غزوة أحد درس التضحية والثبات


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل؛ أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً ننال به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، نحمده جل وعلا على كل حال وفي كل آن، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه وكان أبعدنا عنه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

دروس السيرة معين لا ينضب

أيها الإخوة المؤمنون! حنين كثير وشوق كبير يشدنا دائماً إلى السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لنجلس في أفياء أحداثها مجلس التلاميذ الذين يتلقون العلوم والدروس النافعة المفيدة في أمور العقيدة والإيمان، والعبادة والأحكام، والسيادة والقيادة، والحرب والجهاد، والسلم وإدارة شئون الحياة؛ إنها مدرسة كاملة لإعمار هذه الدنيا على منهج الله عز وجل، وللسعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى في الآخرة.

وإن الوقفة التي نحب أن نقفها اليوم تتصل بأحداث غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، وقد كانت لنا وقفات كثيرة سابقة، وفي كل مرة نأخذ ومضة من ومضاتها، ونقف مع درس من دروسها؛ لأنها معين لا ينضب من هذه الدروس والعبر والفوائد والمنافع، وإن درس اليوم الذي نقف عنده هو: درس التضحية والثبات؛ فإن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.

إن هذا الدين لابد له من علم ينشر، ودعوة تبذل، وأموال تنفق، ومهج وأرواح تزهق في سبيل الله عز وجل، إنه ليس أمراً هيناً؛ إنها الرسالة العظيمة الخالدة، إنها الأمانة الكبيرة الماجدة: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، ويخاطب الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، إنها أمانة هذا الدين والرسالة الخاتمة من رب العالمين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها يوم يقوم الناس لرب العالمين.

هذه الرسالة العظيمة، وهذا الدرس الكريم نقف مع ومضات منه لنرى صورته في غزوة أحد، ولست معنياً بالوقوف مع الأحداث وترتيبها، وإنما نأخذ هذا الدرس الواضح الجلي في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين.

وقبل أن نأخذ هذا الدرس من الصحابة رضوان الله عليهم نقف وقفة مع الجانب المناوئ للمسلمين، نقف وقفة لنرى صوراً من تضحية أهل الباطل، ونماذج من ثباتهم على باطلهم لا لشيء إلا تشبثاً بحمية الجاهلية، وإعزازاً لمذاهب الكفر، وإرغاماً للإسلام وأهله، فإن الكفر أيضاً لا ينتشر إلا ووراءه جهود تبذل، وأموال تنفق، وجهود وأعمال كبيرة، أفيكون أهل الباطل أحرص على باطلهم، وأغير على كفرهم، وأبذل له من أهل الحق والإيمان؟ لم يكن ذلك أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.. بل كان أهل الإيمان هم السابقون في تضحياتهم، الشامخون في ثباتهم رضوان الله عليهم أجمعين.

لما انتهت غزوة بدر كانت جراح مشركي مكة عظيمة غائرة، ونكبتهم وخسارتهم فادحة، وعظمتهم قد مرغت في التراب، ونفوسهم تشتعل نيراناً للأخذ بثأر كفارهم وقتلاهم من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ولم يكن الأمر مقتصراً على بدر؛ فقد كانت بين بدر وأحد وما بينهما من السرايا ما أظهر الله عز وجل به كلمة الإسلام، وكان آخرها: سرية زيد بن حارثة ، التي عرض فيها لقافلة من قوافل قريش التجارية، ورغم أنهم تجنبوا طريق المدينة إلا أن سرية زيد بن حارثة أدركتهم وسبت كل مالهم وتجارتهم وفروا هاربين، فما كانت صورة استعدادات أهل الكفر؟ وما هي تطبيقاتهم العملية في ميدان المعركة؟

بذل أهل الباطل لأموالهم

لما نجت قافلة قريش الأولى في بدر ولقي المشركون الهزيمة، قال زعماؤهم وكبراؤهم: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم؛ فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً.

هذه القافلة التجارية التي كانت سبب غزوة بدر نريد أن تنفق لتجهيز الجيوش، وقيام الحملات الإعلامية، وتكتيل الصفوف لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.. تجارة موسمية كاملة، وخاطب قريش كبار تجارهم: إن هذه الأموال نريد أن تحول لتكون وقوداً للتعبئة العسكرية علنا أن ندرك من محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً، فأجابوا إلى ذلك؛ فباعوها كلها وأنفقوها في حرب الإسلام والمسلمين، وكانت تلك القافلة كما ذكر أصحاب السير: ألف بعير كاملة، وخمسين ألف دينار؛ أنفقت كلها لحرب الإسلام والمسلمين، ونزل في ذلك كما ذكر بعض أهل السير والتفسير قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].

المهم أنهم ينفقون ويبذلون ونراهم اليوم يجددون تلك السيرة، ونراهم اليوم وهم يتنادون من كل مكان، لسان حالهم كما أخبر الله عز وجل في كتابه المحكم الكريم في شأن الكافرين وندائهم لبعضهم البعض: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، ولذلك تنادوا فأنفقوا الأموال لتجهيز الجيوش وحرب الإسلام والمسلمين، وهم اليوم يتنادون لذلك، وتصب الأموال بالملايين لتكون حرباً وقنابل وقذائف تصب على رءوس المستضعفين من إخواننا في البوسنة أو الشيشان أو فلسطين أو الهند أو في أي مكان من بلاد الإسلام والمسلمين.

تضحية أهل الباطل بأرواحهم

لننظر إلى صورة أخرى لنرى كيف يكون الباطل مدافعاً عن حقه وهو على باطل؛ حتى ندرك أن أهل الحق هم أولى بذلك.

قبل أن تبدأ المعركة كان من المتعارف عليه أن الراية دائماً في بني عبد الدار من قريش، وكان النضر بن الحارث هو حامل رايتهم في يوم بدر، وقد وقع أسيراً في أيدي المسلمين، ووقوعه في الأسر دليل على الخزي والذلة والجبن والخور، فلما جاءت معركة أحد جاء أبو سفيان القائد العام لجيوش كفار مكة يخاطب بني عبد الدار حتى يثير حميتهم، ويحضهم على التضحية والثبات، فيقول لهم ويناديهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إن زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.

وما كانت العرب أبداً لترضى بالذل والصغار، فصاح بنو عبد الدار: أنسلم لك الراية؟ لترين غداً كيف نصنع؟ وقد ثبتوا ثباتاً يعجب المرء منه، ويأخذ منه في الوقت نفسه درساً وعبرة.

كان حامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة العبدري سيد بني عبد الدار، فلما بدأت معركة أحد خرج مختالاً يطلب المبارزة، وكان فارساً من أشجع الشجعان الأبطال عند العرب، فهاب الناس لقاءه، ثم تقدم له الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فلم يلبث أن وثب الزبير وثبة عظيمة حتى كان معه على جمله، ثم صرعه من جمله فألقاه في الأرض، ثم ذبحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا صنع بنو عبد الدار بالراية التي أعطيت لهم؟ تقدم لها أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ورفع الراية مرة أخرى، وصار ينادي:

إن على أهل اللواء حقاً أن تخضب الصعدة أو تندقا

وظل يقاتل حتى جاءه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بسيفه البتار ضربة على كتفه خلع بها يده، حتى بلغ سيفه إلى رئته فقتله، ثم جاء بعد ذلك أخوه أبو سعد بن أبي طلحة العبدري ورفع اللواء مرة أخرى وهو ينادي ويشمخ بلسان بني عبد الدار مرة ثالثة، ثم جاءه بعد ذلك سعد بن أبي وقاص فرماه بسهم فأصاب حنجرته، فاندلقت لسانه فمات من حينه، ثم حمل اللواء بعد ذلك مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة ثم جاءه سهم من عاصم بن ثابت رضي الله عنه فقتله، ثم حمل الراية أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ثم قتل، ثم جاء أخوه الثالث وهو الجلاس بن طلحة ثم قتل، ستة نفر من بيت واحد ثلاثة إخوة وثلاثة أبناء لواحد من هؤلاء الإخوة، ثم تنادى بنو عبد الدار فحمل الراية منهم أرطأة بن شرحبيل ، فجاءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، فحمل الراية شريح بن قارض منهم أيضاً فقتل، ثم جاء أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتل، ثم جاء ولد لـشريح بن هاشم فقتل حتى فني في هذه الراية من بني عبد الدار عشرة منهم متواليين من كبارهم وزعمائهم وأشرافهم، فحمل الراية بعد ذلك غلام حبشي لبني عبد الدار يقال له: صواب ، وأبلى في حمل الراية أكثر مما أبلى أسياده من بني عبد الدار أنفسهم، حتى قطعت يداه فبرك على الراية بصدره وعضديه، حتى قطعت عنقه وهو يقول: اللهم آعززت؟ أي: هل قمت بحقها؟

فانظر رحمك الله كيف كان أهل الباطل يتوقدون غيرة وحمية وجاهلية.. يثبتون ويضحون لأجل باطلهم وجاهليتهم الزائفة وأمجادهم الباطلة، وأهل الإسلام يريدون أن ينالوا الشرف اليوم دون أن يضحوا، أو أن يبذلوا، أو يثبتوا، ويريدونها هينة سهلة وهم ينامون ملء عيونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ويضحكون ملء أشداقهم ما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم!

أيها الإخوة المؤمنون! حنين كثير وشوق كبير يشدنا دائماً إلى السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لنجلس في أفياء أحداثها مجلس التلاميذ الذين يتلقون العلوم والدروس النافعة المفيدة في أمور العقيدة والإيمان، والعبادة والأحكام، والسيادة والقيادة، والحرب والجهاد، والسلم وإدارة شئون الحياة؛ إنها مدرسة كاملة لإعمار هذه الدنيا على منهج الله عز وجل، وللسعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى في الآخرة.

وإن الوقفة التي نحب أن نقفها اليوم تتصل بأحداث غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، وقد كانت لنا وقفات كثيرة سابقة، وفي كل مرة نأخذ ومضة من ومضاتها، ونقف مع درس من دروسها؛ لأنها معين لا ينضب من هذه الدروس والعبر والفوائد والمنافع، وإن درس اليوم الذي نقف عنده هو: درس التضحية والثبات؛ فإن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.

إن هذا الدين لابد له من علم ينشر، ودعوة تبذل، وأموال تنفق، ومهج وأرواح تزهق في سبيل الله عز وجل، إنه ليس أمراً هيناً؛ إنها الرسالة العظيمة الخالدة، إنها الأمانة الكبيرة الماجدة: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، ويخاطب الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، إنها أمانة هذا الدين والرسالة الخاتمة من رب العالمين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها يوم يقوم الناس لرب العالمين.

هذه الرسالة العظيمة، وهذا الدرس الكريم نقف مع ومضات منه لنرى صورته في غزوة أحد، ولست معنياً بالوقوف مع الأحداث وترتيبها، وإنما نأخذ هذا الدرس الواضح الجلي في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين.

وقبل أن نأخذ هذا الدرس من الصحابة رضوان الله عليهم نقف وقفة مع الجانب المناوئ للمسلمين، نقف وقفة لنرى صوراً من تضحية أهل الباطل، ونماذج من ثباتهم على باطلهم لا لشيء إلا تشبثاً بحمية الجاهلية، وإعزازاً لمذاهب الكفر، وإرغاماً للإسلام وأهله، فإن الكفر أيضاً لا ينتشر إلا ووراءه جهود تبذل، وأموال تنفق، وجهود وأعمال كبيرة، أفيكون أهل الباطل أحرص على باطلهم، وأغير على كفرهم، وأبذل له من أهل الحق والإيمان؟ لم يكن ذلك أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.. بل كان أهل الإيمان هم السابقون في تضحياتهم، الشامخون في ثباتهم رضوان الله عليهم أجمعين.

لما انتهت غزوة بدر كانت جراح مشركي مكة عظيمة غائرة، ونكبتهم وخسارتهم فادحة، وعظمتهم قد مرغت في التراب، ونفوسهم تشتعل نيراناً للأخذ بثأر كفارهم وقتلاهم من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ولم يكن الأمر مقتصراً على بدر؛ فقد كانت بين بدر وأحد وما بينهما من السرايا ما أظهر الله عز وجل به كلمة الإسلام، وكان آخرها: سرية زيد بن حارثة ، التي عرض فيها لقافلة من قوافل قريش التجارية، ورغم أنهم تجنبوا طريق المدينة إلا أن سرية زيد بن حارثة أدركتهم وسبت كل مالهم وتجارتهم وفروا هاربين، فما كانت صورة استعدادات أهل الكفر؟ وما هي تطبيقاتهم العملية في ميدان المعركة؟

لما نجت قافلة قريش الأولى في بدر ولقي المشركون الهزيمة، قال زعماؤهم وكبراؤهم: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم؛ فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً.

هذه القافلة التجارية التي كانت سبب غزوة بدر نريد أن تنفق لتجهيز الجيوش، وقيام الحملات الإعلامية، وتكتيل الصفوف لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.. تجارة موسمية كاملة، وخاطب قريش كبار تجارهم: إن هذه الأموال نريد أن تحول لتكون وقوداً للتعبئة العسكرية علنا أن ندرك من محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً، فأجابوا إلى ذلك؛ فباعوها كلها وأنفقوها في حرب الإسلام والمسلمين، وكانت تلك القافلة كما ذكر أصحاب السير: ألف بعير كاملة، وخمسين ألف دينار؛ أنفقت كلها لحرب الإسلام والمسلمين، ونزل في ذلك كما ذكر بعض أهل السير والتفسير قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].

المهم أنهم ينفقون ويبذلون ونراهم اليوم يجددون تلك السيرة، ونراهم اليوم وهم يتنادون من كل مكان، لسان حالهم كما أخبر الله عز وجل في كتابه المحكم الكريم في شأن الكافرين وندائهم لبعضهم البعض: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، ولذلك تنادوا فأنفقوا الأموال لتجهيز الجيوش وحرب الإسلام والمسلمين، وهم اليوم يتنادون لذلك، وتصب الأموال بالملايين لتكون حرباً وقنابل وقذائف تصب على رءوس المستضعفين من إخواننا في البوسنة أو الشيشان أو فلسطين أو الهند أو في أي مكان من بلاد الإسلام والمسلمين.