الأمة المسلمة بين التميز والتميع


الحلقة مفرغة

الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، ومن سأله مخلصاً أعطاه، ومن طلب الهداية منه هداه، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، له الحمد كثيراً طيباً كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الذي أرشد الله به من الغواية، وهدى به من الضلالة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! الأمة المسلمة بين التميز والتميع، قضية مهمة في واقعنا المعاصر، هل أمة الإسلام متميزة أو متميعة؟ متفردة أو متشبهة؟ مستقلة أو تابعة؟ مكتفية أو متسولة؟

اليوم والأحوال مضطربة، والرؤى غائمة، والأفكار حائرة، والقضايا متبلبلة؛ يجد المرء المسلم لزاماً عليه أن يؤكد حقيقة تفرد وتميز واستقلال واكتفاء أمة الإسلام؟

أليست هي أمة الكتاب المحفوظ إلى قيام الساعة؟

أليست هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين إلى قيام الناس لرب العالمين؟

أليست هي أمة الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان؟

إن هذه القضية مهمة ندخل إليها فيما نحن بصدده في هذا الوقت العظيم والأيام المباركة.

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوموا يوم عاشوراء خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وقد ذكر ابن حجر المراد من ذلك فقال رحمه الله: لما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام، أحب عليه الصلاة والسلام مخالفة أهل الكتاب. وقال بعض الشراح: وأقل أحواله الدلالة على الاستحباب.

وروى مسلم في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومن التاسع) فمات عليه الصلاة والسلام قبل ذلك. قال الشراح: ظاهره أنه كان يصوم العاشر، وهم بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح.

وقال النووي رحمه الله: قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر وهم بصوم التاسع.

وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر -شهر رمضان).

وعند مسلم في صحيحه بيان الأجر العظيم لصوم هذا اليوم العظيم، قال في حديث طويل عليه الصلاة والسلام: (وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).

وعن حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: (أربع لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن: صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة) رواه النسائي في سننه.

ومما ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فإذا بيهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك، قالوا: يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بموسى منهم) وردت الروايات كما أشرنا بصيام يوم قبله أو بعده، معللاً ذلك ورابطاً إياه بمخالفة اليهود، وهنا مقصد من مقاصد الشرع كما ذكر ابن حجر وغيره من الشراح، فما حكمته وما علته، والأمر عبادة وطاعة، وصيام وقربة، وحمد وشكر لله تعالى؟ إن المقصد هنا تميز أمة الإسلام وتفردها بالكمال، وأنه ما من خير إلا وهي أحق به من غيرها.

ومن هنا لما فعلوا هذا الفعل، وذكروه على سبيل الشكر لله عز وجل، بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين فعلوا ما فعلوا مع موسى عليه السلام من المخالفات والمعارضات التي قد قص الله علينا جزءاً كبيراً منها، وفعلوا مع غيره من الأنبياء ما فعلوا لا يغني عنهم هذا التمسح الظاهر، وهذا السمت المخادع من موافقة في جانب ومخالفة في جوانب أخرى، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنا معاشر المسلمين أحق بموسى منهم، فنحن نؤمن به ونجله، ونقدره ونعظمه، كغيره من الرسل والأنبياء: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة:136]، نحن أولى بكل خير وحق وعدل، نحن أمة الإسلام التي أكمل الله لها الدين، وأتم عليها النعمة، ورضي لها الإسلام ديناً: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة.

منها: ألا يكون لأولئك القوم المتكسبون بدين الله، المتحايلون على شرائع الله مدخلاً لإثارة الشبهات، فإنهم يقولون: إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديانتنا وكتبنا، فيبلبلون العقول والأفكار، ويروجون الشبهات، وذلك ديدنهم، بل بعد هذه الآيات قد أورد الحق سبحانه وتعالى قوله جل وعلا: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، لأنه لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم زماناً إلى بيت المقدس، وجعلها قبلته، ثم تحول قالوا مقالتهم: إما أن يكون على حق في الأولى فهو على باطل فيما قصد إليه من التوجه للكعبة، وإما أن يكون على باطل فأي دين هذا الذي يكون فيه الخلل والخطأ؟! فرد الله عز وجل عليهم أن ذلك أمر الله وهذا حكمه، وجعل ذلك تميزاً وتفرداً لأمة الإسلام.

وإذا نظرنا فإنا واجدون حكماً أخرى:

منها كذلك: بيان زيادة الفضل والمثوبة والأجر لأمة الإسلام بزيادة العمل الصالح.

ومنها كذلك: منع تسرب الأثر السيئ للموافقة؛ لأن طبيعة النفوس إذا وافقت في أمر وآخر وثالث فإنها تميل بعد ذلك إلى موافقة عامة، وإلى تأثر كبير، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر ذلك.

وليس هذا في هذا الوجه فحسب، فقد روى أبو داود في سننه من حديث شداد بن أوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في نعالكم خالفوا اليهود).

وقصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: (خالفوا المشركين) في رواية البخاري ، وفي رواية مسلم (خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد، وأن الذي وقعت به المخالفة هو الكمال الأتم والأفضل؛ لأنه لا يكون في هديه صلى الله عليه وسلم وسنته إلا ما هو الأعظم في تعظيم الله عز وجل، والأفضل في عبادته سبحانه وتعالى.

فإذا كان هذا المقصد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في هذا المقام وفي هذه الأيام نذكر بهذه السنة الجليلة العظيمة بصيام عاشوراء، ويوماً قبله أو يوماً بعده، وقد قال أهل العلم: إن صيام الثلاثة أرجح، وصيام التاسع والعاشر بعده، وإفراد العاشر وحده لمن لم يستطع درجة ثالثة، ولم يرد صيام العاشر والحادي عشر وحده، وإن كان فيه المخالفة؛ لأنه وإن كانت فيه المخالفة فإن القصد الأعظم إنما هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) عليه الصلاة والسلام.

نحن قصدنا بيان أمر المخالفة التي تظهر التميز والتفرد، فوقفات مع قليل من الآيات، ولها نظائر كثيرة لمن تأمل وتمعن.

يقول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]، آيات واضحات، (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) نهي عن لفظة بكلمة واحدة، ما جلالتها وخطورتها؟ ما أهميتها وعظمتها حتى تتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم قيام الساعة؟!

(لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)، لم نبدل كلمة مكان كلمة؟ وهل هذا أمر جليل حتى يكون فيه مثل هذا التوجيه المصدر بالنداء الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟!

استمع معي إلى ابن كثير في تفسيره وهو يجلي لنا ذلك، يقول رحمه الله: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا -وهذا لفظه بنصه- يعانون من الكلام ما فيه تورية؛ لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله! فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، يورون بالرعونة، يقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، ينتقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل عن ذلك. قال ابن كثير : وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: هو الموت، قال: والغرض أن الله نهى عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً.

فهذه الكلمة لما كان فيها مدخل موافقة، ومزلة اختلال في المعنى، وإرادة إشاعة من اليهود -عليهم لعائن الله- نهانا الله عنها، وأمرنا أن يكون لنا غيرها حتى نتميز ونتفرد، وحتى نبتعد عن كل شبهة ورذيلة كان عليها أولئك القوم، بدلاً من (راعنا) قولوا: (انظرنا) وهي كلمة لا التباس فيها ولا اشتباه، كلمة مكان كلمة، ومع ذلك أمر الله عز وجل بها، وتنزلت بها آياته، فما بالكم بما هو أعظم من ذلك وأجل؟!

قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: نهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سداً للذريعة؛ لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، فمطلوب منا أن نقطع الطريق على كل من يريد الإساءة إلى ديننا وإلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقصد إلى ذلك بالطرق الملتوية، والأساليب المخادعة.

ورد: (أن الفاروق عمر بن الخطاب وقعت في يده بعض صحف من التوراة، فحملها ليقرأ منها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحمر وجهه، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ويحك والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي).

ما أغضبك يا رسول الله من صحف يقرؤها الفاروق الذي أخبرت أنه: (ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره)؟ أويخشى على الفاروق أن يتأثر بتلك الكلمات في تلك الكتب؟!

كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في زمان التشريع، وبيان التأصيل للاعتقاد والمبادئ الإسلامية يقول: إن الكمال المطلق فيما آتاني الله عز وجل، وإن الرسل والأنبياء كما أخبر الله عز وجل قد أخذوا العهود والمواثيق على أتباعهم إن أدركوا يوم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به ويتبعوه.

وأنتقل بكم إلى آية أخرى أكتفي بها عن آيات كثيرة، يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية العظيمة الجليلة:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء:44-46] هذا هو وصفهم، وأنتقل بكم إلى بيان معاني هذه الآيات من كلام ابن كثير في تفسيره، يقول رحمه الله: يخبر تبارك وتعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الآخرين عليهم السلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يودون أن تكفروا بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) وهذا إخبار على سبيل التحذير. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) لا يريدون بكم خيراً، ولا يقصدون بكم حسناً، وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى ويحذركم منهم.

ثم بين وصفهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله؛ قصداً منهم وافتراءً، فالذين أولوا وغيروا مراد كلام الله عز وجل ما بالهم لا يغيرون المواثيق والقوانين وصيغ الاتفاقات والقرارات الدولية التي في كل يوم يصدر لها تفسير جديد وتأويل آخر؟ وذلك لا يستغرب على قوم حرفوا كلام الله عز وجل.

ثم يقول الله جل وعلا: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) سمعنا قولك -يا محمد- ولا نطيعك فيه، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم. (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع كلامنا ولست بسامع، وذلك على سبيل التنقص والاستهزاء، اسمع ما نقول لا سمعت على سبيل الدعاء، وهذا استهزاء منهم واستهتار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين!

بين ما أشارت إليه الآية السابقة: (وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) تحويراً وعطفاً للألسنة لتغيير الكلمات. (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ولذلك حذرنا الله عز وجل من هذا.

ثم قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: وقال القاضي أبو محمد : هذه الآية تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود في سؤالهم عن الدين أو في موالاة أو فيما أشبه ذلك.

هذه وقفات وومضات مختصرات من آيات يوجد غيرها كثير، تبين أهمية قضية التميز والتفرد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه والتحذير منه: (من تشبه بقوم فهو منهم) وكثرت النصوص والآيات والأحاديث المحذرة من تلك الموافقات هنا أو هناك، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يكون من طائفة من أمته في آخر الزمان: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: فمن غيرهم؟

هذه آيات الله عز وجل وكلامه، وهذه أحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذه المقاصد الواضحة الجلية، والعلل النصية الشرعية؛ أفيترك ذلك كله لألاعيب السياسة، أو لأضاليل الإعلام، أو لمتطلبات الاقتصاد أو لغير ذلك؟!

لو تأملنا اليوم واقعنا فأي شيء نرى في تميز الأمة على المستوى العام في جانب السياسة؟!

قضية السلام تقول لنا: كونوا كغيركم لا فرق بينكم وبينهم، بل غيروا كلمات ألسنتكم، وعدلوا مناهج دراستكم، وأصلحوا وسائل إعلامكم؛ حتى لا يكون هناك كلمة واحدة، بل ولا مصطلح واحد يؤذي القوم في مشاعرهم، أو يثير -كما يدعون- العنصرية والحزبية ونحو ذلك، وأي شيء يفعله اليهود الغاصبون المعتدون؟ تقوم الدنيا وتقعد، وتفتح المحاكم وتغلق، والعمل سائر كأن لا شيء في هذه الدنيا؛ لأن القوم يعملون ولا يتكلمون، ولأنهم يحسنون الظلم والعدوان ولا يعرفون معاني حقوق الإنسان، وإذا تأملت فإنك تجد مفارقة عظيمة بين ما يقوله أرباب السياسة من العرب والمسلمين في كلام يتبرءون منه من كل مقاومة، ويبرءون إلى الله عز وجل من كل مخالفة، ويتزلفون ويتقربون بكل موافقة، ويعطونهم كل تنازل ومداهنة، وأما أعداؤهم فلا تسمع منهم إلا مفاصلة، ولا ترى منهم إلا مقاطعة، وهم يعلنون صباح مساء كل ما هو من أصل دينهم، ومن طبيعة حقائق نفوسهم، ومن مصالحهم العليا التي يحرصون عليها ولا يفرطون فيها.

أين تميز الأمة المسلمة اليوم في هذا الميدان المهم؟! ولو أردنا أن نفيض لرأينا من السنة في مواقف النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مواقف الصحابة في كل المراحل وعبر تاريخنا، ما يدل على أن الأمة المسلمة لم تكن يوماً تعطي الدنية في دينها، ولا تبيع دينها لتشتري به ثمناً قليلاً، فتوافق من حذرها الله سبحانه وتعالى من سلوك طريقهم، وهم اليهود عليهم لعائن الله، الذين اشتروا بدين الله ثمناً قليلاً؛ وباعوا آياته لتحقيق مآربهم وشهواتهم وتسلطهم على الخلق والعباد أجمعين.

وإذا جئت إلى ميدان الإعلام وما أدراك ما الإعلام! وهذه الفضائيات المتكاثرة تكاثر الجراثيم والبكتريا، أي شيء تبث علينا؟ هل تريدنا أن نكون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! هل تذكرنا بـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟! هل تبرز لنا القدوات في مصعب وخالد والمثنى والمقداد ؟ ماذا تصنع بنا؟ تأتينا بمسخ من فرنسا، وتأتينا بقبح من بريطانيا، وتأتينا بعهر من أمريكا، ثم تبثه علينا، تريد أن تقول لنا: كونوا كهؤلاء، وصيروا مثلهم، أليس هذا درب واضح من دروب التشبه والموافقة والتشهير والإعلان والإذاعة والإشاعة لتلك الأخلاقيات والعادات والرذائل الاجتماعية عند القوم؟

كيف يجتمع شباب وشابات تحت سقف واحد أياماً وليالي، آكلين شاربين، مع الضحكات والعناقات والقبلات وغير ذلك؟ ثم يزعم أولئك أنهم عرب وأنهم مسلمون، وينفقون أموالاً من أموال المسلمين ومن كسبهم وهم من أهل العروبة والإسلام، نسأل الله عز وجل أن يهديهم وأن يكفينا شرهم.

أي عقل هذا؟ أي فعل هذا؟

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2] كأننا عدنا إلى حال اليهود نحن اليوم، بهذا الفعل نخرب أخلاقاً، وندمر عادات وأعرافاً، ونخترق حقائق الإيمان وثوابت الاعتقاد، ونذيب معالم الفضيلة والحشمة والحياء، بماذا؟ باختيارنا؟! نعم، بأموالنا؟! نعم، وللأسف بتشبهنا واقتدائنا بغيرنا، حتى في الفسق والفجور لم يكن عندهم قدرة أن يكونوا فاسقين إلا على سنن أسيادهم وقدواتهم من أولئك القوم شرقاً وغرباً.

ولو جئت في ميادين أخرى لوجدت الأمر كذلك، انظر إلى أحوال الاقتصاد في بلاد الإسلام، والربا ضارب أطنابه في جل بقاعها، والمعاملات المحرمة من القمار الذي يذاع على تلك الشاشات الفضية، والمسابقات المتضمنة للرهان والقمار والمحرمات، أصبحنا كأن لا فرق بيننا وبين شرق ولا غرب، ولا يهود ولا نصارى، ولا مشركين ولا مجوس، أي شيء يريد هذا الإعلام وهذا الاقتصاد أن يجرنا إليه؟! أين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين أمة القرآن الكريم؟ أين أمة السنة المطهرة؟ أين أمة السلف الصالحين؟ أين أمة الأخلاق والفضائل؟ أين أمة المبادئ والعقائد؟

حري بنا أيها المسلمون أن ندرك الخطر وأن نجتنبه، وأن نحذر منه وأن نحذر غيرنا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا الشرور والآثار والمفاسد العظام، وأن يمن علينا بالتشبث بنعمة وشريعة الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.

وإن ما ذكرناه -معاشر الإخوة المؤمنين- من قصد المخالفة والتميز والتفرد، وما أشرت إليه من هذه الأحوال المخالفة في واقع أمتنا، لا نذكره تأييساً للنفوس، ولا تقنيطاً لها، لا من رحمة الله ولا من تغيير هذا الواقع، فإن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وإننا اليوم مع تعاظم هذه الصور المنكرة، والتيارات الجارفة نرى بحمد الله يقظة في القلوب والعقول تؤدي إلى الاعتصام بدين الله كتاباً وسنة، وإلى التحرز من هذه الموجات التغريبية التي تجر الناس بعيداً عن حياض دين الله عز وجل، ولذلك إنما نقول هذا لنبعث الهمة على المخالفة، والقوة في الثبات في مواجهة التيارات التي تذيب وتغير كل خصائص أمتنا؛ لتنزعها وتجعلها مع القوم دون أن يكون لها أي أصالة، ولا أي قوة، ولا أي ثبات، ولا أي قدرة على التأثير الإيجابي في غيرها.

ومن جهة أخرى نذكر بها لنحذر من خطر هذه الهجمة، وعدم التهاون فيها، وعدم النظر إليها على أنها ضروب من الأفكار، أو على أنها مشاريع للاستثمار أو نحو ذلك، فإننا لا نحسب أن العاقل المتأمل ينظر إليها إلا ويرى فيها قصداً لإماتة الغيرة، وإضعاف التميز في هذه الأمة بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، ثم كذلك لننظر إلى أمر مهم وهو عدم السماح باختلال الموازين، واختلاف المقاييس، فلا نوافق ما يشيع في الإعلام، ولا ما يتردد في أروقة السياسة، عن أولئك النفر الذين ما زالوا هم المعادلة الراجحة في واقع أمتنا اليوم في أرض فلسطين، من الثابتين يوم تراجع غيرهم، ومن القائمين بالحق يوم داهن الناس فيه وتخلوا عنه، ومن المتصدين لإعلاء كلمة الله عز وجل يوم ترك ذلك كثير من المسلمين، ومع كل مواقفهم العظيمة في وجه اليهود المعتدين الغاصبين الظالمين، في كل مواقف القوة والإيمان والجرأة؛ نرى من يتهمهم بأنهم انتحاريون، وبأنهم يضيعون مصالح الأمة، وبأنهم لا يقدرون ظروف السياسة، وبأنهم لا يعرفون أوضاع الاقتصاد، وبأنهم كذا وكذا، ويتداولون كلمات الإرهاب وغيرها من المصطلحات، فإذا بها تروج بيننا، وتتردد عندنا، ولا نكاد ندرك أهمية مواقفهم وأهمية وضرورة ووجوب إسنادهم وإعانتهم، فإنما هم صف متقدم في وجوه العدو الأكبر الذي يتربص بنا اليوم الدوائر من كل جهة، وعبر كل وسيلة وطريقة من سياسة واقتصاد وإعلام واجتماع وغيره، فينبغي لنا أن ننتبه لذلك، وأن نعرف لأولئك القوم فضلهم وأثرهم، وأن يكون لنا على أقل تقدير بأعماق قلوبنا وصادق دعائنا فضلاً عن نصرتنا بكل حال من الأحوال ما يثبتهم، وما يجعلنا أيضاً نعتز بذلك ونفتخر، ونرى نموذجاً إن كان الآخرون في أقصى الأرض وشرقها قالوا: إن الضغوط قد أجبرتنا على أن نغير أو أن نبدل هنا أو هناك، فما بال الذين هم في جوف المحنة وفي شدة القسوة ثابتون! ثبتوا فثبتهم الله عز وجل، ونصروا دين الله فنصرهم، وأصبحوا حجر عثرة تدور الأحداث كلها على مدار وعلى محور هو: كيف يتم التخلص من هؤلاء؟! وكل هذه الأراجيف والأحابيل والألاعيب السياسية والاقتصادية إنما تدور على هذا المعنى.

فالله الله في دينكم! والله الله في أمتكم! والله الله في كتاب ربكم! والله الله في سنة نبيكم! والله الله في إخوانكم المجاهدين الثابتين على مواقع الثغور في أرض فلسطين وفي غيرها!

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.

اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يارب العالمين!

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء!

اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين!

اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعين يا رب العالمين!

اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.

عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].