خسائر الفوز


الحلقة مفرغة

الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وثبت في كل شيء مشيئته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علماً، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! حديث اليوم موضوعه: (خسائر الفوز)، ولعلنا لأول وهلة نتعجب! وحقيق بنا أن نتعجب؛ إذ الفوز له أرباح، والنجاح فيه منافع، والتقدم يحقق المكاسب، فكيف نصف فوزاً بأنه خسارة، بل خسائر متجمعة؟! ولعل مثل هذا الفهم يعود إلى قصور في الاستيعاب، أو إلى تحجر في الفكر يكون صاحبه -كما يقولون- رجعياً متخلفاً، لا يعيش عصره، ولا يعرف واقعه، ولا يرتقي للمستوى الحضاري الذي تعيشه أمم اليوم؛ ولذلك قد تختلف الرؤى في مثل هذا الأمر، ويكون هناك من يوافق ومن يخالف، ولذا أمضي بكم إلى هذا الفوز أولاً لنعرف ما هو، ثم نستمع من بعد إلى وجهة النظر المخالفة المغايرة أو الموافقة المواتية.

وأردت بهذه المقدمة أن أشغل عقولكم، وأعلق قلوبكم؛ حتى ترتقبوا هذا الفوز وتنتظروه، ولئلا أكون المتحدث إليكم رأيت أن أنقل لكم أخبار هذا الفوز كما صاغتها اليد الإعلامية، ولسان البيان الصحفي أو الإذاعي: حقق مواطن سعودي الحلم، وفاز بلقب (ستار أكاديمي) البرنامج الأشهر عربياً، بعد كسبه لجولات البرنامج رغم الصعوبات، وقد عم الفرح السعوديين وهم يتابعون ابنهم وهو ينجح بكل تفوق، حيث تحول اهتمامهم نحو البرنامج بشكل غير مسبوق، وكان الحديث عن نتائج التصويت هو الشغل الشاغل!!

ويقارن الخبر الإعلامي بين التفريط والتقصير في اغتنام هذا الفوز وبين المتسابقة الأخرى التي -كما يقول الخبر- سُخرت لها عدة شركات اتصال في بلادها، وحظيت باهتمام على أكبر المستويات، بينما منعت شركة الاتصالات السعودية التصويت عبر شركتها.

ويضيف الخبر معلومة عن وصول البطل الذي سيحظى باستقبال كبير، خصوصاً بعد ظهوره المحترم والراقي في الأكاديمية!!

ثم نمضي كذلك لنرى بعض صور هذا الفوز؛ لا من قولنا، بل مما ورد في وسائل الإعلام المختلفة التي تقول: إن الصورة التي قدمها الفائز عن شباب بلده من خلال اجتهاده ومثابرته للصمود في وجه المنافسة، وتحقيق النجاح بالفوز بالمركز الأول...

وكذلك يقول أحدهم في نقل صحفي عن الفائز: إنه مثل شبابنا السعودي خير تمثيل، وأظهر قيمنا وشخصيتنا بشكل جيد!

ويضيف ثانٍ: إنه أظهر التأقلم والانفتاح لشعبنا!

ولست أمضي أكثر من ذلك، وأظنكم تشاركونني معرفة هذا الفوز، وربما سمعتم عنه، وعلمتم من خبره أكثر مما أعلم، ونحن اليوم في هذه الوقفة لا نريد أن نتحدث باللسان الشرعي الذي يفصح عن الآيات والأحاديث أو يعرج على الأحكام والأوصاف؛ فذلك ما لا يقبله بعض أولئك الذين لم يعد يعنيهم أن يكون الأمر فيه قرآن أو سنة؛ ولذلك لن أقف أمامكم لأتحدث عن الغناء أو حكمه، أو أقف عند قوله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6] وما نقله ابن كثير وغيره من المفسرين عن ابن مسعود بسند صحيح أنه قال: (هو الغناء). وفي رواية أنه قال: (هو والله! الغناء). وفي رواية ثالثة قال: (هو الغناء، والذي لا إله إلا هو! ورددها ثلاثاً). قال ابن كثير : وبهذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة رحمهم الله جميعاً.

ولن أقف معكم لأنقل قول القرطبي في تفسيره وهو يقول: الغناء المعتاد عن المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان فيه شعر يشبب بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق.

ولن أقف كذلك عند قوله: إن الاشتغال بالغناء على الدوام سفه تُرد به الشهادة، فإن لم يدم لم تُرد.

وما نقله عن إسحاق بن عيسى الطباع ، قال: سألت مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.

ولست كذلك معنياً أن أفيض في هذا لأنقل ما نقله ابن عطية في تفسيره بقوله: فكأن ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16].

وما نقله عن مطرف أنه قال: شراء لهو الحديث استحبابه.

ونقل عن قتادة قوله: ولعله لا ينفق فيه مالاً، ولكن سماعه هو شراؤه.

وأعلم أن كثيرين يقولون بأن الغناء مختلف فيه. فلنسلم ولا نجادل! ولنقل بما قد يقول من أحل وأباح ذلك.

لننتقل إلى أمر آخر، فهل هناك من يفتي أو يقول بقول شاذ أو غير شاذ بأن المرأة إذا ظهرت كاشفة عن سحرها ونحرها وذراعها وهي ترقص وتختلط بالرجال أن في هذا قولاً بجواز أو إباحة؟!

وليس ذلك فحسب؛ هل هناك من يقول: إن في التأنث والغنج والترقص -فضلاً عن المعانقة والتقبيل بين الجنسين- أقوالاً لبعض أهل العلم أو بعض أهل الجهل بالإباحة؟! لو كان مثل ذلك عند أحد لقلنا: هذا أيضاً مما يختلف فيه.

ولن أنتقل بكم إلى خسائر من نوع آخر، فإن ما قد يقال من أقوال أهل العلم أو النصوص قد يكون عند بعض الناس اليوم غير ذي بال وللأسف الشديد!

أنتقل إلى أمر آخر، وأدعو الجميع أن يشاركوا في التفكير والبحث والترجيح في كون هذا الأمر مكسباً أو خسارة.

إن ثمانين مليون تصويت تكلف من الناحية المالية ما يقرب من عشرين مليون ريال على أقل تقدير! فاسألوا الآن: عندما دفعت ما الذي جاءنا؟ وما الذي كسبناه؟ وما الذي دخل جيوبنا؟ وهل حلت به بعض مشاكل البطالة لشبابنا؟ وهل فتحت به بعض دور التعليم التي تغلق في وجوه أبنائنا وبناتنا؟ وهل استطاع به بعض الشباب الذي تجاوز الثلاثين أن يجد إعانة على زواجه من مثل هذه الأموال؟ وهل سخرت مثل هذه الأموال لعلاج مشكلة الفقراء ورعاية الأرامل أو كفالة الأيتام في داخل بلادنا قبل خارجها؟ وهل سخرت مثل هذه الأموال أو يمكن أن تسخر لتكون عوناً لإخواننا في أرض فلسطين أو غيرها؟!!

وأظن أن كثيرين سيقولون: إن هذا لا يمكن أن يكون مقابله مساوياً له إن رأينا في ذلك مقابلاً نافعاً. والمستفيدون منه -على افتراض أن هناك مستفيدين- لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة أو اليدين، فماذا خسر الذين فعلوا ذلك وأهدروا تلك الأموال؟!

علماً بأن هذه الاتصالات تتم عن طريق خارج البلاد مما يجعلها أكثر كلفة، وأين نحن حينئذ من قول الله جل وعلا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]؟ وأين نحن كذلك من التخوف في أن يصدق فينا هذا الوصف المذكور في قوله جل وعلا: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27]؟

إن أحداً لا يريد أن يكون مندفعاً، ولا أن يصف أحداً بشيء من التهم، إلا أننا نتحدث اليوم بمنطق العقل إلا أن تكون عقولنا قد خربت، وصرنا في صفوف الأغبياء أو المجانين؛ بحيث أصبحنا نهرف بما لا نعرف، ولو أن أحداً يعلم فليخبرنا بما عنده من العلم والاقتصاد والخبرة والتجربة، وليبين لنا أن هذه المبالغ التي دفعت سوف نجنيها أرباحاً مضاعفة وخيراً عظيماً يعود على مجتمعنا كله، وحينئذ قد يغض من يغض الطرف عن حلال أو حرام، لكننا نقول: دعوا الحلال والحرام جانباً، وأقنعونا بالمادة والأرقام: أين تذهب هذه الأموال..؟!

أنتقل بكم إلى صورة أخرى لعلي بتفكيري القاصر وبتحجري الذي قد يوافقني فيه بعضكم أعد هذا الأمر أخطر من الأول وأفدح خسارة:

أسألكم عن الأوقات المهدرة التي تعد بملايين الساعات من الذين تابعوا باستمرار أو بتقطع هذا البرنامج، وأنفقوا فيه تلك الأوقات في أعداد الله أعلم بها، وعلى مدى أربعة أشهر فيها نحو من عشرين ومائة يوم، فكم من الساعات المهدرة في هذا البرنامج؟! أريد أن أرى قيمتها، وأريد أن أرى نتيجتها، وأريد أن أراها علماً رسخ في العقول، أو خلقاً ظهر في السلوك، أو همة ظهرت في النفوس، أو حسناً ظهر في العلاقات، أريد أن أرى قيمة هذا الوقت المهدر من شبابنا وشاباتنا أين مصيره؟ هل مصيره إلى هذا اللهو العابث، والفراغ القاتل، والدرك الدنيء الذي لا يبعث همة ولا يوقظ عقلاً، ولا يحيي قلباً، ولا ينتج في آخر الأمر نفعاً أو فائدة؟!

ولو أردت أن أحسب ذلك لرجعت بكم إلى أمور يذكرها أهل العلم في الاقتصاد عندما يقيسون المال بالأوقات، وتأتينا الإحصاءات لتقول لنا: إن معدل إنتاجية العامل الياباني قد تصل إلى نحو أربعة أضعاف العامل الأوروبي أو الأمريكي، وأما المقارنة بمن هم في عالمنا الثالث فتلك مسألة أخرى!

وفي إحصائية علمية أجريت على بلد عربي كبير درست الوقت المستثمر من أوقات الثماني الساعات في العمل اليومي في القطاع الحكومي، فلم تزد في أقصى درجاتها عن (37%) من ذلك الوقت!

فأين نحن من هذه الأرباح العظيمة التي جنيناها فيما سمعناه من هذه الأخبار: الفوز.. الحلم الذي تحقق.. التفوق.. الصعوبات.. الصمود.. والتصدي.. فأين نحن من هذه الحقائق؟! وأين نحن من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)، الوقت الممتد.. الأيام والليالي.. الشهور والأعوام!

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين)، وفي حديث معاذ عند الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه..)، فسؤالان خاصان بالعمر والوقت، وبزهرة العمر في مرحلة الشباب، فأين تهدر؟ هل تهدر على مذابح القنوات، وعلى المشاهد الفارغة إن لم نقل: العابثة أو المفسدة؟!

وخذوا هذا؛ فإني أجعل قيمته -لو حسبناها بالحساب المالي- أضعافاً مضاعفة عن قيمة الأموال التي تصرف في تلك الاتصالات أو في غيرها.

وهناك مسألة ثالثة وخسارة عظيمة وهي: خسارة الجدية والاهتمام عند شبابنا.

لقد ذكرت الأخبار التي روجت لهذا الحديث في سطور قليلة كلاماً مهماً، جاء فيه: نجح البرنامج في إشغال المراهقين عن مدارسهم ودروسهم؛ حيث توافق التصويت في حلقاته الأخيرة مع توقيت الاختبارات النصفية في المدارس!

فكيف سيذهب أبناؤنا على مقاعد الدراسة في وقت الاختبار؟! وهل سيسألون عن أسماء المشاركين في البرنامج؟ وهل سيسألون عن التعليم الذي تعلمه أولئك المشاركون في ذلك البرنامج؟ وما هي الأمور التي ستصبح من بعد موضع اهتمامهم؟ هل سيبحثون عن المتفوقين والنابغين من زملائهم؟ وهل سيكون طموحهم أن يكون أحدهم عالماً في مجال من المجالات العلمية لينفع الأمة، أو مخترعاً في مجالات التقنية ليقدم شيئاً لها؟ أم أنهم سيختزلون المجد والاهتمام فيما يركز عليه الإعلام في رنة نغم أو جرة قلم أو ركلة قدم؟!

تلك هي الأمنيات، وتلك هي القمم العالية السامقة، وتلك هي الذرى البعيدة التي يراد أن يرتبط بها شبابنا وشاباتنا؛ ليكون أملهم هو في هذه المجالات.

وقد يقول قائل -وقد قالوا ذلك كثيراً-: ما بالكم تنعون علينا ذلك؛ ولو نظرتم إلى الأمم التي تتحدثون عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي اليابان لوجدتم أن لديهم عناية بالغناء والفنون والرقص.. وغير ذلك؟!

وأقول: بئست المقارنة! لأن القوم قد فرغوا من المهمات، فعلومهم مطردة متنامية، وصناعاتهم متفوقة متزايدة، واقتصادياتهم متضخمة متوالية، ولا عليهم أن ينشغلوا بمثل ذلك، لكن نظمهم وإعلامهم ومؤسساتهم تعطي للعلم أضعاف أضعاف أضعاف ما تعطي للفن.

وللأسف الشديد؛ فقد أعلن قبل فترة عن تقييم لأفضل خمسمائة جامعة في العالم، فلم يدخل في هذا التصنيف أي جامعة في بلد عربي أو مسلم! ودخل في هذا التصنيف سبع جامعات من الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين، وعندما يقارن الإنفاق في البحث العلمي في ذلك الكيان الغاصب فإنه يكون نحو ثلاثة أو أربعة أضعاف ما ينفق على البحث العلمي في الدول العربية قاطبة! فاثنتان وعشرون دولة لا تنفق إلا نحو ثلث أو ربع ما يُنفق هنالك! فما على أولئك القوم من بعد أن يغنوا، وأن يرقصوا، وأن يفعلوا ما يريدون؛ لأن لديهم أموراً كثيرة.

وقد وقفت بنفسي على جامعة واحدة فيها كلية طب واحدة ومستشفى واحد عريق في بلد كبير غربي، ينفق على أبحاث الطب فحسب في هذه الكلية وحدها أربعة آلاف مليون دولار! وهي جامعة واحدة! فما على أولئك إن أنفقوا مثل هذا أو دونه في غير ذلك من الأمور!

وهناك خسارة فادحة عظيمة، أحسب لو أن لدينا عقولاً مفكرة، ونفوساً حية لعدت هذه الخسارة كارثة كبرى! إنها خسارة مرتبطة بتاريخ البشرية، إنها خسارة مرتبطة بالرسالات السماوية، إنها خسارة مرتبطة بالمفاهيم النبوية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)، أليس هنا اغتيال للحياء؟ فكيف يرضى لا أقول: مؤمن مسلم؛ بل بشر حي ذو نخوة وشهامة أن يبقى جمع من الشباب أو الشابات على مدى أربع وعشرين ساعة لمدة أربعة أشهر تحت مراقبة الكاميرا؛ تنقل كلامهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم ولهوهم ومزاحهم..؟!! أي شيء بقي لآيات القرآن ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأي شيء بقي للأسرة: للأب والأم مع أبنائهم وبناتهم وهم يشاهدون ذلك، وقد يجتمعون عليه؟! وهل هناك أحد يطأطئ رأسه خجلاً، أو يغض بصره حياءً، أو يصم سمعه لئلا يسمع ذلك العهر والفجور والغنج والدلال؟ أم أن ذلك يتشرب إلى الآذان والأنظار والعقول والقلوب، وإلى أجواء الأسر، وإلى بيئة المجتمع، وإلى التصويت الكبير، وإلى الاحتفالات الكبيرة لئلا يبقى في النفوس أثر من حياء، ولا بقية من شهامة ونخوة وشعور بأمر تأباه النفوس الحية فضلاً عن المؤمنة؟!

وأقول: كل خسارة من هذه في نظري القاصر وفكري المتحجر الذي قد يشاركني فيه بعضكم أحسبها من الخسارة القومية الكبرى!

وأزيدكم في ذلك خسائر أكثر وأكبر، ومن هذه الخسائر: انتكاس الموازين، واختلال المفاهيم.

وتلك قضية كبرى من القضايا التي يمارسها الإعلام المنحرف في بعض تلك الفضائيات، ليس مجرد تطبيع المنكر، والرضا به، والتأقلم معه، وعدم إنكاره، وعدم الحياء منه؛ كلا! فتلك مرحلة قد مضت، وذلك إدمان قد سرى وجرى؛ لكن الأمر اليوم هو أن نلبس ذلك المنكر لباس المعروف، وأن نعطيه صفة المشروع، وأن نجمع بينه وبين أمور مهمة عظيمة؛ ففي الوقت الذي يكون فيه هذا الاختلاط، وهذا العناق، وتلك الخلوات، وتلك الكلمات نجد أباً يتصل -كما تابعت في بعض الأخبار- على الهواء مباشرة في ذلك البرنامج، ويوصي ابنته بالمحافظة على الصلاة! وكأن المحافظة على الصلاة أمر لا يتعارض ولا يختلف مع كونها ترقص وتغني وتكشف عن يديها وذراعيها وساقيها، وتحتضن هذا أو تقبل ذاك..!!

ليكون لنا إسلام حديث، ومفاهيم مرنة وواسعة! لقد ضيقتم الواسع أيها المتزمتون! إن عقولكم المتحجرة لم تستوعب بعد حضارة الإسلام الذي يمكن أن يصلي هنا، وأن يشرب الخمر بعد التسليمة الثانية هنا! ويمكن أن يسجد أو يقرأ القرآن هنا ثم يتلو من الغناء ما فيه الفسق والفجور المضاد لآيات الله عز وجل!!

إنها قضية خطيرة! ومع ذلك شهادة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ترفع في تلك المواطن للدلالة على النصر أو الفخر!!

عجباً لمثل هذا كيف يفوت الناس أن يدركوا أنه خطر عظيم وشر كبير وبلاء مستطير؟!

إن الناس اليوم بدءوا يتأثرون بذلك، فلا على أحدهم أن يصلي من هنا، وأن يقارف ما لا شبهة في حرمته من هناك، وأن يجمع بين هذا وذاك، ولا يرى شيئاً من غضاضة! ونجد مثل هذا -وللأسف الشديد- كثيراً.

إن قضية مفهوم الدين في سموه الخلقي وفي صياغته للشخصية الإسلامية لا يقتصر على أن يؤدي فريضة من الفرائض وحدها، إن ذلك ينعكس -كما أشرنا سابقاً- بأن الإيمان يصبغ صبغة تنعكس في الجدية والاهتمام والخلق والسلوك والأمانة والترفع عن المحرمات، إن صياغة الإسلام والإيمان صياغة متكاملة لا تقبل هذا التشويه والتشوه.

إن مثل هذه الصورة أشبه بالمولود الذي يخلق ناقصاً، ولا ترى فيه سمتاً ولا صورة الخلق الكامل للإنسان السوي.

إنه تشويه حقيقي عندما يكون القائم به مسلماً عربياً، ثم يظهر ذلك ويبينه، ويخبر بأنه قد قام بالدعوة إلى الله، وأثَّر في غيره بأن ذكره بالله، وكأن التذكير بالله لا يتعارض مع شيء من ذلك كله!!

لعلي أشير إلى أمر ما كان يخطر على بالي أنه من الخسائر، إلا أن المتابعين لهذه القنوات وتلك البرامج ذكروه وبينوه، وأحسب أنكم معاشر من قد توصفون بتلك العقلية المتحجرة! لا تدركون مثل هذا:

في تسويق وفي استفتاء على البرنامج جاءت معلومتان وقضيتان مهمتان:

الأولى: كان الاستفتاء: ما هو الهدف الأساسي من البرنامج؟ فكان إجماع المشاركين في التصويت أنها أهداف مادية بحتة، حتى ليس منها الارتقاء بالذوق الفني، وليس منها تأهيل الكوادر الشبابية لنقدمها للعالم في مجال الغناء والفن، وليس منها خلق أجواء حميمة بين الشباب والشابات، كل ذلك يتراجع إلى الوراء؛ ليظهر السبب الذي أجمع عليه المشاركون في هذا التصويت، وهو أنها أسباب مادية، وسرقة للفلوس وللأموال، واحتيال عليها بتسويق الشهوات والغرائز والملذات.

ولكن نقول: من الذي يأخذ هذه الأموال؟ ولماذا نعطيه إياها ونحن بكامل عقولنا وبكامل إراداتنا؟!

إننا في حقيقة الأمر بعد أن ندفع هذه الأموال ثم نأتي ونجيب على هذا السؤال ونقول: إن الهدف هو هدف مادي، فلا شك أن المجيبين بهذا يصفون أنفسهم ويحكمون عليها بأنهم أغبياء.. حمقى، أو أنهم مسرفون من أهل البطر الذي يرمون أو يقذفون بأموالهم من غير فائدة، فكيف إذا كانت تلك ترتد عليهم؟!

وأما القضية الثانية.. لو قلت أنا أو أنتم: إن الهدف مادي بحت لوجدنا قائمة طويلة من مثل تلك المقالات التي قلتها عن الرقي الفني، والتأهيل الشبابي.. وغير ذلك من الأمور، لكن الذي قالها هم المشاركون المتابعون المصوتون في هذه البرامج.

ثم أضافوا لنا شيئاً مهماً: بأنه مما يقال من أرباح هذا الفوز: تقوية الروح الوطنية.

أي: أننا لا وطنية عندنا، ولا نحب بلادنا، ولا نغار عليها، ولا نبذل الجهد والعرق لخيرها ولنفعها، ولا نبذل الروح للدفاع عنها، فلابد لنا من شيء يحرك هذه المشاعر الميتة في نفوسنا، الغائبة عن عقولنا، فلتكن كلها باتجاه الفن والرقص حتى تلتهب المشاعر الوطنية، ونستطيع أن نتماسك ونتلاحم، وأن نؤدي الدور الرائد في رفعة سمعة بلادنا، وفي الذود عنها إذا هاجمها الأعداء كما ينبغي أن يكون الأمر!!

حتى كان من التهكم في هذا الباب ما لا أستطيع قوله؛ لكن النتيجة الأخرى التي قالها أولئك أنهم قالوا: إن البرنامج أسهم في الفرقة، واستطاع البرنامج أن يفرق بين دول الوطن العربي!

وقد عبر عنه بعضهم: أنه عبارة عن حرب الخليج؛ لأن أهل كل بلد يسبون البلد الآخر، ويسبون مشاركه، ويمتدحون من يرون أنه ممثلهم، وأصبحنا على كل الأحوال -بحمد الله- عرباً متفرقين بدرجة امتياز في كل ميدان ومجال، واتفقوا -كما قيل- على ألا يتفقوا حتى في مثل هذه المهازل!

إنني أكتفي بهذا القدر؛ لأنني لو استرسلت كثيراً أو أكثر من ذلك لكان الحكم علي قاطع وجازم بأن عقلي قد تجاوز كل الحدود المعقولة والمقبولة.

أسأل الله عز وجل أن يرد إلينا عقولنا، وأن يحفظ علينا إيماننا، وأن يحفظ علينا أخلاقنا وحياءنا، وأن يحفظ شبابنا وشاباتنا، وأن يصرف عنا أهل الفسق والفجور، وأن يحفظنا بحفظه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن مثل هذه البرامج وما فيها وما حولها هي من أعظم ما يغتال التقوى، ويئد الحياء، ويضعف الأخلاق، ويزعزع الإيمان، ويمسخ الشخصية المسلمة.

ولعلي هنا أختم بأمر مهم، وهو: أن ذلك كله إنما هو صورة للتقليد الأعمى، والانهزامية الكبرى؛ إذ كل هذه البرامج في مجملها لم تكن من بنات عقول أحد من أبنائنا أو إعلاميينا، وإنما هي نسخ منسوخة كما هي، فقد أجروا عقولهم، وتركوا ما صموا به آذاننا صباح مساء من الإبداع، لينتهي الأمر إلى أن نكون أهل قص ولصق.. أهل نسخ ونقل.. أهل توقف عن تفكير، حتى في السوء والشر والفساد ننقله كما هو؛ لأن أصحابه قد بلغوا فيه مبلغاً! فحتى في الفساد لم نكن منتجين، إنه أمر عجيب! لا أدعو فيه إلى أن ننتج الفساد؛ ولكن أريد أن أصور المسخ لأولئك الذين يتصدرون في وسائل الإعلام، ويقولون لنا ما يقولون من ضرورة النهضة بالأمة، والرعاية لشبابها وغير ذلك، ثم يكون قصارى جهدهم أن يأتونا بهذا المسخ المشوه الهزيل الرديء؛ ليقولوا لنا: إنه الذي سيفجر الطاقات، ويفعل الأفاعيل!


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2448 استماع