خطب ومحاضرات
هيا بنا نؤمن [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله، الحمد لله جلت عن الإدراك صفته، ووسعت كل شيء رحمته، وعظمت على كل شيء عظمته، له الحمد سبحانه وتعالى، جعل الإيمان به أماناً من كل فتنة، وثباتاً في كل محنة، وزاداً في كل كربة، فله الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، فكم نحن في حاجة إلى هذا النداء؟ ولعلنا مباشرة يدور في أذهاننا: هل نحن غير مؤمنين حتى نؤمن؟ ومباشرة يأتينا الإيضاح ربانياً ونبوياً في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، فهذا خطاب للمؤمنين أن آمنوا بالله ورسوله.
قال ابن كثير رحمه الله: ليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه.
وقال السعدي رحمه الله: الأمر يوجه إلى من دخل في الشيء، وهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه، ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات، ويقتضي الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله.
فكم هو المفقود في حياتنا من علم الإيمان وأعماله؟
جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق -أي: ليبلى- في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم). رواه الطبراني من حديث عمر بن الخطاب ، وقال الهيثمي : إسناده حسن. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن عمرو ورواته ثقات، وأقره الذهبي ، وقال المناوي في شرحه: شبه الإيمان بالشيء الذي لا يستمر على هيئته، والعبد يتكلم بالإيمان بكلمة الإيمان، ثم يدنسها بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر فقد جدد ما أخلق، وطهر ما دنس.
وقوله: (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) قال: حتى لا يكون لقلوبكم وجهة لغيره ولا رغبة لسواه، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، أي: نذكره ذكراً يملأ قلوبنا، فهل كانوا في حاجة لذلك ونحن في غنى عنه؟ وهل كان ينقصهم من علم الإيمان وعمله مثل ذلك الذي ينقصنا؟
نحن اليوم في زمن الشبهات وفي عصر الشهوات وفي أوان المغريات وفي حين الملهيات التي تكاد تطعن القلوب فتدميها، وتمرض النفوس فلا تحييها، إن المرء اليوم يدرك أننا في عصر محنة تحتاج إلى زاد الإيمان، وفي عصر فتنة تحتاج إلى ثبات ورسوخ اليقين والإيمان، وفي عصر أصبح القابض فيه على دينه كالقابض على جمر، يرى في كل يوم من المحرمات، ويسمع في كل آنٍ من المحرمات ما لا يكاد يسلم معه أحد، إنها صور نحتاج فيها إلى تجديد إيماننا، وذكرى أحسب أننا نحتاج إلى وصل الحديث فيها مرة بعد مرة، وإلى تكرار الموعظة حولها كرة بعد كرة، فإن تجديد الإيمان في زمن الفتنة يحتاج أن يكون دأباً دائماً وهماً شاغلاً وعملاً متصلاً وتذكيراً غير منقطع بحال من الأحوال، إنها فتنة الأغراء بالمحرمات والمغريات والملذات: أجساد عارية، وكلمات ماجنة، ومشاهد فاتنة، ومواقف ساخنة، وشاشات داعرة، وإذاعات ساقطة، وروايات هابطة، وأسواق متبرجة، وجامعات مختلطة، وشهوات مستعرة، ونتيجتها: عيون معلقة بالمحرمات، وآذان مصغية إلى الباطل والغي من الكلمات، وقلوب مفتونة معلقة بتلك الملذات والمغريات، ونفوس قطعت وانقطعت عن التعلق بالمهمات، ألا يدعونا ذلك إلى أن نتذكر صور الإيمان أمام الإغراء؟ ألا يدعونا ذلك أن نستحضر السيرة العطرة لنبي الله يوسف عليه السلام الذي حكى الله عز وجل قصته في قوله: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] ثم ماذا؟ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]، ويوم اجتمعت الصفوة من نساء النخبة في مجلس واحد وأتمرن على حسن يوسف بالإغواء والإغراء، أليس ذلك هو زاد الإيمان العاصم من ذلك؟ أليس يُفضل السجن وحبسه ووحشته على لذة محرمة ومشاهد فاتنة ومناظر مغرية؟ ألا نذكر الحديث العظيم لرسول الهدى الكريم صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله حيث ذكر منهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)؟ فخوف الله أحرق مواضع الشهوات، وجعل صورة أخرى للمحبوبات والملذات.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قال النووي في شرح الحديث -أي: لماذا خصت ذات المنصب والجمال؟-: لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وكان الصبر عنها بخوف الله تعالى وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فكيف ننظر إلى هذا؟ واليوم ربما تصرع الفئام من أهل الإيمان حسناء بكلمة غنج ودلال، أو بأغنية فساد وانحلال، أو برقصة عهر وابتذال، أوليس ذلك هو واقع الحال؟ فأين نحن من علم وعمل الإيمان؟
وهناك مصرع آخر ومهوىً ردي آخر أمام المال؛ وما أدراك ما المال؟ فكيف هو اليوم مع فشو الربا وانتشار الرشوة وكثرة المحرمات في المفاسد والمطاعم حتى كأن البراءة من ذلك عند بعض ضعاف الإيمان اليوم هي في نطاق المستحيل الذي لا يمكن بحال من الأحوال؟! أليس اليوم قد تدنست المشارب والمطاعم، واختلطت المآثم بالمكاسب؟ ألسنا اليوم نرى أن الناس قد استحلوا ما حرم الله من المكاسب المالية حتى كأنهم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من ذلك، ولا تنقبض له نفوسهم، ولا تضطرب له قلوبهم، ولا يرون فيه إلا أنهم يأخذون بأسباب الحياة، وقصارى ما قد تجده عند أحدهم أن يفسر ذلك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ويعملون القواعد في غير مكانها؟! عجباً لنا معاشر المؤمنين! وزادنا من القرآن، ونصيبنا من هدي المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم يفيض عذباً زلالاً ليس فيه شائبة ولا كدر، يدعو إلى نفوس نقية وقلوب زكية وأيدٍ طاهرة ومكاسب ليس فيها أدنى شبهة.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة مطعم) رواه أحمد وغيره بسند حسن. فقوله: (وعفة مطعم) أي: أن تعف عن كل شبهة وحرمة في الكسب من طعام وشراب ولباس.
عجباً لنسائنا اليوم! لا يتذكرن أن على المرأة المؤمنة أن تقف عند باب بيتها توصي زوجها وهو خارج لعمله وكسب قوته وتقول له: يا هذا! اتق الله في رزقنا؛ فإننا نصبر على الجوع، ولكننا لا نصبر على النار، فما بالها اليوم تقول له: حصل وحصل، واكسب واكسب، ولا عليك من قول هذا ولا ذاك، وكأنما استطعم الناس أن يأكلوا في جوفهم النار، والعياذ بالله!
ألسنا نتذكر ما روى البخاري من قصة أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان له غلام يخدمه، فجاءه يوماً بطعام فأكل منه، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: ما هو؟ قال: كسب كسبته في الجاهلية من كهانة كذبت فيها عليه وخدعته، فأدخل أبو بكر أصبعه في فمه واستقاء كل ما أكل، أراد ألا يدخل جوفه شيء من حرام رغم أنه لم يكن به عالماً، ورغم أن الكسب كان في جاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والإسلام يجب ما قبله)، لكنهم عرفوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنه أمر المؤمنين بما أمر به الأنبياء والمرسلين: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51])، ذلكم ما أخبرنا به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فكسب الحرام يعمي البصيرة، ويطمس القلب، ويذهب نوره، ويوهي الدين، ويضعف أثره، ويوقع في حبائل الدنيا، ويحجب إجابة الدعاء، فإن وجدتم كثيراً من ذلك فلا تعجبوا؛ فإذا عرف السبب بطل العجب.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً من دلائل وعلائم نبوته صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذه منه -أي: من المال- أمن الحلال كان أم من الحرام!)، وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم نحن نرى الغصب رأي العين، والرشوة في كل مكان، والسحت والربا له قوام وكيان، ألا يصدق في ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ فأين إشراق الإيمان في القلوب؟! وأين رسوخ اليقين في النفوس؟! وأين التعلق بما عند الله من نعيم يعظم ويفوق كل الدنيا وما فيها وما بها من نعيم أهلها؟! ألسنا نذكر أهل الإيمان؟! استمع لفقه الإيمان وهو يعطينا الميزان الذي ينبغي أن نلتفت إليه، هذا ميمون بن مهران يقول لنا: لا يكون المرء تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه؟
ووهيب الوردي رحمه الله يقول: لو قمت في العبادة قيام سارية -أي: واقفاً منتصباً غير متحرك قائماً لعبادة ربك- ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.
فأين الإيمان الذي يدفع إلى الورع والتحري في المكاسب والمطاعم والمشارب؟!
قال الشاعر:
المال يذهب حله وحرامه يوماً وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتقٍ لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يحوي ويكسب كفه ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النبي به عن ربنا فعلى النبي صلاته وسلامه
هناك أمر ثالث من واقع حياتنا وهو: الهموم والمشكلات التي تضيق بها الصدور، ويعظم همها وكدرها في القلوب، ففي أي الأوبئة هي؟ وفي أي الميادين هي؟ وما الذي يشغل البال؟ وما الذي يطأطئ رءوس الناس؟ وما الذي يجعلهم يخلون بأنفسهم في الليل والخلوات ينفثون من صدورهم زفرات، ويطلقون من أصواتهم آهات؟ فأي شيء حمل الهم في قلوبهم، بل ربما أجرى الدمع من عيونهم؟
إنها أمور من الدنيا فاتتهم، ونعيم من شهواتها لم يصلهم، ومشكلات في حالهم وذاتهم لا تعدوهم إلى غيرهم! عجباً! لمثل هذا الهم والفكر عند مؤمن بالله، ومؤمن بانتهاء الحياة، ومؤمن بالوقوف بين يدي الله، ومؤمن بأن عليه واجباً في دين الله وتجاه دعوة الله وتجاه نصرة دين الله وتجاه التصدي لأعداء الله، فأين همه في دينه؟ وأين همه لأمته؟ وأين همه لدعوته؟ وأين هو من الفاروق عمر رضي الله عنه يوم كشف باله وعظم حزنه وانشغل فكره؟ فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فقال مقالته الشهيرة: (لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لم لم أسو لها الطريق؟) أتعبت من بعدك يا فاروق ! ولا نقول اليوم: إلا إن بيننا وبينك ما بين الثرى والثريا، لم يعد يشغل بالنا مثل هذه الأمور الدقيقة؛ فقد صارت ليس في ذيل القائمة من الاهتمامات بل عدمت ونسخت من الذاكرة، ومحيت من القلوب والنفوس إلا ما رحم الله.
هذا أبو هريرة راوي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الصفة يبكي في مرض موته، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة ! وقد نلت شرف الصحبة، وحزت الرتبة العليا في رواية السنة؟ فإذا به يقول: (إنما أبكي لبعد المسافة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إما إلى جنة أو نار)، ذلكم هو الإيمان الحي في القلوب، ذلكم هو اليقين الراسخ في النفوس، تلك هي علوم الإيمان العملية القلبية النفسية، تلك هي الدنيا التي تقزمت وتقلصت وتلاشت حتى كاد ألا يكون لها موضع في القلوب ولا مكان في النفوس.
وهذا الضحاك بن مزاحم التابعي الجليل يبكي في يوم من أيامه، فقيل له: (ما بالك تبكي؟ فقال: لا أدري اليوم ما صعد من عملي!) فكل يوم جدير بنا أن نبكي فيه على أنفسنا، فهل ندري ما صعد من أعمالنا؟ ألا نعرف كم في صحائفنا من سواد، ومن كلمات لاغية، وآذان للباطل مصغية، وأقدام لغير مرضاة الله عز وجل ساعية؟ كم يطول همنا وفكرنا لو أننا تدبرنا مثل هذا، وعشنا مع مثل هذه المعاني؟ عجباً لنا! ورسولنا صلى الله عليه وسلم قدوتنا العظمى وأسوتنا المثلى عليه الصلاة والسلام يخبرنا فيقول في دعائه: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)، يقولها عليه الصلاة والسلام وهو الذي ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع يوم الأحزاب.
يقولها ويدعو بها وهو الذي قالت عائشة عن حالته: (كان يمر الهلالان والثلاثة ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار).
يقولها صلى الله عليه وسلم وقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
يقولها وقد نزل عليه الملك فقال: لو شئت أن تدعو فيجعل الله لك الصفا والمروة ذهباً فيقول: (لا، ولكن أطعم يوماً، وأجوع يوماً)، بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو مضينا لوجدنا من ذلك كثيراً، ونحن اليوم في هذا الزمان نحتاج إلى مثل هذا التجديد الإيماني، ليس علماً نقوله ولا قصصاً نرويها، ولكن حياة قلب نحياها ويقظة نفس لا تغفل عن طاعة الله عز وجل، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروي لنا عجباً من أمر حبيبها صلى الله عليه وسلم فتقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم عُرف في وجهه الكراهة فتعجبت منه أم المؤمنين فقالت: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته رأيت في وجهك الكراهة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا
انظروا إلى النظر الإيماني كيف يجعل هم الآخرة في القلب، وخوف الله في النفس؟! انظروا إلى مثل هذا الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه وقد رأى الشيب في شعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لصديقه وحبيبه ونبيه: شبت يا رسول الله! فقال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، و(( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ))، و(( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ )))، قال الشراح: لما جاء في هذه السور من شديد الآيات في أهوال يوم القيامة.
نسأل الله عز وجل أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يعظم رسوخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا، وأن يصرفنا عن كل ما لا يحب ويرضى.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تجديد الإيمان تجديده في باب الأشواق والأمنيات، فبأي شيء تتعلق أشواقنا؟ وإلى أي أمر تتوق نفوسنا؟ فكم هي ملذاتنا مرتبطة بشئون دنيانا، في مال وفير، وامرأة حسناء، وذرية كثيرة، وقصور ودور، ومراكب وغيرها!
تأمل صورة أخرى يقولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (متع الدنيا ثلاث: إكرام الضيف، والصوم في الصيف، والضرب بالسيف).
ويزيدها إغراباً وإبعاداً عن أهل الدنيا وأمنياتهم سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه حين قال: (ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أُصبح فيها العدو).
تعلقت القلوب والأمنيات بطاعة الله ومرضاته ونصرة دينه حتى بتنا اليوم نقول: أين تلك الأشواق؟ أين أشواق عبد الله بن رواحة يوم كان في مؤتة ينادي:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
إنه شوق عجيب إلى الجنان، وقد ترجمه من قبله أنس بن النضر في يوم أحد يوم قال: (واهٍ لريح الجنة؛ إني لأجد ريحها دون أحد).
وقدوة الكل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علمهم وغذاهم وعرفهم وغرس ذلك في قلوبهم ونفوسهم يوم قال: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية قط)، ثم قال: (ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت، ثم أحييت فقتلت، ثم أحييت). رواه البخاري من حديث أبي هريرة .
فأي شوق هذا؟! وأي توق هذا؟! وأي أمنيات هذه؟! إنها اليوم يا رسول الله أمنيات إرهابية، إنها اليوم أمنيات مجرمة، إنها اليوم مما يستتر به المسلمون ويخفونه، فلا يكاد أحدهم ينطق بكلمة جهاد ولا شوق إلى استشهاد إلا ما رحم الله.
نسأل الله جل وعلا أن يجدد الإيمان في قلوبنا، وأن يعظم اليقين في نفوسنا، وأن يحيي قلوبنا بمعرفته، وأن يشرح صدورنا باليقين به.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم املأ قلوبنا بحبك، ورطب ألسنتنا بذكرك، وثبت أقدامنا على نهجك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا ساعية إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك، وألسنتنا لاهجة بالتضرع إليك، وقلوبنا مملوءة بالخشية منك يا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين!
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا بالقول الثابت يوم يقوم الأشهاد يا رب العالمين! ويا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك أن تصرفنا عن السيئات، وأن تباعد بيننا وبين الشبهات والشهوات، اللهم إنا نسألك أن تعلق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، وأن تجعل ضمأ نفوسنا إلى رضوانك وجنانك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم لا تجعلنا نضل وأنت رجاؤنا، ولا نحرم وأنت أملنا، ولا نخيب وأنت معطينا، برحمتك يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء!
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وسلمنا وإسلامنا وسعة رزقنا ورغد عيشنا، واجعلنا لك شاكرين ذاكرين يا رب العالمين! برحمتك يا أرحم الراحمين!
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
هيا بنا نؤمن [2] | 1140 استماع |
هيا بنا نؤمن [3] | 978 استماع |
هيا بنا نؤمن [4] | 455 استماع |