خطب ومحاضرات
الإصلاح منطلقاته ومجالاته
الحلقة مفرغة
الحمد لله جعل الإيمان في الدنيا نجاحاً، وفي الآخرة فلاحاً، وجعل الإسلام لحياة الناس صلاحاً، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
نحمده سبحانه وتعالى حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون! حديثنا موصولاً عن الإصلاح بعد أن ذكرنا ومضات من منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نجعل حديث اليوم عن الإصلاح مجالاته ومنطلقاته، إذ نحن بعد ذلك الحديث العام الذي ذكرنا فيه انطلاقة إيمانية وارتباطات بالتقوى وبيان لوسائل كثيرة من التدرج والانضباط الشرعي ونحوه، نخوض اليوم في بعض المجالات التي يكثر الحديث فيها عن الإصلاح، من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي، حتى وجدنا هذه المقالات وتلك الدعوات تصافح أبصارنا في كل صباح على الصفحات، وتلامس آذاننا في كل يوم عبر المحطات والإذاعات، وتعقد لأجلها الندوات، ويختلف في شأنها هل ينبعث الإصلاح من الداخل أم يأتي من الخارج أم يكون خليطاً؟
ضوابط الإصلاح في المجال الاقتصادي
ومن هنا نتحدث قليلاً عن بعض هذه المجالات.
وقبل كل شيء فإن كل هذه المجالات ينبغي أن نرى فيها ثلاثة أمور:
أولها: المنطلق الإيماني.
ثانيها: الانضباط الشرعي.
ثالثها: الاعتبار المصلحي.
فلا خير في إصلاح ينطلق من غير منطلق الإيمان، ويسير بعيداً عن رحابه وظلاله.
ولا يمكن بحال أن يتحقق للإصلاح أثر بعيد عن الانضباط الشرعي، والرجوع إلى الأحكام الكلية والتفصيلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه يضيع الإصلاح وتضيع آثاره عندما لا يكون مرتبطاً بالمصلحة العامة، ومراعياً للآداب الاجتماعية المؤسسة على قاعدة الإيمان والإسلام، فإن الذي ينطلق من الرؤى الشخصية والمصالح الذاتية تختلط به كثيراً من الأهواء والآراء الزائغة.
مجال الاقتصاد منطلقه الإيمان كما هو منطلق كل مجال إصلاحي، فالرسل والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى الأمم والبشر والخلائق، بعثهم أول شيء بالإيمان والتوحيد، وكلهم كان يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] هذا المنطلق الإيماني استخدمه موسى عليه السلام ليكون هو أساس الإصلاح السياسي الذي يعالج به طغيان فرعون واستبداده، وهو كذلك المنطلق الإيماني الذي استخدمه شعيب عليه السلام ليقوم الانحراف الاقتصادي من غش وتطفيف للمكيال والميزان، وأخذه كذلك لوط عليه السلام ليقوم به الانحلال والانحراف الخلقي الذي تمثل في الرذيلة التي شاعت في قومه؛ ولذلك فمنطلق الإيمان هو الأساس الذي ينبغي استحضاره، كما قال الله جل وعلا لنا في شأن المجال الاقتصادي في قصة شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه ويقول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وبعد تأسيس هذه القاعدة يواصل فيقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:85] إنه الإيمان ابتداءً، والإيمان انتهاءً، لماذا؟ لأنه ينشئ مملكة الضمير، وينشئ القلب الحي، وينشئ النفس المراقبة لله، وينشئ الأمل الذي يتعلق بثواب الله، ويخشى من عذاب الله عز وجل، إنه الميزان الحق والمنطلق السديد الذي به تعصم البشرية من نزغات الشياطين، ومن ضلالات الأهواء، ومن انحرافات الآراء.
والله سبحانه وتعالى يبين لنا هذا المنطلق الإيماني في مثل هذه القصة النبوية لشعيب عليه السلام، ثم ننظر إلى الانضباط الشرعي، فنرى الآيات القرآنية ومعها الأحاديث النبوية تعطينا أحكاماً كلية وتفصيلية في شئون المال.
ليس المال اجتهاداً للبشر لكي ينظروا إلى مصالحهم ويأخذوا السبيل الذي يرونه محققاً لها، بل هو في أوجه اكتسابه وفي طريقة إنفاقه وفي كل ما يترتب عليه من الحقوق وما ينبني عليه في التعاملات من العقود؛ مبني على ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] وكم جاءت الآيات مفصلة في الرهن والبيع والشراء؟! وكم جاءت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين هذه المعالم في نصوص كثيرة معلومة ليس هذا مقام ذكرها أو حصرها؟!
ثم ننطلق لنرى عموم تلك الكليات في خطاب القرآن: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرن ذلك ويبينه في الحساب الأخروي، أربع يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وفيها للمال سؤالان وليس واحداً: (من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) هل كان طريق الكسب حلالاً، وطريق الإنفاق مباحاً أم غير ذلك؟ ولذلك تأتي هذه المسئولية مرتبطة بالأحكام الشرعية، كما كان صحب النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يرجعون إليه ليسألوه عن هذه المعاملة وحلها وجوازها، وهذا المال الذي اكتسبوه من هذه الطريقة هل هو سائغ؟ وهل هو مباح أم لا؟ وذلك ما كان يربطه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور أخرى كثيرة متعلقة بالإيمان، ومرتبطة بالأحكام.
خاطب النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وقال: (يا
ثم ننظر إلى الأمر الثالث: وهو الاعتبار المصلحي.
إن الإسلام ينظر إلى مصلحة الأمة في مجموعها، حتى المال الذي يخصك قد وُضعت له الضوابط والأحكام، فإن تجاوزتها فليس ذلك اختياراً شخصياً، بل هناك أحكام ومعها آداب تحقق الحفاظ على المصلحة العامة، كما يبين الحق جلا وعلا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] الإسراف وإن كان من حر مالك مذموم محرم في الشرع.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل الحكم بالحجر على السفيه؛ لأنه يبدد ماله، لكنه مع ذلك يبدد ثروة الأمة، ويبدد المصالح العامة، وينتهك الآداب التي تجعل لكل شيء مقامه وقدره وقيمته.
صور تحتاج إلى إصلاح اقتصادي
ثم انظر إلى الواقع يحكي لك ذلك، ألا ترون اليوم كيف يبحث الناس بحمد الله جل وعلا عن المعاملات الإسلامية، فإذا أرادوا معاملة بنكية بحثوا عن البنوك والمصارف التي تقوم على أسس شرعية، وإذا أرادوا التأمين بحثوا كذلك عن المباح وهكذا عظم عند الناس اليوم بحمده جلا وعلا حرصهم على أن يكون تعاملهم المالي وميدانهم ومجالهم الاقتصادي مراعياً لتلك الأحكام، لكننا نستمع اليوم إلى إصلاح اقتصادي من لون آخر، مروج على مستوى الأمة، بما يسمى: الاقتصاد المفتوح أو الحر الذي يقول لك: إنه ليس هناك شيء يمنع بيعه أو تداوله، لا تقل لي: خمر محرم، ولا تقل لي: أفلام إباحية ممنوعة غير مشروعة، ولا تقل هذا أو ذاك، فإن السوق هو الذي يسير الأمر، وإن الاقتصاد الحر المفتوح والتجارة العالمية الدولية تطرق أبوابك، ولا بد أنها آتية إليك.
وتأتينا صور أخرى اقتصادية يزعم أهلها أنها لتنمية الشعوب ولرفع المستوى الاقتصادي، وهي في حقيقة الأمر تصب المال من جيوب المسلمين ومن ديارهم إلى الكيان الصهيوني واليهود، عبر اتفاقيات لا يمرر لها طريق ولا يمهد لها تيسير ولا تذلل لها عقبات إلا من خلال ذلك الطابع اليهودي، وذلك باسم تنمية اقتصادية وارتفاع لمستوى المعيشة؛ وذلك حتى تدمن الأمة التعامل مع أعدائها، وبذل أموالها لمن يقتلها دون أن ترى في ذلك حرج، بل دون أن تنتبه إلى ذلك، فتأتينا التجارة والبضاعة من بلد عربي إسلامي ممهورة بمهرها ومختومة بختمها، وأشتريها وأدفع المال وإذا بالحصة الكبرى منه ليست إلا تمويلاً لذلك الكيان الغاصب الذي يعتدي كل يوم على حرماتنا ومقدساتنا وديننا، فضلاً عن ديارنا وإخواننا وأعراضنا، ومع ذلك يقولون: هذا هو التطور الاقتصادي، وهذا هو الإصلاح الذي تدعو إليه الأمم والدول العظمى والكبرى التي تزعم أنها تقدم لأممنا ولمجتمعاتنا الخير، وتعلمها كيف تصلح أحوالها، وكيف تسير على منهاج مستقيم يفضي بها إلى رغد العيش وسعة الحياة، وإلى انتظام الأمور كما يزعمون!
ومن هنا لا بد للمؤمن من وقفة خطيرة يتأمل فيها تحقيقه لدينه وإيمانه، فالإيمان لا يتحقق بمجرد النطق، ولا بمجرد الإقرار، ولا حتى بمجرد الأعمال من العبادات والشرائع، بل الإيمان امتثال ويقين في كل حكم وفي كل جانب وميدان ومجال فيه لله عز وجل حكم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم هدي، فمن أعرض عنه وخالفه فذلك نقص في إيمانه، وخلل في اعتقاده، وتشوه في حسن تصور إسلامه، ينبغي أن يفطن له، سيما ونحن اليوم نعلم ونوقن أن أمتنا مستهدفة في كل المجالات والمسارات.
يراد أن تخترق اقتصادياً حتى لا تقام لها قائمة، وحتى تصب ثرواتها في جيوب أعدائها في صور مختلفة وأنماط متنوعة، ومن طرق مختلفة، مرة عبر اتفاقيات تجارية، وأخرى عبر اتفاقيات دولية، وثالثة عبر زيارات ومصالح من هنا وهناك، وذلك كله يصب في مصلحة أعداء الأمة، لا في مصلحة أبنائها.
إننا في كل حديث، وفي كل رأي، وفي كل خطة، وفي كل نظرة، ينبغي أن نكون منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وراجعين إليهما، ومسترشدين بهما، ومعتمدين عليهما.
ومن هنا نتحدث قليلاً عن بعض هذه المجالات.
وقبل كل شيء فإن كل هذه المجالات ينبغي أن نرى فيها ثلاثة أمور:
أولها: المنطلق الإيماني.
ثانيها: الانضباط الشرعي.
ثالثها: الاعتبار المصلحي.
فلا خير في إصلاح ينطلق من غير منطلق الإيمان، ويسير بعيداً عن رحابه وظلاله.
ولا يمكن بحال أن يتحقق للإصلاح أثر بعيد عن الانضباط الشرعي، والرجوع إلى الأحكام الكلية والتفصيلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه يضيع الإصلاح وتضيع آثاره عندما لا يكون مرتبطاً بالمصلحة العامة، ومراعياً للآداب الاجتماعية المؤسسة على قاعدة الإيمان والإسلام، فإن الذي ينطلق من الرؤى الشخصية والمصالح الذاتية تختلط به كثيراً من الأهواء والآراء الزائغة.
مجال الاقتصاد منطلقه الإيمان كما هو منطلق كل مجال إصلاحي، فالرسل والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى الأمم والبشر والخلائق، بعثهم أول شيء بالإيمان والتوحيد، وكلهم كان يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] هذا المنطلق الإيماني استخدمه موسى عليه السلام ليكون هو أساس الإصلاح السياسي الذي يعالج به طغيان فرعون واستبداده، وهو كذلك المنطلق الإيماني الذي استخدمه شعيب عليه السلام ليقوم الانحراف الاقتصادي من غش وتطفيف للمكيال والميزان، وأخذه كذلك لوط عليه السلام ليقوم به الانحلال والانحراف الخلقي الذي تمثل في الرذيلة التي شاعت في قومه؛ ولذلك فمنطلق الإيمان هو الأساس الذي ينبغي استحضاره، كما قال الله جل وعلا لنا في شأن المجال الاقتصادي في قصة شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه ويقول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وبعد تأسيس هذه القاعدة يواصل فيقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:85] إنه الإيمان ابتداءً، والإيمان انتهاءً، لماذا؟ لأنه ينشئ مملكة الضمير، وينشئ القلب الحي، وينشئ النفس المراقبة لله، وينشئ الأمل الذي يتعلق بثواب الله، ويخشى من عذاب الله عز وجل، إنه الميزان الحق والمنطلق السديد الذي به تعصم البشرية من نزغات الشياطين، ومن ضلالات الأهواء، ومن انحرافات الآراء.
والله سبحانه وتعالى يبين لنا هذا المنطلق الإيماني في مثل هذه القصة النبوية لشعيب عليه السلام، ثم ننظر إلى الانضباط الشرعي، فنرى الآيات القرآنية ومعها الأحاديث النبوية تعطينا أحكاماً كلية وتفصيلية في شئون المال.
ليس المال اجتهاداً للبشر لكي ينظروا إلى مصالحهم ويأخذوا السبيل الذي يرونه محققاً لها، بل هو في أوجه اكتسابه وفي طريقة إنفاقه وفي كل ما يترتب عليه من الحقوق وما ينبني عليه في التعاملات من العقود؛ مبني على ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] وكم جاءت الآيات مفصلة في الرهن والبيع والشراء؟! وكم جاءت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين هذه المعالم في نصوص كثيرة معلومة ليس هذا مقام ذكرها أو حصرها؟!
ثم ننطلق لنرى عموم تلك الكليات في خطاب القرآن: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرن ذلك ويبينه في الحساب الأخروي، أربع يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وفيها للمال سؤالان وليس واحداً: (من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) هل كان طريق الكسب حلالاً، وطريق الإنفاق مباحاً أم غير ذلك؟ ولذلك تأتي هذه المسئولية مرتبطة بالأحكام الشرعية، كما كان صحب النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يرجعون إليه ليسألوه عن هذه المعاملة وحلها وجوازها، وهذا المال الذي اكتسبوه من هذه الطريقة هل هو سائغ؟ وهل هو مباح أم لا؟ وذلك ما كان يربطه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور أخرى كثيرة متعلقة بالإيمان، ومرتبطة بالأحكام.
خاطب النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وقال: (يا
ثم ننظر إلى الأمر الثالث: وهو الاعتبار المصلحي.
إن الإسلام ينظر إلى مصلحة الأمة في مجموعها، حتى المال الذي يخصك قد وُضعت له الضوابط والأحكام، فإن تجاوزتها فليس ذلك اختياراً شخصياً، بل هناك أحكام ومعها آداب تحقق الحفاظ على المصلحة العامة، كما يبين الحق جلا وعلا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] الإسراف وإن كان من حر مالك مذموم محرم في الشرع.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل الحكم بالحجر على السفيه؛ لأنه يبدد ماله، لكنه مع ذلك يبدد ثروة الأمة، ويبدد المصالح العامة، وينتهك الآداب التي تجعل لكل شيء مقامه وقدره وقيمته.
المال الذي آتاه الله للخلق لم يؤتهم إياه ليكون عبثاً، وليكون نزوات طائشة، وليكون تبديداً للثروة في الحرام أو في غيرما مصلحة، كما بين ذلك قول الحق جل وعلا: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27] إذا تأملنا هذه اللمحات والومضات، عرفنا ما نحن محتاجون إليه من إصلاح اقتصادي في واقع أمتنا الإسلامية، وقد فشا فيها الربا، واستعلن فيها كثيراً بصور مختلفة متنوعة مبهرجة ومزيفة، وانتشرت صور القمار والميسر عبر الدعايات والإعلانات والمسابقات وغيرها، وكما نرى كذلك صوراً من الإسراف والتبذير يندى لها الجبين، وتضيع بها مقومات الأمة، ولا يرى فيها حينئذ مراعاة للمصالح ولا للآداب ولا للأعراف العامة في المجتمعات والأمم، وكل هذه الصور تناقض ما أشرنا إليه مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم انظر إلى الواقع يحكي لك ذلك، ألا ترون اليوم كيف يبحث الناس بحمد الله جل وعلا عن المعاملات الإسلامية، فإذا أرادوا معاملة بنكية بحثوا عن البنوك والمصارف التي تقوم على أسس شرعية، وإذا أرادوا التأمين بحثوا كذلك عن المباح وهكذا عظم عند الناس اليوم بحمده جلا وعلا حرصهم على أن يكون تعاملهم المالي وميدانهم ومجالهم الاقتصادي مراعياً لتلك الأحكام، لكننا نستمع اليوم إلى إصلاح اقتصادي من لون آخر، مروج على مستوى الأمة، بما يسمى: الاقتصاد المفتوح أو الحر الذي يقول لك: إنه ليس هناك شيء يمنع بيعه أو تداوله، لا تقل لي: خمر محرم، ولا تقل لي: أفلام إباحية ممنوعة غير مشروعة، ولا تقل هذا أو ذاك، فإن السوق هو الذي يسير الأمر، وإن الاقتصاد الحر المفتوح والتجارة العالمية الدولية تطرق أبوابك، ولا بد أنها آتية إليك.
وتأتينا صور أخرى اقتصادية يزعم أهلها أنها لتنمية الشعوب ولرفع المستوى الاقتصادي، وهي في حقيقة الأمر تصب المال من جيوب المسلمين ومن ديارهم إلى الكيان الصهيوني واليهود، عبر اتفاقيات لا يمرر لها طريق ولا يمهد لها تيسير ولا تذلل لها عقبات إلا من خلال ذلك الطابع اليهودي، وذلك باسم تنمية اقتصادية وارتفاع لمستوى المعيشة؛ وذلك حتى تدمن الأمة التعامل مع أعدائها، وبذل أموالها لمن يقتلها دون أن ترى في ذلك حرج، بل دون أن تنتبه إلى ذلك، فتأتينا التجارة والبضاعة من بلد عربي إسلامي ممهورة بمهرها ومختومة بختمها، وأشتريها وأدفع المال وإذا بالحصة الكبرى منه ليست إلا تمويلاً لذلك الكيان الغاصب الذي يعتدي كل يوم على حرماتنا ومقدساتنا وديننا، فضلاً عن ديارنا وإخواننا وأعراضنا، ومع ذلك يقولون: هذا هو التطور الاقتصادي، وهذا هو الإصلاح الذي تدعو إليه الأمم والدول العظمى والكبرى التي تزعم أنها تقدم لأممنا ولمجتمعاتنا الخير، وتعلمها كيف تصلح أحوالها، وكيف تسير على منهاج مستقيم يفضي بها إلى رغد العيش وسعة الحياة، وإلى انتظام الأمور كما يزعمون!
ومن هنا لا بد للمؤمن من وقفة خطيرة يتأمل فيها تحقيقه لدينه وإيمانه، فالإيمان لا يتحقق بمجرد النطق، ولا بمجرد الإقرار، ولا حتى بمجرد الأعمال من العبادات والشرائع، بل الإيمان امتثال ويقين في كل حكم وفي كل جانب وميدان ومجال فيه لله عز وجل حكم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم هدي، فمن أعرض عنه وخالفه فذلك نقص في إيمانه، وخلل في اعتقاده، وتشوه في حسن تصور إسلامه، ينبغي أن يفطن له، سيما ونحن اليوم نعلم ونوقن أن أمتنا مستهدفة في كل المجالات والمسارات.
يراد أن تخترق اقتصادياً حتى لا تقام لها قائمة، وحتى تصب ثرواتها في جيوب أعدائها في صور مختلفة وأنماط متنوعة، ومن طرق مختلفة، مرة عبر اتفاقيات تجارية، وأخرى عبر اتفاقيات دولية، وثالثة عبر زيارات ومصالح من هنا وهناك، وذلك كله يصب في مصلحة أعداء الأمة، لا في مصلحة أبنائها.
الحمد لله جعل الإيمان في الدنيا نجاحاً، وفي الآخرة فلاحاً، وجعل الإسلام لحياة الناس صلاحاً، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
نحمده سبحانه وتعالى حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون! حديثنا موصولاً عن الإصلاح بعد أن ذكرنا ومضات من منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نجعل حديث اليوم عن الإصلاح مجالاته ومنطلقاته، إذ نحن بعد ذلك الحديث العام الذي ذكرنا فيه انطلاقة إيمانية وارتباطات بالتقوى وبيان لوسائل كثيرة من التدرج والانضباط الشرعي ونحوه، نخوض اليوم في بعض المجالات التي يكثر الحديث فيها عن الإصلاح، من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي، حتى وجدنا هذه المقالات وتلك الدعوات تصافح أبصارنا في كل صباح على الصفحات، وتلامس آذاننا في كل يوم عبر المحطات والإذاعات، وتعقد لأجلها الندوات، ويختلف في شأنها هل ينبعث الإصلاح من الداخل أم يأتي من الخارج أم يكون خليطاً؟
أنتقل بكم إلى مجال آخر وهو المجال الاجتماعي، والحديث اليوم عن إصلاح المرأة ووضع المرأة وحق المرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حديث يصدع الرءوس من كثرته، فلا تكاد ترى صحيفة إلا وفيها خبر عن أول امرأة كذا وكذا، أو أول وفد من النساء فعل كذا وكذا، أو تلك البلدة التي تحقق فيها للمرأة حق كذا وكذا. من أين جاءنا ذلك؟ ومن أين يروج ذلك وتدفع عليه الأموال؟
إنها سياسة التسويق الإصلاحي الغربي الذي تقوده الدول العظمى التي تمسك بعصاً غليظة هي عصا القوة العسكرية، وتزعم بعد ذلك أنها تدعو إلى الحرية والعدالة وغير ذلك.
وهذه الأمور من منطلق الإيمان تجد أن الخطاب القرآني في شأن الأسرة والمجتمع والمرأة مملوء بهذا المنطلق الإيماني قال عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] إنه خطاب الإيمان: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] إنها أحكام شرعية ليست اجتهادات بشرية، وليست خيارات اجتماعية، وليست تقاليد ولا أعرافاً تاريخية، إنها أحكام شرعية تنزلت بها آيات قرآنية، ووردت بها أحاديث نبوية، ونطقت بها مسيرة تاريخية، وشهدت لها أوضاع اجتماعية عبر تاريخ الأمة وعبر رقعتها الممتدة في كل مكان.
وهكذا نجد الآداب، ونجد المصالح المراعية التي تحافظ على حياء المرأة، وتحافظ على تماسك الأسرة، وتحافظ على محضن التربية الذي يربي الأجيال.
إننا اليوم نواجه سيلاً من الدعوات الإصلاحية، هدفها كما يقولون: عمل المرأة ومشاركتها، ومزاحمتها للرجال، وأخذها لحقوقها المزعومة في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها. ثم ماذا بعد ذلك؟
تكشف الظهور، ولا يكون في البيوت زوجات صالحات راعيات للأزواج، ولا مربيات للأبناء، ولا تماسك للأسرة كما كان عليه العهد السابق، ولسنا نفصل القول هنا عن عمل المرأة هل هو جائز أو غير جائز؟ فالجائز المشروع معلوم، والدعوات وما تتضمنه من مآلات ومن مخالفات معلومة أيضاً.
وهكذا يخبرنا الله جلا وعلا ويبين لنا رسوله صلى الله عليه وسلم المآلات التي تفضي إلى عدم المخالفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وتأتينا الدعوات اليوم لتقول لنا: إن الإصلاح هو انفتاح، وهو لقاء في ظل البراءة والصداقة والندية بين الرجل والمرأة، فهل نصدق هذا ونكذب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وهل نصدق هذا ونكذب الواقع الذي يشهد بعكسه وضده؟ وهكذا في مجالات كثيرة نجدها.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2535 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |