فوائد الفضائل


الحلقة مفرغة

الحمد لله جعل العديد من الفضائل في هذه العشر، ووعد فيها جل وعلا بجزيل الأجر، وجعلها فرصة لتكفير الخطايا ومحو الوزر، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، وشمس الهداية الربانية، ومعلم الرحمة الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70- 71].

أما بعد:

فالفضائل التي يسوقها الله جل وعلا لنا في أيام الدهر من نفحات الرحمات، ومن أبواب البركات، ومن مضاعفة الأجور والحسنات، ومن محو الخطايا والسيئات، هذه الفضائل لها فوائد عظيمة، بها تحيا القلوب، وتنشط النفوس، وتدكر العقول، وتستقيم الجوارح، وبها كذلك -من فضل الله عز وجل- تكون الفرصة للمراجعة والمحاسبة وللتقويم والاستدراك على مستوى الفرد والأمة كلها.

وهذه الفضائل لابد لها أن تغير في حياة المسلم المسار والمنطلق الذي قد يغفل عنه في بعض الأحيان، وقد ينحرف عنه في أحيان أخرى، وقد يستبدل غيره به في أحيان ثالثة، فتأتي هذه المواسم لترده إلى المنطلق الصحيح المنطلق من شرع الله عز وجل، وإلى الغاية الصحيحة، وهي ابتغاء رضوان الله عز وجل، وإلى المسلك والنهج الصحيح، وهو اتباع خطا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم نحن في حاجة إلى الاعتبار من هذه الفضائل.

إن أيام العشر هي التي أقسم الله عز وجل بها مجتمعة، وببعض أيامها منفردة، كما في قوله جل وعلا: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1- 3]، روى جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر)، رواه الإمام أحمد والنسائي في تفسيره، والحاكم وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي .

تأمل هذا الإقسام العظيم من الرب العظيم سبحانه وتعالى بالعشر كلها، وبيوم منها وهو يوم عرفة، وبيوم آخر وهو يوم النحر.

وحسبك بهذه الأيام المفردة أيام فضيلة عظيمة، وأيام اختصاص جلي، فهذا يوم عرفة يوم أقسم الله به في قوله: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]، روى أبو هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة)، رواه الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي .

وتأمل كذلك الفضل الذي اختص به ذلك اليوم في أصله وفي العبادة التي فيه، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن صيام يوم عرفة أنه قال: (إني لأحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة التي بعدها) فما أعظمه من يوم يكفر الله جل وعلا به بفضله ومنِّه ذنوب عامين كاملين، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عباداً من النار من يوم عرفة)، ويوم النحر يوم الحج الأكبر، كل هذا الفضل والتعظيم والإجلال يمر بالمؤمن دون أن يعتبر به ويدكر، سيما وأن هذه الأيام تدخل فيها الفريضة العظيمة، فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، فيجتمع مع فضل وأجر عظيمين وتعظيم وإجلال كبيرين جليلين فريضة وشعيرة على مستوى الأمة كلها، فالصوم يؤديه المسلمون فرادى أو مجتمعين في كل مكان، وفي كل أرض، والصلاة يؤديها المسلمون جماعات صغيرة هنا وهناك في كل مكان، إلا الحج فإنه لا يؤدى إلا باجتماع حجاج المسلمين جميعاً، وليس في أي مكان، بل في البقاع المقدسة في رحاب بيت الله عز وجل، وفي المناسك المختلفة من عرفات إلى منى ومزدلفة وغيرها.

إذاً فكل هذا الفضل وهذا الفرض يمر بالمسلم دون أن يدكر ويعتبر، ودون أن يكون هذا الادكار والاعتبار ذا أثر عظيم عميق ممتد يستمر ويدوم، ولا يكون كسحابة صيف عابرة.

ولعلنا قبل أن نلج في مثل هذه الفوائد نقف وقفة مهمة، إذ إن هذه الفريضة فرضت على المسلم مرة في العمر، فكأن أثرها وفضلها وما يبقى للمؤمن في قلبه وفكره وحياته وحاله وسلوكه منها يكفيه الدهر كله إن أداها على الوجه المطلوب، وإن فقهها بالصورة الصحيحة، وإن امتزجت في أدائها مشاعره قلباً ونفساً وروحاً وفكراً وصوتاً وجوارح، فإنه حينئذ يخرج منها بصياغة جديدة في الحياة تجدد إيمانه وتؤكد إسلامه، وتصحح مساره بإذن الله عز وجل، ومن لم يحج فإنه لا يعدم الفضل والأجر، كما نعلم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث المشهور المحفوظ من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري في صحيحه.

فهل نرى صيغة أبلغ في وصف الفضل وأعظم في بيان الأجر من هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذن كل هذا الذي يمر بنا، والخير الذي يساق إلينا في كل عام وفي كل موسم من مثل هذا العام كيف يكون لنا منه استفادة حقيقية؟

لعل وقفاتنا هذه تكون تذكرة لنا جميعاً حتى نأخذ من هذا الموسم على وجه العموم، ومن فريضته وشعيرته على وجه الخصوص ما لعله ينفعنا في سائر أحوالنا وأوقاتنا وأعمالنا بإذن الله عز وجل.

التذلل لله عز وجل والالتجاء إليه

إن فضل الله عز وجل عندما يسوقه إلينا ورحمته عندما يفتح أبوابها ويشرعها بين أيدينا فإن ذلك فضل من الله عظيم يوجب التذلل له، والتضرع إليه، والإنابة إليه، والانكسار بين يديه، والإقرار بفضله، والشكر لنعمه، والاستحضار لعظمته، والتأمل والتدبر فيما ساقه الله جل وعلا لأهل الإيمان والإسلام، وذلك كله من الأمور العظيمة التي نشعر بها في كل موسم من مواسم الفضل والأجر؛ إذ نتذكر فنفيء إلى الله، ونبكي على ما سلف وما مضى من التقصير والتفريط، ونندم على ما ارتكبنا من المحرمات، وما اقترفنا من السيئات، ونشعر بتفريطنا وتقصيرنا ونتذكر واجبنا تجاه خالقنا سبحانه وتعالى.

ولعل هذا المعلم المهم ينبغي أن يكون حياً في القلوب في كل وقت؛ لأن فضائل الله جل وعلا وإن كانت في هذه المواسم العظيمة في العام كله فإن فضائله في كل يوم وليلة وفي كل لحظة، أليست فضائل الصلوات الخمس -مما هو معلوم ومعروف- تطهر وتكفر الذنوب مرة بعد مرة؟

أليس الله عز وجل ينزل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي عباده: (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه. وذلك الدهر كله)، أليست هذه الفضائل متجددة في كل وقت وآن؟

أليس حرياً بنا أن نرفع أكف الضراعة في كل وقت، وأن نسكب دموع الندامة في كل ليل، وأن نلهج بذكر الله عز وجل وشكره والإقرار بفضله ونعمته في كل لحظة وآن؟

ألسنا نستيقظ في كل صباح فنقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا؟

ألسنا ننغمس في نعم الله، ونغرق في فضله في كل لحظة وسكنة، في كل كلمة لسان نستطيع نطقها، وكل نفس تمتد به حياتنا وتسير به أيامنا، وكل خطوة نمضي بها إلى مصالحنا، وكل رزق يفيضه الله علينا لنتدبر أمورنا، ولنكسب معاشنا؟

أليس ذلك كله مما ينبغي أن تستغل فيه هذه المواسم العظيمة لنخرج بالفوائد المستمرة الممتدة الطويلة التي لا تكون عابرة، ثم نعود من بعد الذكر إلى الغفلة، ومن بعد التذلل إلى التكبر، ومن بعد الإنابة إلى الإعراض؟

ينبغي لنا أن نحول هذه المواسم إلى تغييرات حقيقية في واقع حياتنا؛ لأن الله جل وعلا إنما ساقها إلينا لأجل أن تقومنا مرة بعد مرة، ولأن تصبح بعد ذلك مدداً وعوناً على طاعة الله مستمراً وتذكيراً وتوجيهاً دائماً، وتقويماً وتهذيباً لكل خطأ يقع من الإنسان، فما أحرانا أن نستحضر معنى التذلل لله والالتجاء إليه، كما نتذكر ذلك في المشهد العظيم في يوم عرفات، يوم يجتمع الحشد الهائل والجموع الغفيرة على ذلك الصعيد، كلهم متذللون منكسرون خاضعون باكون راجون خائفون طامعون في رحمة الله، ومستعيذون من غضب الله ومن سخط الله.

الاتباع والاقتداء

إن هذه الشعيرة على وجه الخصوص، وهذه الأيام التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لمن نوى فيها الأضحية: (فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً) عندما قال لنا هذه الفضائل صرنا نحرص على فعل الخيرات، لم؟ لأننا نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونقتدي به، وفي الحج قال: (خذوا عني مناسككم)، ووصف الصحابة حجته في كل حركة وسكنة كأنما نحج اليوم بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا من أمره شيء، أين وقف، وكيف مشى، وكيف طاف، وماذا قال، وما الذي خطب به، كل أمره جلي واضح كالشمس في رابعة النهار، فهل كان ذلك فقط في هذه الفريضة، أم أنه في كل أحواله عليه الصلاة والسلام، في معاملته مع زوجه وأبنائه أو أحفاده، ومع أصحابه وأصدقائه، ومع خصومه وأعدائه، وفي كل أحواله؟ فأين نحن من معلم الاقتداء والاهتداء ونحن نراه في هذه الأيام دقيقاً وظاهراً وجلياً عند الحجاج وعند غيرهم من الذين لا يحجون؟ فإنهم يترسمون الهدي النبوي، ويأتون به على ما أشار وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الأضحية التي يأتي حديثنا عنها إن شاء الله.

إذاً فلم لا نجعل هذا مساراً مهماً وطريقاً واضحاً نسير في إثره كما سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وعندما وصف الله عز وجل الصحب الكرام وأتباعهم وصفهم بهذا الاتباع الذي كانوا فيه على سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي لنا أن نأخذ من هذه الفضيلة العظيمة في هذه الأيام الجليلة وهذه الفريضة العظيمة هذا المعلم المهم في حياتنا، ثم نعود إلى ذوات أنفسنا.

التذكر والاهتداء

لئن كان لنا مع الله تذلل والتجاء، ولنا مع رسوله صلى الله عليه وسلم اتباع واقتداء فإن لنا مع أنفسنا تذكر واهتداء، تذكر فيه المراجعة والمحاسبة، والتصحيح والتقويم، والعزم والحزم الذي يقود إلى الطاعات، وينجي -بإذن الله عز وجل- ويخلص من المعاصي والسيئات، إلى متى تكبلنا ذنوبنا؟ إلى متى تقيدنا خطايانا؟ وإلى متى تلجم وجوهنا وأفواهنا أمواج الشهوات والشبهات؟ إلى متى ونحن مستسلمون والمواسم تمر فلا تكون الذكرى التي تخرجنا من غفلة إلى ذكر غير منقطع، ومن ضعف إلى عزيمة قوية لا تتضعضع ولا تضعف ولا تتراجع بإذن الله عز وجل، لقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعظ الموعظة تتغير بها المسارات، ويقول الأمر والحكم فيتم إنفاذه في الوقت والحال، ويتذكر الناس لأنهم يعلمون أن الخطاب الرباني والهدي النبوي موقعه عند المؤمن عظيم وجليل، ولذلك عندما تحدث النبي مع بعض أصحابه وأخبر عن حل الذهب والحرير للنساء وحرمته على الرجال كان من القوم رجل في يده خاتم من ذهب فخلعه وطرحه من وقته ولحظته، وعندما قام القوم قيل له: خذه فانتفع به. قال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

هكذا يكون التذكر مباشرة يؤدي إلى الاهتداء، والعمل الذي يمتثل فيه الإنسان أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، والأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن كثير يحتاج منا دائماً إلى مثل هذا التذكر والاهتداء، ومرة أخرى في ذوات أنفسنا إلى التفكر والارتقاء، وهي مسألة مهمة، التفكر في حقيقة الدنيا، وصلتنا بها، وانشغالنا بها، وتعلقنا بها، هذه الدنيا هل تساوي فضائل هذه العشر على سبيل المثال؟ هذه الأيام العمل الصالح فيها هو الأحب إلى لله عز وجل، فهل تساوي الدنيا يوماً يكفر سنتين؟ هل تساوي فريضة يخرج بها العبد من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ ما بال الموازين قد اختلت؟ ما بال الأثمان قد أصبحت على غير المقياس الصحيح؟ فكأن الدنيا اليوم في واقع حياة الناس أرجح من الآخرة، وكأن نعيمها وشهواتها ومالها وما فيها من هذه الخيرات أعظم عند كثير من الناس من صلوات وركعات ودعوات، بل أعظم في واقع الأمر من فرائض وشرائع مما هو من شرائع الإسلام ومن فضائله العظام، إذاً هذا أمر جدير بالاعتبار يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

هذا المقياس والميزان القرآني، كل متاع الدنيا ليس بشيء، وغاية وصفه أنه قليل، أي: دون أن يكون له أثر يذكر، أو مقياس أو مقام أو وزن يمكن أن يقارن بما في الآخرة. وحسبنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) كل الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، ولو عدلت جناح بعوضة لم يسقِ كافراً شربة ماء، هي أدنى من جناح البعوضة، فهل البعوضة عند أحدنا لها قيمة؟ وهل جناحها معروف أو منظور حتى يكون له قيمة؟

لقد ضربها النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة عظيمة في حقيقة الدنيا، فعندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- قال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ من يشتري هذا بدرهم؟ ثم قال: والله لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم)، وقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)، وهذه الفريضة أين يقضيها الناس؟ هل يقضونها في الدور والقصور، أم في الخيام والعراء؟ ماذا يأخذون من دنياهم؟ قليل من الملابس، وشيء من الزاد على قدر الأيام، فإذا انتهت أيامهم تركوا كل شيء وراءهم، ورجعوا إلى ديارهم، وانتقلوا إلى دورهم، وارتحلوا إلى المكان الذي هيئوه وإلى الدنيا التي أسسوها، ذلك هو درس الحج الأعظم في حقيقة الدنيا والآخرة، وهذا درس الأيام الفاضلة التي نرى فيها الفضل والأجر أعظم من الدنيا وما فيها.

التوحد والولاء بين المسلمين

أخيراً بالنسبة لأمتنا بعد ذواتنا أمر مهم، وهو التوحد والولاء، التوحد بين أبناء الإسلام إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يضرب لذلك أمثلة كثيرة، فنقول: (مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)، وعند البخاري في الأدب المفرد: (المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى)، إلى ما هو معلوم من هذه الأحاديث، أمة تجتمع من كل صقع، وبكل لون، ومن كل لغة، على صعيد واحد، بهتاف واحد، ومشاعر واحدة، وخطوات ومسار موحد، ثم بعد ذلك تفترق صفوفها، وتختلف قلوبها، وتتنافر نفوسها، وتتباعد آراؤها، أنى يكون ذلك؟

إن مثل هذه الأيام العظيمة والفريضة الجليلة أعظم ما ينبغي أن نخرج به من فضلها هو هذا التوحد والولاء لأهل الإيمان والإسلام إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ينبغي أن ندرك أن الإيمان والإسلام لا يتحققان فقط بمجرد أداء الصلوات والزكوات فحسب، وإنما بالاصطفاف وراء أمة الإسلام، والنصرة لها، والولاء لأهلها، والبراء من أعدائها، والتخلص والتبرؤ من كل جاهلية وكفر وشرك يخالف أمر الله عز وجل وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، ذلك هو فضل الله عز وجل بهذا الإيمان والإسلام، حول المفترقين إلى مؤتلفين، والمختلفين إلى متفقين، والمتناثرين إلى متوحدين، حول أمة في بقاع الأرض وأصقاعها المختلفة إلى أمة واحدة لا تفصلها الحدود، ولا تحول بينها الحواجز، كان قائلها يقول الكلمة فتتجاوب الأمة من أقصاها إلى أقصاها، ويوم صاحت امرأة: (وا معتصماه)، سير الخليفة جيشاً أوله عند العدو وآخره عند المسلمين وانتصر لها، ويوم صاحت امرأة في بني قينقاع وفي سوقهم تنتصر انتصر لها محمد صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام، وأخرجوا اليهود الذين فعلوا تلك الفعلة النكراء.

وهكذا ينبغي لنا أن ندرك أن حقيقة الانتماء للأمة الإسلامية وللإيمان والإسلام ينبغي أن يكون بالقلب والنفس والفكر مرتبطاً بهذه الأمة، يحزننا ما يحزنها، ويؤلمنا ما يؤلمها، ويفرحنا ما يفرحها، ولا نكتفي بحدود المشاعر، بل نتقدم لتحقيق معنى الولاء بعد المحبة بالنصرة بكل وسيلة ممكنة، وذلك من دروس هذه الوحدة في الفضيلة والفريضة.

نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعوج أنفسنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يمن علينا في هذه الأيام الفاضلة بتعظيم الأجر، ومحو الوزر، وإدراك الفضل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

إن فضل الله عز وجل عندما يسوقه إلينا ورحمته عندما يفتح أبوابها ويشرعها بين أيدينا فإن ذلك فضل من الله عظيم يوجب التذلل له، والتضرع إليه، والإنابة إليه، والانكسار بين يديه، والإقرار بفضله، والشكر لنعمه، والاستحضار لعظمته، والتأمل والتدبر فيما ساقه الله جل وعلا لأهل الإيمان والإسلام، وذلك كله من الأمور العظيمة التي نشعر بها في كل موسم من مواسم الفضل والأجر؛ إذ نتذكر فنفيء إلى الله، ونبكي على ما سلف وما مضى من التقصير والتفريط، ونندم على ما ارتكبنا من المحرمات، وما اقترفنا من السيئات، ونشعر بتفريطنا وتقصيرنا ونتذكر واجبنا تجاه خالقنا سبحانه وتعالى.

ولعل هذا المعلم المهم ينبغي أن يكون حياً في القلوب في كل وقت؛ لأن فضائل الله جل وعلا وإن كانت في هذه المواسم العظيمة في العام كله فإن فضائله في كل يوم وليلة وفي كل لحظة، أليست فضائل الصلوات الخمس -مما هو معلوم ومعروف- تطهر وتكفر الذنوب مرة بعد مرة؟

أليس الله عز وجل ينزل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي عباده: (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه. وذلك الدهر كله)، أليست هذه الفضائل متجددة في كل وقت وآن؟

أليس حرياً بنا أن نرفع أكف الضراعة في كل وقت، وأن نسكب دموع الندامة في كل ليل، وأن نلهج بذكر الله عز وجل وشكره والإقرار بفضله ونعمته في كل لحظة وآن؟

ألسنا نستيقظ في كل صباح فنقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا؟

ألسنا ننغمس في نعم الله، ونغرق في فضله في كل لحظة وسكنة، في كل كلمة لسان نستطيع نطقها، وكل نفس تمتد به حياتنا وتسير به أيامنا، وكل خطوة نمضي بها إلى مصالحنا، وكل رزق يفيضه الله علينا لنتدبر أمورنا، ولنكسب معاشنا؟

أليس ذلك كله مما ينبغي أن تستغل فيه هذه المواسم العظيمة لنخرج بالفوائد المستمرة الممتدة الطويلة التي لا تكون عابرة، ثم نعود من بعد الذكر إلى الغفلة، ومن بعد التذلل إلى التكبر، ومن بعد الإنابة إلى الإعراض؟

ينبغي لنا أن نحول هذه المواسم إلى تغييرات حقيقية في واقع حياتنا؛ لأن الله جل وعلا إنما ساقها إلينا لأجل أن تقومنا مرة بعد مرة، ولأن تصبح بعد ذلك مدداً وعوناً على طاعة الله مستمراً وتذكيراً وتوجيهاً دائماً، وتقويماً وتهذيباً لكل خطأ يقع من الإنسان، فما أحرانا أن نستحضر معنى التذلل لله والالتجاء إليه، كما نتذكر ذلك في المشهد العظيم في يوم عرفات، يوم يجتمع الحشد الهائل والجموع الغفيرة على ذلك الصعيد، كلهم متذللون منكسرون خاضعون باكون راجون خائفون طامعون في رحمة الله، ومستعيذون من غضب الله ومن سخط الله.