النصيحة شروط وفوائد


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: (النصيحة شرائطها وفوائدها): نستكمل بهذا الموضوع ما سبق من حديث عن النصيحة التي نحتاج أن تكون خلقاً وصفة شائعة بيننا، يقدمها العالم للجاهل، والكبير للصغير، والولي لمن ولاه الله أمرهم، وتكون كذلك شائعة فيما بيننا من حيث تربيتنا عليها، حرصاً على أدائها، وتقبلاً لها، وتقديراً وإجلالاً واحتراماً لمقدمها، لما يبذله من خير يريده لنا.

وقد رأيت من بعض الإخوة اهتماماً بأننا مقصرون في واجب النصح فيما بيننا، وفيما نراه من أحوال حياتنا العامة، في بيوتنا، في مجتمعاتنا، في أحيائنا، في مساجدنا، فلعلنا في هذا المقام نؤكد على أهمية النصيحة والتناصح.

ونقف مع الشروط والصفات التي تجعل النصيحة كاملة نافعة، حتى نأخذ بالأسباب التي تقود إلى حصول المقصود.

العلم بما ينصح به

وأول هذه الشرائط والأسباب: العلم بما ينصح به:

فلا ينبغي أن تتقدم بنصح في أمر لا تعلمه، ولا تعرف فيه حكم الله، وليس لك اطلاع فيه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النصيحة أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإنها دعوة إلى الله لابد فيها من علم وفهم وإدراك: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، قدم العلم على ما ينبني عليه بعد ذلك من العمل.

ويقول الحق جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] (على بصيرة) أي: على علم وبينة ومعرفة تامة وواضحة.

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] والحكمة: وضع الشيء في موضعه، ولا يمكن أن تضعه في موضعه ما لم تكن به عالماً، وبالأحوال والظروف المحيطة مدركاً، وذلك ما ينبغي أن يكون.

ومن فقه أئمتنا أنهم نبهوا على أهمية العلم قبل العمل، وقبل النصح والإرشاد الذي لابد أن يكون قوامه ذلك العلم، فمما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: العامل بغير علم يفسد أكثر مما يصلح.

وهذا أمر بين نحتاج إليه، وكم من صور سنعرض لها يتقدم فيها من ينصح وهو ينصح بالباطل! وينصح بما يخالف النفع والفائدة المبنية على أساس الشريعة الإسلامية.

عمل الناصح بما ينصح به

وأما الثاني للكمال في هذه النصيحة فهو عمل الناصح بما ينصح به:

فإن القدوة الحسنة لها أثرها في النفوس، فإن وافق الفعل القول كان ذلك أبلغ في الفهم والمعرفة وفي القبول والإقبال على هذه النصيحة، ولقد ورد الذم كثيراً وعظيماً لمن يخالف قوله فعله، ولمن لا يلحق القول بالفعل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].

وفي سياق ما ذكر من صفات مذمومة كان عليها بعض أهل الكتاب قول الحق جل وعلا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، ولا يعني ذلك -كما أشرنا من قبل- أن تترك النصح إذا رأيت الخطأ وأنت غير مستقيم، فإن النصح في هذه الحالة يكون نصحاً للآخر ونصحاً لك، وذلك يقودك إلى مراجعة نفسك: ما بالي أقول لا تفعلوا وأنا أفعل؟ ما بالي أقول اجتنبوا وأنا ارتكب؟ فيكون ذلك عظة للإنسان.

لكننا نتحدث هنا عن الكمال الذي يجعل للنصيحة أثرها النافع والمفيد، ومن حديث أسامة بن زيد وهو صحيح، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب رجل في يوم القيامة صفته: أنه يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، قال صلى الله عليه وسلم: (فيؤتى به يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى؛ فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

وتلك صورة من العقاب المعنوي والحسي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً وموعظة، وتحذيراً وترهيباً من مثل هذا السلوك.

ولا شك أننا ندرك تماماً أن المخالفة بين القول والفعل من أسباب عدم قبول النصيحة، وحصول أثر الدعوة، ومن هنا جاء الخطاب القرآني على لسان نبي من أنبياء الله عز وجل: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88]، لا أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أخالف وأكون أنا الذي أفعله، فيكون ذلك كما ذكر ابن القيم من صفات علماء السوء الذين يعظون الناس بأقوالهم، ويصدونهم عن سبيل الله بأفعالهم، فشبههم بالذين يصطادون الناس بالصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل وعن دينه سبحانه وتعالى.

إظهار الحرص والتجرد عند النصح

الثالث: إظهار الحرص والتجرد عند النصح:

أما الحرص فنقصد به إظهار الحرص على ذلك المنصوح، وأن تبدي له غاية الشفقة به، وعظيم الرحمة له، وأن تجسد له أنك تريد له الخير، وتضمر له الحب، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تغزو بها النصيحة القلوب والعقول.

ولعلنا نستحضر هنا الوصف العظيم الذي وصف به نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فهو الذي فاض قلبه بالرحمة فكان يشفق على كل عاصٍ، ويحزن لكفر الكافر، ويريد أن يكون الناس كلهم في سياق رحمة الله عز وجل ورضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق مبيناً صفته مع الناس: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تتقحمون فيها)، كما ورد في بعض الروايات.

فكأن الناس قد انساقوا وتسارعوا إلى النار غفلة عن الله عز وجل أو كفراً به أو ولوجاً في المعاصي، وتأتي هداية النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ورحمته لترد الناس عن هذا المصير السيئ والخاتمة الشقية إلى حياض دين الله عز وجل.

ومن هنا رأينا مواقف رحمته كيف أثرت في نفوس العتاة الصادين عن دين الله! فتتت قسوة قلوبهم وألانتها بما كان من هذا الحرص والإظهار للمحبة والشفقة.

وكيف نريد أن يقبل منا النصح والمنصوح قد يرى أننا لا نضمر له إلا شدة، ولا نريه إلا غلظة، ولا يسمع منا إلا فظاظة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، والله جل وعلا صدر الآية بالرحمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فالله الله عندما ننصح أن يكون إظهار هذا المعنى مهماً.

والمعنى الآخر هو التجرد: أي التجرد عن المصلحة والمنفعة، إنما أنصحك لوجه الله لا أريد منك جزاءً ولا أنتظر منك شكوراً، ولا أرقب منك أن ترد لي المعروف مادة أو شيئاً من ذلك، وذلك لسان حال الرسل والأنبياء كلهم فيما قص القرآن من خبرهم: (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس:72].

ويوم يتنزه الناصح والداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويعظم قدره في عيونهم، ويرون صدق إخلاصه، فيكون لذلك أثره في القبول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88]، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من أرب، إلا أن يجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وبما أرقب من النفع استجابة لدعوتي.

فالله الله في مثل هذا السلوك؛ لأنه هو الذي يقود بإذن الله إلى حصول الأثر.

التلطف في الأداء قولاً وفعلاً

الشرط الرابع: التلطف في الأداء قولاً وفعلاً، وليس ببعيد عما ذكرناه، كذلك إظهار المشاعر القلبية، وهذا إظهار للأسباب الظاهرة فعلاً وقولاً، واستمع إلى هذه الآية العظيمة التي تبين ذلك الأمر بياناً شافياً: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وهي آية عظيمة في بلاغتها، وفيها روعة لا يمكن أن يحيط كلام الناس بعظمتها.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) فتلك في باب والأخرى في باب آخر، فإذا جاءتك السيئة أو وقعت الخطيئة أو حصلت المخالفة: (ادْفَع) أي: ادفعها وبددها، فهل يكون ذلك بالقوة؟ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ليس بالحسنى بل بالتي هي أحسن، أي: بغاية ما يمكن من الإحسان والتلطف الذي يحصل به الأثر بإذن الله عز وجل.

وكثيراً ما تسمع من الناس غير ذلك، فإن أسيئ إليك وأردت أن تكون واسع الصدر وأن ترد الإساءة بإحسان جاءك من يقول لك: لم ترض بالهوان؟ ولم تقبل بالذل؟ لو كنت مكانك لرددت الصاع صاعين، إن مثل هذه الأقوال نصائح على غير المنهاج القويم، وإن كان لكل مقام مقال كما سنذكر في بعض الأحوال.

انتبه إلى مثل هذا المعنى وهو الذي تكررت به الآيات في سياق الخطاب والحوار في النصح لعتاة وطغاة كبار، يقول الحق جل وعلا: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:25-26].

انتبه لهذا المعنى: (قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)، نحن أهل حق وأهل إسلام وإيمان قد نخاطب أهل كفر وطغيان وعصيان، نقول: (لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) كأننا نقول لهم: لا تنظروا في الابتداء إلى أننا أهل حق وأنتم أهل باطل، وإنما نقول لكم: تأملوا وتدبروا، ورحم الله مصعب بن عمير يوم دعا في المدينة فجاءه أسيد بن حضير مرسلاً من سعد بن معاذ يقول: اخرج عنا ولا تفرق بيننا! قال: أوغير ذلك؟ قال: ما عندك؟ قال: تجلس فتسمع، فإن أعجبك الذي قلنا وإلا أعطيناك الذي أردت، قال: لقد أنصفت.

كلام منطقي من عاقل، فسمع فشرح الله صدره، ونور قلبه، ونطق بالتوحيد لسانه، ورجع إلى سعد داعياً، فأسلم سعد وأسلم من بعد سعد قومه كلهم.

تأمل هذا المعنى فإنه عزيز وقليل من الناس من يحسنه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، وكلمة: (يا بني) هي أسلوب تلطف وتودد، وترغيب وتحفظ، وهو أب يمكن أن يكون آمراً وزاجراً ولا شيء غير ذلك، لكنه عندما أراد أن تكون موعظته بليغة ونافعة، ونصيحته مؤثرة وبالغة حينئذ قال: (يا بني).

وإذا رأينا أبا الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يخاطب أباه وقد كان زعيم الكفر في وقته: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، هذا المعنى (يا أبت) لم ينقص حقه، ولم ينس قدره، ولم يخف عليه أن مثل هذا المدخل قد يكون له أثره.

وقصة موسى وفرعون معروفة: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44].

هذه معان كثيرة نحتاج إليها، ولذلك قد يكون من هذا إظهار شيء من التودد والتلطف أو التقدير والاحترام بقصد التأثير، فإن وقع ذلك فالحمد لله، وإن لم يقع فأنت قد أديت ما عليك، ومن أصر على معصيته فعاوده بين فينة وأخرى بأسلوب يناسبه، مرة فيه لين، ومرة قد يكون فيه شدة.

وهذا أمر مهم والنبي صلى الله عليه وسلم عندما خاطب ملوك الأرض من حوله ذكرهم بمناقبهم ومناصبهم؛ لأنهم بها يخاطبون وإن كانوا ليسوا معظمين في الميزان الإيماني والإسلامي، فكتب إلى الملوك فقال: (إلى هرقل عظيم الروم)، (إلى كسرى عظيم الفرس).

وفي قصة المسلمين في الحبشة ما يدل على ذلك، فلما خاطب جعفر بلسان المسلمين النجاشي قال: (أيها الملك) فأعطاه مقامه الذي هو فيه؛ حتى يكون ذلك التوقير داعياً إلى إصغائه، ولو أنه أهمله أو أنكره أو جفا عليه أو احتقره؛ لما كان له أن ينصت له أو أن يصغي إليه.

الاختيار المناسب للأسلوب

الخامس: الاختيار المناسب للأسلوب بحسب الظروف المتغيرة:

ومن ذلك اختيار الأوقات المناسبة، وهذا أمر عزيز في النصيحة، فكم من نصيحة نقذفها في وجه صاحبها وهو في أوج غضبه، أو وهو في شدة أزمته أو كربه فلا يكاد يسمع شيئاً.

خذوا هذا الموقف: اختصم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اثنان، فعلت أصواتهما، حتى احمر وجه أحدهما وظهرت أوداجه في رقبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من بعد: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فسعى بها رجل)، يعني: سمعها رجل من النبي صلى الله عليه وسلم فذهب بها إلى الرجل وقال له: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا (فمن شدة غضب الرجل وفورته قال: اذهب عني فإني لست بمجنون)، أي: تقول لي: استعذ من الشيطان وكأن الشيطان قد ركبني!

لو كان هذا في وقت بعده بقليل لربما كان أنسب.

وخذوا فقه العظيم النبي صلى الله عليه وسلم عندما: (جاءه حكيم بن حزام فسأله مالاً فأعطاه، ثم جاء في وقت آخر فسأله فأعطاه، ثم جاء ثالثة فسأله فأعطاه، ثم قال له: يا حكيم ! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه).

سأله في أول مرة وهو محتاج فأعطاه، لو قال له في ذلك الوقت: السؤال ليس مناسباً والتسول ليس مطلوباً لقال: إنما يريد أن يصرفني، ولا يريد أن يعطيني، لكنه أعطاه، والمرة الثانية أعطاه، والمرة الثالثة أعطاه، فلما أشار له إشارة أن التطلب لهذا المال قد لا يكون مناسباً وقعت النصيحة والموعظة في موقعها، وعلم أنه ما قال له ذلك لأنه بخيل -فحاشاه عليه الصلاة والسلام- أو لأنه لا يريد أن يعطيه، وإنما قاله له لمصلحته، فعرف ذلك بعد أن اختار الوقت المناسب وبعد أن سد له حاجته في مرة واثنتين حتى لا تذهب به الظنون بعيداً، فأي شيء أثر ذلك في حكيم؟

قال: (فما سألت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مت)، وفي عهد أبي بكر أرسل له عطاءه المستحق له من بيت المال فرده قال: (والله لا أرزأ أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي عهد عمر رد عطاءه.

انظروا كيف تغلغل أثر هذا في نفسه حتى إنه لم يعد يأخذ شيئاً ولو كان له فيه حق؛ لأن نفسه سمت وارتفعت عن أن يأخذ بعد أن فقه هذه النصيحة فقهاً له أثره العظيم في حياته.

والتخول بالموعظة كان من هديه عليه الصلاة والسلام، فهذا أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود كان يعظ الناس ويذكرهم كل خميس قالوا: وددنا يا أبا عبد الرحمن ! لو أنك ذكرتنا كل يوم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا، إذاً: كلهم لهم به عليه الصلاة والسلام اقتداء وهم لأثره في اقتفاء، ولذلك كانت أفعالهم على هذا النحو العظيم المؤثر النافع.

وكذلك من ضمن ما يدخل في الوقت المناسب المراوحة والمزاوجة بين الإسرار والإعلان:

فنصيحة الفرد غالباً ما يكون الأفضل فيها والأتم أن تكون في السر بينك وبينه، وأما نصيحة العموم إذا فشا أمر، فالخطيب يريد أن يذكر، والعالم يريد أن ينبه، والناصح يريد أن يحذر، ولا بأس بذلك، ولكنه وإن كان معلناً فينبغي أن يكون للعموم، ليس فيه تحديد، فكم من حادثة كان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر فيها وينصح على الملأ ولكن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.. ثم ينبه. لست في حاجة أن أقول: فعل فلان أو أن أصف وصفاً يعلم الناس كلهم أن المقصود به فلان وفلان، فذلك لم يعد نصيحة بل فضيحة، ولذلك فإن مراعاة مثل هذه الصفات لها أثرها في أن تقع النصيحة على الوجه المطلوب.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد الآراء وأصوب الأفعال، وأن يجعل ذلك العمل كله خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وأول هذه الشرائط والأسباب: العلم بما ينصح به:

فلا ينبغي أن تتقدم بنصح في أمر لا تعلمه، ولا تعرف فيه حكم الله، وليس لك اطلاع فيه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النصيحة أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإنها دعوة إلى الله لابد فيها من علم وفهم وإدراك: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، قدم العلم على ما ينبني عليه بعد ذلك من العمل.

ويقول الحق جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] (على بصيرة) أي: على علم وبينة ومعرفة تامة وواضحة.

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] والحكمة: وضع الشيء في موضعه، ولا يمكن أن تضعه في موضعه ما لم تكن به عالماً، وبالأحوال والظروف المحيطة مدركاً، وذلك ما ينبغي أن يكون.

ومن فقه أئمتنا أنهم نبهوا على أهمية العلم قبل العمل، وقبل النصح والإرشاد الذي لابد أن يكون قوامه ذلك العلم، فمما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: العامل بغير علم يفسد أكثر مما يصلح.

وهذا أمر بين نحتاج إليه، وكم من صور سنعرض لها يتقدم فيها من ينصح وهو ينصح بالباطل! وينصح بما يخالف النفع والفائدة المبنية على أساس الشريعة الإسلامية.

وأما الثاني للكمال في هذه النصيحة فهو عمل الناصح بما ينصح به:

فإن القدوة الحسنة لها أثرها في النفوس، فإن وافق الفعل القول كان ذلك أبلغ في الفهم والمعرفة وفي القبول والإقبال على هذه النصيحة، ولقد ورد الذم كثيراً وعظيماً لمن يخالف قوله فعله، ولمن لا يلحق القول بالفعل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].

وفي سياق ما ذكر من صفات مذمومة كان عليها بعض أهل الكتاب قول الحق جل وعلا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، ولا يعني ذلك -كما أشرنا من قبل- أن تترك النصح إذا رأيت الخطأ وأنت غير مستقيم، فإن النصح في هذه الحالة يكون نصحاً للآخر ونصحاً لك، وذلك يقودك إلى مراجعة نفسك: ما بالي أقول لا تفعلوا وأنا أفعل؟ ما بالي أقول اجتنبوا وأنا ارتكب؟ فيكون ذلك عظة للإنسان.

لكننا نتحدث هنا عن الكمال الذي يجعل للنصيحة أثرها النافع والمفيد، ومن حديث أسامة بن زيد وهو صحيح، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب رجل في يوم القيامة صفته: أنه يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، قال صلى الله عليه وسلم: (فيؤتى به يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى؛ فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

وتلك صورة من العقاب المعنوي والحسي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً وموعظة، وتحذيراً وترهيباً من مثل هذا السلوك.

ولا شك أننا ندرك تماماً أن المخالفة بين القول والفعل من أسباب عدم قبول النصيحة، وحصول أثر الدعوة، ومن هنا جاء الخطاب القرآني على لسان نبي من أنبياء الله عز وجل: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88]، لا أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أخالف وأكون أنا الذي أفعله، فيكون ذلك كما ذكر ابن القيم من صفات علماء السوء الذين يعظون الناس بأقوالهم، ويصدونهم عن سبيل الله بأفعالهم، فشبههم بالذين يصطادون الناس بالصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل وعن دينه سبحانه وتعالى.

الثالث: إظهار الحرص والتجرد عند النصح:

أما الحرص فنقصد به إظهار الحرص على ذلك المنصوح، وأن تبدي له غاية الشفقة به، وعظيم الرحمة له، وأن تجسد له أنك تريد له الخير، وتضمر له الحب، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تغزو بها النصيحة القلوب والعقول.

ولعلنا نستحضر هنا الوصف العظيم الذي وصف به نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فهو الذي فاض قلبه بالرحمة فكان يشفق على كل عاصٍ، ويحزن لكفر الكافر، ويريد أن يكون الناس كلهم في سياق رحمة الله عز وجل ورضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق مبيناً صفته مع الناس: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تتقحمون فيها)، كما ورد في بعض الروايات.

فكأن الناس قد انساقوا وتسارعوا إلى النار غفلة عن الله عز وجل أو كفراً به أو ولوجاً في المعاصي، وتأتي هداية النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ورحمته لترد الناس عن هذا المصير السيئ والخاتمة الشقية إلى حياض دين الله عز وجل.

ومن هنا رأينا مواقف رحمته كيف أثرت في نفوس العتاة الصادين عن دين الله! فتتت قسوة قلوبهم وألانتها بما كان من هذا الحرص والإظهار للمحبة والشفقة.

وكيف نريد أن يقبل منا النصح والمنصوح قد يرى أننا لا نضمر له إلا شدة، ولا نريه إلا غلظة، ولا يسمع منا إلا فظاظة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، والله جل وعلا صدر الآية بالرحمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فالله الله عندما ننصح أن يكون إظهار هذا المعنى مهماً.

والمعنى الآخر هو التجرد: أي التجرد عن المصلحة والمنفعة، إنما أنصحك لوجه الله لا أريد منك جزاءً ولا أنتظر منك شكوراً، ولا أرقب منك أن ترد لي المعروف مادة أو شيئاً من ذلك، وذلك لسان حال الرسل والأنبياء كلهم فيما قص القرآن من خبرهم: (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس:72].

ويوم يتنزه الناصح والداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويعظم قدره في عيونهم، ويرون صدق إخلاصه، فيكون لذلك أثره في القبول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88]، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من أرب، إلا أن يجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وبما أرقب من النفع استجابة لدعوتي.

فالله الله في مثل هذا السلوك؛ لأنه هو الذي يقود بإذن الله إلى حصول الأثر.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2910 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2537 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2536 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2470 استماع
التوبة آثار وآفاق 2454 استماع