الفتح معالم ومواقف


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تضاعف الحسنات، وبعفوه تمحى السيئات، له الحمد جل وعلا يسمع من حمده، ويعطي من سأله، ويزيد من شكره، ويطمئن من ذكره، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

فنسأل الله عز وجل أن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، ونسأله جل وعلا أن يشرح صدورنا لطاعته ومرضاته، وأن يقبل بنا على الطاعات والعبادات دائماً وأبداً في سائر الأيام والليالي؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

وحديثنا عن (الفتح مواقف ومعالم) لأننا في هذا التاريخ نستذكر الفتح الأعظم الذي من الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم أن فتح مكة في العام الثامن من الهجرة النبوية الشريفة في شهر رمضان المبارك، وفي اليوم الثامن كان مبدأ مثل هذا الحدث العظيم.

والحق أننا لا نريد أن نمر على تفاصيل هذا الحدث وما جرى فيه من السيرة النبوية العطرة، غير أننا نقف في بعض المواقف التي نستجلي منها معالم الفتح والنصر لأمتنا في عصرنا الحاضر؛ لأن هدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته هي المعلم الدائم الذي نستنير به في ظلمات حياتنا، والذي نرى فيه معالم الطريق إلى مرضاة ربنا، والذي نأخذ منه المنهج الصحيح لمواجهة الأخطار ومقارعة الأعداء في واقع حياتنا، فإن الله جل وعلا قد من علينا بأن جعل القرآن والإسلام ممثلاً تمثيلاً كاملاً عظيماً في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأرشدنا إلى ذلك ووجهنا إليه كما في قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

وأرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يبين أن كل شيء في حياته للاقتداء فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقال: (خذوا عني مناسككم) وروي عنه: (إنما أنسى لأسن) وغير ذلك كثير.

ونحن اليوم في هذا الواقع الذي تعيشه أمتنا محاطة بأعدائها مخذولة إلى حد كبير من قبل أبنائها، وفيها من التقصير والتفريط إضافة إلى الضعف والهوان ما فيها نحتاج دائماً وأبداً إلى أن نرجع إلى معين السيرة العذب لننهل منه فنروي ظمأ قلوبنا وفهومنا، ونوجه مسيرة حياتنا بإذن الله عز وجل.

صلح الحديبية هو سبب فتح مكة

مواقف شتى في هذا الفتح الأعظم، ولعل أول موقف نشير إليه إشارة سريعة لأنه سابق لهذا الفتح بوقت غير قصير، لكنه مرتبط به وممهد له، ذلك هو أن سبب فتح مكة هو الإخلال من قريش بعهد صلح الحديبية، وصلح الحديبية وضعت فيه الحرب أوزارها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشرة أعوام، وكان سلماً وهدنة، وهنا لمحة مهمة في جوانب كثيرة، لكننا نختصرها في أن القتال والجهاد بحد ذاته ليس هو الغاية في الإسلام، وإنما هو وسيلة لتحصيل المقصد الأعظم والغاية الكبرى، وهي نشر الإسلام وتبليغ دعوته وإقامة الحجة على الخلق ببلاغه، فإن تم ذلك بغير جهاد فبها ونعمت، وإن صد الكفار وأعرض المعرضون واعتدى المعتدون فإن الجهاد وسيلة من وسائل كسر ذلك الطوق وإزالة تلك العوائق، ومنع الذين يصدون عن سبيل الله من الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى دين الله ومعرفة شرع الله سبحانه وتعالى ودينه.

ولعلنا نشير هنا إلى أن الذين دخلوا في الإسلام ما بين الحديبية وفتح مكة -أي: ما بين ذي القعدة من العام السادس إلى رمضان من العام الثامن- كانت عدتهم أكثر من الذين أسلموا قبل ذلك في الأعوام كلها كما هو معلوم في أحداث السيرة، حيث كان الذين جاءوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في الحديبية أربع عشرة مائة، أي ألفاً وأربعمائة، والذين قدموا معه إلى فتح مكة كانوا عشرة آلاف.

وإننا نعلم كذلك أن أجلاء من كبار الصحابة رضوان الله عليهم كان إسلامهم فيما بين الحديبية وفتح مكة، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم من أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم.

نقض قريش للعهد سبب لفتح مكة

الموقف الثاني: هو أن سبب هذا الفتح هو نقض قريش للعهد وممالأتها لبكر على خزاعة الذين كانوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نقضوا العهد برئت ذمة النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء لهم بعد نقضهم، وجاءت العلة والتحلة لرسول الله عليه الصلاة والسلام بأن يتوجه إلى مكة فاتحاً وإلى قريش معاقباً لها على نقضها لعهدها.

والفائدة المهمة لدينا هنا في وقتنا المعاصر هي أن أهل الشرك والكفر لا يوفون بذمة ولا يثبتون على عهد، وذلك أمر مطرد، ودلت عليه الآيات، ونطقت به أحاديث السنة، ولإن كان قد يكون ذلك في بعض الأحوال فإن له أسباباً وأعذاراً أخرى لا تتصل بصدق الوفاء بالعهد، ونحن نعني بذلك العهود والمواثيق التي تكون بين غير المسلمين وبين المسلمين كأمة في أمور عظيمة وفي مسائل مهمة.

وهذا أمر مهم جداً أن يكون لدى المسلمين فيه بصيرة وبصر وعلم ووعي؛ لأن من الناس من ركنوا إلى غير المسلمين، وأسرفوا في حسن الظن بهم، بل وجعلوا من سماتهم وصفاتهم وأخلاقهم ما عظموهم به على أهل الإيمان والإسلام، وربما بالغوا في ذلك مبالغات عظيمة، والذي يشهد لنا به الواقع اليوم -خاصة من اليهود عليهم لعائن الله كما وصفهم الله عز وجل في القرآن- أنهم أشهر من نقض العهود، وأكثر من أخلف الوعود، وإننا نرى في واقعنا اليوم وفيما كتبوا من عهود ومواثيق ومعاهدات ومؤتمرات أن شيئاً منها لم يكن له حظ في الواقع، وليسوا هم وحدهم بل كل أعداء الإسلام على حقيقة هذا الأمر، سيما أصحاب الحكم وأصحاب القوة والبطش في هذه البلاد والحكومات غير المسلمة فإنها لا تفي لمسلم بذمة ولا تقيم له عهداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذلك: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10] أي: حلفاً ولا يميناً ولا ذمة وعهداً.

وذلك أمر ينبغي أن يكون راسخاً في قلوب المؤمنين وفي أفهامهم، وذلك يدعوهم إلى أمرين: إلى وفائهم بعهودهم؛ لأن الوفاء بالعهد من سمات أهل الإيمان والإسلام، ولكن -أيضاً- إلى يدعوهم يقظتهم وتنبههم إلى عدوهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر مغازيه كان دائم التنبه إلى ما يمكر به أعداؤه، ويرصد تحركاتهم، ويجمع أخبارهم حتى لا يصاب على حين غرة، وحتى لا يعرض أهل الإسلام لفتك الأعداء، وذلك شأن الإمام الذي ينصح لرعيته والوالي الذي يقوم بواجبه ويؤدي حق الله عز وجل وحق دينه وحق رعيته فيما ولاه الله سبحانه وتعالى من أمر.

حكم التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام

ومسألة أخرى تنظم في هذا أيضاً، وهي جواز التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام وفيما يحقق مصلحة الإسلام، وفيما لا يقع به مضرة على المسلمين ولا تنازل عن أحكام الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية -وهو الذي كان سبباً لفتح مكة- كانت قد دخلت خزاعة في عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حليفة له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل خزاعة عيبة نصحه، أي: يثق بهم لما علم من صدقهم في جوانب تعاملهم معه، فعاهدهم وحالفهم، وكانوا معه عليه الصلاة والسلام.

إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون عن ضعف أو ذل أو هوان للمسلمين، ولا ينبغي أن يكون فيه إعطاء دنية في الدين، ولا ينبغي أن يكون ذلك على حساب مصالحهم وتحقيق أمور دينهم، فضلاً عن أن يكون ذلك تغييراً في أساسيات وثوابت من شرع الله عز وجل، سواء ثبتت في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ونحن نرى اليوم من يحتجون بالآيات القرآنية، لكنهم لا ينزلونها تنزيلها الحقيقي الصحيح، ولا يطبقونها التطبيق العملي الذي كان أنموذجه الأمثل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61] لكن الله جل وعلا يقول: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين في سيرته مثل ذلك، فهذه مواقف بين يدي الفتح، أي: قبل بلوغه.

موقف قريش بعد نقضها لعهد الحديبية

الموقف الثالث هو موقف عظيم يكشف لنا عن مسألة مهمة نحتاج إليها، وهي أن قريشاً عندما وقع منها نقض العهد بإعانتها لبكر على خزاعة ومدها بالسلاح -وفي بعض الروايات أن بعضاً من قريش شاركوا في القتال- علمت أن هذا الأمر سوف يكون سبباً في أن النبي صلى الله عليه وسلم ينصر من حالفوه وهم خزاعة، فأرسلت قريش أبا سفيان إلى المدينة ليحول بين ذلك النقض الذي نقضته قريش وبين ما يترتب عليه من نصر النبي عليه الصلاة والسلام لخزاعة، فذهب أبو سفيان في مفاوضة يريد فيها من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعتذر عما وقع، وأن يمدد الصلح مرة أخرى لعشر سنوات قادمة، فلما قدم إلى المدينة أراد أن يستشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن هذا الأمر الذي أحدثته قريش أمر عظيم لا يجرؤ أبو سفيان أن يخاطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

فذهب أول ما ذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يريده أن يكون وسيطاً له حتى يدخل به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يحدثه في أمر الاعتذار عما وقع والتجديد لما مضى من العهد، فأبى علي رضي الله عنه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على أمر لا نعلمه، ووالله لا أكلمه في ذلك. وكان قبل ذلك أو بعده -على اختلاف في روايات السيرة- قد مضى أبو سفيان إلى أم حبيبة بنته، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليها طوت الفراش عنه، فقال: أرغبت بي عنه، أم رغبت به عني؟ يعني: هل طويت الفراش لأنه لا يليق بي فستأتيني بأحسن منه، أم أنك طويت الفراش لأنه لا يصح أن أجلس عليه؟

فقالت له: إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ كافر، ولما رأى ذلك، قال: لقد أصابك بعدي شر يا بنية!

وذهب إلى أبي بكر فرده كذلك، ثم ذهب إلى عمر، وكان خطأ فادحاً من أبي سفيان أن ذهب إلى عمر، وعمر هو من هو في شدته على المشركين والكافرين وعلى أعداء الإسلام أجمعين، فقال له: أتستشفع بي إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به. فعلم أبو سفيان أنه لا أمل له في ذلك فرجع.

وهنا أمر مهم، هو أن المسلمين على قلب رجل واحد، وأن رأيهم وقولهم مرتبط بقيادتهم التي تمتثل لدينهم وترعى مصالحهم، ولذلك كلهم أعرض عن أبي سفيان، ولم يجد أبو سفيان مدخلاً ينفذ به في المسلمين، بل وجد الأبواب كلها موصدة محكمة، ولم يستطع أن يدخل من عاطفة قرابة مع ابنته، ولا من عاطفة صداقة مع بعض الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ووجد أن الأمر محسوم وأنه لا مجال لشيء من ذلك.

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيوشه إلى مكة

وأما الموقف الرابع فهو من المواقف المهمة أيضاً في واقعنا المعاصر:

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مضى إلى فتح مكة دعا القبائل، وحث المسلمين على أن يخرجوا معهم، فخرجوا في جمع عظيم لم يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله مثله قط، بل ربما لم تشهد الجزيرة مثله قط، وقد مضى إليهم في نحو عشرة آلاف، وصف القبائل كل قبيلة مع بعضها، وكل قبيلة لها زعيمها ولها رايتها، وعندما جاء إلى فتح مكة وعسكر خارجها، وأضرم جيشه النيران بالليل، وجاء أبو سفيان في حماية العباس بن عبد المطلب، والعباس -أيضاً- ممن أعلن إسلامه فيما بين الحديبية وفتح مكة، والروايات تقول: إنه أسلم قبل ذلك، لكن لم يكن هناك عمل ظاهر من العباس يعلن به إسلامه إلا في هذه الفترة.

فجاء بـأبي سفيان يردفه معه، وكان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن استعرض الجيش، وكان الجيش يمر كتيبة كتيبة، وقد حبس أبا سفيان في بطن الوادي حتى يرى هذا الاستعراض العسكري العجيب، فكانت القبائل تمر وأبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ فيقول العباس : هؤلاء مزينة. من هؤلاء؟ هؤلاء أسلم... إلخ، فقبائل العرب كلها قد كان الإسلام قد فشا فيها ودخل في أبنائها، وأبو سفيان ينظر بتعجب وبرهبة وبشيء من التعظيم والإجلال، وهو ما يزال يرى هذه الفرق والكتائب تتابع، حتى مرت الكتيبة الخضراء، وكان جنودها يلبسون الدروع ويلبسون الأقنعة، لا يرى منهم إلا العيون من أحداقها، وكان ذلك قصد من الرسول عليه السلام، فلما رأى أبو سفيان هؤلاء قال: من هؤلاء؟ قال له العباس : هؤلاء كتيبة المهاجرين والأنصار من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان كلمة عظيمة، قال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل! أي: هؤلاء لا يمكن أن يواجههم أحد، فهذا جيش لا يمكن أن يثبت ولا أن يصمد أمامه ولا أن يواجهه أحد، والهدف الأعظم هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل الرعب في قلوب كفار قريش حتى يهزموا هزيمة نفسية، وحتى لا يقاتلوا ولا يواجهوا، تعظيماً من النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة البيت، وحفاظاً على حرمة مكة المكرمة.

وهنا نستحضر قول الله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] فامتلاك المسلمين للقوة أمر مطلوب، لا لمجرد الدفاع عن أنفسهم، بل لإرهاب أعدائهم حتى يكون ذلك توطئة لأمور عدة، من أهمها أن لا يفكروا في العدوان على الإسلام وأهله، ولذلك ذكر الفقهاء أن من واجبات الإمام أن يغزو بالمسلمين ولو في كل عام مرة، ومن واجباته تأمين الثغور، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا لم يكن ذلك كذلك تجرأ الأعداء فاعتدوا على بلاد المسلمين، وانتهكوا بيضة الإسلام وأهله.

ومن هنا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين في هذا الموقف أن المسلمين لا تعوزهم القوة، ولكن هنا نقطة مهمة، وهي أن القوة عند أهل الإسلام مأمون شرها وضررها، فلا تستخدم إلا فيما يحقق الخير والمصلحة العامة للخلق، حتى وإن كان فيها قتل وقتال فإنها تقتل الأشرار، وتقتل البغاة، وتقتل المعتدين، وتقتل الذين يجترئون على دين الله عز وجل، وتقتل الذين يصدون الناس عن دين الله عز وجل، فلماذا نرى في عالم اليوم أن القوة محرمة على المسلمين وأنها مملوكة لغيرهم، مع أن غيرهم قد أثبت الواقع أنه استخدمها في كل ما هو محظور ومحرم، لا في ديننا وإنما في الشرائع والأنظمة التي يقولون: إنها دولية أو عالمية. وهذا كله ثابت في واقع الناس، ولكن حقيقة الأمر أنّ المراد أن لا يكون عند المسلمين قوة يستطيعون بها الامتناع من عدوهم ومواجهة خصومهم، فضلاً عن أن يكون ذلك سبباً في إرهابهم لأعدائهم أو قدرتهم على الانتصار عليهم.

ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأسباب القوة والقتال في صور شتى، ومنها أنه بعد فتح مكة استعمل في الطائف لأول مرة ما عرف بعد ذلك بالمنجنيق، وهي الآلات التي تقذف الحصى، أو تقذف كتلاً من النيران إلى مسافة تبلغ الحصون التي كانت في ذلك الوقت، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأسلحة، لماذا؟ لأخذه بأسباب القوة وحصول المقصود والغاية، وهذا أمر مهم، فنحن قد قلنا من قبل: إن الواقع يثبت لنا أن العدوان وأن القتلى وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وهدم البيوت وكل المحرمات في الأعراف الدولية -كما يقولون- فضلاً عن الأحكام الشرعية عندنا إنما وقعت بكثرة كاثرة في قديم التاريخ وحديثه، وفي واقع اليوم من قبل غير المسلمين، وإن وقعت من المسلمين فإن نسبة ذلك لا تذكر بالنسبة لما وقع من غير المسلمين، سواء في ذلك العدوان الذي نعلمه لعقود متطاولة في فلسطين، أو العدوان قريب العهد على أفغانستان والعراق، أو العدوان السابق لذلك في البوسنة والهرسك، أو في غير تلك البقاع المختلفة، فإنا واجدون ذلك كذلك واضحاً وبيناً.

الثقة بنصر الله عز وجل

الأمر الأخير الذي نختم به والذي نحتاج إلى أن نتدبر فيه ينقسم إلى قسمين، وكلاهما متعلق بعقيدة المؤمن ويقينه:

الأول منهما: الثقة بنصر الله عز وجل، واليقين بتحقيق وعده، قال الله عز وجل: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] ، وقال جل وعلا: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] ، وقال سبحانه وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] كل هذه الوعود صادقة لا تتخلف، إنما الذي يتخلف فعل المسلمين، فلا تأتيهم حينئذ تلك الوعود؛ لأنهم لم يأتوا بالشروط.

ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في مكة عشرة أعوام، وظل بعد ذلك يجاهد ويكابد المشاق أعواماً أخرى، وخرج من مكة مهاجراً ومطارداً، وخرج لا يملك شيئاً من الدنيا، وكل المؤشرات المادية كانت في غير صالح المسلمين.

ولو قسنا ذلك بالزمن لرأينا أنه عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً طريداً وعاد إليها فاتحاً عزيزاً بعد ثمانية أعوام، فما هي في عمر الزمان؟ إنها مدة قصيرة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك مالاً ولا يملك سلاحاً، والمسلمون في ذلك الوقت قلة لا يؤبه لها، والأجواء المحيطة بهم والقبائل التي من حولهم كلها على الكفر والشرك.

ثم لم يكن النصر في هذا العنصر المادي بقوة المسلمين أو كثرة جيوشهم، بل ما فتحوا مكة إلا بعد أن فتحوا قلوباً كثيرة وعقولاً كثيرة، ودخل في الإسلام من القبائل ومن الناس أعدادٌ هائلة عظيمة، وبعد العام الثامن في العام العاشر عندما حج النبي عليه والسلام حجة الوداع كان معه ما يزيد على مائة ألف نفس من أصحابه الذين حجوا معه.

لقد فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم القلوب والعقول قبل أن يفتح البلاد والدور والحصون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

فنحن -إذاً- لابد من أن نعظم اليقين بنصر الله عز وجل، خاصة في هذه الظروف، فبعض الناس اليوم يقول: كيف سينتصر المسلمون؟! أمريكا الدولة العظمى في العالم والأمم المتحدة ضدهم، والأسلحة عابرة القارات!

كأن بعض الناس نسوا أن هناك قرآناً يتلى، ونسوا أن هناك سنناً، ونسوا أن هناك قوة عظمى وهي قوة الله عز وجل القائل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

وفي يوم الأحزاب اجتمع على المسلمين شدة الجوع وشدة الخوف وشدة البرد، وجيش المشركين يحيط بهم من كل جانب، وقريظة نقضت العهد، وأصبح المسلمون محاطين من كل جانب، وليست عندهم حيلة ولا قوة، فما الذي جرى؟

يقين بنصر الله، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام وبشر أصحابه بالنصر، ثم جاءت الريح فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وقلعت الخيام، وطردت أولئك الكفرة والمعتدين وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25] ، وبعدها قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اليوم نغزوهم ولا يغزونا)، فلم يكن النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج من مكة وهو مهاجر طريد عنده أدنى شك في أنه سينصر بإذن الله، وأن كلمته ستعلو، وأن دينه سينتشر، وأن رايته ستخفق، وأن دولته ستعم بقاع الأرض كلها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ديني سيبلغ ما زوي لي منها).

فنحن اليوم في حاجة إلى أن نزيل هذا الوهن الذي سرى إلى النفوس، واليأس الذي تسلل إلى القلوب، واستعظام قوة الخلق ونسيان قوة الخالق، ونقول للذين أصبحوا اليوم يفتون في العضد ويقولون لنا: كونوا واقعيين، فماذا تريدون أن تفعلوا؟ وماذا يفعل هؤلاء الفلسطينيون في فلسطين؟ إنهم يزهقون أرواحهم، ويسفكون دماءهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، ثم لم ينجزوا شيئاً.

نقول: سبحان الله! ننسى قوة الله عز وجل، وننسى قوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وننسى كيف نصر الله رسوله في يوم بدر، وكيف نصر المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام! بل إلى قريب من عهدنا هذا في حرب رمضان التي انتصر فيها المسلمون على اليهود في أول هذه المعارك.

فلماذا نغفل عن ذلك كله؟! درس الفتح يعلمنا أن الدائرة تدور وأن الأيام تتوالى، وأن الأعوام تكر، وأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للمؤمنين ولو بعد حين.

النصر ليس مدعاة للكبر

الأمر الثاني المصاحب لما سبق أن نصرنا لا يؤدي إلى كبر، وأن نصرنا لا يقود إلى خيلاء، وأن نصرنا لا يؤدي إلى فتنة النفوس بالإعجاب، ولا إلى الطغيان الذي يكون مع المنتصرين من غير أهل الإيمان والإسلام.

لما دخل النصارى بيت المقدس عام اثنين وتسعين وأربعمائة من الهجرة قتلوا في داخل المسجد وفي أنحائه نحواً من سبعين ألف نفس، حتى خاضت ركب الخيل في الدماء.

وفي يوم دخول التتار إلى بغداد قتلوا نحو ثمانمائة ألف نفس، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف نفس. كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، واستحر القتل بأهل بغداد أربعين يوماً حتى سالت ميازيب البيوت من دماء المسلمين، وحتى بلغ نتن الجيف من أرض بغداد إلى بلاد الشام، وذلك هو طغيان النصر.

لكن انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دانت له مكة التي استعصى عليه أهلها، مكة التي كان أهلها أشد الناس إيذاءً له، مكة التي كانت مؤلبة ومحرضة عليه للقبائل، ولكل الأعداء الذين سعت قريش إلى أن تجعلهم في صفها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، دخل عليه الصلاة والسلام مطأطئاً رأسه تواضعاً لله عز وجل، وفي بعض الروايات: (حتى مست لحيته ظهر دابته) عليه الصلاة والسلام، دخل وهو المنتصر لا في نشوة المنتصر، بل في ذلة العابد الحامد لربه سبحانه وتعالى، ولذلك لم تطغ نفسه، فلم يأت بالناس ليقص رقابهم ويسيل دماءهم، بل عفا عنهم، وجاءه من هرب كـحكيم بن حزام وغيره، وجلسوا بين يديه يلتمسون عفوه فوجدوا نفسه سمحة بذلك، إلا من كان عدواً لله ولرسوله، من اجترأ على دينه أو سب وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأولئك بضعة نفر في أعلى روايات السيرة أنهم تسعة أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأمر بقتلهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة.

لكن جمهور أهل مكة ما أصاب أحداً منهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام ضر، ومكة نفسها ما هُدِم فيها بيت، ولا قلعت فيها شجرة، ولا أضرمت فيها نار، تلك هي انتصارات الإسلام، ولعلنا نستحضر يوم السابع والعشرين من شهر رجب في العام السابع والثمانين بعد الخمسمائة من الهجرة يوم دخل صلاح الدين منتصراً إلى بيت المقدس في يوم جمعة، ولعلنا نتذكر الخطبة التي خطبها القاضي الفاضل ، وكلها تذكير بفضل الله، وإقرار بنعمة الله، واعتراف بضرورة شكر الله، ولعلنا نعرف صنع صلاح الدين الذي قضى دهراً طويلاً من عمره مرابطاً في جهاده في سبيل الله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2909 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2535 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2535 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2453 استماع