وداعا رمضان
مدة
قراءة المادة :
24 دقائق
.
الآن وقد قَرُبَ شهر رمضان على الرَّحيل، ولم يتبقَّ منه إلا القليل، وداعًا تلك الليالي الإيمانية الرمضانية، وداعًا تلك النَّفحات الربانية، وداعًا يا عظيم القدر ، وداعًا شهر العتق والغفران، شهر الحسنات والخيرات والقرآن، فبالشوق نفتقدك وبالأيام والليالي نترقَّبك، ليطول بنا الانتظار للقائك من عامٍ إلى عام، فاللهمَّ بلِّغنا رمضان.مضى شهر بأكمله وكأنَّه ساعة من نهار، أو هنيهة من لَيل المحبِّين، وهكذا الأيام الجميلة تَمضي سريعًا كما أنها تأتي سريعًا، مضى بآثاره الزكيَّة في قلوب الطائعين، وتطهيره لنفوس الصائمين القائمين.
فاليوم نودِّع رمضان مرتحلًا عنَّا بما أودَعناه فيه، شاهدًا علينا بما قدَّمناه بين يديه، فهنيئًا لِمن كان شاهدًا له عند الله بالخير، شافعًا له بدخول الجن َّة والعتق من النار ، وويل ثمَّ ويل لمن كان شاهدًا عليه بسوء عمله، شاكيًا إلى ربه من تفريطه وتضييعه، قال صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ»؛ (رواه الترمذي وأحمد).
وقال الشاعر:
يا غَافِلًا وَليالِي الصَّومِ قَد ذَهَبَتْ *** زادَتْ خَطَايَاكَ قِفْ بِالبَابِ وَابْكِيهَا
وَاغْنَمْ بقيةَ هذا الشَّهْرِ تَحْظَ بمـا *** غرسْتَهُ مِنْ ثِمَارِ الخيرِ تَجْنِيــهَـــــا
وقد كان عليُّ بن أبي طالب يُناجي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليتَ شِعري مَن هذا المقبول فنهنِّيَه، ومن هو المحروم فنعزِّيَه.
أي شيء أدرك مَن أدركَه في رمضان الحِرمان؟! كم بين مَن حظُّه فيه القَبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران! رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع والعطش.
أولًا: قيِّم نفسك في رمضان:
فرمضان به الكثير من العطايا والمِنح والطاعات التي لا بدَّ وأن يستغلَّها المسلم طوال شهر رمضان العظيم؛ لذا كان من المهمِّ أن نتعرَّف على خير الأعمال في رمضان، ونبدأ بتقييم أنفسنا من خلالها وتحسين أداء أعمالنا خلال الشهر الكريم:
1- الصوم:
عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ عمل ابن آدم له؛ الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ، إلَّا الصِّيام فهو لي، وأنا أجزي به، إِنَّهُ يَتْرُكُ الطَّعَامَ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، وَيَتْرُكُ الشَّرَابَ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، فهو لي وأنا أجزي به».
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ (أخرجه البخاري ومسلم).
لهذا فليراجِع كلٌّ منا نفسَه، ويبادِر بالسؤال: هل صمت رمضان حقَّ الصوم؟
2- القيام:
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 63، 64].
وقد كان قيام الليل دَأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قالت عائشة : رضي الله عنها: "لا تدَع قيامَ الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يَدعه، وكان إذا مَرض أو كسل، صلَّى قاعدًا".
3- الصدقة :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الرِّيح المرسلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصَّدَقة صَدقة في رمضان»؛ (أخرجه الترمذي عن أنس).
والصدقة في رمضان لها صور كثيرة، منها:
• تفطير الصائمين:
قال صلى الله عليه وسلم: «من فطَّر صائمًا، كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصَّائم شيء»؛ أخرجه أحمد والنسائي، وصححه الألباني .
4- قراءة القرآن:
شهر رمضان هو شَهر القرآن، فينبغي أن يكثِر العبدُ المسلم من قراءته، وقد كان حال السَّلَف العناية بكتاب الله، فكان جبريل يدارِس النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم القرآنَ في رمضان، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يَختم القرآنَ كلَّ يوم مرَّة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في كلِّ سَبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرؤون القرآنَ في الصلاة وفي غيرها.
5- الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس:
عن جابر بن سمُرة: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم كان إذا صلَّى الفجر َ، جلس في مُصلَّاه حتى تطلُع الشمسُ حَسَنًا"؛ صحيح مسلم (1/ 464).
عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن صلَّى الفجرَ في جماعةٍ، ثُمَّ قعد يذكرُ اللهَ حتى تطلُع الشَّمسُ، ثُمَّ صلَّى ركعتين، كانت له كأجر حجَّةٍ وعُمرةٍ»، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ»؛ شرح السنة للبغوي (3/ 221).
6- الاعتكاف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَعتكفُ في كلِّ رمضان عشرة أيَّامٍ، فلمَّا كان العام الذي قُبض فيه، اعتكف عشرين يومًا"؛ صحيح البخاري (3/ 51).
فالاعتكاف من العبادات التي تَجمع كثيرًا من الطَّاعات؛ من التلاوة، والصلاة، والذكر، والدعاء، وغيرها.
وقد يتصوَّر مَن لم يجرِّبه صعوبته ومشقَّته، وهو يسير على من يسَّره الله عليه، فمن تسلَّح بالنية الصالحة والعزيمة الصادقة، أعانه الله.
7- العمرة في رمضان:
عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «عُمرةٌ في رمضان تعدلُ حجةً»؛ رواه ابنُ عُقدة، عن علي بن مُحمد بن زيادٍ، عن أبي مُحمد بن الرومي، مسند أبي حنيفة، رواية أبي نعيم (ص: 96).
8- تحري ليلة القدر:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مَن قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ (صحيح البخاري (3/ 26).
9- الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار:
عند الإفطار، وفي الثُّلث الأخير من الليل، والاستغفار بالأسحار، وتحرِّي ساعة الإجابة يوم الجمعة ، وأحراها آخر ساعة من نهار يوم الجمعة.
10- صِلَة الرَّحم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «مَن سرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رَحِمه»؛ (صحيح البخاري (8/5).
ثانيًا: ماذا بعد رمضان؟
فمَن كان يَعبد رمضان، فإنَّ رمضان قد انقضى، ومن كان يعبد اللهَ، فإن الله حيٌّ لا يموت، فعليك أن تعبد اللهَ في رمضان وفي شوال، وفي سائر شهور العام؛ فإن ربَّ رمضان هو رب شوَّال، وهو رب سائر شهور العام.
وليعمل المؤمن بوصية الله لعيسى عليه السلام؛ حيث قال عن ربِّ العالمين:
{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [ مريم : 31].
ومن ثمَّ فإننا نضع أيدينا على أهمِّ النِّقاط التي نخص بها ما بعد رمضان؛ وذلك لكي يأخذها المؤمن في حسبانه:
1- لزوم الاستقامة ؛ والاستقامة كما عرَّفها النووي: "مُلازمة الطريق بفعل الواجبات، وترك المنهيات"، فالصائم قد عاهد اللهَ سبحانه في رمضان بلزوم الإنابة، والاستقامة على الطاعة، والتمسُّك بالتقوى في الحياة الدنيا ؛ للنجاة في الحياة الأخرى.
فأيُّنا قد عاهد اللهَ عز وجل بعد انقضاء أيام رمضان المبارك على لزوم التقوى في الجهر والسر والنجوى؟
2- من حقوق ما بعد رمضان أيضًا: أن يَسأل العبدُ ربَّه عز وجلَّ قبول صيام رمضان وقيامه، وأن يبلِّغه رمضان من العام المقبل؛ لأنَّ الدعاء أحدُ أهمِّ العبادات التي يُلازمها الصائم ويُداوم عليها طيلة أيام وليالي رمضان، فيكون أنيسه في خلوته وجلوته؛ ولهذا ورَد الأمر بالدُّعاء في هذا الشهر الفضيل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَسأل ربَّه جلَّ وعلا أن يُبلغه شهرَ رمضان؛ عن أنس بن مالكٍ قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجبٌ قال: «اللهمَّ بارِك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان»؛ (المعجم الأوسط (4/ 189).
وكان السلف يدعون اللهَ تعالى ستَّةَ أشهر أن يبلِّغهم رمضان، ثم يدعونه ستةَ أشهر أن يتقبَّله منهم، وكان من دُعائهم: "اللهمَّ سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم رمضان إليَّ، وتسلَّمه مني متقبلًا".
3- أيضًا من الحقوق المتعلقة برمضان بعد انقضائه، وبخصوص من فرَّط في جناب هذا الشهر الفضيل فلم يصُمه حق الصيام ، ولم يقُمه حقَّ القيام، وجب عليه لزامًا تعجيلُ التوبة من شنيع ما صَنع، وأن يسأل ربَّه الغفور ذا الرحمة أن يَغفر له تقصيرَه؛ فقد أدرك رمضان ولم يُغفر له، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في هذا المعنى: «رغم أنفُ امرئٍ دخَل عليه رمضانُ ثم انسلخ قبل أن يُغفر له»؛ أي: يا ويله ويا عظيم حسرته على ما ضيَّع وفرَّط! فهذا لن ينال ثواب صيام رمضان وقيامه، وإن ثوابه عتقٌ من النيران، ودخولُ الجنة من باب الريان، ونيل أنهار وجنان!
4- كذلك على العبد المسلم أن يحرص كلَّ الحرص على إبراء ذمَّته من دُيون رمضان، وهذا أيضًا من حقوق رمضان إذا انقضى؛ فكل مَن ألجأه العذرُ الشرعي فأفطر أيَّامًا من رمضان وجب عليه قضاءُ ما عليه، "وتعجيلُ القضاء وجهٌ مقدَّم عند جمهور أهل العلم "؛ لأنَّ العمر محدودٌ قريب، والموت ليس ببعيد، والأولى أن يُبادر العبد بالقضاء قبل أن يأتيه الموت بَغتة، فيُلاقي ربَّه وهو مفرِّط في عبادة الصوم، إلا إذا عجل القضاء، غير أن سلطانَ الموت أو عذر المرض عاجله قبل تمام القضاء، ففي هذه الحالة لا يُعدُّ مُفرِّطًا متى كان مبيتًا لنيَّة القضاء، وإلَّا عُد مفرطًا.
5- أيضًا من الحقوق المتعلقة بصوم رمضان إخراج زكاة الفِطر، التي تجبر صوم العبد وتطهِّره مما قد علق به من لغوٍ ورفث.
من لم يؤدِّ زكاة الفطر عالمًا مختارًا متعمِّدًا، يَأثم قولًا واحدًا لأهل العلم، وتبقى زكاة الفِطر دَينًا في عنقه حتى يؤدِّيَها فتبرأ منه الذِّمَّة؛ لأنَّ حُكم زكاة الفطر مُتردد بين الوجوب والسنَّة المؤكدة، وإن كان ظاهر الأدلَّة أنها فرض، وهو قول الجمهور؛ ولذلك قال البخاري: "باب فرض صدَقة الفطر"؛ وذكر حديثَ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: "فرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطر..."، ونقل ابنُ المنذر الإجماعَ على ذلك قال: "وأجمعوا على أن صدَقة الفطر فرض"، وكذلك ثبت نحوُه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى كلا الحكمين - الوجوب أو السنة المؤكدة - يتقرَّر لدينا اتفاقًا أن تارك زكاة الفطر آثم.
6- أيضًا من الحقوق التي يستحبُّ للصائم تحصيلها بعد تمام شهر رمضان صيامُ ستَّة أيام من شهر شوال؛ وعن فضل صوم هذه الأيام روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن صام رمضان ثم أَتبعه ستًّا من شوَّال، كان كصيام الدهر».
ثالثًا: احذروا الشيطان بعد رمضان:
إن الشياطين يُطلَق سراحها بعد رمضان وتُفك قيودُها، ولكنَّ كيد الشيطان ضعيف؛ كما أخبرنا ربُّنا سبحانه، ومَن اعتصم بالله عصمه الله من مكايد الشيطان.
الشيطان عدوٌّ يغفل عنه الكثير، ولا يعمل له حسابًا إلَّا من رحم ربي، رغم علمنا بعداوته لنا وتحذير الله لنا بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
الشيطان عنده رِسالة؛ وهي أن يُدخلك النَّار، وعنده أهداف واضحة لتلك الرِّسالة؛ وهي أن يجعلك تقع في المعاصي والذنوب التي تكون سببًا في دخولك النار، وكي تهدم كلَّ ما فعلته في رمضان من طاعات.
وأنا وأنت ما هي رسالتنا في الحياة؟ ما هي أهدافنا؟ ما واجبنا تجاه ديننا؟ أم أننا نعيش لنأكل ونشرب ونتزوَّج؟!
رابعًا: توجيهات ونصائح بعد رحيل رمضان:
1- توجيه لمن فرَّط في صلاة الجماعة :
يا من بُليت بالتفريط في صلاة الجماعة! ها هو نِصف شهر يمضي بعد رحيل رمضان، فما هو حالك والصلاة؟ يا مَن بُليت بالتفريط في صلاة الجماعة وبالإفراط في المعاصي والشهوات! شهر كامل وأنت تحافِظ على صلاة الجماعة مع المسلمين، تركع مع الراكعين وتسجد مع الساجدين، فما هو شعورك وأنت ترى المصلِّين عن يمينك ويسارك؟ إنهم بشَر مثلك، اسأل نفسك: يحرصون على صلاة الجماعة كل الشهور وأنت لا؟
فيا أيها المفرِّط في صلاة الجماعة، هل تجد لك عذرًا بعد هذا؟ نعوذ بالله من العجز والكسل والخمول.
إذًا؛ فلتكن هذه الأيام، وليكن نصف الشهر هذا فرصةً وانطلاقةً للمحافظة على الصلاة والجماعة، وكل شيء يهون إلَّا ترك الصلاة؛ فهو كُفر وضلال والعياذ بالله.
2- توجيه لمن ابتلي ببعض الذنوب :
يا من بُليت ببعض الذنوب، إيَّاك إياك بعد رمضان أن تعود، شهر كامل وأنت تجاهد النفس َ وتصبرها، وتجمع الحسنات وتَحسبها، فهل بعد هذا تراك تنقضها؟ فالله عز وجل يقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92].
فيا مَن أعتقه مولاه من النَّار، إياك أن تعود إلى الأوزار، أيبعدك مولاك من النَّار وأنت تتقرَّب منها؟ وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تَحيد عنها؟!
3- توجيه لمن ابتُلي بالتدخين:
يا من بُليت بالتدخين، شهر كامل وأنت تفارقه ساعات طويلة، وإذا حدَّثناك عن أخطاره وحكمه، قلتَ: لم أستطع تركه، فمن أين لك هذه الإرادة وهذه العزيمة في رمضان وقد صبرتَ عنه حوالي اثنتي عشرة ساعة أو أكثر؟ إذًا فاعلم أن رمضان فرصة للإقلاع عنه.
فما الفرق بين مَن بيده عود سِواك، ومن بيده عود هَلاك؟! أجِب بكلِّ صراحة، أجب واترك الهوى، واعلم أن هذه الأيام فرصة لا تعوَّض لترك هذا البلاء، وخاصةً أنك نجحتَ في رمضان، فاستعن بالله وتوكَّل عليه، وكن صاحب همَّة عالية وعزيمة صادقة.
4- توجيه لمن ترك قيام الليل:
أيها المسلم، شهر كامل وأنت في ركوع وسجود، تصلِّي في الليلة ساعات، لا تَمَل ولا تكل، ثم بعد رمضان تتغيَّر أحوالنا، وتنقلب صلاتنا، سبحان الله! أنعجز أن نصلِّي ساعةً أو نصف ساعة، وقد كنا نصلِّي الثلاث والأربع الساعات في رمضان؟
أيها الصالح، لست غريبًا عن قيام الليل، فقد ذقتَ حلاوة الدَّمعة عند السَّحَر في رمضان، ولذَّة المناجاة، وحلاوة السجود، ورأيتَ بنفسك كيف استطعت أن تروِّض نفسك ذلك الترويض العجيب في رمضان، همَّة وعزيمة وإصرار، فيا سبحان الله! أين هذا في غير رمضان؟
إنك قادر؛ فقد حاولتَ ونجحت، بل وشعرتَ بالأثر العجيب، والأُنس الغريب، وأنت تناجي الحبيب، فما الذي دهاك وأنت تذكِّر الغافلين أنَّ ربَّ رمضان ربُّ غيره من الشهور؟ فلماذا تركتَ قيامَ الليل؟ عاهِد نفسك أيها الحبيب ألَّا تترك قيامَ الليل ليلةً واحدةً، وإن حدَّثَتك بالتَّعب والإرهاق، فذكِّرها بلذَّة وحلاوة القيام في رمضان.
5- توجيه لمن هجر القرآن:
أيها المسلم، شهر كامل وأنت تَقرأ وتبكِّر للصلاة، فتقرأ قبلها وبعدها، وتحرص على ختمه مرَّات.
خرج رمضان، والقرآن هو القرآن، والأجر هو الأَجر، والرب هو الرَّب، فما الذي حدَث للنفوس أيها الأحبَّة؟! هجر غريب عجيب لقراءة القرآن وختمه! ربما قرأ الإنسان منَّا في يومه أكثرَ من خمسة أجزاء في رمضان، ويجلس الساعات، أفلا نستطيع أن نجلس ثلث ساعة في اليوم الواحد لقراءة جزء واحد، فنختم القرآنَ كلَّ شهر مرةً على الأقل؟! إنها ثُلث ساعة في غير رمضان، فإذا ثقل ذلك، فتذكَّر الساعات التي تقرؤها في رمضان.
6- توجيه لمن ترك الدعاء:
أيها المسلم، شهر كامل وأنت تَدعو وتلح على الله بالدُّعاء، مرات بالسجود، ومرات عند السَّحَر والغروب، لماذا؟ تسأل الله رضاه والجنَّةَ، وتعوذ به من سخطه والنار، فهل ضمنت الجنةَ يوم تركتَ الدعاء بعد رمضان؟! وتسأله العفوَ والغفران عن الذنوب والتقصير، فهل ضمنتَ الغفران؟! أم انتهت الغفلة والتقصير يوم تركتَ الدعاء بعد رمضان؟!
أيها الأحبَّة، إن من ندعوه في رمضان هو مَن ندعوه في غير رمضان، وإن مَن نسأله في رمضان هو الذي نَسأله في غير رمضان، فما الذي حدث؟! ولماذا نتوقَّف ونفتر عن الدعاء؟
كيف يقطع العبد صِلَتَه بالله، واستعانته بمولاه، وهو يَعلم أن لا حول ولا قوة له إلَّا بالله؟ كيف يفتر العبد عن الدعاء وهو أفضل العبادة؟ وربه يقول: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ولم يقل: في رمضان فقط، بل في رمضان وغيره.
7- توجيه لمن ترك الصيام:
أما الصيام أيها الأحبة، فالصِّيام وما أدراك ما الصيام، العبادة التي اختصَّها الله لنفسه فقال: «إلَّا الصَّوم، فإنَّه لي وأنا أجزي به»، فلا يعلم جزاءَ الصائمين إلَّا اللهُ، وإن غفر لهم ما تقدَّم من الذنوب، وإن اختصوا بالدخول للجنَّة من باب الريَّان، وإن باعد الله بينهم وبين النار سبعين خريفًا، وإن جاء الصِّيام شفيعًا لأصحابه يوم القيامة ، فإن هذه وغيرها من ثمرات الصِّيام، أما جزاء الصائمين، فلا يعلمه إلا الله.
قال ابن حجر: المراد بقوله: ((وأنا أجزي به))؛ أي: إنِّي أنفرد بعِلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته.
8- توجيه للمرأة المسلمة:
أما أنتِ أيَّتها المرأة ، فالكلام للرجال وهو لكِ أيضًا، وإن كنتُ أعجب من حرصِكِ في رمضان على التراويح، وقراءةِ القرآن، وقيام الليل، أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكِ! ولكني أقول: ما بالنا إذا طلبنا منكِ هذه الأمور في غير رمضان اعتذرتِ بالأولاد، وأعمالِ المنزل، وغيرها من الأعذار؟ مع أن كل هذه الأعذار لم تتغيَّر في رمضان؛ فالأولاد هم الأولاد، وأعمال المنزل هي أعمال المنزل، بل ربما أكثر في رمضان، فما الذي يجعلكِ تحرصين على القيام، وقراءة القرآن، والصلاة في وقتها، والصيام في رمضان، وينقطع كل هذا في غير رمضان، وتتعذرين بكثرة الأعذار إذا طلبنا منكِ ذلك في غير رمضان؟!
9- توجيه للمجتمع بالمداومة على الأعمال:
هذا حال النِّساء وحال الرِّجال في هذه الأيام القصيرة التي مضت بعد رحيل رمضان، فما هو سرُّ نشاطنا في رمضان؟ وما هو سرُّ فتورنا وربما انقطاعنا في غيره أيها الأحبة؟! سألت هذا السؤال واستنطقت الأفواهَ لمعرفة السرِّ، قالوا: رمضان له شعور غريب ولذَّة خاصة.
قلت: لماذا له هذا الشعور وهذه اللذَّة؟ قالوا: لأن الناس من حولك كلهم صائمون، وقائمون، ومتصدقون، وقارئون، ومستغفرون.
فهل تعلَّمنا من رمضان الصبر َ والمصابرة على الطاعة وعن المعصية؟ وهل عوَّدنا أنفسنا على المجاهدة للهوى والشهوات؟ هل حصلنا على التقوى التي هي ثمرة الصِّيام الكبرى، واستمرَّت معنا حتى بعد رمضان، فإن الصِّلَةَ بالله وخوف الله هي السر في حياة الصالحين والصالحات؟!
10- توجيه لمن أصابه الفتور:
أيها الإخوة والأخوات، إنَّ مَن خالط الإيمان بشاشة قلبه، لا يمكن أن يهجر الطاعات، كيف وقد ذاق حلاوتها وطعمَها، وشعر بأُنسها ولذَّتها في رمضان؟ فلعلنا أيها الأحبَّة نقارن بين حالنا في رمضان بعد سماع هذا الكلام، وبين حالنا خلال هذه الأيام؛ لنشعر بما فقدناه من اللذَّة والطاعة وحلاوة الإيمان، والله المستعان.
خامسًا: الوسائل المعينة على الثَّبات على الطاعة:
1- الاهتمام بإصلاح القلب :
فالقلبُ هو الملِك، والجوارح هي الجُنود، فإذا صلح الملكُ صلحَت الجوارح، وإذا فسد القلب فسدت الجوارح؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيحين" من حديث النُّعمان: «ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلَحَت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألَا وهي القلب»، وإصلاح القلب يتمُّ عمارته بالأعمال الطيِّبة؛ كالشُكر، والخوف من الله، ومحبة الله، والإخلاص...
2- المداومة على الأعمال ولو كانت قليلة:
يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في "سنن النسائي" من حديث عائشة، وصحَّحه الألبانيُّ: «وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما داوم عليه وإن قلَّ»، يقول الإمام ابن حجر (11/ 321): "فينبغي للمرء ألَّا يزهد في قليلٍ من الخير أن يأتيه، ولا في قليلٍ من الشرِّ أن يجتنبه؛ فإنه لا يعلم الحسنةَ التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يَسخط عليه بها".
3- الدُّعاء:
الدعاء من أَعظم أسباب الثَّبات على الطاعة، ولقد كان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مُقلِّب القلوب ، ثبِّت قلبي على دينك»؛ (صححه الألباني).
4- الصحبة الصالحة:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء على دِين خليله، فلينظر أحدُكم من يُخالِل»؛ (رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني)، فالصحبة الصَّالحة من أعظم العوامل المؤثرة في الثبات على الطاعة.
ختامًا:
فمن علامات قبول العمل الصَّالح عند الله رب العالمين: أن يوفَّق العبدُ للعمل الصالح ويستقيم على ذلك في غالب أحواله، ومن علامة ردِّ الطاعة فعل السيئة بعدها.
فلنجتهد جميعًا في إتْباع الحسنة بالحسنة، ومحو السيئة بالحسنة بعدها، وصدق الله العظيم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
اللهمَّ اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا فيه من عُتقائك، واجعلنا فيه من المتقين، ولا تجعل للشيطان علينا من سبيل.
______________________________________________
الكاتب: محمود مصطفى الحاج