( اللعان، والعدة والإحداد، والرضاع ) من بلوغ المرام
مدة
قراءة المادة :
33 دقائق
.
مختصر الكلام على بلوغ المرام ( أبواب: اللِّعَانِ، الْعِدَّةِ وَالإِحْدَادِ، الرِّضَاعِ )
بابُ اللِّعَانِ
1054- عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قالَ: "سَأَلَ فُلانٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ أنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلى فَاحِشةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلّمَ تَكَلّمَ بأَمْرٍ عَظيمٍ وإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى مِثْلِ ذلِكَ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمّا كانَ بَعْدَ ذلِكَ أَتَاه فَقَالَ: إنَّ الذي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ الله الآياتِ في سُورَةِ النورِ فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكّرَهُ وأخْبَرْهُ أنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذابِ الآخِرَةِ، قَالَ: لا والذي بَعَثَك بالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا كَذَلكَ، قَالَتْ: لا وَالّذي بَعَثَكَ بالْحَقِّ إنّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأ بالرَّجُلِ فشهد أرْبَعَ شَهَاداتٍ بالله، ثمَّ ثَنّى بالْمَرْأَةِ ثمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الأصل في اللعان قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 6-9].
وخصت المرأة بالغضب لعظم ذنبها إن كانت كاذبة لما فيه من تلويث الفراش، والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به.
والحكمة في مشروعية اللعان دفع الحد عن الزوج والزوجة.
1055- وَعَنْهُ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: "حِسَابُكُمَا عَلى الله، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لكَ عَلَيْهَا" قَالَ: يَا رَسُولَ الله مَالي؟ فَقَالَ: "إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وإنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذاكَ أَبْعَدُ لكَ مِنْهَا" مُتّفقٌ عَلَيُهِ.
الحديث أفاد ما سلف من الفراق بين المتلاعنين، وأن أحدهما كاذب في الأمر نفسه، وأن الزوج لا يرجع بشيء من الصداق لأنه قد وطئها.
1056- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أبصِرُوهَا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وإنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَل جَعْدًا فَهُوَ للّذي رَمَاهَا بِهِ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية لهما: (فجاء به على النعت المكروه)، والحديث دليل على أن يصح اللعان للمرأة الحامل، وعلى أنه ينتفي الولد باللعان، وفيه دليل على العمل بالقيافة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، قال في الإفصاح: واختلفوا هل يصح اللعان لنفي الحمل قبل وضعه، فقال أبو حنيفة وأحمد: إذا نفى حمل امرأته فلا لعان بينهما ولا ينفى عنه، فإذا قذفها بصريح الزنا لاعن للقذف ولم ينف نسب الولد، وسواء ولدته لستة أشهر أو لأقل منها، وقال مالك والشافعي: يلاعن لنفي الحمل، إلا أن مالكًا يشترط في ذلك أن يكون استبرأ بحيضة أو ثلاث حيض على خلاف من مذهبه بين أصحابه، انتهى، قال الشوكاني: وإذا كانت حاملًا، أو كانت قد وضعت أدخل نفي الولد في أيمانه.
1057- وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلى فِيِهِ وَقَالَ: "إنّهَا المُوجِبَةُ"؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد والنَّسَائِيُّ، وَرجَالُه ثِقَاتٌ.
الحديث دليل على أنه يشرع من الحاكم المبالغة في منع الحلف خشية أن يكون كاذبًا وقوله: (إنها الموجبة) أي للفرقة ولعذاب الكاذب.
1058- وَعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - -في قِصّةِ الْمُتلاعِنَيْنِ- قالَ: "فَلَمّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا قَال: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يا رَسُولَ الله إنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
طلاقه إياها تأكيد للتحريم الواقع، قال في الإفصاح: واتفقوا على أن فرقة التلاعن واقعة، ثم اختلفوا بماذا يقع؟ فقال أبو حنيفة وأحمد في أظهر روايتيه: لا يقع إلا بلعانهما وحكم الحاكم، وقال مالك: يقع بلعانهما خاصة وهي رواية عن أحمد أيضًا، وقال الشافعي: يقع بلعان الزوج خاصة، واختلفوا هل فرقة اللعان فسخ أو طلاق؟ فقال أبو حنيفة هي طلاق، وقال مالك والشافعي وأحمد: هي فسخ.
1059- وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رضي الله عنهما - أنّ رَجُلًا جَاءَ إلى النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتي لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، قالَ: "غَرِّبْهَا" قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسيِ، قالَ: "فَاسْتَمتعْ بِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والترمذيُّ والبَزَّارُ وَرجالُه ثِقَات، وَأَخْرَجَهُ النّسائيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابنِ عَبّاسٍ بِلَفْظٍ آخر قَالَ: "طَلِقْهَا" قالَ: لا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: "فَأَمْسِكْهَا".
(قوله: لا تردّ يد لامس) أي سهلة ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب، وليس المراد أنها تأتي الفاحشة، وهذا موجود في بعض النساء مع البعد عن الفاحشة، تراها سهلة الأخلاق، لينة الكلام، فإذا طلب منها ذلك تغيرت ونفرت.
1060- وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ -حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلاعِنَيْنِ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِن الله في شيءٍ وَلَمْ يُدْخِلْهَا الله جَنّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ احْتَجَبَ الله عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلى رُؤوس(الخلائق) الأوَّلِينَ وَالآخرينَ" أَخْرَجَهْ أبُو دَاودَ والنَّسَائِيُ وابْنُ مَاجَهْ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
قال في المقنع: من أتت امرأته بولد يمكن كونه منه، وهو أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ أمكن اجتماعه بها، أو لأقل من أربع سنين منذ إبانها، وهو ممن يولد لمثله لحقه نسبه وإن لم يكن كونه منه مثل أن تأتي به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها، أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها، أو أقرت بانقضاء عدتها بالقروء، ثم أتت به لأكثر من ستة أشهر بعدها، أو فارقها حاملًا فوضعت ثم أتت بآخر بعد ستة أشهر، أو مع العلم بأنه لم يجتمع بها كالتي يتزوجها بمحضر الحاكم ثم يطلقها في المجلس، أو يتزوجها وبينهما مسافة لا يصل إليها في المدة التي أتت بالولد فيها، أو يكون صبيًا له دون عشر سنين أو مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحقه نسبه، انتهى.
1061- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: "مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ طَرْفَةَ عيْنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ" أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ.
فيه دليل على أنه لا يصح النفي للولد بعد الإقرار به، وهو مجمع عليه.
1062- وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلًا قَالَ: يا رسولَ الله إن امرأتي ولدت غُلامًا أَسْوَدَ؟ قالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟" قالَ: نَعَمْ، قال: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟" قالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟" قالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأَنّى ذلِكَ؟" قالَ: لَعَلّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "فَلَعَلَّ ابْنَكَ هذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ" متفق عَلَيْهِ، وفي روايَةِ لِمُسْلمٍ: وَهُوَ يُعَرِّضُ بأَن يَنْفِيَهُ، وقالَ في آخِرهِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ في الانتفاءِ مِنْهُ.
قال الخطابي: هذا القول من الرجل تعريض بالريبة كأنه يريد نفي الولد، فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الولد للفراش، ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها، وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل ولقاحها واحد، وقال القرطبي: لا خلاف أنه لا يجوز نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالسمرة والأدمة، ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقرّ بالوطء ولم تمض مدة الاستبراء انتهى، يعني إذا لم يوجد قرينة الزنا، لأنه لم يذكر في الحديث أنه معه قرينة، وإنما هو مجرد مخالفة اللون، والله أعلم.
بابُ الْعِدَّةِ وَالإِحْدَادِ
الأصل في وجوب العدة الكتاب والسنة والإجماع، والعدة: اسم لمدة تتربص بها المرأة عند التزويج بعد موت زوجها أو فراقه، والإحداد: ترك الطيب والزينة للمعتدة عن وفاة.
1063- عَنِ الْمِسْوَر بنِ مَخْرَمَة - رضي الله عنه -: "أَنَّ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَجَاءَتْ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأَذَنَتْهُ أنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لهَا فَنَكَحَتْ" رَوَاهُ الْبُخَاريُّ وَأَصْلَهُ في الصَّحيحَيْنِ، وفي لَفْظٍ: "أنّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بأَربعين لَيْلَةً"، وفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ الزُّهْريُّ: "ولا أَرَى بأسًا أنْ تزَوَّجَ وَهِيَ في دَمِهَا غَير أنّه لا يَقْرَبُها زَوْجُهَا حَتى تَطْهُرَ".
الحديث دليل على أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وهو قول الجمهور لهذا الحديث، ولعموم قوله تعالى: ﴿ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].
قال ابن مسعود: نسخت هذه الآية كل عدة أجل كل حامل مطلقة أو متوفى عنها زوجها أن تضع حملها.
قال النووي: قال العلماء تنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه صورة خلقة آدمي.
1064- وَعَنْ عَائشَةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: "أُمِرَتْ بَريرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاثِ حِيَضٍ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَروَاتُهُ ثِقَاتٌ لكِنّهُ مَعْلُولٌ.
الحديث دليل على أن العدة تعتبر بالمرأة لا بالزوج.
1065- وَعَنِ الشّعْبي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رضي الله عنها - عَنِ النّبي - صلى الله عليه وسلم - -في الْمُطَلّقَةِ ثَلاثًا-: "لَيْسَ لَهَا سُكْنى وَلا نَفَقَةٌ" رَوَاهُ مُسلِمٌ.
الحديث دليل على أن المطلقة البائن غير الحامل ليس لها نفقة ولا سكنى.
1066- وَعَنْ أُمِّ عَطيّةَ - رضي الله عنها - أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تَحِدُّ امْرَأَةٌ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا عَلى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلا تَكْتَحِلُ وَلا تَمَسُّ طِيبًا إلا إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وهذا لفظ مسلم وَلأبي دَاوُدَ مِنَ الزِّيَادَةِ: "وَلا تَخْتَضِبُ" وللنّسائيِّ: "ولا تمْتَشِطُ".
العصب: برود يمانية يجمع غزلها ويشد، ثم يصبغ وينشز، فيبقى موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه الصبغ، وفي الحديث تحريم الإحداد على غير الزوج من أب أو غيره، وجوازه ثلاثة أيام لما يغلب على النفس من لوعة الحزن، وفيه وجوب الإحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرًا، قال البخاري وقال الزهري: لا أرى أن تقرب الصبية الطيب لأن عليها العدة، قال ابن عبدالبر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبوغة إلا ما صبغ بسواد، فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة بل هو من لباس الحزن، واختلف في الحرير؛ فذهبت الشافعية في الأصح إلى المنع لها منه مطلقًا مصبوغًا أو غير مصبوغ لأنه أبيح للنساء التزين به، والحادة ممنوعة من التزين، وفي الحديث منعها من الاكتحال، وقال الجمهور يجوز للتداوي.
1067- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: جَعَلْتُ عَلى عَيْنَيَّ صَبِرًا بَعْدَ أَنْ تَوفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّهُ يَشِبُّ الْوَجْهَ فَلا تَجْعَلِيهِ إلا بالليْلِ وَانْزعِيهِ بالنّهَارِ، ولا تمْتَشِطِي بالطِّيبِ وَلا بالحِنّاءٍ فإنّهُ خِضَابٌ" قُلْتُ: بِأَي شيءٍ أَمْتَشِط؟ قالَ: "بالسِّدْر" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ، وإسْنَادُهُ حَسَنٌ.
فيه دليل على تحريم الطيب للحادة إلا ما استثنى حال طهرها من حيضها، قال النووي: القسط والأظفار: نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب.
1068- وَعَنْهَا - رضي الله عنها - أَنّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رسُولَ الله إنَّ ابْنَتي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُها أَفَنَكْحَلُها؟ قَالَ: "لا" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال النووي: فيه دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا؛ وجاء في حديث أم سلمة في الموطأ وغيره (اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار)، ووجه الجمع أنها إذا لم تحتج إليه لا يحل، وإذا احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل مع أن الأولى تركه، فإن فعلت مسحته بالنهار انتهى.
1069- وَعَنْ جَابِر - رضي الله عنه - قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُذَّ نَخْلَها فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَتَتِ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "بل جُذِّي نَخْلَكِ فَإنّكِ عَسى أَنْ تَصَّدَّقِي أَوْ تَفْعَلي مَعْرُوفًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الحديث دليل على جواز خروج المعتدة من منزلها في النهار للحاجة، وفيه دليل على استحباب الصدقة من التمر عند جذاذه، واستحباب التعريض والتذكير بفعل الخير والبر.
1070- وَعَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ - رضي الله عنها - أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ في طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ.
قَالَتْ: فَسَأَلتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَرجعَ إلى أَهْلي فَإنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لي مَسْكَنًا يمْلِكُهُ وَلا نَفَقَةً، فَقَال: "نَعَمْ" فَلَمّا كُنْتُ في الحُجْرَةِ نَاداني فَقَالَ: "امْكُثي في بَيْتِكِ حَتى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ" قالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قالَتْ: فَقَضى بِهِ بَعْدَ ذلكَ عُثْمَانُ.
أَخَرَجَهُ أحمَدُ والأَرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ والذُّهَلِيُّ وابْنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ وغَيْرُهُمْ.
الحديث دليل على أن المتوفى عنها تعتد في بيتها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، ولا تخرج منه إلا لضرورة.
1071- وَعَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رضي الله عنها - قَالَتْ: "قُلْتُ: يا رسولَ الله إنَّ زَوْجِي طَلّقَني ثَلاثًا وأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ؟ فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الحديث دليل على جواز خروج المعتدة من المنزل إذا خشيت على نفسها، قال في الإفصاح: واختلفوا في المطلقة ثلاثًا هل عليها الإحداد؟ فقال أبو حنيفة: عليها الإحداد، وقال مالك: لا إحداد عليها، وعند الشافعي قولان، وعن أحمد روايتان كالمذهبين، واختلفوا في البائن هل يجوز أن تخرج من بيتها نهارًا لحوائجها؟ فقال أبو حنيفة: لا تخرج إلا لعذر ملجئ، وقال مالك وأحمد: يجوز لها ذلك، وعن الشافعي قولان كالمذهبين انتهى، وقال الشوكاني: ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحد امرأة على ميت) أنه لا إحداد على المطلقة؛ فأما الرجعية فإجماع، وأما البائنة فلا إحداد عليها عند الجمهور.
1072- وَعَنْ عَمْرُو بن الْعَاصِ - رضي الله عنه - قالَ: "لا تُلْبِسوا عَلَيْنَا سُنّةَ نَبِينَا عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ" رَوَاهُ أحْمَد وأَبُودَاوُدَ وابن مَاجَهْ وصَحَّحَهُ الحَاكمُ، وَأَعلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالانْقِطَاعِ.
قال أحمد: هذا حديث منكر، وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد الله عنه فقال: لا يصح، وقال الميموني: رأيت أبا عبدالله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أي سنة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشر، إنما هي عدة الحرة عن النكاح، وإنما هذه أمة خرجت عن الرق إلى الحرية، واستدل بالحديث على أن عدتها أربعة أشهر وعشر، ولأنها حرة فتعتد كالحرائر، وذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية إلى أن عدتها حيضة لأنها ليست زوجة ولا مطلقة، فليس إلا استبراء رحمها.
1073- وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالتْ: "إنّمَا الأقْرَاءُ الأطْهَارُ" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ في قِصَّة بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
القرء: يطلق في اللغة على الحيض والطهر، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]، فذهب جماعة إلى أنها الأطهار، وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والشافعي؛ وذهب جماعة إلى أنها الحيض، وهو قول الخلفاء الأربعة، وابن عباس ومجاهد وأبي حنيفة وأحمد وأكثر أئمة الحديث، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [الطلاق: 4]، قال في الفروع: من ارتفع حيضها ولم تعلم ما رفعه فتعتد للحمل غالب مدته، وقيل: أكثرها، ثم تعتد كآيسة، ومتى علمت ما رفعه كمرض أو رضاع مكثت حتى يعود الحيض فتعتد به أو تصير إلى الإياس فتعتد عدته، وعنه تنتظر زواله، ثم إن حاضت اعتدت به وإلا اعتدت بسنة، ونقل عنه ابن هانئ أنها تعتد سنة، ونقل حنبل إن كانت لا تحيض أو قد ارتفع حيضها، أو صغيرة فعدتها ثلاثة أشهر، واختار شيخنا إذا علمت عدم عوده فكآيسة، وإلا اعتدت سنة انتهى ملخصًا.
1074- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قالَ: "طَلاقُ الأمَةِ تَطْلِيقتَان وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ وَأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا وَضَعّفَهُ، وأخْرَجَهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ - رضي الله عنها -، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وخَالَفُوهُ، واتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ.
قال في الإفصاح: وأجمعوا على أن عدة الأمة بالأقراء قرآن، واختلفوا في عدة الأمة بالشهور، وقال أيضًا: واختلفوا هل يعتبر الطلاق بالرجال دون النساء، والعدة بالنساء دون الرجال، فقال مالك والشافعي وأحمد: يعتبر الطلاق بالرجال دون النساء والعدة بالنساء دون الرجال.
وقال أبو حنيفة: الطلاق معتبر بالنساء، انتهى.
قال الزركشي: والأحاديث في هذا الباب ضعيفة، والذي يظهر من الآية الكريمة أن كل زوج يملك الثلاث مطلقًا، انتهى.
قال في الإنصاف: وهو قوي في النظر.
1075- وَعَنْ رُوَيْفَع بنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - عَنِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَحِلُّ لامْرىءٍ يُؤمِنُ بالله والْيَوْم الآخِر أَنْ يَسْقِيَ ماءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو داودَ والتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، وحَسَّنَهُ البَزّارُ.
فيه دليل على تحريم وطء الحامل من غير الواطئ، كالأمة المشتراة إذا كانت حاملًا من غيره والمسبية، وإذا لم يكن الحمل متحققًا لم يجز وطؤها حتى يستبرئها بحيضة.
1076- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - في امْرَأَةٍ المَفْقُودِ - "تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَالشّافِعِيُّ.
1077- وَعَنِ الْمُغِيرةِ بنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "امْرَأَةُ المَفْقُود امْرَأَتُهُ حَتى يَأتِيَهَا الْبَيَانُ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنيُّ بإسْنادٍ ضَعِيفٍ.
قال في المقنع: امرأة المفقود الذي انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك تتربص أربع سنين، ثم تعتمد للوفاة إلى أن قال: وعنه تتربص تسعين عامًا.
قال في الاختيارات: والصواب في امرأة المفقود مذهب عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد، انتهى.
وهذا إذا كان له مال ينفق عليها منه، وإلا فلها الفسخ بإذن الحاكم، كما لو غاب ولم يترك لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه.
1078- وَعَنْ جَابر - رضي الله عنه - قالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبِيتنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرأَةٍ إلا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا مَحْرَمٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
المحرم: كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بنسب أو سبب مباح، والحديث دليل على أنها تحرم الخلوة بالأجنبية.
1079- وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إلا مَعَ ذي مَحْرَمٍ" أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ.
الحديث دليل على جواز خلوة الرجل بالمرأة إذا كان معها زوجها أو ذو محرم لها.
1080- وَعَنْ أَبي سَعيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذاتِ حَمْلٍ حَتى تحِيضَ حَيْضَةً" أَخْرَجَهُ أَبو دَاود، وصَحَّحهُ الحَاكِمُ، ولَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - في الدَّارقُطْنِيِّ.
الحديث دليل على أنه يجب على السابي استبراء المسبية إذا أراد وطأها بحيضة ليتحقق براءة رحمها، وبوضع الحمل إن كانت حاملًا، و قيس عليها المشتراة والمتملكة بأي وجه من وجوه التملك، وظاهر قوله: "ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" عموم البكر والثيب، فالثيب لما ذكر، والبكر أخذًا بالعموم وقياسًا على العدة فإنها تجب على الصغيرة مع العلم ببراءة الرحم، وإلى هذا ذهب الأكثرون، وذهب آخرون إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها، أما من علم براءة رحمها فلا استبراء عليها، وروى البخاري عن ابن عمر قال: "إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء" اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، والاستبراء أحوط.
1081- وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَللْعَاهِرِ الحجَرُ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَديثِهِ، ومِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وعَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ.
الحديث دليل على ثبوت نسب الولد بالفراش من الأب، واختلف العلماء في معنى الفراش؛ فذهب الجمهور إلى أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وذهب أبو حنيفة إلى أنه اسم للزوج، ثم اختلفوا بماذا يثبت؟ فعند الجمهور إنما يثبت للحرة بإمكان الوطء في نكاح صحيح أو فاسد، وثبت الفراش للأمة بالوطء إذا كانت مملوكة للواطئ أو في شبهة ملك، (قوله: وللعاهر الحجر) العاهر الزاني، والمراد أن الولد لصاحب الفراش، وليس للزاني إلا الخيبة والحرمان كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: يا رسول الله هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة فلم ير سودة قط"، قال في الاختيارات: ولا تصير الزوج فراشًا إلا بالدخول، وهو مأخوذ من كلام الإمام أحمد في رواية حرب، وتتبعض الأحكام لقوله: (واحتجبي منه يا سودة) وعليه نصوص أحمد انتهى.
وقال الجمهور: الأمر باحتجابها للاحتياط، قال الحافظ: واستدل به على أن القائف إنما يعتمد في الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، لأن الشارع لم يلتفت هنا إلى الشبه والتفت إليه في قصة زيد بن حارثة، وكذا لم يحكم بالشبه في قصة الملاعنة لأنه عارضه حكم أقوى منه، وهو مشروعية اللعان، قال: واستدل به على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة وهو قول الجمهور انتهى، والله أعلم.
باب الرِّضَاعِ
الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ﴾ [النساء: 23] الآية.
1082- عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحَرِّمُ المصَّةُ وَالمصَّتَانِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
المصة الواحدة من المصّ، وهو أخذ اليسير من الشيء، والحديث دليل على أن مصّ الصبي للثدي مرة أو مرتين لا يصير به رضيعًا.
1083- وَعَنْهَا - رضي الله عنها - قَالَتْ: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فَإنّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
الحديث دليل على أنه لا يعتبر من الرضاعة إلا ما سدّ جوع الصبي حيث يكون الرضيع طفلًا يتغذى به، واستدل به على أن التغذي بلبن المرضعة محرِّم، سواء كان شربًا أو وجورًا أو سعوطًا أو حقنة حيث كان يسد جوع الصبي، وهو قول الجمهور.
1084- وَعَنْهَا - رضي الله عنها - قالَتْ: "جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إنَّ سَالِمًا مَوْلى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنا في بَيْتِنَا وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ؟ فَقَالَ: "أَرْضعِيهِ تَحْرُمي عَلَيْهِ"" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
اختلف السلف في إرضاع الكبير، فذهبت عائشة إلى ثبوت حكم التحريم وإن كان الراضع بالغًا، ويروى عن علي وعروة، وهو قول الليث بن سعد وأبي محمد بن حزم، وذهب الجمهور إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر، وأجابوا عن حديث سالم بأنه خاص بقصة سهلة، قال في الاختيارات: ورضاع الكبير تنتشر به الحرمة بحيث يبيح الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت بحيث لا يحتشمون منه للحاجة لقصة سالم مولى أبي حذيفة.
1085- وَعَنْهَا - رضي الله عنها - أَنَّ أَفْلَحَ -أَخَا أَبي الْقُعَيْسِ- جَاءَ يَسْتَأَذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الحِجَابِ قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَا جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرْتُهُ بالّذي صَنَعْتُه، فَأَمَرَني أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ وَقَالَ: "إنّهُ عَمُّكِ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
الحديث دليل على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة وأقاربه كالمرضعة، وذلك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما، ولهذا قال ابن عباس: اللقاح واحد، وهو قول الجمهور.
1086- وَعَنْهَا - رضي الله عنها - قالتْ: "كَانَ فيما أُنْزلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فُتوُفِّيَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ الْقُرآنِ" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
قال في سبل السلام: تريد أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًا حتى إنه توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنا متلوًّا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنه لا يتلى، وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم، وهو أحد أنواع النسخ، فإنه ثلاثة أقسام: نسخ التلاوة والحكم مثل: عشر رضعات يحرمن، والثاني نسخ التلاوة دون الحكم: كخمس رعضات، وكالشيخُ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، والثالث: نسخ الحكم دون التلاوة، وهو كثير انتهى.
والحديث دليل على أنه لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات فصاعدًا، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وعنه: أن قليل الرضاع وكثيره يحرم، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم، وعن أحمد لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات، وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وداود وابن المنذر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحرم المصة ولا المصتان).
1087- وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُريدَ عَلى ابْنَةِ حَمْزَةَ فَقَالَ: "إنّهَا لا تَحِلُّ لي إنّهَا ابنَةُ أَخي مِنَ الرَّضَاعة، ويَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعة مَا يَحْرُمُ مِنَ النّسَبِ" مُتّفَقٌ عَلَيهِ.
أحكام الرضاع: هي حرمة التناكح وجواز النظر والخلوة والمسافرة.
قال الموفق: تحريم الأم والأخت ثبت بنص الكتاب، وتحريم البنت ثبت بالتنبيه، فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة انتهى.
قال في مختصر المقنع: فمتى أرضعت امرأة طفلًا صار ولدها في النكاح والنظر والخلوة والمحرمية وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطئ، ومحارمه محارمها، ومحارمها محارمه دون أبويه وأصولهما وفروعهما، فتباح المرضعة لأبي المرتضع وأخيه من النسب وأمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه.
1088- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضاع إلا مَا فَتَقَ الأمْعَاءَ وَكَان قَبْلَ الفِطَامِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحّحَهُ هُوَ والحَاكمُ.
الحديث دليل على عدم تحريم رضاع الكبير، وأن القليل الذي لا ينفذ إلى الأمعاء لا يحرم.
1089- وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ - رضي الله عنهما - قالَ: "لا رَضَاعَ إلا في الحَوْلَينِ" رَوَاهُ الدَّارقُطْنيُّ وابنُ عديِّ مَرْفوعًا وَمَوْقوفًا وَرَجّحَا المَوْقوفَ.
فيه دليل على اعتبار الحولين، وأن الرضاع بعدهما لا يعتبر.
1090- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رَضَاع إلا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ وأَنْبَتَ اللَّحْمَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
الحديث دليل على عدم اعتبار رضاع الكبير، فإن ذلك إنما يكون لمن هو في الحولين.
1091- وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ الْحارثِ - رضي الله عنه - أَنّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيي بِنْتَ أَبي إهَابٍ فَجَاءَت امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكما فَسَأَلَ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟" فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ فَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ.
الحديث دليل على أن شهادة المرضعة وحدها تقبل، وإليه ذهب ابن عباس وجماعة من السلف وأحمد بن حنبل، قال في الاختيارات: وإذا كانت المرأة معروفة بالصدق، وذكرت أنها أرضعت طفلًا خمس رضعات قبل قولها، وثبت حكم الرضاع على الصحيح انتهى.
1092- وَعَنْ زيادٍ السّهْمِي - رضي الله عنه - قالَ: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُسْتَرْضَعَ الحَمْقَى" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاودَ وَهُوَ مُرْسلٌ وَلَيْسَتْ لزيَادٍ صُحْبَةٌ.
الحمقاء: خفيفة العقل، وفيه أن للرضاع تأثيرًا في الطباع، فيختار من لا حماقة فيها، قال في المغني: كره أبو عبدالله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات، ويكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق انتهى، والله الموفق.