الإيمان والأمان في مواجهة الحرب والعدوان


الحلقة مفرغة

الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، وهو أهل الحمد والثناء؛ فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، المرسل إلى الناس كافة أجمعين، خاتم النبيين والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد: سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير مصالح تجمعنا، ولا أرحام تقربنا؛ أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إخواناً على سرر متقابلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن، وأن يرد عنا وعن المسلمين كيد الكائدين، وأن يدفع عنا شرور المعتدين، وأن يسلم ديار المسلمين، ويحقن دماءهم، ويحفظ أعراضهم وأموالهم، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.

يتجدد بهذا درس متقطع رقمه: السابع والسبعون بعد المائة، وعنوانه: (الإيمان والأمان ومواجهة العدوان).

إننا ونحن نعيش هذه الظروف العصيبة، والتكالب الرهيب، والعدوان الظالم، نحتاج إلى مثل هذه الوقفات، والحق أن الخواطر كثيرة، والمشاعر متداخلة، والواجبات والتنبيه والتوجيه حاجتنا إليه ماسة ومتشعبة، وحسبنا -بمشيئة الله تعالى- أن نذكر هنا ما عسى أن يكون الأهم، وما سأذكره إنما أذكر خلاصته وأسسه معرضاً عن كثير من التفاصيل والتشعبات التي يستحق معها كل قسم من أقسام حديثنا وموضوعنا أن يفرد في محاضرة خاصة به، ولعلي أشير الإشارات التي ألخص بها مقصود حديثنا بعون الله.

سنبدأ بوقفة مع حقيقة الإيمان، ثم نعرج على أثر الإيمان في الأمن والأمان، وننتهي ونخلص إلى أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان.

قضية الإيمان أعظم قضايا الكون

الإيمان أمره مهم وعظيم؛ لأن قضية الإيمان هي القضية الكبرى، والمسألة العظمى في حياة البشرية كلها؛ فلأجلها خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ونصب الموازين، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وخلق الجنة والنار.

قضية الإيمان هي قضية الوجود الدنيوي وما بعد الوجود الدنيوي، هي قضية الحياة الدنيا وما وراءها في الحياة الأخرى.. قضية تتعلق بالإنسان في أعماق نفسه، وسويداء قلبه، وخواطر عقله، وكلمات لسانه، وأفعال جوارجه، وطموحات نفسه؛ لأنها تتناول الإنسان في علاقاته وصلاته ومعاملاته وتشريعاته وفي سائر جوانب حياته المختلفة، وسائر ظروفه وتقلبات حياته وأحواله المتنوعة، ومن ثم فإنها القضية الكبرى التي لابد من العناية بها، والتعلم لحقائقها، والتذكير بثوابتها، والإشاعة لمعانيها، والتقوية لها في النفوس والقلوب؛ لأنها محور الحياة وجوهرها، وكما قلت: لعل هذا يكون موضوعاً كاملاً قائماً برأسه، ولكنا نشير إلى المهم منه.

الإيمان ليس مقتصراً على مجرد العمل أو النطق أو التصديق

الإيمان ليس مجرد نطق اللسان وإعلان الشهادة فحسب، فإن الله جل وعلا قد نفى ذلك بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فأثبت إعلانه للإيمان ونفى حقيقته عنه، وليس الإيمان كذلك هو قناعة العقل بصحة البرهان وقوة الحجة على وجود الله أو وحدانيته؛ فإن ذلك قد كان ظاهراً جلياً لكفار قريش، ولم يكن عندهم شك في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقص في البراهين والأدلة على ثبوت نبوته، ومع ذلك كفروا وجحدوا، وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى بذلك فقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14]، فقد كانت عندهم الحقائق في درجة اليقين من حيث وضوح الأدلة، وقيام الحجة؛ ومع ذلك جحدوا، والجحد هو الإنكار بعد المعرفة، لماذا؟ ظلماً وعلواً.

وقال سبحانه وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وقصها وبينها أبو جهل -عليه لعنة الله- عندما قال: كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة، فإن كانت لهم السقاية كانت لنا الوفادة، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؛ فوالله لا نصدقه الدهر كله!

فليست القضية مجرد قناعة العقل دون تسليم القلب بحقيقة هذه المعرفة الإيمانية، وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض مجرداً؛ فإن المنافقين -كما نعلم- خلت قلوبهم من الإيمان، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك، ونفى الله سبحانه وتعالى عنهم الإيمان كما بينته آياته جل وعلا في مثل قوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، إلى غير ذلك مما هو معلوم.

الإيمان قول واعتقاد وعمل

فإذا لم يكن الإيمان نطق اللسان فحسب، ولا هو اعتقاد الجنان وحده، ولا عمل الأركان، فما هو؟

إنه مجموع ذلك كله، ومن ثم قال أهل العلم في تعريفه: إنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وهذا الجمع لا شك أنه يحتاج إلى تأمل؛ إنه حينئذ يصور لنا شمول هذا الإيمان، وعمقه وانتظامه للإنسان في كل خصائصه، وانعكاسه من بعد على كل تفاعلاته وأحواله؛ فإن هذا الإيمان هو اعتقاد القلب، وخفقة القلب بالمشاعر والعواطف، وهو كلمات اللسان وضبطها بخواطر العقل والفكر، وممارسات الجوارح.

وإذا أردنا أن نعمق هذا المعنى ونوضحه، فالأمثلة فيه كثيرة، لكنني أشير إلى المعنى وأضرب مثالاً واحداً فأقول: إن الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تنقض كل ما سبقها من الصور، وتخالف كل ما يعارضها من الهويات، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان الحق لمضمون لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فيختلف عن كل الناس في سائر أحواله وأقواله وكلماته، وآماله وطموحاته وأعماله وأفعاله، وعلاقاته وصلاته، وولائه وبرائه، ومحبته وبغضه، وكل شيء؛ لأن هذا الإيمان يغير فيه -إذا كان صادقاً وحقيقياً- كل شيء، ويجعله منضبطاً بهذا الإيمان، فمنه ينطلق وإليه يرجع، وفي ضوئه يقيس، وعلى هداه يسير، فيحكم الإيمان حينئذ كل شيء في حياته بدءاً من داخله وانتهاء بأعماله وبعلاقاته كذلك.

الإيمان أمره مهم وعظيم؛ لأن قضية الإيمان هي القضية الكبرى، والمسألة العظمى في حياة البشرية كلها؛ فلأجلها خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ونصب الموازين، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وخلق الجنة والنار.

قضية الإيمان هي قضية الوجود الدنيوي وما بعد الوجود الدنيوي، هي قضية الحياة الدنيا وما وراءها في الحياة الأخرى.. قضية تتعلق بالإنسان في أعماق نفسه، وسويداء قلبه، وخواطر عقله، وكلمات لسانه، وأفعال جوارجه، وطموحات نفسه؛ لأنها تتناول الإنسان في علاقاته وصلاته ومعاملاته وتشريعاته وفي سائر جوانب حياته المختلفة، وسائر ظروفه وتقلبات حياته وأحواله المتنوعة، ومن ثم فإنها القضية الكبرى التي لابد من العناية بها، والتعلم لحقائقها، والتذكير بثوابتها، والإشاعة لمعانيها، والتقوية لها في النفوس والقلوب؛ لأنها محور الحياة وجوهرها، وكما قلت: لعل هذا يكون موضوعاً كاملاً قائماً برأسه، ولكنا نشير إلى المهم منه.

الإيمان ليس مجرد نطق اللسان وإعلان الشهادة فحسب، فإن الله جل وعلا قد نفى ذلك بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فأثبت إعلانه للإيمان ونفى حقيقته عنه، وليس الإيمان كذلك هو قناعة العقل بصحة البرهان وقوة الحجة على وجود الله أو وحدانيته؛ فإن ذلك قد كان ظاهراً جلياً لكفار قريش، ولم يكن عندهم شك في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقص في البراهين والأدلة على ثبوت نبوته، ومع ذلك كفروا وجحدوا، وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى بذلك فقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14]، فقد كانت عندهم الحقائق في درجة اليقين من حيث وضوح الأدلة، وقيام الحجة؛ ومع ذلك جحدوا، والجحد هو الإنكار بعد المعرفة، لماذا؟ ظلماً وعلواً.

وقال سبحانه وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وقصها وبينها أبو جهل -عليه لعنة الله- عندما قال: كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة، فإن كانت لهم السقاية كانت لنا الوفادة، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؛ فوالله لا نصدقه الدهر كله!

فليست القضية مجرد قناعة العقل دون تسليم القلب بحقيقة هذه المعرفة الإيمانية، وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض مجرداً؛ فإن المنافقين -كما نعلم- خلت قلوبهم من الإيمان، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك، ونفى الله سبحانه وتعالى عنهم الإيمان كما بينته آياته جل وعلا في مثل قوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، إلى غير ذلك مما هو معلوم.

فإذا لم يكن الإيمان نطق اللسان فحسب، ولا هو اعتقاد الجنان وحده، ولا عمل الأركان، فما هو؟

إنه مجموع ذلك كله، ومن ثم قال أهل العلم في تعريفه: إنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وهذا الجمع لا شك أنه يحتاج إلى تأمل؛ إنه حينئذ يصور لنا شمول هذا الإيمان، وعمقه وانتظامه للإنسان في كل خصائصه، وانعكاسه من بعد على كل تفاعلاته وأحواله؛ فإن هذا الإيمان هو اعتقاد القلب، وخفقة القلب بالمشاعر والعواطف، وهو كلمات اللسان وضبطها بخواطر العقل والفكر، وممارسات الجوارح.

وإذا أردنا أن نعمق هذا المعنى ونوضحه، فالأمثلة فيه كثيرة، لكنني أشير إلى المعنى وأضرب مثالاً واحداً فأقول: إن الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تنقض كل ما سبقها من الصور، وتخالف كل ما يعارضها من الهويات، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان الحق لمضمون لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فيختلف عن كل الناس في سائر أحواله وأقواله وكلماته، وآماله وطموحاته وأعماله وأفعاله، وعلاقاته وصلاته، وولائه وبرائه، ومحبته وبغضه، وكل شيء؛ لأن هذا الإيمان يغير فيه -إذا كان صادقاً وحقيقياً- كل شيء، ويجعله منضبطاً بهذا الإيمان، فمنه ينطلق وإليه يرجع، وفي ضوئه يقيس، وعلى هداه يسير، فيحكم الإيمان حينئذ كل شيء في حياته بدءاً من داخله وانتهاء بأعماله وبعلاقاته كذلك.

هذا مثال نضربه من القرآن، قصه الله عز وجل علينا في قصة موسى عليه السلام، وما كان منه مع بني إسرائيل، والقصة نقف فيها عند المواجهة التي كانت بين موسى داعية الإيمان، وفرعون داعية الكفر والطغيان:

استعان فرعون بالسحرة، وأراد أن يكونوا وسيلة له لإبطال الحق، وإطفاء نوره، وتشويه صورته، وصرف الناس وصدهم عنه، فماذا قال للسحرة يوم جاء بهم، وأرادهم أن يقوموا بهذه المهمة؟

وقبل ذلك نريد أن ننظر إلى هؤلاء السحرة.. صورتهم، أفكارهم، أقوالهم قبل وبعد الحدث الذي وقع، لننظر فعلاً إلى التغير لندرك به حقيقة الإيمان.

جاء السحرة إلى فرعون، وأول شيء قالوه وخطر لهم وتعلقت به نفوسهم: أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:41]، ذلك كان مطلبهم ومطمعهم، وهذا هو أملهم وأمنيتهم.

لم يسألوا: هل القضية حق أو باطل، عذاب أو ظلم؟ هل تترتب عليها مفسدة أو مصلحة؟ هل يتضرر بها أحد أو ينتفع؟ لم يكن ذلك يعنيهم في شيء؛ لأنهم ليست لديهم مبادئ ولا قيم ولا مرتكزات ولا معتقدات بل كانت أهواؤهم تقودهم، وخضوعهم لفرعون وعبوديتهم وذلتهم له تسيرهم، ولذلك قالوا هذا القول، فقال لهم فرعون: نعم، وإنكم لمن المقربين. أي: سيزيدهم فوق العطاء المادي عطاء معنوياً بأن يكونوا من أصحابه وخلصائه والمقربين منه.

ثم وقعت الواقعة، وألقوا عصيهم وحبالهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وكانوا هم صفوة السحرة، وأعلم العلماء بالسحر، وليس أحد أقدر منهم عليه، وفي لحظة واحدة ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.

وفي هذه اللحظة عرف أولئك أن هذا ليس بسحر، وأنها ليست قوة بشر، وأدركوا من واقع خبرتهم هذه الحقيقة، فمباشرة وصفت آيات القرآن ما الذي وقع وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:120-122]، وذكر هارون هنا مثير للسؤال؛ لم ذكروا هارون وهو لم يذكر في تلك المواجهة، ولم يلق عصى مع موسى ولم يكن له في هذا شأن مذكور؟

أرادوا أن يقولوا: قد آمنا بالمعتقد والمبدأ لا بالصورة الظاهرة والعمل الملموس، فنحن أدركنا الحقيقة والمفهوم الذي وراء ذلك، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122].

لنرى كيف أصحبت مواقفهم؟ وكيف تغيرت كلماتهم؟ وما هي الآن طموحاتهم وآمالهم؟

فرعون كان مجرد ذكر اسمه من قبل تنخلع له القلوب وتصطك له الركب، وتدور الأعين في محاجرها خوفاً وهلعاً. هذا فرعون الذي يعرفون بطشه وجبروته وطغيانه قال: فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى [طه:71]، قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، افعل ما بدا لك فلا خوف في قلوبنا منك، ولا شيء يردنا عما أخذنا من الإيمان والاعتقاد، لماذا؟

لأن الأمر قد اختلف، والتصور قد اتسع، والإيمان قد ثبت ورسخ، فنحن لم تعد حياتنا هي الدنيا بل أصبحت أعظم من ذلك، فافعل ما تشاء، فإن ما تفعله لا يتجاوز هذه الدنيا وما فيها من الأسباب التي قد يكون بعضها ميسراً لك.

ثم قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:51]، كانوا يريدون المال، واليوم يقولون: أملنا وطموحنا، وأعظم ما تتعلق به قلوبنا وتشرئب إليه أعناقنا: أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول السابقين إلى الإيمان والإسلام.

لقد اختلفت مقالتهم ومشاعرهم ومواقفهم، وظهرت قوتهم، وتجلى ثباتهم، ما الذي تغير، وما الذي طرأ واستجد؟

ليس إلا الإيمان، حينئذ نقول: فرق ما بين هذا وذاك في لحظات الإيمان الذي أنشأهم نشأة جديدة، وصبغهم صبغة جديدة حولتهم في كل جانب من جوانب حياتهم ظاهرها وباطنها، فإذا بهم حينئذ ينشئون ويقفون ويتكلمون ويواجهون بغير ما كانوا عليه من قبل.

هذه صورة موجزة لحقيقة الإيمان، وأجلى منها وأوضح وأكثر أمثلة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء إلى العرب وهم في جاهلية جهلاء، وعماية ظلماء، وفي كل ما هم فيه من سخف عقولهم وهمجيتهم، وانغماسهم في الباطل وغير ذلك، ولم يغير فيهم شيئاً من اقتصاد ولا سياسية ولا اهتمام، وإنما جاءهم بهذا الإيمان والإسلام فأنشأهم نشأة أخرى، وصاغ منهم أمة فريدة لا نظير لها في تاريخ البشرية والإنسانية.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2449 استماع