نحن أمة الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي رضي لعباده دين الإسلام، واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنام، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه رحمة للناس أجمعين، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين إلى جنات النعيم.

أشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! معاشر المسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! روى حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (ما كان يتحرى صيام يوم من الأيام مثلما كان يتحرى صيام يوم عاشوراء، ومثلما كان يتحرى شهر صوم رمضان المبارك). وجاء في صحيح مسلم أيضاً عن ابن عباس حين صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا له: إنه يوم تعظمه اليهود؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع). وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أيضاً قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك، فقالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله فيه بني إسرائيل فصامه موسى؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).

وفي مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).

وهذه الأحاديث المروية عن ابن عباس رضي الله عنه في الكتب الصحيحة تدلنا على جملة أمور مهمة منها: فضيلة صيام يوم عاشوراء، وهو أمر معلوم من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، غير أن هناك أمراً له أهمية عظمى نحتاج أن ننبه عليه، وأن نقف معه، وأن نتذاكر فيه، وذلك أن مجموع هذه الأحاديث وغيرها يذكرنا بمعنىً مهم من المعاني العظيمة التي نحتاجها سيما في هذا العصر، وهو: معنى تميز الأمة الإسلامية وأفضليتها، وتقدمها على سائر الأمم والأديان، فنحن نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذه الأحاديث حرصه على أن تكون أمته متميزة عن غيرها من الأمم، ومخالفةً لمن سبقها من أهل الملل والأديان.

ثم في هذه الأحاديث إشعار بالفضيلة عندما قال عليه الصلاة والسلام: (أنا أحق بموسى منكم)، وعندما أمر أصحابه رضوان الله عليهم أن يصوموا هذا اليوم.

ووقفتنا مع هذه الأمة الإسلامية في تميزها وفضيلتها التي جعلها الله عز وجل لها، فقد صح عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) يعني بذلك أمته (الآخرون) أي: في الزمن، فقد جاءوا بعد اليهود والنصارى ومن قبلهم من أمم الرسل والأنبياء، (السابقون) يوم القيامة بالفضل والعظمة التي خص الله بها هذه الأمة، (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم) أي: يوم الجمعة الذي يكون فيه التعظيم، قال: (فاختلفوا فيه فهدانا الله عز وجل له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد)، فالجمعة مقدمة، وهي الصواب في تعظيم اليوم الذي أراده الله سبحانه وتعالى للبشر، فوفقت إليه أمة الإسلام وهديت له، واختلف فيه اليهود والنصارى فجاءوا بعد أمة الإسلام.

أمة الإسلام أمة التوحيد الخالص

نحن أمة الإسلام التي ميزها الله عز وجل، نريد أن نقف وقفات يسيرة هي عبارة عن بعض الأمثلة التي تشير إلى كثير من مميزات هذه الأمة العظيمة التي تميزت وفضلت في شتى المجالات التي جاءت فيها هداية الله عز وجل للناس.

انظر -أخي رعاك الله!- إلى أعظم أمر في هذا الوجود وفي هذه الحياة، إنه أمر التوحيد والإيمان بالله عز وجل.

انظر إلى أمة الإسلام وإلى غيرها من الأمم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30].

انظر إلى مقالة تلك الأمم وتلك الملل في حق أعظم بنيان وأساس في هذه الحياة، إنه أساس الإيمان بالله عز وجل، تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، وأمة الإسلام هي أمة التوحيد الخالص، ويكفينا فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وأقر الذي كان يحب أن يقرأها في كل صلاة؛ لأنها صفة الرحمن: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، سورة من قصار سور القرآن تؤكد التوحيد والوحدانية الخالصة التامة لله عز وجل، مع نفي الولد والشريك والند له سبحانه وتعالى، هذه السورة يحفظها أطفال المسلمين قبل أن ينطقوا بأسمائهم، وقبل أن يعرفوا كثيراً من الكلمات التي يلهجون بها بعد ذلك.

أمة الإسلام آمنت بجميع الرسل والكتب

وانظر إلى أمر آخر في شأن الرسل والأنبياء المبلغين لرسالات الله عز وجل؛ لترى تميز هذه الأمة العظيمة التي أراد الله عز وجل لها شرفاً وفضلاً، وكتب لها امتداداً إلى قيام الساعة، يقول الله عز وجل في شأن بني إسرائيل: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، هذا ما خبرنا الله عز وجل به عنهم، وقد نطق التاريخ على امتداد أزمانه وتباين أقطاره واختلاف تجمعاتهم بصدق ما أخبرنا الله عز وجل به، بينما أمة الإسلام مأمورة بقول الله عز وجل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، إيمان عظيم، وتوحيد صحيح، يشمل الإيمان بالرسل والأنبياء حق الإيمان، دون هذه الآفات والإفك الذي افتراه أولئك القوم.

ويقول الله سبحانه وتعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].

أمة الإسلام استجابت لجميع الأوامر الإلهية دون تمرد أو تكذيب

نحن أمة الإسلام نتميز بهذا الإيمان الصادق، وانظر إلى أمر الله سبحانه وتعالى الذي أنزله في كتبه، وأوحى به إلى رسله، ماذا كان موقف الأمم السابقة منه؟ وما موقف أمة الإسلام منه؟

قال الله عن بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]، وهم الذين كانوا يتحايلون على أمر الله عز وجل، ويستهزئون بأمره سبحانه وتعالى، لما أمرهم أن يدخلوا القرية سجداً أذلاء، وأن يقولوا: حطة، وأن يستغفروا الله عز وجل؛ استهزئوا بذلك وقالوا: حنطة في شعير! تعالى الله عز وجل عما يقولون علواً كبيراً.

وانظر في مقابل ذلك الأمر الإلهي لأمة الإسلام، والسمت الذي وصف الله عز وجل به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، بل صحب النبي صلى الله عليه وسلم -وهم مثل الشرف لهذه الأمة- مدحوا بالاستجابة القصوى الكاملة في العسر واليسر، والمنشط والمكره كما قال جل وعلا في وصف ما كان منهم في أعقاب أحد: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]، خرجوا في اليوم التالي ليوم أحد وجراحهم تنزف دماً، وبعض أعضائهم مقطعة، خرجوا وقد مات منهم من مات من الأهل والأحباب، وما تخلف منهم رجل واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وفي يوم بدر قبل أحد قال المقداد : (لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).

نحن أمة الإسلام هذا تاريخنا وهذا وصفنا.

من سمات أمة الإسلام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثم انظر إلى السمت الأعظم الذي يحفظ الله به الأمم، ويبقي تاريخها، ويستمر به أثرها، ذلكم هو ركيزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تذكر الغافل، وتعلم الجاهل، وترد الظلم، وتردع الباغي، فتحفظ حينئذ أمر الله عز وجل، وتسعى جاهدة للقيام الكامل التام بشرعه وحكمه سبحانه وتعالى، ماذا كان وصف الأمم السابقة من قبلنا؟ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

وأخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه أن أحدهم كان يرى أخاه على المنكر فيقول: يا هذا! لا تفعل كذا فإنه لا يحل لك، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، واستشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية.

ونحن أمة الإسلام سمتنا الأعظم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضيلتنا الكبرى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه السمة في أمة الإسلام لا تنقطع أبداً مهما بغى الباغون، وتجبر المتجبرون، واعتسف الظالمون، ومهما غفل الغافلون، وأسرف في المعاصي أهل الشهوات، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)، لا يخلو منهم زمان ولا مكان، مرتبطون بأمر الله، قائلون بالحق في سبيل الله عز وجل.

تولي الله بنفسه حفظ كتابه لأمة الإسلام

وانظر بعد ذلك إلى سائر الأمور العظيمة التي يحفظها الله عز وجل للأمم: أمر حفظ كتاب الله عز وجل، وما كان شأن الكتب السابقة قبله.

يقول الحق جل وعلا في شأن الكتب السابقة، وكيف جعل حفظها لأهلها: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44]، جعل إليهم حفظه، فخان كثير منهم الأمانة، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وغيروا دين الله عز وجل، وجعلوا كلامهم مقدماً على كلام الله، واتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، ولما سمع هذه الآية عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم، قال: أفلم يكونوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، أما نحن أمة الإسلام فقد أكرمنا الله عز وجل بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

تخفيف الصلاة عن أمة الإسلام إلى خمس صلوات

وانظر إلى شأن العبادات كلها، فإنك تجد لهذه الأمة فيها تميزاً وفضيلة، وتميزها مخصوص بها لتخالف غيرها، ولئلا تتشابه مع غيرها، ولئلا تكون بالضرورة ومن باب أولى تبعاً لغيرها، بل هي المقدمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)، وهي على الصواب، والمخطئ يلتمس منها دليل صوابها.

ينبغي أن نتأمل هذا المعنى العظيم، وانظر إلى العبادات، فهذه الصلاة -وهي الركن الثاني بعد التوحيد وبعد الشهادتين- نعلم جميعاً في الحديث الصحيح الطويل في قصة الإسراء والمعراج؛ أن الله فرض الصلاة في اليوم والليلة خمسين صلاة، ثم خففها لهذه الأمة فجعلها خمساً من الصلوات وتعدل خمسين في الأجر عند الله عز وجل، وجعلت على تشريع يشمل الليل والنهار، وفي سائر الأوقات، وبما يحقق الأمر الأعظم، والفائدة الجلية لأهل الإيمان والإسلام.

التخفيف على أمة الإسلام في الصيام

انظر إلى الصيام، فقد قال الله عز وجل فيه: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، ثم جاء التميز لأمة الإسلام تخفيفاً وتفضيلاً عندما قال الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] إلى آخر الآيات.

انظر إلى كل هذه المعاني، فإنك تجد هذا التفضيل الواضح لأمة الإسلام كما ينبغي أن نعيه ونعرفه.

وفي الجملة قال الله عز وجل في هذا الشأن: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]، جاء في وصفه عليه الصلاة والسلام الذي أنعم به الله على أمة الإسلام: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].

هذا وصف أمة الإسلام، وذكرنا بعض الأمثلة في تميزها ومخالفتها لغيرها كما نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام في شأن أحاديث عاشوراء، وأنه ينبغي لنا أن نكون مسلمين معتزين بالإسلام، وليس مسلمين فحسب، بل لا نأخذ من غيرنا، ولا نتبع غيرنا؛ لأن الله عز وجل قد أكمل لنا دينه، ورضيه لنا، وأتم نعمته علينا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن الذين يقتفى أثرنا، ويؤخذ منا، ويلجأ إلينا في شأن هذه الشريعة الربانية التي أكرمنا الله عز وجل بها.

نحن أمة الإسلام التي ميزها الله عز وجل، نريد أن نقف وقفات يسيرة هي عبارة عن بعض الأمثلة التي تشير إلى كثير من مميزات هذه الأمة العظيمة التي تميزت وفضلت في شتى المجالات التي جاءت فيها هداية الله عز وجل للناس.

انظر -أخي رعاك الله!- إلى أعظم أمر في هذا الوجود وفي هذه الحياة، إنه أمر التوحيد والإيمان بالله عز وجل.

انظر إلى أمة الإسلام وإلى غيرها من الأمم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30].

انظر إلى مقالة تلك الأمم وتلك الملل في حق أعظم بنيان وأساس في هذه الحياة، إنه أساس الإيمان بالله عز وجل، تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، وأمة الإسلام هي أمة التوحيد الخالص، ويكفينا فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وأقر الذي كان يحب أن يقرأها في كل صلاة؛ لأنها صفة الرحمن: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، سورة من قصار سور القرآن تؤكد التوحيد والوحدانية الخالصة التامة لله عز وجل، مع نفي الولد والشريك والند له سبحانه وتعالى، هذه السورة يحفظها أطفال المسلمين قبل أن ينطقوا بأسمائهم، وقبل أن يعرفوا كثيراً من الكلمات التي يلهجون بها بعد ذلك.

وانظر إلى أمر آخر في شأن الرسل والأنبياء المبلغين لرسالات الله عز وجل؛ لترى تميز هذه الأمة العظيمة التي أراد الله عز وجل لها شرفاً وفضلاً، وكتب لها امتداداً إلى قيام الساعة، يقول الله عز وجل في شأن بني إسرائيل: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، هذا ما خبرنا الله عز وجل به عنهم، وقد نطق التاريخ على امتداد أزمانه وتباين أقطاره واختلاف تجمعاتهم بصدق ما أخبرنا الله عز وجل به، بينما أمة الإسلام مأمورة بقول الله عز وجل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، إيمان عظيم، وتوحيد صحيح، يشمل الإيمان بالرسل والأنبياء حق الإيمان، دون هذه الآفات والإفك الذي افتراه أولئك القوم.

ويقول الله سبحانه وتعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].

نحن أمة الإسلام نتميز بهذا الإيمان الصادق، وانظر إلى أمر الله سبحانه وتعالى الذي أنزله في كتبه، وأوحى به إلى رسله، ماذا كان موقف الأمم السابقة منه؟ وما موقف أمة الإسلام منه؟

قال الله عن بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]، وهم الذين كانوا يتحايلون على أمر الله عز وجل، ويستهزئون بأمره سبحانه وتعالى، لما أمرهم أن يدخلوا القرية سجداً أذلاء، وأن يقولوا: حطة، وأن يستغفروا الله عز وجل؛ استهزئوا بذلك وقالوا: حنطة في شعير! تعالى الله عز وجل عما يقولون علواً كبيراً.

وانظر في مقابل ذلك الأمر الإلهي لأمة الإسلام، والسمت الذي وصف الله عز وجل به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، بل صحب النبي صلى الله عليه وسلم -وهم مثل الشرف لهذه الأمة- مدحوا بالاستجابة القصوى الكاملة في العسر واليسر، والمنشط والمكره كما قال جل وعلا في وصف ما كان منهم في أعقاب أحد: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]، خرجوا في اليوم التالي ليوم أحد وجراحهم تنزف دماً، وبعض أعضائهم مقطعة، خرجوا وقد مات منهم من مات من الأهل والأحباب، وما تخلف منهم رجل واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وفي يوم بدر قبل أحد قال المقداد : (لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).

نحن أمة الإسلام هذا تاريخنا وهذا وصفنا.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2914 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2733 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2633 استماع
المرأة والدعوة [1] 2548 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2545 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2541 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2491 استماع
خطبة عيد الفطر 2474 استماع
التوبة آثار وآفاق 2455 استماع