دعوة للتطهير


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدانا الله به من بعد ضلالة، وأعزنا من بعد ذلة، وكثرنا من بعد قلة، وقد جعلنا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

اهتمام الناس بالتطهير الحسي

أيها الإخوة المؤمنون! في ظلال آيات الله سبحانه وتعالى نبقى اليوم مع آية من هذه الآيات العظيمة، التي تُعلِّمنا ما ينبغي أن نكون عليه، وتحثنا على ما فيه خيرنا في دنيانا وأخرانا.

يقول الحق جل وعلا: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وفي موضع آخر يقول الحق جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

هذه الآيات تشعرنا بأن الحق جل وعلا يحب المتطهرين، وذلك لا شك موجب من موجبات السعي إلى هذا التطهر ما دام فيه مرضاة الله عز وجل، وما دام المتحلي به يكون محبوباً عند الحق جل وعلا.

والتطهر: هو التنزه عن الأدناس، والبعد عن الأرجاس، وحسن المعاملة مع الناس. فالتطهر: هو أن تبقى محافظاً على ما من شأنه أن يجعلك بين الناس وضيئاً وجيهاً، وعند الله سبحانه وتعالى محبوباً مقرباً.

هذا التطهر يظهر في أمرين واضحين من خلال الأمور العادية المحسوسة التي نعيش فيها ونتعامل بها.

إن التطهر يقتضي أولاً: أن تبتعد عن أسباب الأقذار والأوساخ، فإذا لبس الواحد منا ثوباً نظيفاً أو جديداً فإنه يكون أشد تحوطاً وأكثر تنبهاً من ورود أماكن الأوحال، أو من المرور بأماكن القاذورات، فإذا اضطر وكان قريباً منها فإنه يسعى إلى أن يرفع ثوبه، أو أن يحفظه بما يقيه من هذه الأدناس والأوساخ، ولكنه قطعاً مع شدة تحوطه واحتياطه، ومع عظيم تنزهه وابتعاده سيمر اليوم واليومان والأسبوع والأسبوعان، وسيجد أنه قد أصاب ثوبه بعض القذر، فهل يا تراه يسكت عن هذا ويرضى به؟

إنه يسعى مباشرة إلى خلعه وتنظيفه من جديد؛ لتعود له وضاءته وبياضه ونصاعته؛ لأنه يحب أن يكون متطهراً متجملاً.

وقد تفنن الناس اليوم كثيراً في أسباب التطهر المادي، فهذه أنواع متعددة من الصابون الذي يزيل الأوساخ، والذي يجعل الملابس أشد نصاعة وبياضاً كما يقولون، وهناك مطهرات للفم، وهناك مطهرات للفرش، وهناك مطهرات للحيطان، وهناك مطهرات للبلاط، وهناك مطهرات تجمع مع التطهير طيب الرائحة، وأخرى -كما يقولون- تجمع مع التطهير لمعاناً وبريقاً.

ويظل السؤال: أين مطهرات القلوب؟ وأين مطهرات العقول؟ أين تطهير البواطن؟ أين السعي إلى التطهير الذي يكون به العبد محبوباً عند الله سبحانه وتعالى؟!

تطهير القلوب من دنس المعاصي

إن أمر التطهر عظيم جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نص على أن المتطهرين عنده من المحبوبين، وهذه منزلة عالية لا تكون لأمر من الأمور العارضة، ولا لعمل من الأعمال الظاهرة، بل تكون لجوهر يتصل بأصل الإيمان وجوهر الإسلام؛ فلذلك ينبغي أن ننظر إلى التطهر من هذه الزاوية؛ أعني من زاوية أن شأنه عظيم، وأن أمره خطير، وأن منزلته عند الله سبحانه وتعالى رفيعة.

ولهذا التطهر مجالات واسعة، وعلى نفس ونهج التطهر المادي ينبغي أن تكون لنا عناية وأسباب وأعمال وحرص وتحوط في مسألة التطهر المعنوي الباطني! وكما أن الأصل في التطهر المادي الاحتياط والبعد عن الأدناس والأقذار، فكذلك يكون هذا التطهر المعنوي الإيماني التربوي.

ثم إذا أصابت الإنسان بعض هذه الأقذار، وألم ببعض الذنوب، وضربت عليه الغفلة؛ فإنه لا يرضى أن يبقى وسخ الثياب، يخرج إلى الناس فتشمئز نفوسهم منه، وتنصرف أبصارهم عنه، وتتأفف أنوفهم من كراهية رائحته، فكما يسعى بعد وقوع الأقذار على تطهيرها وغسل ثيابه منها، فلابد له أيضاً أن يكون له بعد احتياطه في البعد عن الذنوب والمعاصي أموراً تغسل هذه الذنوب، وتبيد هذه الأوضار، وتعيد له وضاءه الإيمان، وإشراقة الإسلام، ونصاعة التوحيد، وبريق الطاعة لله سبحانه وتعالى.

ومن هنا نجد النهج القرآني الذي يدلنا على هذا الأمر، فالله عز وجل قد أمر المؤمنين أن يغضوا أبصارهم، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، وقال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، فهذا المنهج لنيل الطهارة هو البعد عما يشوبها، أو عما يدنس قلب الإنسان ونفسه من هذه الذنوب والمعاصي، والله عز وجل قال في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وفي آية غض البصر قال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، فهو فيه الطهارة والتزكية، فالأصل في طلب هذا التطهر هو التجنب والحذر من الوقوع فيما حرم الله عز وجل.

فإن المرء يقيس التطهر المعنوي على التطهر الحسي، فهل يرضى أن يكون في ثوبه بقعة سوداء ولو كانت صغيرة؟ إنه يراها عواراً وتشوهاً في ذلك البياض الناصع، وكذلك المعصية إن كانت صغيرة كانت كذلك، فإذا سكت وغض الطرف عن هذا، فإذا جاءت أخت لها كانت أهون منها، ثم إذا تكاثرت هذه النقاط من الأقذار والأوساخ فإنه ربما لا يكترث لها، فإذا جاءت ثالثة ورابعة رأى أنه قد سبقتها أخوات، وأنه لن يكترث لها، ثم إذا أراد بعد طول عهد أن يطهر ثوبه فإنه يجد صعوبة، ويحتاج إلى كثير من المطهرات، وإلى قوة دلك، وإلى غير ذلك؛ لأنه لم يسبق إلى ذلك التطهير أولاً بأول كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روي عن حذيفة مرفوعاً وموقوفاً: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب منها واستغفر صقل) أي: القلب، وعاد مشرقاً وضيئاً، وإن لم يفعل ذلك تجمعت هذه الأقذار والنقاط السوداء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (حتى يصبح قلبه أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).

تطهير القلوب من وحل الشرك

فلذلك لابد أن نسعى إلى تطهير القلوب، وإلى تطهير العقول، وإلى تطهير الجوارح عما حرم الله سبحانه وتعالى، وأول أمر وآكد أمر: التطهر من كل صورة من صور الشرك صغيراً كان أو كبيراً، ظاهراً كان أو باطناً.

طهروا قلوبكم من التعلق بغير الله عز وجل، طهروا قلوبكم من التوكل على غير الله سبحانه وتعالى، نزهوا قلوبكم من الخوف من غير الله عز وجل، نزهوا قلوبكم من الرجاء لغيره سبحانه وتعالى، فإن كثيراً من الناس اليوم قد بات تعلقه بغير الله أكبر، واعتماده على غيره أكثر في صور عملية كثيرة.

وإضافة إلى ذلك: فإن شين الرياء والتصنع قد طم وعم في مجتمعات المسلمين، حتى قل المصلحون وندر وجودهم، بل من أخلص لله عز وجل عد في الناس غريباً شاذاً، بل ربما عده بعضهم ساذجاً لا يعرف كيف يغتنم الفرص، ولا كيف يعيش الحياة كما يقولون.

ولذلك أيضاً: هناك صور أخرى قد شاعت في بعض مجتمعاتنا مما يتناقض مع كمال الإيمان وصفاء التوحيد، أعني بهذا القول: ظاهرة الاعتماد والتعلق الكبير بالجن والسحر والشعوذة والكهانة، وقد شاعت بين الناس في صور كثيرة، وظهرت بينهم وكأنه ما قد وقع فيهم قول الله سبحانه وتعالى بأنهم زادوهم رهقاً، فاستسلموا لهم، وخافوا منهم، والتجئوا إليهم، وسرى بين الناس هذا الداء سرياناً كبيراً، فنحن نرى له صوراً عديدة في واقعنا، فإذا حقد أحد على أحد التمس له من يسحره، أو من يسلط عليه بعض الجان، أو من يقرأ له كفاً، أو من يكتب له حرزاً أو غير ذلك، وتعلقت القلوب بذلك تعلقاً غير مشروع يجرح في أصل إيمانهم، وفي كمال توحيدهم.

وغير ذلك كثير من صور عدم صفاء المعتقد وكمال التوحيد، ومن ذلك: الرضا بالمنكرات إذا كان رضاً قلبياً، والرضا بحكم غير حكم الله عز وجل إذا كان رضاً كاملاً باطنياً؛ فإن ذلك إشراك بالله عز وجل في أعظم حقوق الألوهية، وهو حق الحكم والحاكمية لله عز وجل، وكذلك في إقرار الحق، وإبطال الباطل، ومعرفة الحرام من الحلال، وإن ذلك من أعظم صور الكفر كما ورد في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه لما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان، قال: (إنهم يا رسول الله لم يعبدوهم. قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد أحلوا لهم الحرام، وحرموا لهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم).

فهذا جانب لابد من تطهير القلوب منه، وتنقيتها من أدناسه؛ لأنه أخطر أنواع الإشراك، وأشدها فتكاً، وأكثرها ضرراً في حياة المرء المسلم؛ لأنها ترتكز وتتصل بأعظم أساس، وهو أساس الإيمان والتوحيد بالله عز وجل.

وهذا باب يطول الحديث فيه جداً.

أيها الإخوة المؤمنون! في ظلال آيات الله سبحانه وتعالى نبقى اليوم مع آية من هذه الآيات العظيمة، التي تُعلِّمنا ما ينبغي أن نكون عليه، وتحثنا على ما فيه خيرنا في دنيانا وأخرانا.

يقول الحق جل وعلا: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وفي موضع آخر يقول الحق جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

هذه الآيات تشعرنا بأن الحق جل وعلا يحب المتطهرين، وذلك لا شك موجب من موجبات السعي إلى هذا التطهر ما دام فيه مرضاة الله عز وجل، وما دام المتحلي به يكون محبوباً عند الحق جل وعلا.

والتطهر: هو التنزه عن الأدناس، والبعد عن الأرجاس، وحسن المعاملة مع الناس. فالتطهر: هو أن تبقى محافظاً على ما من شأنه أن يجعلك بين الناس وضيئاً وجيهاً، وعند الله سبحانه وتعالى محبوباً مقرباً.

هذا التطهر يظهر في أمرين واضحين من خلال الأمور العادية المحسوسة التي نعيش فيها ونتعامل بها.

إن التطهر يقتضي أولاً: أن تبتعد عن أسباب الأقذار والأوساخ، فإذا لبس الواحد منا ثوباً نظيفاً أو جديداً فإنه يكون أشد تحوطاً وأكثر تنبهاً من ورود أماكن الأوحال، أو من المرور بأماكن القاذورات، فإذا اضطر وكان قريباً منها فإنه يسعى إلى أن يرفع ثوبه، أو أن يحفظه بما يقيه من هذه الأدناس والأوساخ، ولكنه قطعاً مع شدة تحوطه واحتياطه، ومع عظيم تنزهه وابتعاده سيمر اليوم واليومان والأسبوع والأسبوعان، وسيجد أنه قد أصاب ثوبه بعض القذر، فهل يا تراه يسكت عن هذا ويرضى به؟

إنه يسعى مباشرة إلى خلعه وتنظيفه من جديد؛ لتعود له وضاءته وبياضه ونصاعته؛ لأنه يحب أن يكون متطهراً متجملاً.

وقد تفنن الناس اليوم كثيراً في أسباب التطهر المادي، فهذه أنواع متعددة من الصابون الذي يزيل الأوساخ، والذي يجعل الملابس أشد نصاعة وبياضاً كما يقولون، وهناك مطهرات للفم، وهناك مطهرات للفرش، وهناك مطهرات للحيطان، وهناك مطهرات للبلاط، وهناك مطهرات تجمع مع التطهير طيب الرائحة، وأخرى -كما يقولون- تجمع مع التطهير لمعاناً وبريقاً.

ويظل السؤال: أين مطهرات القلوب؟ وأين مطهرات العقول؟ أين تطهير البواطن؟ أين السعي إلى التطهير الذي يكون به العبد محبوباً عند الله سبحانه وتعالى؟!

إن أمر التطهر عظيم جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نص على أن المتطهرين عنده من المحبوبين، وهذه منزلة عالية لا تكون لأمر من الأمور العارضة، ولا لعمل من الأعمال الظاهرة، بل تكون لجوهر يتصل بأصل الإيمان وجوهر الإسلام؛ فلذلك ينبغي أن ننظر إلى التطهر من هذه الزاوية؛ أعني من زاوية أن شأنه عظيم، وأن أمره خطير، وأن منزلته عند الله سبحانه وتعالى رفيعة.

ولهذا التطهر مجالات واسعة، وعلى نفس ونهج التطهر المادي ينبغي أن تكون لنا عناية وأسباب وأعمال وحرص وتحوط في مسألة التطهر المعنوي الباطني! وكما أن الأصل في التطهر المادي الاحتياط والبعد عن الأدناس والأقذار، فكذلك يكون هذا التطهر المعنوي الإيماني التربوي.

ثم إذا أصابت الإنسان بعض هذه الأقذار، وألم ببعض الذنوب، وضربت عليه الغفلة؛ فإنه لا يرضى أن يبقى وسخ الثياب، يخرج إلى الناس فتشمئز نفوسهم منه، وتنصرف أبصارهم عنه، وتتأفف أنوفهم من كراهية رائحته، فكما يسعى بعد وقوع الأقذار على تطهيرها وغسل ثيابه منها، فلابد له أيضاً أن يكون له بعد احتياطه في البعد عن الذنوب والمعاصي أموراً تغسل هذه الذنوب، وتبيد هذه الأوضار، وتعيد له وضاءه الإيمان، وإشراقة الإسلام، ونصاعة التوحيد، وبريق الطاعة لله سبحانه وتعالى.

ومن هنا نجد النهج القرآني الذي يدلنا على هذا الأمر، فالله عز وجل قد أمر المؤمنين أن يغضوا أبصارهم، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، وقال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، فهذا المنهج لنيل الطهارة هو البعد عما يشوبها، أو عما يدنس قلب الإنسان ونفسه من هذه الذنوب والمعاصي، والله عز وجل قال في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وفي آية غض البصر قال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، فهو فيه الطهارة والتزكية، فالأصل في طلب هذا التطهر هو التجنب والحذر من الوقوع فيما حرم الله عز وجل.

فإن المرء يقيس التطهر المعنوي على التطهر الحسي، فهل يرضى أن يكون في ثوبه بقعة سوداء ولو كانت صغيرة؟ إنه يراها عواراً وتشوهاً في ذلك البياض الناصع، وكذلك المعصية إن كانت صغيرة كانت كذلك، فإذا سكت وغض الطرف عن هذا، فإذا جاءت أخت لها كانت أهون منها، ثم إذا تكاثرت هذه النقاط من الأقذار والأوساخ فإنه ربما لا يكترث لها، فإذا جاءت ثالثة ورابعة رأى أنه قد سبقتها أخوات، وأنه لن يكترث لها، ثم إذا أراد بعد طول عهد أن يطهر ثوبه فإنه يجد صعوبة، ويحتاج إلى كثير من المطهرات، وإلى قوة دلك، وإلى غير ذلك؛ لأنه لم يسبق إلى ذلك التطهير أولاً بأول كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روي عن حذيفة مرفوعاً وموقوفاً: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب منها واستغفر صقل) أي: القلب، وعاد مشرقاً وضيئاً، وإن لم يفعل ذلك تجمعت هذه الأقذار والنقاط السوداء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (حتى يصبح قلبه أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).

فلذلك لابد أن نسعى إلى تطهير القلوب، وإلى تطهير العقول، وإلى تطهير الجوارح عما حرم الله سبحانه وتعالى، وأول أمر وآكد أمر: التطهر من كل صورة من صور الشرك صغيراً كان أو كبيراً، ظاهراً كان أو باطناً.

طهروا قلوبكم من التعلق بغير الله عز وجل، طهروا قلوبكم من التوكل على غير الله سبحانه وتعالى، نزهوا قلوبكم من الخوف من غير الله عز وجل، نزهوا قلوبكم من الرجاء لغيره سبحانه وتعالى، فإن كثيراً من الناس اليوم قد بات تعلقه بغير الله أكبر، واعتماده على غيره أكثر في صور عملية كثيرة.

وإضافة إلى ذلك: فإن شين الرياء والتصنع قد طم وعم في مجتمعات المسلمين، حتى قل المصلحون وندر وجودهم، بل من أخلص لله عز وجل عد في الناس غريباً شاذاً، بل ربما عده بعضهم ساذجاً لا يعرف كيف يغتنم الفرص، ولا كيف يعيش الحياة كما يقولون.

ولذلك أيضاً: هناك صور أخرى قد شاعت في بعض مجتمعاتنا مما يتناقض مع كمال الإيمان وصفاء التوحيد، أعني بهذا القول: ظاهرة الاعتماد والتعلق الكبير بالجن والسحر والشعوذة والكهانة، وقد شاعت بين الناس في صور كثيرة، وظهرت بينهم وكأنه ما قد وقع فيهم قول الله سبحانه وتعالى بأنهم زادوهم رهقاً، فاستسلموا لهم، وخافوا منهم، والتجئوا إليهم، وسرى بين الناس هذا الداء سرياناً كبيراً، فنحن نرى له صوراً عديدة في واقعنا، فإذا حقد أحد على أحد التمس له من يسحره، أو من يسلط عليه بعض الجان، أو من يقرأ له كفاً، أو من يكتب له حرزاً أو غير ذلك، وتعلقت القلوب بذلك تعلقاً غير مشروع يجرح في أصل إيمانهم، وفي كمال توحيدهم.

وغير ذلك كثير من صور عدم صفاء المعتقد وكمال التوحيد، ومن ذلك: الرضا بالمنكرات إذا كان رضاً قلبياً، والرضا بحكم غير حكم الله عز وجل إذا كان رضاً كاملاً باطنياً؛ فإن ذلك إشراك بالله عز وجل في أعظم حقوق الألوهية، وهو حق الحكم والحاكمية لله عز وجل، وكذلك في إقرار الحق، وإبطال الباطل، ومعرفة الحرام من الحلال، وإن ذلك من أعظم صور الكفر كما ورد في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه لما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان، قال: (إنهم يا رسول الله لم يعبدوهم. قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد أحلوا لهم الحرام، وحرموا لهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم).

فهذا جانب لابد من تطهير القلوب منه، وتنقيتها من أدناسه؛ لأنه أخطر أنواع الإشراك، وأشدها فتكاً، وأكثرها ضرراً في حياة المرء المسلم؛ لأنها ترتكز وتتصل بأعظم أساس، وهو أساس الإيمان والتوحيد بالله عز وجل.

وهذا باب يطول الحديث فيه جداً.