في صحبة الإمام أحمد


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذا موعدنا مع الدرس السابع والأربعين، وهو بعنوان: في صحبة الإمام أحمد ، وهي صحبة كريمة مع إمام جليل، وغرض الصحبة أن ننظر في حاله، وأن نستمع إلى أقواله، وأن نقتبس من أفعاله، غير أنا جزماً لا نزعم أنا نحيط بسيرته، ولا نجمع جميع دروس وعبر مواقفه وأقواله وأفعاله، فإن المدعي لذلك كمن يدعي قدرته على أن يجمع ماء البحر في قارورة، فلو ادعى ذلك فلن يحظى إلا بقدر ملء هذه القارورة من ماء البحر، وحسبنا أن نغترف من بحر علمه وفضله وجوده وكرمه وجميع خلاله الحميدة، فإن في ذلك ما ينفع ويهدي بإذن الله عز وجل، في زمن قل فيه الثقات، وصعد فيه النكرات، واختلطت فيه الأولويات، وقل من الناس من عاد يميز بين الغث والسمين، ومن يفقه فقه أولئك الأئمة رحمة الله عليهم ورضوان الله عنهم، وكما قال القائل أقول:

من أين أبدأ قولي أيها البطل وأنت أبعد مما تخطب الجُمَلُ

كل القوافي التي استنصرتها وقفت مبهورة وبدا في وجهها الوجل

ماذا نقول وصرح العلم شامخة أركانه وبناء المجد مكتمل

ماذا تقول قوافي الشعر عن رجل كل يقول له هذا هو الرجل

ولذلك حسبنا ومضات وقبسات من مواقف وسيرة الإمام الجليل أحمد رحمة الله عليه؛ وسنمضي بصحبة متنوعة، غرضنا منها أن نرى التمايز والبون الشاسع بينما كانوا عليه وما صرنا إليه، عل ذلك يقوي العزم على اقتفاء آثار السلف، وأن نفقه فقههم الإيماني، وأن نسلك سلوكهم القرآني، فنبدأ مع الإمام أحمد بعيداً عما تستلهمه التراجم من ذكر المولد والشيوخ والتلاميذ، وما يتعلق بالرحلة في طلب العلم ونحو ذلك؛ لأنا نريد أن نخلص إلى ما هو أكثر تأثيراً فينا واحتياجاً لنا بإذن الله عز وجل.

الجولة الأولى: قبسات ومواقف من ورع الإمام أحمد

نمضي في جولة مع الصبي الورع، إذ كان رحمة الله عليه صفحةً بيضاء مشرقة، كتب الله له أن يكون على حظ وافر من النجابة والذكاء، ومن العلم والفطنة ومن الصفاء والطهارة منذ نعومة أظفاره؛ فهذه الروايات في ترجمته تذكر أنه كان في الكتاب كما يروي أبو عفيف أحد أقرانه يقول: كان معنا في الكُتّاب وهو غليم نعرف فضله، وكان الناس الرجال والنساء تأتيهم الكتابات والمراسلات ممن لا يعرفون الكتابة ربما أرسلوا إلى المعلم يقولون له: ابعث لنا أحمد بن حنبل حتى يكتب لنا، فكان يبعث لهم بـأحمد بن حنبل وكان يذهب إليهم وهو مطأطئ الرأس من حيائه وغض بصره مع كونه صبياً صغيراً، فيكتب جواب كتبهم! فربما أملوا عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم، فهذا وهو صغير يأبى أن يكتب ما فيه منكر، بل كان يعف ويتورع عن ذلك.

وكان إبراهيم بن شماس يقول: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام صغير وهو يحيي الليل منذ نعومة أظفاره.

ومن القصص المؤثرة والدالة على حسن سمته وعظيم رعاية الله له سبحانه وتعالى ما ذكره داود بن بسطام حيث يقول: أبطأت علي أخبار بغداد أي: الأخبار والأحوال التي كانوا يتناقلونها ويكتبونها عبر البريد إلى الولايات وإلى المسئولين أو إلى الخليفة، قال: فوجهت إلى عم أبي عبد الله أحمد بن حنبل ؛ لأن عمه هو الذي كان يبعث بالأخبار.

فقلت له: لم تصل إلينا الأخبار اليوم وكنت أريد أن أحررها وأوصلها إلى الخليفة، فقال لي: قد بعثت بها مع ابن أخي أحمد ؛ ثم بحث عن أحمد وجاء به وقال له: أليس قد بعثت معك بالأخبار؟ قال: نعم، قال: فلأي شيء لم توصلها؟ قال: أنا أرفع هذه الأخبار قد رميت بها في الماء؛ لأن فيها من المنكر ومن الظلم فلا أرفع مثل تلك الأخبار.

رمى بها في الماء ولم ينتظر مشاورة ولا مراجعة، إنه يتورع وهو في سن الطفولة، قال ابن بسطام : هذا غلام يتورع فكيف نحن؟! فهذه القصة تدلنا على عظيم أثر التربية في الصغر، مع أنا نعلم أن الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) ومات والده وهو صغير ابن ثلاث سنوات، لكنه تربى تربية إيمانية صبغته بهذا النهج القوي منذ صغره.

وكما ذكر أبو بكر بن الأثرم قال: أخبرني من كان يطلب الحديث مع أحمد بن حنبل قال: ما زال أبو عبد الله بائناً من أصحابه؛ منذ صغره وهو متميز، وهذه الوقفة تدلنا على ما للتربية الإيمانية في الصغر من أثر ومن استقرار، وإذا ربي الصغير على هذه المعاني الإيمانية فإنها تصبح ملكةً ذاتية وطبيعةً نفسية وسلوكاً دائماً لا يخشى عليه بإذن الله أن يتغير؛ لأنه كما قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ومن شب على شيء شاب عليه.

فلذلك الإسلام أمر بتربية الصغير والعناية به من الصغر؛ لما لذلك من أثر في استقرار الكلمات والأفعال والصور في ذهن الصغير وإن لم يكن عاقلاً مدركاً، فإن من السنن عندما يستهل الوليد صارخاً أن يؤذن في أذنه اليمنى وأن يقام في أذنه الأخرى؛ حتى يكون أول شيء يسمعه في هذه الدنيا شهادة التوحيد والدعوة إلى الصلاة والفلاح، ثم يحنك، ثم تكون هناك من الأمور والدلائل في التربية ما يدل على أثرها وإن لم يكن الصغير يعقل معناها، كأن لا يكذب عليه كذبة -كما يقولون- صغيرة أو بيضاء أو نحو ذلك.

الجولة الثانية: قبسات ومواقف من طلب الإمام أحمد للعلم

فنمضي مع الطالب المؤدب في جولة أخرى مع طلبه للعلم، لقد كان للإمام أحمد سمت فريد وصفة عجيبة في كمال التوقير لأهل العلم من مشايخه؛ ومن ذلك ما رواه عمرو الناقد قال: كنا عند وكيع وجاء الإمام أحمد بن حنبل ، فجعل وكيع يصف من تواضعه ويثني عليه ويكرمه إكراماً عجيباً؛ لما له من منزلة ونجابة كان يعرفها الناس فيه وهو صغير، قال: فقلنا له: يا أبا عبد الله! إن الشيخ يكرمك فما لك لا تتكلم؟ فقال: وإن كان يكرمني فينبغي أن أجله.

أي: أن هذا الإكرام جعل عليه من الحياء ما ألجم لسانه، حتى يجل شيخه ولا يجاريه ويصبح مثله في المنزلة، وإن كان قد أفاض في مدحه وثنائه.

وقد قال قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ الإمام أحمد ، وإن كان قد روى عن الإمام أحمد ، فـابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه (مناقب الإمام أحمد) عقد فصلاً لشيوخ الإمام أحمد الذين رووا عنه؛ لأنه قد بلغ منزلة عالية من العلم واحتاج الناس إلى علمه، فروى بعض شيوخه عنه، ومنهم: قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم.

يقول قتيبة : قدمت إلى بغداد وما كانت لي همة إلا أن أرى أحمد بن حنبل ، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، فقلت: يا أبا عبد الله! اجلس مكانك، فقال: لا تشتغل بي إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه.

انظروا كيف جلس بين يديه جلسة الطالب مع أستاذه، وبعضنا في هذه الأزمان التي قل فيها مراعاة الأدب إذا أثنى عليه أستاذه أو كذا فأعطاه كلمة رد عليه بكلمة، وإذا وضع يده على ظهره مكرماً أو مبجلاً ربما فعل مثل فعل شيخه أو أستاذه، وهذا مما يدل على أن قضية الأدب والتوقير ليست على الصورة المطلوبة، وهذه دروس نقتبسها من الإمام أحمد رحمة الله عليه.

وهذه قصة تجمع كثيراً من أهل العلم مع الإمام أحمد قال إسحاق الشهيدي : كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى منارة المسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني إمام أهل الجرح والتعديل، والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم حتى تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً له ولا يطلبون منه ذلك.

قد يقول القائل: في ذلك مبالغة! ولكن أقول: لا يجتمع أمثال هؤلاء على مثل هذه المبالغات تنطعاً أو تكلفاً؛ ولكنها سجية التوقير غرست في نفوسهم، والتعظيم للعلم ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: أحمد بن سعيد الرازي : ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل .

وتأمل هنا! قال: (ما رأيت أحفظ ولا أعلم بفقهه ومعانيه) أي أن العلم السلوكي والتربية الإيمانية قد اقتبسها الإمام أحمد مع الحفظ رحمة الله عليه.

الجولة الثالثة: حسن تعامل الإمام أحمد مع أصدقائه

نمضي مع الجولة الثالثة: كيف كانت علاقته وحسن تعامله ولين جانبه مع أصدقائه ولطافته في المعاملة! فإن بعض الناس يظن أن العلم والوقار يقتضي التجهم وعبوس الوجه وتقطيب الجبين أو نحو ذلك وما ثمة شيء، بل ينبغي أن يكون لكل مقام مقال ولكل موضع حال؛ فهذا الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة أهل العلم ومن أئمة الإسلام يقول: زرت أحمد بن حنبل فأجلسني في صدر داره وجلس دوني، قال: فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال: صاحب البيت أحق بصدر بيته؟

كما قد يحتج بعض الناس دائماً ببعض النصوص في كل موضع، ولا يعرف الحال الذي قد لا تكون معارضة للنص.

فقال الإمام أحمد مباشرة: نعم، يقعد ويقعد فيه من يريد؛ إكراماً له وإجلالاً واستضافة، قال: فقلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيدة فائدة.

إذاً: كان الواحد من السلف يأتي للزيارة لا لمجرد المتعة والفكاهة والكلام والمزاح، وإنما كان يأتي لغرض المذاكرة والانتفاع، فقال في نفسه: خذ إليك فائدة.

قال: ثم قلت: يا أبا عبد الله ! لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم.

أي: لو أنني أزورك على قدر مرتبتك وحقك لكان واجباً علي أن أزورك كل يوم، كأنه يعتذر من قلة زيارته على عظيم قدره.

فقال له أيضاً على البديهة: لا تقل هذا، إن لي إخواناً لا ألقاهم إلا في كل سنة مرة، وأنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم.

أي المهم أن تعرف صدق المحبة وصدق التعامل وحسنه، وليس الغرض هو كثرة الزيارة ودوامها؛ فإن ذلك ليس بالضرورة.

فقال: أبو عبيد : فقلت في نفسي: خذ أخرى يا أبا عبيد ، هذه الثانية، قال: فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله .

كما يفعل بعض الناس الآن عندما يودع ضيفه يقول: في أمان الله، كأنه يطرده من بيته.

قال: فقام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ، فقال الإمام أحمد : قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه؛ قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة.

فاستفاد أبو عبيد هذه الثلاث من الإمام أحمد ؛ بسبب حسن التعامل مع الزائر والتودد له وهذا من أسباب توطيد عرى المحبة والمودة بين القلوب.

الجولة الرابعة: مواقف من خوف الإمام أحمد من الله عز وجل

نمضي مع الخائف الوجل الإمام أحمد رحمة الله عليه، يقول عبد الله : سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا لي ولا علي.

هذا الذي كان طاهر الذيل نقي النشأة حافظاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يعلم ويوقن عظمة المهمة والواجب الملقى على عاتقه، ويعلم قصور العبد وقلة حيلته، ويعلم عظمة الرب وعدم القدرة على إيفاء حقه سبحانه وتعالى، فيقول: وددت أني نجوت كفافاً لا لي ولا علي.

وكان إذا دعا له رجل يقول: الأعمال بخواتيمها.

وكثيراً ما كان يسمع منه قول: اللهم سلم سلم؛ لأن القلوب الخائفة الوجلة مهما عملت فإنها تبقى على وجل من عدم القبول، أو على وجل من أن تكون الأعمال دون الصور المطلوبة ودون المنزلة المرجوة، ولذلك كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] حين نزلت هذه الآية قالت عائشة : (يا رسول الله! الرجل يشرب الخمر ويزني ثم يخاف؟ قال: لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه) هذا حال أهل الإيمان، يقول الحسن البصري رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف منكم ألا تقبل حسناتهم من خوفكم أن تحاسبوا على سيئاتكم.

فهم في خوف عظيم أكثر من خوفنا من سيئاتنا، خوفهم أعظم ليس من السيئات لكن من عدم قبول الحسنات، وهذا لا يكون إلا مع استحضار عظمة الله عز وجل، وفهم الحق الواجب له سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل الإمام أحمد : كيف أصبحت؟ قال مقالة عجيبة فريدة تدل على عظيم ما كان يفقه من دين الله وما يحمل من أمر الله؛ قال: كيف أصبح مَنْ ربه يطالبه بأداء الفرائض، ورسوله يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يطالبه بقبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!

كلها أمور يحتاج الإنسان فيها إلى مجاهدة واستقامة على أمر الله، واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحر للإخلاص وصدق التوجه لله عز وجل، وبراءة من شهوات النفس ومجاهدة لها، محاربة لإغواء الشيطان وتزيينه. وفوق ذلك كله انتظر الموت على وجل وخوف؛ ولذلك كان رحمة الله عليه مع ما له من قدم سابقة في العلم والعمل كان دائماً يستحضر عظمة الله عز وجل، والواجب الذي ينبغي أن يكون له، فيرى أن على الإنسان المسلم ألا يكون مطمئناً ولا واثقاً ولا آمناً من مكر الله وعذاب الله سبحانه وتعالى.

الجولة الخامسة: مواقف من وقار وهيبة الإمام أحمد

نمضي في جولة مع الرجل الوقور، فقد كان رحمة الله عليه مع خوفه لله عز وجل ومع حسن تعامله مع الناس وقوراً يهابه الناس، فحتى إن شيوخه وأهل العلم والتقوى وأهل الإمامة في الدين كانوا يراعون الإمام أحمد ويهابونه ويوقرونه.

فهذا يزيد بن هارون وهو من أعظم شيوخه ومن كبار أهل العلم، قال أحد التلاميذ: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه الذي يملي عليه الحديث فتنحنح أحمد بن حنبل ، فضرب يزيد على خده كالمتأسف وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح.

لقد كان الإمام رحمة الله عليه أعظم وأشد توقيراً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وللعلم.

وعن أحمد بن شيبان قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لـأحمد بن حنبل ، ولا رأيته أكرم أحداً إكرامه لـأحمد بن حنبل ، وكان يوقر الإمام أحمد ولا يمازحه أبداً.

وقال أحدهم: كنا عند إسماعيل بن علية فتكلم إنسان فضحك بعضنا وثم أحمد بن حنبل -أي: جالس معهم- فأتينا إسماعيل بعد ذلك فوجدناه غضبان فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل .

من شدة هيبته ووقاره رحمة الله عليه.

وهناك قصة لطيفة تدل أيضاً على سمت الإمام رحمة الله عليه: يقول أحمد بن منصور : صحبت الإمام أحمد ويحيى بن معين وكنت خادماً لهما في رحلتهما لطلب الحديث عند عبد الرزاق ، ولما رجعا ذهبا إلى أبي نعيم ، قال ابن معين : أريد أن أختبر أبا نعيم وحفظه، فقال له الإمام أحمد : لا تفعل فإنه حافظ ثقة، فقال: لا بد لي من ذلك، فعمد إلى ثلاثين حديثاً وجعل في كل عشرة منها حديثاً ليس من حديث أبي نعيم ، ثم ذهب ثلاثتهم إليه، فخرج إليهم وجلس معهم على دكة طين عند باب بيته أو قريباً من بيته، فجعل يقرأ عليه أول أحاديثه، فلما جاء إلى الحديث المغلوط قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثاني قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثالث فقال: هذا ليس من حديثي، ثم بعد ذلك التفت إلى الثلاثة وقال موجهاً حديثه إلى الإمام أحمد : أما هذا -أي: الإمام أحمد - فأورع من أن يفعل هذا، وأما هذا -يعني: أحمد بن منصور - فأقل من أن يفعل هذا يعني: لا يعرف مثل هذه الأمور.

ثم قال: ما فعلها غيرك يا فاعل، قال: ثم رفسه حتى أسقطه من الدكة، فقال الإمام أحمد لما انصرفوا لـيحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك: إنه ثبت؟ قال: والله لرفسته أحب إلي من سفري.

وهذه القصة من كتيب لطيف اسمه (من لطائف المحدثين).

الجولة السادسة: مواقف من تعظيم الأئمة للإمام أحمد

نمضي بعد ذلك عندما تحقق للإمام أحمد هذه الجوانب كلها من ورع في الصبا، وأدب في العلم، ووقار في الرجولة، وحسن تعامل مع الأصدقاء والقرناء، صار حينئذ إماماً وقدوة، فنمضي معه وهو قدوة الأئمة فنرى أن المقتدى بهم يقتدون بالإمام أحمد ، وأن المعظَمين لعلمهم وفضلهم يعظمون الإمام أحمد رحمة الله عليه.

فهذا علي بن عبد الله بن جعفر يقول: أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة في كل يوم وهو يزداد خيراً.

لو أن شخصاً خلال خمسين يوماً فقط يزيد في كل يوم عملاً من أعمال الخير لا شك أنه سيأتي بعد هذه الأيام الخمسين وقد تحول تحولاً كبيراً في حياته.

ويقول يحيى بن معاذ : أراد الناس أن أكون مثل أحمد بن حنبل ، لا والله لا أكون مثل أحمد أبداً. يعني: أنه لا يطيق؛ لأن الإمام أحمد قد بلغ منزلة عظيمة في كل باب من أبواب الخير، حتى انقطعت دون اللحاق به الرقاب.

وكان بشر بن الحارث من قرناء الإمام أحمد ، وقد ذكر عنه كثير من الأقوال التي تبين تبجيله وتوقيره للإمام أحمد وإبراز إمامته على الأئمة، فها هو يقول عندما ابتلي الإمام أحمد وثبت : إن هذا الرجل قام اليوم بأمر عجز عنه الخلق، أرجو أن يكون ممن نفعه الله بالعلم. وقال أيضاً: أحمد إمام من أئمة المسلمين.

ثم لما جاءوا إليه قالوا له: أنت تقول بقول أحمد فلماذا لا تعلن قولك وتقف موقفه؟ فقال: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء، إن أحمد قام مقام الأنبياء.

ولما بلغه أن الإمام أحمد ضرب بالسياط مد بشر رجله وخاطب ساقه قائلاً: ما أقبح هذه الساق ألا يكون فيها القيد نصرة لهذا الرجل، ولكنه قال: هذا مقام النبيين لا أستطيع أن أقومه.

هذا مما يدل على أن الإمام أحمد وقف وقفة لم يقفها مثله من العلماء والأئمة، وإن كان ذلك ليس جرحاً فيهم ولكنه علو في منزلة الإمام رحمة الله عليه.

وهذا أبو زرعة جمع لنا هذا كله في كلمات وجيزة حيث قال: ما رأت عيني مثل الإمام أحمد ، فقال له السائل: في العلم؟ فقال: في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل شيء.

وهذا الإمام البويطي رحمة الله عليه من تلامذة الشافعي سجن في المحنة وكتب من سجنه وقال في كتابه: إني لأرجو أن يجزي الله عز وجل أجر كل ممتنع في هذه المحنة لسيدنا الذي ببغداد.

يعني: الإمام أحمد ؛ لأنه هو السيد المبجل المقدم في هذا الأمر، وكل من وقف وقفة في هذه المحنة فإنما كان يقتدي بالإمام أحمد ؛ فهو الذي كان مقدماً في هذه المحنة.

وقال بشر عن الإمام أحمد : أحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، فكان فيها مستعصماً بالله عز وجل، تداوله المأمون والمعتصم والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس، ثم تداوله المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا انتقل عن حاله الأولى رغبة في الدنيا ولا رغبة في الذكر، وهذا هو الثبات العظيم الذي تميز به الإمام أحمد رحمة الله عليه.

من لطائف توقير وتعظيم الأئمة له أن حجاج الشاعر وهو كان من المحدثين وكان يقول: كنت أكون عند الإمام أحمد بن حنبل فأنصرف في الليل -أي: من بيته- فأذكره في الطريق فأبكي؛ شوقاً إلى لقاء الإمام أحمد والانتفاع به.

فهذا كلام الأئمة في هذا الإمام الجليل.

الجولة السابعة: مواقف من متابعة الإمام أحمد للرسول صلى الله عليه وسلم

نمضي أيضاً في جولة أخرى مع السلفي الأصيل الإمام أحمد ، كيف كان حريصاً على أن يكون متبعاً للسلف، مع فقه أصيل ومع متابعة دقيقة!

سئل الإمام أحمد عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة والتابعون.

فكان يرى أن ما لم يتكلموا فيه من المسائل ولا يحتاج إليه في رد شبهة ونحو ذلك أنه لا يفتح على الناس به، وإلا كان ذلك نوعاً من عدم الفقه بمنهج السلف، إذ لو كان في مثل هذه المسائل من نفع لذكروه، ولذلك كان رحمة الله عليه يحرص على تعلم السنة وفقهها، وكان لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه؛ فإن علم بذلك اتبع رأيهم ونفى غيره، وإن لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه واستعصم؛ لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهاج السلف وإلحاد في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا يتكلفون التعمق في المسائل العقلية التي كثرت في وقت الإمام رحمة الله عليه، وضل بها كثير من الناس، ولذلك لما سئل عن علم الكلام، كتب إلى السائل قائلاً له: أحسن الله عاقبتك! الذي كنا نسمع عنه وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله لا تعد ذلك.

يعني: لا تزد عليه ولا تبحث عن شيء وراءه.

ولم يزل الناس يكرهون الجلوس مع المبتدع ليردوا عليه، إلا إذا احتيج إليه في رد ما شبه على الناس ولبس عليهم في دينهم.

يقول الإمام أحمد عن نفسه: ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به.

ومسنده فيه نحو من أربعين ألف حديث، وحتى لو كان بالمكرر فكونه يعمل بكل حديث كتبه فهذا أمر عجيب! وقد ذكر في ترجمته أمور عجيبة من حرصه على المتابعة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد احتجم وما به من علة وأعطى الحجام ديناراً كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولما أمر بالاختفاء ذهب إلى بيت بعض أصحابه ومكث فيه ثلاثة أيام ثم قال له: التمس لي طريقاً أخرج، قال: لا آمن عليك، قال: التمس لي وأعطيك فائدة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختفى في غار حراء ثلاثة أيام ثم خرج فسهل الله أمره.

وقال عنه بعض أهل العلم: إنه سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب عنها كلها وفي كل جواب يقول: أخبرنا أو حدثنا؛ ينسب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت المسألة امتثالاً يشمل كل ما بلغه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكل ما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم.

ونحن اليوم نحتاج إلى مثل هذا الأمر، أن يكون أخذنا بما يبلغنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة أخذاً جاداً عازماً شاملاً كاملاً، لا أن يكون تقويمنا ونظرنا إلى أمور دون أمور، أو إلى حالات دون حالات، بل كما كان عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه.

يقول عنه عبد الملك الميموني : ما رأت عيني أفضل من الإمام أحمد ؛ ما رأيت أحداً من المحدثين أشد تعظيماً لحرمات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا صحت عنده ولا أشد اتباعاً منه رحمه الله تعالى.

فهذه جملة تبين لنا كيف كان الإمام أحمد حريصاً على اتباع السلف، وقطع ما لم يكن في عهدهم من المقالات والمسائل التي شققها الناس وفرعوها وخرجوا بها عن نهج السلف، ولبسوا فيها على الناس دينهم، وكثر فيها القيل والقال، ولم يقفوا فيها عند ما أثر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وقد رويت عن الإمام أحمد في مسائل الفقه أقوال متعددة؛ لأنه لم يكن رحمة الله عليه يرى أن يخرج عن مجموع النصوص، بل كان يرى أنه يفتي بموجب هذه النصوص الواردة، وإن كان ليس بينها تعارض ربما قال بالقولين في المسألة الواحدة ليجري الأثرين أو الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من فقهه في سجود السهو على سبيل المثال أنه قال: يتبع في كل حالة ما كان من فعله صلى الله عليه وسلم، فما روي في النقص من سجود السهو فيتبعه، وما روي في الزيادة من سجود السهو فيتبعه، حذو القذة بالقذة، وهكذا كان رحمة الله عليه إمام أهل السنة في وقته، لحرصه على هذا الاتباع.

الجولة الثامنة: مواقف من تواضع الإمام أحمد وهيبته

نأتي إلى جولة أخرى مع المتواضع المخلص الذي كان إماماً للأئمة والذي كان متبعاً للسنة، كان رحمة الله عليه متواضعاً يحب خمول الذكر ويبعد عما يحفه به الناس ويزيدون فيه، وهذا لا شك أنه من أعظم مراحل الإيمان والتقوى، وهو ألا يغتر الإنسان وألا يفتن عندما يوفق إلى بعض الخير، سيما والناس يحفون به، فقد كان أحمد رحمة الله عليه لا يحب أن يتبعه أحد قال ابنه: وربما خرج الجمعة فيتبعه بعض الناس فيقف حتى ينصرفوا عنه؛ لئلا يتبعه أحد؛ يأخذ ذلك من تواضع الصحابة، كما ذكر ابن القيم في الفوائد: (أن ابن مسعود خرج فتبعه بعض الناس، قال: ألكم حاجة؟ قالوا: لا وإنما نتبعك، قال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للمتبوع، فتنة للتابع) هكذا كان أولئك القوم يحرصون على براءة نفوسهم وطهارة قلوبهم، والحذر من الرياء أو من الكبرياء ونحو ذلك.

وهذا ابن معين رحمة الله عليه وهو من أصحاب أحمد والمقربين إليه يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان عليه من الخير والصلاح.

أي: لم يذكر يوماً أنه أعلم منهم أو أن عنده فقهاً أكثر منهم، أو أن عنده عبادة أكثر منهم، أو أن عنده أصلاً أو شرفاً أو كذا مطلقاً، مما يدل على أنه لم يكن يرى لنفسه شيئاً، بل كان يرى منزلته بين يدي الله عز وجل فلا يجد نفسه شيئاً مذكوراً، وكان ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم فيقيس نفسه إليهم فيرى أنه قزم صغير عند عمالقة عظام رحمة الله عليهم أجمعين.

وهو كما هو معروف أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني من قبائل العرب الصحيحة الأصيلة الأقحاح، فهذا محمد بن الفضل الملقب بـعارم يتردد على أحمد فقال مرة: يا أبا عبد الله ؛ بلغني أنك من العرب، فمن أي العرب أنت؟ فقال الإمام أحمد : يا أبا النعمان نحن قوم مساكين.

ما أجابه على السؤال.

وقيل له مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً.

وكم نسمع هذه الكلمة لمن لا يبلغون عشر معشار الإمام أحمد ، وإن كانوا على خير وفضل وصلاح؛ قال له رج

نمضي في جولة مع الصبي الورع، إذ كان رحمة الله عليه صفحةً بيضاء مشرقة، كتب الله له أن يكون على حظ وافر من النجابة والذكاء، ومن العلم والفطنة ومن الصفاء والطهارة منذ نعومة أظفاره؛ فهذه الروايات في ترجمته تذكر أنه كان في الكتاب كما يروي أبو عفيف أحد أقرانه يقول: كان معنا في الكُتّاب وهو غليم نعرف فضله، وكان الناس الرجال والنساء تأتيهم الكتابات والمراسلات ممن لا يعرفون الكتابة ربما أرسلوا إلى المعلم يقولون له: ابعث لنا أحمد بن حنبل حتى يكتب لنا، فكان يبعث لهم بـأحمد بن حنبل وكان يذهب إليهم وهو مطأطئ الرأس من حيائه وغض بصره مع كونه صبياً صغيراً، فيكتب جواب كتبهم! فربما أملوا عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم، فهذا وهو صغير يأبى أن يكتب ما فيه منكر، بل كان يعف ويتورع عن ذلك.

وكان إبراهيم بن شماس يقول: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام صغير وهو يحيي الليل منذ نعومة أظفاره.

ومن القصص المؤثرة والدالة على حسن سمته وعظيم رعاية الله له سبحانه وتعالى ما ذكره داود بن بسطام حيث يقول: أبطأت علي أخبار بغداد أي: الأخبار والأحوال التي كانوا يتناقلونها ويكتبونها عبر البريد إلى الولايات وإلى المسئولين أو إلى الخليفة، قال: فوجهت إلى عم أبي عبد الله أحمد بن حنبل ؛ لأن عمه هو الذي كان يبعث بالأخبار.

فقلت له: لم تصل إلينا الأخبار اليوم وكنت أريد أن أحررها وأوصلها إلى الخليفة، فقال لي: قد بعثت بها مع ابن أخي أحمد ؛ ثم بحث عن أحمد وجاء به وقال له: أليس قد بعثت معك بالأخبار؟ قال: نعم، قال: فلأي شيء لم توصلها؟ قال: أنا أرفع هذه الأخبار قد رميت بها في الماء؛ لأن فيها من المنكر ومن الظلم فلا أرفع مثل تلك الأخبار.

رمى بها في الماء ولم ينتظر مشاورة ولا مراجعة، إنه يتورع وهو في سن الطفولة، قال ابن بسطام : هذا غلام يتورع فكيف نحن؟! فهذه القصة تدلنا على عظيم أثر التربية في الصغر، مع أنا نعلم أن الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) ومات والده وهو صغير ابن ثلاث سنوات، لكنه تربى تربية إيمانية صبغته بهذا النهج القوي منذ صغره.

وكما ذكر أبو بكر بن الأثرم قال: أخبرني من كان يطلب الحديث مع أحمد بن حنبل قال: ما زال أبو عبد الله بائناً من أصحابه؛ منذ صغره وهو متميز، وهذه الوقفة تدلنا على ما للتربية الإيمانية في الصغر من أثر ومن استقرار، وإذا ربي الصغير على هذه المعاني الإيمانية فإنها تصبح ملكةً ذاتية وطبيعةً نفسية وسلوكاً دائماً لا يخشى عليه بإذن الله أن يتغير؛ لأنه كما قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ومن شب على شيء شاب عليه.

فلذلك الإسلام أمر بتربية الصغير والعناية به من الصغر؛ لما لذلك من أثر في استقرار الكلمات والأفعال والصور في ذهن الصغير وإن لم يكن عاقلاً مدركاً، فإن من السنن عندما يستهل الوليد صارخاً أن يؤذن في أذنه اليمنى وأن يقام في أذنه الأخرى؛ حتى يكون أول شيء يسمعه في هذه الدنيا شهادة التوحيد والدعوة إلى الصلاة والفلاح، ثم يحنك، ثم تكون هناك من الأمور والدلائل في التربية ما يدل على أثرها وإن لم يكن الصغير يعقل معناها، كأن لا يكذب عليه كذبة -كما يقولون- صغيرة أو بيضاء أو نحو ذلك.

فنمضي مع الطالب المؤدب في جولة أخرى مع طلبه للعلم، لقد كان للإمام أحمد سمت فريد وصفة عجيبة في كمال التوقير لأهل العلم من مشايخه؛ ومن ذلك ما رواه عمرو الناقد قال: كنا عند وكيع وجاء الإمام أحمد بن حنبل ، فجعل وكيع يصف من تواضعه ويثني عليه ويكرمه إكراماً عجيباً؛ لما له من منزلة ونجابة كان يعرفها الناس فيه وهو صغير، قال: فقلنا له: يا أبا عبد الله! إن الشيخ يكرمك فما لك لا تتكلم؟ فقال: وإن كان يكرمني فينبغي أن أجله.

أي: أن هذا الإكرام جعل عليه من الحياء ما ألجم لسانه، حتى يجل شيخه ولا يجاريه ويصبح مثله في المنزلة، وإن كان قد أفاض في مدحه وثنائه.

وقد قال قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ الإمام أحمد ، وإن كان قد روى عن الإمام أحمد ، فـابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه (مناقب الإمام أحمد) عقد فصلاً لشيوخ الإمام أحمد الذين رووا عنه؛ لأنه قد بلغ منزلة عالية من العلم واحتاج الناس إلى علمه، فروى بعض شيوخه عنه، ومنهم: قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم.

يقول قتيبة : قدمت إلى بغداد وما كانت لي همة إلا أن أرى أحمد بن حنبل ، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، فقلت: يا أبا عبد الله! اجلس مكانك، فقال: لا تشتغل بي إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه.

انظروا كيف جلس بين يديه جلسة الطالب مع أستاذه، وبعضنا في هذه الأزمان التي قل فيها مراعاة الأدب إذا أثنى عليه أستاذه أو كذا فأعطاه كلمة رد عليه بكلمة، وإذا وضع يده على ظهره مكرماً أو مبجلاً ربما فعل مثل فعل شيخه أو أستاذه، وهذا مما يدل على أن قضية الأدب والتوقير ليست على الصورة المطلوبة، وهذه دروس نقتبسها من الإمام أحمد رحمة الله عليه.

وهذه قصة تجمع كثيراً من أهل العلم مع الإمام أحمد قال إسحاق الشهيدي : كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى منارة المسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني إمام أهل الجرح والتعديل، والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم حتى تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً له ولا يطلبون منه ذلك.

قد يقول القائل: في ذلك مبالغة! ولكن أقول: لا يجتمع أمثال هؤلاء على مثل هذه المبالغات تنطعاً أو تكلفاً؛ ولكنها سجية التوقير غرست في نفوسهم، والتعظيم للعلم ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: أحمد بن سعيد الرازي : ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل .

وتأمل هنا! قال: (ما رأيت أحفظ ولا أعلم بفقهه ومعانيه) أي أن العلم السلوكي والتربية الإيمانية قد اقتبسها الإمام أحمد مع الحفظ رحمة الله عليه.