هيا بنا نؤمن [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وعم نواله، وكثر عطاؤه، وتقدست صفاته وأسماؤه، له الحمد سبحانه وتعالى جعل الأمانة قرينة الإيمان، وجعل الاستقامة شقيقة الإسلام، أحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من النعم وما صرف ووقى من الشرور والنقم، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، نداء يتجدد؛ لأن فيه علاج كل مشكلات الحياة، وفيه صلاح كل أمور الأحياء، وفيه طهارة القلب وزكاة النفس ورشد العقل واستقامة الجوارح وحسن الصِلاة، وكل خير نبحث عنه فإنا واجدوه فيه، وكل شر نتأذى منه فإنا واجدون السلامة منه في هذا الإيمان وعصمته وحمايته ووقايته.

زارني شاب من رجال الأعمال، في واقعة أحسب أنكم تدركون أنها تتكرر كثيراً؛ غير أن جزءاً منها هو النادر الذي يكاد أن يختفي، لقد جاء سائلاً عن شركة يملكها تقدم عرضاً في موضوع مهم يعم البلاد كلها، والفوز به يعني الفوز بالملايين من الريالات، وعنده من الإنجاز في ذلك ما هو مستحق أن يكون صاحب العقد، وعندما التقى مع من بيده ترتيب هذا الأمر كان الأمر في مبدئه تلميحاً ثم صار تصريحاً: إن فريق العمل يحتاج إلى عونك ودعمك، ثم لم يكن ذلك فحسب، بل كان الأمر في صراحة -وإن شئت قل: في بجاحة- إن المطلوب لكل فرد مبلغ محدد وهو كذا وكذا، ليس عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الريالات، وإن ذلك سيكون تمهيداً لإنهاء الأمر ورسو العقد وغير ذلك!

جاء هذا الرجل وفي قلبه إيمان، وفي نفسه زكاة، وهو يقول: في النفس من هذا شيء؛ والحرمة فيه بادية؛ لأن هناك منافسين قد سبق وأن أعطوا هذه الأموال، وهو أحق منهم بحسب ما عنده من الإنجاز، وعندما أوضحت له أن الأمر فيه وضوح في الحرمة وأدنى درجاته أن يكون عالي الرتبة في الشبهة وفي الكراهة أجاب: بأنه قد وطَّن نفسه على ترك كل شيء مما حرم الله، وعزم على ذلك أمره، وقال به، ووقف عنده.

الشق الأول أحسب أنكم ستقولون: بماذا جئت؟ فإن عندنا عشرات ومئات من القصص التي لا تجيز أمراً ولا تبرم عقداً حتى تدخل إلى بطونها سحتاً، غير أن الشق الآخر هو الأقل الأدنى الذي قل فيه من يتورع عن الحرام، ويتوقف عن مصلحة دنيوية ظاهرة رعاية وحفاظاً على مصلحة أخروية أعظم وأبقى، وذلكم ما أحسب أنه مظهر جلي ودليل واضح على وجود قوة وحيوية الإيمان، أو على ضعفه وذهاب أثره وغياب حقيقته.

وهنا نداء إيماني جاء بالنهي عن مخالفة الأمانة؛ لأن ذلك يعارض حقيقة الإيمان، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27-28]، إنه نداء لأهل الإيمان إن بقي في قلوبهم إيمان، ففي قوله سبحانه: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال:27] اقتران خيانة الله وخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيانة الأمانة، وفي ذلك تعظيم لشأنها ودليل على علو رتبتها وعلى قوة وشدة صلتها بالإيمان بالله جل وعلا.

ونحن نعلم أنه ما من أحد إلا وفي علمه بشرع الله وفيما يجيش في نفسه أثر يدل على حرمة ما يقترف من معصية الله.

قال السعدي رحمة الله في تفسيره: فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته ومنتقصاً لنفسه؛ لكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات. أي: صفة الخيانة.

ثم قال: فلما كان العبد ممتحناً بأمواله وأولاده فربما حمله محبته ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته.

أي: أن رعايته ومحبته لأهله وأولاده وماله وثرائه مما يجعله يميل بهواه فيغلب إيمانه، ويطمس بصيرة يقينه، فينطلق إلى لعاعة الدنيا، وإلى ثرائها ومظاهرها وشهواتها وفتنتها، وهو يئد الإيمان في قلبه، ويطفئ إشراقة اليقين في نفسه، وهو يضعف أثر إيمانه، كما أشار إلى ذلك أهل العلم في مثل هذا المعنى، ولو تأملنا لوجدنا اقتران الإيمان بالأمانة جلياً واضحاً فيما أورده الحق جل وعلا من صفات المؤمنين، فلم تقتصر الصفات على صلاة خاشعة ولا على زكاة مؤداة ولا على حفظ للفروج فحسب، بل جاء في الصفات قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، أي: يحافظون عليها، ويقومون بحقها، ويراقبون الله فيها، ويخشون الله جل وعلا من خيانتها، وهذا يدل على أنهم أهل إيمان، ولذا استحقوا صفة الإيمان، ووصفوا بصفة الإيمان؛ لأنهم: (لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، وأما الذين هم لأماناتهم وعهدهم خائنون فقد سلبت منهم هذه الصفات الرفيعة السامية، ونالهم من كدر أضدادها وصفات المنافقين من غير المؤمنين ما نالهم، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، أفيرضى مثل هذا الإنسان أن يكون متصفاً بصفة نفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، ومن كانت فيه تلك الخصال كان منافقاً خالصاً) .

قال القرطبي في معنى الأمانة: والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً. فهو أمانة في عنقك وعهد من الله بينك وبين الله لا ينبغي إخلافه ولا نقضه.

وقال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: كل ما استودعك الله وأمرك بحفظه فيدخل في هذه الأمانة، ويدخل فيها حفظ جوارحك عن كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما اؤتمنت عليه من حقوق الناس.

وتأملوا من بعد هذا الحديث العظيم الذي فيه صراحة ووضوح في لفظه من رواية أنس عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه بسند صحيح.

أي: لا يكمل إيمانه، ولا يصدق إيمانه، ولا تتجلى ولا تظهر آثار إيمانه، فذلك الذي خان أمانته، وذلك الذي أكل الحرام، وذلك الذي ضيع المسئولية، وذلك الذي ظلم فنحى صاحب الحق وقدم غيره لمصلحته، وذلك الذي أشاع الفساد في المجتمع بتضييعه للأمانة، وذلك الذي جعل الحقوق ضائعة وجعل الأمانة مهدرة، إن فعله ليس مقتصراً على أنه أخذ مالاً في جيبه من سحت أو حرام، بل إنه في حقيقة الأمر يفسد في الأرض فساداً عظيماً، ويورث ويوجد في النفوس وفي القلوب قبل الأحوال والأفعال والأقوال فساداً خطيراً وانحرافاً عظيماً وشراً مستطيراً وبلاءً يخشى على الناس جميعاً من آثاره وعقوبته الربانية.

فحديث: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) قائله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فإن رأيت مضيعاً للأمانة فاعلم ما قاله أهل العلم في ذلك، وما بينوه في حقيقته فإن في ذلك أموراً كثيرة، والأمر بهذه الأمانة ظاهر جلي واضح مرتبط بالإيمان في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58].

فانتبه لهذه المعاني، وتأمل ذلك الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري وغيره عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فجاء رجل من الأعراب والرسول ماض في حديثه، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض الصحابة: فكأنما كره قوله، وقال بعضهم: كره أن يقطع حديثه، فلما فرغ من حديثه قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فتلك إضاعتها). وفي لفظ ورواية عند البخاري : (إذا أسند الأمر إلى غير أهله).

عجباً! أنّا لا نلتفت إلى الخطر المحدق بنا وإلى الآيات والعلامات الدالة على قرب القيامة ووجود آخر الزمان، مع أن الناس قد شغلوا بأمور أخرى من هذا في شأن بعض الصفات والأوصاف والمعارك وغيرها، ولم يلتفتوا إلى المعاني، فضياع الأمانة دلالة من دلالات آخر الزمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فعجباً لنا ونحن لا نلتفت إلى هذا!

قال ابن بطال في شرح الحديث: إن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله إياها.

وروى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه في شأن الأمانة وضياعها وغيابها، وهو حديث طويل جاء فيه: (فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أظرفه! ما أعقله! ما أجلده! وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، أليس مثل هذا الوصف يصدق في أحوال كثير وكثير من بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية؟ ألسنا اليوم نتبايع فلا يكاد أحد يأمن أحداً في وفائه وأمانته وصدقه وبره وإنصافه؟ ألسنا اليوم قد نبحث عن الأمناء فلا نكاد نحصي إلا الواحد أو الاثنين في الفئام من الناس أو في القبيلة أو في القوم؟ أليس هذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في المدح والثناء على من ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وتجده قد ضيع الأمانة، وأخذ حقوق الناس، وانتهب أموالهم، واستباح ما حرم عليه من حقوقهم، وضيع أماناتهم؟ ومع ذلك هو المشار إليه بالبنان، الممدوح بعظيم الصفات على كل لسان، أليس ذلك دليلاً على خلل كبير في الإيمان لا يخص أفراداً بأعيانهم بل يعم أحوالنا ومجتمعاتنا إلا ما رحم الله ومن رحم الله؟ نسأل الله عز وجل أن يرحمنا.

قال ابن التين في هذا الحديث: الأمانة: كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله.

فالآخذ للرشوة والقابل للهدية المغموسة بالحرام يحتاط لنفسه، ويجعل الأمر في أشد صور الخفاء، ولا يجعل هناك وثيقة تدينه، ويحسب لكل قضية حسابها، ويضيع حساب الأمر الأعظم، وهو أن الله مطلع عليه وعالم به وكاتب عليه كل صغيرة وكبيرة من أقواله وأعماله، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من صاحبه، فأقضي له بنحو مما أسمع -أي: يقدم بينات ويقدم أقوالاً يكون الحكم فيها لصالحه وهو على غير حق- فمن اقتطعت له شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع)، فكل ريال تأخذه حراماً فهو قطعة من جنهم، وإن رشيت به فقبلت به فاستكثر؛ فإنما تستكثر -والعياذ بالله- سيئات مضاعفة، وإنما تستكثر عذاباً منتظراً، نسأل الله عز وجل السلامة.

كم في واقع حياتنا وفي واقع حياة كل فرد منا شبهات في معاملاته المالية! فهل توقف عندها، وتحرى فيها؟ وهل راقب الله جل وعلا فترك عرض الدنيا وزينتها وزخرفها إيثاراً للآخرة الأبقى والأعظم جزاءً وثواباً أم أن الإيمان قد ضعف حتى صار أمر الآخرة ونعيمها نسياً منسياً، وأمر الدنيا وزخرفها هو الذي ملأ القلوب والعقول والأبصار فلا تسمع إلا ما يرغب فيها، ولا تقول إلا ما يؤدي إليها، ولا ترغب إلا فيما يزيد منها؟

عجباً لنا! وكأن ذلك في حسنا ليس له صلة بإيماننا، ولا بمراتبنا عند ربنا وقد نكون في الصفوف الأولى في المساجد، وقد ندمن شيئاً من تلاوة القرآن، وكل ذلك خير، لكن الذي يجعلنا مستقيمين في المعاملات وتمحيص التوجهات ومخالفة الآراء والأهواء والشهوات ومعارضة المغريات والملذات ذلكم هو الإيمان الحق الذي يذكر لنا ابن العربي في شأنه أمراً عجيباً فيقول: الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب. وهذا من فقه علمائنا رحمهم الله، ولذلك قال بعض أهل العلم: الأمانة هي عين الإيمان. فإذا ضعفت الأمانة فقد ضعف الإيمان، كما ذكر أهل العلم.

وهذا حديث آخر من الأحاديث العظيمة رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة وهو مما أحسب أنه لا يندرج على ألسنة الناس، ولا يكاد يحفظه كثير منهم، وهو في حديث الشفاعة وفي حديث الفصل بين الناس يوم القيامة، وفي أوله طول في ذهاب الناس إلى آدم وإلى إبراهيم وإلى موسى عليهم السلام جميعاً، ثم انتهاؤهم إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، قال حذيفة في حديثه في شأن استفتاح الجنة: (فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيستأذن، فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان على جنبتي الصراط) أي: على جانبيه، ثم ذكر بقية الحديث وفيه: (فمن الناس من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطير)، ثم قال في آخر الحديث: (ومنهم من لا يمضي إلا زحفاً).

والنووي رحمه الله في شأن كون الأمانة والرحم على جنبتي الصراط قال: لعظم أمرهما، وكبر موقعهما، فيصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله. ونقل عن صاحب (التحرير) قوله: في الكلام اختصار، والسامع فهم أنهما تقومان -أي: في هذا المقام- لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. أي: أن كل من يريد أن يمضي على الصراط تأتيه الأمانة أولاً فتطالب بحقها، والرحم تطالب بحقها فإن كان مؤدياً لحقهما كان من أسباب سرعة جوازه على الصراط، فالأمانة المضيعة اليوم تلقاك يوم القيامة على الصراط، فهل أنت قادر يومها على أن تجوز الصراط وقد فرطت في الأمانة وخنتها، وضيعت إيمانك، وأضعفته، وأذهبت أثره، وجعلته وراء ظهرك؟ أليس كل هذا مما جاء في كتاب الله ومما ورد في سنة رسول الله؟

ألسنا نذكر ذلك الموقف العجيب الفريد يوم فتح الله على المؤمنين والمسلمين في معركة القادسية على يد سعد بن أبي وقاص ، ولما انتهى الفتح أخذ سعد ما في إيوان كسرى -أي: مكان قصره وملكه- من الذهب والجواهر وتاج كسرى المرصع بكل ما هو غالٍ وثمين، فجعله في أشولة، وأعطاها لأعرابي أو لرجل من عرب المسلمين لم يذكر التاريخ اسمه، ولم يعرف الناس نسبه، وأمره أن يمضي إلى المدينة من ذلك المكان البعيد؛ ليبلغ عمر بن الخطاب بخبر الفتح والنصر الإسلامي، ويعطيه ما في إيوان كسرى من الذهب والفضة والحلي والتاج، فذهب الأعرابي، ولم يقيد عليه ما استلمه، ولم يكن هناك جرد لما سلم له، ولم تكن الأختام موجودة، ولم تكن أجهزة الحاسوب راصدة، لكن رقابة الله في القلب حية، لكن أمانة الإيمان في النفس يقظة مؤثرة، فمضى الأعرابي يجر بعيره وعلى ظهره ثروة تطيش لأجلها ولأجل عشرها عقول كثير من ضعاف الإيمان، لكنه لم ينظر إليها، ولم يلتفت إليها، وربما ما علم بها، ووصل إلى المدينة، ووقف بين يدي الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن سعداً يقرئك السلام، ويبشرك بنصر الله لأهل الإسلام، وهذا تاج كسرى وإيوانه، فطأطأ عمر رأسه متأثراً قائلاً: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء). فجاء التعقيب -كما ورد في بعض روايات التاريخ-: عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا. فقد كان عمر رضي الله عنه يحاسب نفسه وأهله على أقل القليل.

ويوم تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة مضى من يومه يريد أن يعمل ويتكسب من تجارته، فقالوا: قد وليت أمرنا فافرغ لنا، فقال: (قوتي وقوت عيالي)، قالوا: نفرض لك من بيت مال المسلمين، فقدر لنفسه أقل القليل من طعام وشراب فحسب، وليس خزائن مفتوحة ليس لها حصر ولا عد، وليس مالاً سائباً لا يسأل عنه أحد، بل كان فعله وفعل غيره من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيه مراقبة لله وأداء للأمانة.

إن صوراً من تضييع الإيمان وضعفه تتجلى في حياتنا كثيراً، وتتجلى في ضعف خوف الله، وقلة مراقبة الله، وضعف الحياء من الله، وضعف الأمانة في أداء حقوق الله وحقوق عباد الله، فالله الله في إيمانكم! فإنه ليس محصوراً في صلاتكم وزكاتكم وتلاوتكم ودعائكم، بل هو في سائر جوانب حياتكم.

نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يجعلنا من المراقبين له والمستحيين منه والمؤدين لأمانته.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى: البعد عن الحرام، وأداء الأمانة، والتنزه عن كل ما فيه خيانتها وتضييعها.

وكنت قد طالعت قبل مجيء هذا الرجل بالأمس قراراً ونظاماً حول هذا الأمر أقر بعضه مجلس الشورى، ويدرس بعضه الآخر، وعزمت أن أجعله حديثاً في جمعتنا هذه، فجاءت قصة الرجل تدفعني إليه دفعاً، وتؤملني وتدخل في نفسي سروراً أنه ما زال فينا من يخاف الله، ويترك عرض الدنيا الملوث بالحرام ابتغاء مرضاة الله، ويريد ألا يدخل إلى جيبه وكسبه شيئاً من الحرام؛ لأنه إنما يأخذ في هذه الحالة ناراً، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به).

فرحت أن يكون فينا ومنا من يحيي معاني هذه الإيمانيات، ونحن بحاجة إلى ذلك، وما حديثنا هذا لكي نستمع إلى هذه الكلمات، ونظن أن المقصود بها من يتولون المناصب العليا أو الكبرى فحسب، بل الحقيقة أن كل فرد منا عنده ضروب من الأمانات قد يخونها ويضيعها، وعديد من المواقف التي لا يستحضر فيها عظمة الله ولا مراقبة الله جل وعلا.

وهنا وقفة قصيرة لنرى كيف تكون المشكلات إذا ضعف الإيمان، وبالتالي ضاعت الأمانة، فقد وضع نظام كامل اسمه: الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والرشوة، ثم هناك مشروع نظام يدرس اسمه: نظام مكافحة الاعتداء على المال العام وسوء استعمال السلطة، لم؟ لأن الأمر قد اتسع خرقه على الراقع، فاحتجنا إلى مثل هذا، وفي هذا النظام أن ثمة أمر ملكي سابق صادر بهذا الخصوص عما يأخذه المسئول من الأموال وضرورة محاسبته وسؤاله عنه، والعجب أن هذا الأمر صادر في عام (1382هـ)، أي: قد تجاوز ثلاثين عاماً، ولكنه غائب مغيب في حياة الناس إلا ما رحم الله.

ثم يقول في نصوص هذا النظام أو بعض فقراته: إلزام كل من يشغل وظيفة قيادية تنفيذية في الجهاز الحكومي وكذا المسئولين في الشركات المساهمة التي تساهم فيها الدولة بالتصريح عن ممتلكاتهم المنقولة والثابتة وأفراد أسرهم -أي: قبل تولي الوظيفة- حتى لا يدخل إليها وهو قليل المال ويخرج منها وهو كثير المال.

ومن الأنظمة كذلك: تقليص التعامل بالنقد في المسئوليات الحكومية والعامة، ووضع قواعد لتنظيم الهدايا والإكراميات حتى لا تعتبر صوراً من الرشوة والإغراء، وفي ذلك حديث ابن اللتبية رضي الله عنه عند البخاري وغيره في الصحيح: (أنه كان جابياً للزكاة، فجاء عن حسن نية وعدم معرفة بالحكم فقال: يا رسول الله! هذا لكم -أي: الزكاة التي جبيتها- وهذا أهدي إلي) أراد أن يبرز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: (ما بال أقوام يقولون: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى يهدى إليه؟!)، فما سبب هذه الهدية لو لم تكن في هذه الوظيفة؟ ولو كنت في بيتك هل سيأتي إليك أحد ويهديك؟ وهل يهديك لأجل سواد عينيك؟ إنه إنما يهديك لمصلحته، وذلك ظاهر، وهذه هي الضوابط المهمة في شرعنا وفي هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا النظام أيضاً وضع معايير لاختيار القيادات الإدارية حتى تختار على أساس من الكفاءة وتطبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وهناك أنظمة تفصيلية كثيرة منها: إيجاد أجهزة رقابية مالية، ومنها: التعاون الدولي في هذه الشئون، وأخذ الأنظمة والاستفادة منها، وكل ذلك حسن، لكن الأحسن منه والأعظم تأثيراً هو أن نكون مؤمنين صادقين ومسلمين مخلصين، فإننا لو زرعنا الإيمان وأحييناه في القلوب لاستغنينا عن كثير من كل هذه الأنظمة ولما كنا في حاجة إليها؛ لأنه إذا وجد الإيمان في القلب ورقابة الله عز وجل فأي شيء يمكن أن يضبط الإنسان غير هذا؟ وشواهد التاريخ وأحداث الواقع دليل على ذلك.

ومن هنا جاء في النظام أيضاً فقرات مهمة أحب أن أشير إليها، منها: أن الإسلام هو أساس ضبط النزاهة ومكافحة الفساد، وأن المملكة وهي تطبق الشريعة الإسلامية ترى في الإسلام الآيات والأحاديث والتشريعات الدالة على وجوب الأمانة ومنع الخيانة.

ومن الفقرات: توعية السلوك الأخلاقي وتعزيزه عن طريق تنمية الوازع الديني للحث على النزاهة ومنع الفساد، والتأكيد على دور الأسرة في تربية النشء، وحث المؤسسات التعليمية على وضع مفردات في التعليم عن الأمانة وحماية الأموال العامة ومكافحة الفساد.

إن العلاج الحق هو في هذه المعاني الإيمانية وفي التربية الأخلاقية والأسرية والمناهج التعليمية التي إذا أردنا الخير فينبغي أن نربطها بدين الله عز وجل وبهذه المعاني؛ حتى يكون لها أثر.

وجاء في النظام أيضاً: تحسين الأوضاع الأسرية والمعيشية للمواطنين عن طريق توفير فرص العمل، والعمل على وضع برامج تثقيفية في هذا الشأن.

وهذا يدلنا على شدة الاحتياج إلى مراعاة الأمانة من خلال المنهج الإيماني الإسلامي التربوي السلوكي الأخلاقي الأسري الذي إذا أصبح طبيعة الإنسان وصيغة حياته وصبغتها فإنه حينئذٍ يحتاج إلى هذه الرقابة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
هيا بنا نؤمن [1] 1784 استماع
هيا بنا نؤمن [2] 1139 استماع
هيا بنا نؤمن [4] 455 استماع