والمعصية.

ونمضي مع الإيمان لنرى بجلاء ووضوح أن فيه جواباً لكل سؤال، وحلاً لكل مشكلة، وتذليلاً لكل صعب، وإنارة لكل ظلمة؛ فإن الله جل وعلا خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، ولم يدعهم سدى، بل أتم عليهم نعمته بنور الإيمان وهدي الإسلام وتشريع الأحكام، وبيان ما بعد هذه الحياة الدنيا مما يترتب عليه الثواب والعقاب.

وهنا ومضة مهمة في أمر عظيم كبرت فيه الرزية وعظمت فيه البلية، ذلكم هو أمر خفاء الحق والتباسه بغيره من الباطل، وضلال الآراء وعدم وضوح الرؤية، وهذا أثر من آثار ضعف الإيمان وضعف الاستقاء من نبعه العذب الصافي، وضعف الاستنارة بنوره المشرق الوضاء.

إن الهداية في الأمور المختلف فيها أمرها عظيم، ومرجعها إلى الإيمان.

ونحن نعلم أن الأمر المهم لأمتنا هو الاجتماع لا الافتراق، والائتلاف لا الاختلاف، والتوحد لا التمزق، ولا يصلح شيء من ذلك إلا بعصمة الإيمان وهدى الرحمن سبحانه وتعالى، قال عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213]، هذه نعمة الله الابتدائية التي أراد الله عز وجل أن يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى؛ فأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ووضح جل وعلا للخلق طريق الحق وسبل الباطل، ثم وقع اختلاف الناس من بعد، قال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213]، فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف في واقع الحياة في أمم سابقة وإلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ كانت النتيجة هي كما أخبر الله عز وجل بقوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].

إن الهداية لمعرفة الحق رغم وجود الشبهات وكثرة الشهوات مرجعها إلى الإيمان، والعصمة من ضلال الآراء واستبداد الأهواء إنما تكون بعصمة الإيمان.

ذلكم مبدأ مهم في واقعنا اليوم، فالأمة هي الجماعة على المقصد الواحد، كما ذكر ابن عطية في تفسيره، فلن نكون أمة إلا باجتماع وائتلاف له قاعدة راسخة وأساس متين ومعالم واضحة، تلكم هي معالم الإيمان في القرآن والسنة.

قال عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال القاسمي : أي وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد، وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم. أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، تلك هي الأمة الواحدة.

وثمة آراء واجتهادات يمكن الاختلاف فيها مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن عصمة الإيمان ورابطة الائتلاف على معاقد الإيمان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عاصمة من التباس الحق واضطرابه في أذهان الناس من جهة، وعاصمة من افتراق يؤدي إلى احتراب من جهة أخرى.

قال القاسمي رحمه الله في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213]: بدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، فقد أنزل الله الكتاب، وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، ليكونا مرجعاً حاسماً لكل خلاف وجامعاً كاملاً للآراء الاجتهادية في المقاصد الكبرى والمعالم العظمى، فجعل بعض الناس ذلك الذي جعل لنزع الخلاف مثاراً للخلاف، وما ذلك إلا من ضعف الإيمان واستبداد الأهواء في القلوب؛ لأن الله جل وعلا قد بين أن ما وقع من الاختلاف لم يكن لقصور في وضوح الآيات والبينات، بل كما قال جل وعلا: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213] فأي سبب كان سبب هذا الاختلاف؟ قال: بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]، إنه الحسد والهوى والفتنة التي أوجزتها الآيات في هذه الكلمات البليغة.

ونبقى هنا مع المقصود الأعظم في حديثنا: ما العصمة في هذه الفتن الملتبسة، والآراء المختلطة، والشبهات المتكاثفة؟

قال عز وجل: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213]، فليست مجرد هداية علم بأن نعرف ونعلم، بل هي هداية توفيق؛ لأن النفوس متجردة، ولأن الأرواح مخلصة، ولأن القلوب في إصابة الحق راغبة، ولأن التعصب للشخص وللحزب وللمذهب لا يكون مع الإيمان الذي يقصد الحق ويرغب في إصابته، ويراه سبيلاً إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فإننا ندرك أن هذا الأمر هو المعول عليه.

أورد ابن كثير عند هذه الآية حديثاً من رواية عبد الرزاق في مصنفه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة؛ نحن أول الناس دخولاً الجنة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق)، وذلك في شأن أمة الإسلام مقارنة بمن سبقها من أمم أهل الكتاب، وقد ذكر ابن كثير في شيء من الإيجاز أنواعاً من ذلك الاختلاف: اختلفوا في قبلتهم، واختلفوا في رسلهم، واختلفوا في آراء متفرقة، واختلفوا في كتبهم، وعصم الله أمة الإسلام في جملتها بما جاء به رسول الله الهدى صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا نستشعر عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في دعائه الخاشع الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

فكم نحن في حاجة إلى إحياء إيماننا ليكون نوراً هادياً وبصيرة مرشدة في ظل هذا الاحتراب والاختلاف والتنازع الذي وصل في أيامنا هذه إلى أن يشكك في آيات القرآن، وإلى أن يعتدي على ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أن تنكر أحكام أجمعت عليها الأمة عصوراً متتالية وقروناً متتابعة، وإلى أن تستحدث أحكام ما قال بها أحد من الأولين والآخرين من أهل الإيمان المسلمين! حتى صار الناس اليوم في حيرة واضطراب.

ولا عصمة لهم إلا أن يعظموا الإيمان في القلوب؛ لأن القضية ليست قضية معرفة وقراءة وجمع أدلة، فكم نرى اليوم فيما ينشر من كتب أو صحف من تكاثر أدلة وأقوال مختلفة! لكن يوجد في القلوب دخن؛ وفي العقول زيغ، ذلك أنها لم تخلص إلى أن يكون نبع الإيمان من مصدر الكتاب والسنة، وأن ترى أنه هو الذي يحقق لها الأمن النفسي والطمأنينة القلبية والرشد العقلي والبصيرة الربانية.

روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن علي رضي الله عنه قال: (العلم قطرة كثرها الجاهلون).

فكم نفرح في كل المسائل عندما نشعبها، ونذكر فيها أقوالاً عدة، ونسرد فيها أدلة مختلفة! ويظهر لنا من بعد أن صاحب ذلك عالم نحرير، وكثيراً ما يكون وراء كل ذلك نور مشرق في آيات موجزات وفي أحاديث جامعات، لكن ذلكم يغيب عندما يغيب نور الإيمان من القلوب، ولذلك لو رجعنا إلى المتقدمين من أسلافنا ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا ما وصف به ابن مسعود ذلك الجيل بقوله: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أعمق هذه الأمة علماً، وأقلها تكلفاً، وأعظمها إيماناً، وأرسخها يقيناً) أي: كان عندهم مع عمق العلم قلة التكلف؛ وذلك أثر إشراق الإيمان والتعلق بالله، فلا مكان لجدال القصد منه إثبات القوة العلمية أو إصابة المصالح والمكاسب الدنيوية، وإنما تنزل عن الرأي إن كان ذلك يؤدي إلى جمع للأمة ابتعاداً عن الافتراق والاختلاف.

أما رأينا ابن مسعود رضي الله عنه وهو الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر رضي الله عنهما يصلي في الحج قصراً، فبلغه أن عثمان أتم، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم حج بإمرة عثمان رضي الله عنه، فلما صلى أتم مع عثمان ، فقيل له: بلغك القصر فاسترجعت، ثم صليت فأتممت؟

فأشرق نور الإيمان وظهرت معالم الهداية والتوفيق عندما قال ابن مسعود : (الخلاف شر) أي: أتفرق الأمة لأجل ترجيح في مسألة خلافية؟

ذلكم لا يكون إلا ببصيرة الإيمان والهداية الربانية التي يرتفع أهلها إلى مستوى تقديم المصالح العامة على المصالح الجزئية، والمقاصد الكلية على المسائل الجزئية.

إن نور الإيمان يجعل الإنسان على مثل هذا الهدي الذي كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكم رأينا في سيرهم وفي سير أئمتنا من بعدهم من التابعين والعلماء والأئمة ما يكشف هذه البصيرة الهادية؛ فليس العلم كثرة مسائل ولا تشقيق فروع، وليس العلم مجادلة ولا مناظرة، بل العلم كما قال شعبة رحمه الله: (إنما العلم الخشية).

إن العلم هو خشية الله، إنه وازع الإيمان في قلب المؤمن، إنه بصيرة ونور يوصل إلى الحق من أقصر طريق بلا نزاع ولا شقاق ولا خلاف، ولذلك رأى علماؤنا وأئمتنا ذلك فظهر في أحوالهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
هيا بنا نؤمن [1] 1787 استماع
هيا بنا نؤمن [2] 1142 استماع
هيا بنا نؤمن [3] 980 استماع