السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما
مدة
قراءة المادة :
24 دقائق
.
بلغنا عن بعض إخواننا من مسلمي بيروت أنهم غير راضين عن رد المنار
على الشيعة في هذا العهد الذي اشتدت فيه حاجة المسلمين إلى الاتفاق والاتحاد ولا
سيما مسلمي سورية ولبنان والعراق الذين اشتد عليهم ضغط المستعمرين في دينهم
ودنياهم. وإنني أقسم بالله وآياته لَشديد الحرص على هذا الاتفاق وقد جاهدت في سبيله أكثر من ثلث قرن، ولا أعرف أحدًا في المسلمين أعتقد أو أظن أنه أشد مني رغبةً وحرصًا على ذلك، وقد ظهر لي باختباري الطويل وبما اطَّلعت عليه من اختيار العقلاء وأهل الرأي أن أكثر علماء الشيعة يأبون هذا الاتفاق أشد الإباء؛ إذ يعتقدون أنه ينافي منافعهم الشخصية من مال وجاه. وأول مَن كلَّمتهم في هذا الموضوع شيخنا الأستاذ الإمام في سنة 1315 هـ وآخرهم الأستاذ الثعالبي السياسي الرحالة الشهير في هذا الشهر مع أستاذ ذكي من شبان الشيعة العراقيين، وفيما بين هذين الزمنين تكلمت مع كثيرين من الفريقين في مصر وسورية والهند والعراق، وأعلاهم مقامًا جلالة الملك فيصل تكلمنا في هذه المسألة في دمشق سنة 1320 ثم في مصر عند إلمامه بها في عودته من أوربة في خريف سنة 1345هـ 1926م. ومما علمته بالخبر والخبر أن الشيعة أشد تعصبًا وشقاقًا لأهل السنة فيما عدا الهند من البلاد الجامعة بين الطائفتين؛ فالفريقان فيها قرنان متكافئان، وقد اجتهدت أنا وإخواني من محبي الإصلاح في الهند بالتأليف وجمع الكلمة وخطبت في مدينة بُمبي خطبة فيَّاضة في ذلك.
وبدأت بزيارة رئيس الشيعة الديني في لكنهؤ دون غيره من أمراء الهند وزعمائها؛ فإنهم كانوا هم الذين يبدؤونني بالزيارة، وكنت سبب دخول الكاتب الحماسي الشعبي (الديمقراطي) المؤثر ظفر علي خان صاحب جريدة زميندار الوطنية المؤثرة دار (النواب فتح علي خان) لأول مرة ولم يدخلها قبل ذلك قط ولا دخل دور غيره من سلائل الأمراء من الشيعة ولا غيرهم، وقد رأيت لسعيي تأثيرًا حسنًا في الهند وفي إيران، ولما ألممت ببغداد منصرفي من الهند جاءني وفد من النجف للزيارة والدعوة إلى النجف وأخبرني رئيسه صديقي العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني أنه يوجد هنالك كثيرون من طلبة العلم على رأيي في الإصلاح الإسلامي يتمنون لقائي، وما منعني من زيارة النجف إلا المرض وإنما كان داعية الإصلاح فيهم المُلا كاظم الخُراساني وقد توفي قبل زيارتي للعراق رحمه الله تعالى، ولكن جمهور شيعة العراق شديدو التعصب باعتراف السيد هبة الدين وبعض المنصفين منهم.
وكان يوجد في شيعة سورية من يُظهر الميل إلى الاتفاق في عهد الدولة العثمانية أكثر مما يوجد في العراق، وكان للمنار رواج عند بعض العصريين المستنيرين منهم.
ولذلك قام أشهر علمائهم يطعن عليَّ ويتهمني بالتعصب والتفريق؛ لأنهم يكرهون الاتفاق لما ذكرته آنفًا.
وقد صبرت عدة سنين على طعنه عليَّ قولاً وكتابةً حتى صار السكوت عنه إقرارًا لهم على ما قصدوا له في هذا العهد عهد الاستعمار الفرنسي المسمى بالانتداب من مناهضة النهضة العربية الحاضرة من مدنية ودينية بما هو أكبر خدمة للأجانب السالبين لاستقلال هذه البلاد، سورية والعراق. ذلك أنهم نشطوا في هذا العهد لتأليف الكتب والرسائل في الطعن في السنة السنية والخلفاء الراشدين الذين فتحوا الأمصار، ونشروا الإسلام في الأقطار، وأسسوا ملكه بالعدل والقوة، وتم بهم وعد الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) والطعن في حياة السنة وأئمتها، وفي الأمة العربية بجملتها، وخصوا بالطعن أول ملك عربي اعترفت له الدول القاهرة للعرب والمسلمين وغيرها بالاستقلال المطلق والمساواة لها في الحقوق الدولية، طعنوا فيه وفي قومه بكتاب ضخم لتنفير المسلمين ولا سيما مسلمي العرب وصدهم عنه وإغرائهم بعداوته والبراءة منه، لا لعلة ولا ذنب إلا اتباع السنة وإقامة أركان دولته على أساسها، مع عدم تعرضه للشيعة بعداوة ولا مقاومة، بدليل اتفاقه مع دولة الشيعة الوحيدة في العالم وهي دولة إيران بما حمدناه لكل منهما، ورجونا أن يكون تمهيدًا للاتفاق التام بين الفريقين بالتبع للاتفاق بين الدولتين. والذي بدأ هذا الشقاق وتولى كِبْره منهم هو صاحب ذلك الكتاب البذيء الجاهلي (السيد محسن الأمين العاملي) الذي لم يكتفِ فيه بإخراج ملك العرب الجديد وقومه النجديين من حظيرة الإسلام، وهو يعلم أنه لا قوة له ولا للعرب بغيرهم في هذا الزمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) (رواه أبو يعلى بسند صحيح) ولكن الإسلام عنده هو الرفض الذي هو الغلو في التشيع وعداوة السنة.
ولم يكتفِ بذلك حتى زعم أن منشأ ضلال هؤلاء الوهابية وخروجهم عن الإسلام وعليه هو كتب شيخ الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، مؤيد الكتاب والسنة بأقوى البراهين النقلية والعقلية، وناقض أركان الشرك والكفر والبدع بتشييد صرح السنة المحمدية، الشيخ تقي الدين ابن تيمية، الذي نشرنا في هذا الجزء بعض رسائله في جمع كلمة الأمة الإسلامية، والأدلة على أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة، ولا يأبون صلاة الجماعة مع المبتدعة منهم. وزعم أيضًا أن صاحب المنار قد انفرد دون المسلمين بموافقة ابن تيمية والوهابية، وزاد على ذلك الطعن في شخصه وسيرته العملية، بما هو محض الزور والبهتان، ليخدع الجاهلين من أهل السنة بما بيناه في الرد عليه. وقام في أثره من علماء شيعة العراق مَنْ ألف كتابًا خاصًا في الرد على كتاب (منهاج السنة) لشيخ الإسلام، وآخرون ألفوا كتبًا ورسائل أخرى في الطعن على السنة وأهلها، دعْ ما قالوه في مؤتمرهم المشهور من تكفير الوهابية والتحريض على قتالهم، على ضعفهم وعجزهم. كذلك قام بعده زعيمهم الثاني في سورية السيد عبد الحسين فألف كتابًا آخر في الطعن على الصحابة من كبار المهاجرين والأنصار وفي الأمة العربية سلفها وخلفها وفي أصحاب دواوين السنة ولا سيما الحافظ البخاري رضي الله عنهم فوجب علينا الرد عليه، ولم نفرغ إلا للقليل منه. فصاحب المنار لم يهاجم الشيعة مهاجمة وإنما رد بعض عداوتهم وبهتانهم لبطلانه ولكون هذا الطعن في الصحابة وأئمة السنة وحفاظها وفي الأمة العربية وملكها في هذا الوقت لا فائدة منه إلا لأعداء المسلمين والعرب السالبين لاستقلالهم، وأكبر قوة للأجانب عليهم تعاديهم وتفرقهم. فلا أدري ماذا يريد الذي استنكر هذا الرد عليهم من استنكاره، وكيف تصور إمكان الاتفاق مع قوم يتبعون أمثال هؤلاء الزعماء، وتنشر دعايتهم هذه مجلة العرفان بالتنويه بكتبهم هذه والعناية بنشرها، عدا ما تبعثه هي من دعاية التشيع التي كنا نعذرها فيها بتنزُّهها عن الطعن الصريح في السنة وأهلها؛ ولذلك كنا نرجو أن تنكر هذه الدعاية وتأبى نشر هذه الكتب الضارة بصرف النظر عن مسألة موضوعها، فقد يقول أو قال صاحب مجلة العرفان: إنه يعتقد حقيقة ما كتبه هذان المؤلفان، وإن كنا نشرنا عنه من قبل ما يدل على عدم اعتقاد ما افتراه الأول على الوهَّابية، ولا نعقل أن يكون معتقدًا ما افتراه الثاني على المهاجرين والأنصار من وصفهم بالجبن، ونكثهم لما بايعهم الله عليه.
ومن زعمه الذي أقسم عليه يمينًا مغلظة أنه لولا علي بن أبي طالب لقتل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقم للإسلام قائمة في الأرض، بالرغم من وعد الله تعالى بنصره، وإظهار دينه على الدين كله..
إلخ، فهل يريد المستنكر من إخواننا أن نسكت لهؤلاء على كل هذا الطعن فيكون سكوتنا حجة على أهل السنة كافة، ومعصية يأثمون بها كلهم، ولا يزيد الشيعة إلا يقينًا بضلالهم، وبُعدًا عن الاتفاق معهم؟ ! وقد أخبرني مَن بلَّغني ما تقدم من الاستنكار أن بعض مسلمي بيروت استفتاني في تزوج كل من أهل السنة والشيعة في الآخرين ولم أفتِهِ بشيء.
وأقول: إن هذا الاستفتاء لم يصل إليَّ، وإنني كنت استُفتيت في مثله من قبل؛ إذ خطب أحد كبار الإيرانيين بمصر فتاة من بيت بعض كبراء المصريين فأرسل الحريم يستفتوني في ذلك سرًّا فأفتيت بالجواز، واستدللت بأن هذا الخاطب من الشيعة الإمامية وهم مسلمون، لا من البابية ولا البهائية المارقين من الإسلام، وإنما يمتنع تزويج هؤلاء، والتزوج فيهم. وأما رأيي في الاتفاق فهو قاعدة المنار الذهبية التي بيناها مرارًا وهي: (أن نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ، فأهل السنة متفقون مع الشيعة على أركان الإسلام الخمسة، وعلى تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعلى محبة آل البيت عليهم السلام وتعظيمهم، وعلى جميع المصالح الوطنية من سياسية واقتصادية، وفي البلاد العربية على إعلاء شأن الأمة العربية ولغتها..
إلخ واستقلال بلادها وعمرانها، فيجب أن يتعاونوا على ذلك كله، وهم يختلفون في مسألة الإمامة (وقد مضى وانقضى الزمن الذي كان فيه هذا الخلاف عمليًّا) وفي المفاضلة بين الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وفي عصمة الأئمة الاثني عشر، مع مسائل أخرى تتعلق بصفات الله تعالى وفيما دون ذلك من الفروع العملية، فلكلٍّ من الفريقين أن يعتقد ما يطمئن إليه قلبه، ويعمل بما يقوم عنده الدليل على ترجيحه أو يقلد فيه من يثق بهم من العلماء، وأن يبين ذلك قولاً وكتابةً من غير طعن في عقيدة الآخر ولا في الصحابة وأئمة العلماء المجتهدين والمحدثين.
كما فعل بعض أدبائهم في قصائد نظمها في مدح الأئمة وشرحها وجعل مقدمتها في بيان العقيدة الإسلامية عندهم، وفيها ما لا يوافقهم عليه أهل السنة، ولا يكفرونهم به.
ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم.
فيجب على محبي الاتفاق أن يقنعوهم بقاعدتنا ويؤلفوا جمعية أو حزبًا من الطائفتين للعمل بمقتضاها، بالرغم من زعم مجلة المشرق اليسوعية أن الاتفاق متعذر، واستدلالها عليه بالمناظرة التي دارت بين المنار والعرفان، وما كان صاحباها إلا أخوان، ولا يتعذر عليهما العودة إلى ما كانا عليه بمقتضى هذه القاعدة. هذا، وإننا لا نعرف أحدًا من علماء أهل السنة المتقدمين ولا المعاصرين يطعن في أحد من أئمة آل البيت عليهم السلام، كما يطعن هؤلاء الروافض في الصحابة الكرام، ولا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي أئمة حفاظ السنة كالبخاري ومسلم، وكذا الإمام أحمد إمام السنة وشيخ كبار حفاظها وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي وابن حجر وغيرهم، فإنهم يعدونهم من النواصب لعدم موافقتهم لجهلة الروافض على ما يفترونه من الغلو في مناقب آل البيت، وقد أغناهم الله عن اختلاق المناقب لهم بكثرة مناقبهم الصحيحة الثابتة بالنقل الصحيح. وحفاظ السنة ومدونوها هم المرجع في هذا.
وكل مَن خالفهم من المبتدعة فهم جاهلون بنقد الروايات، والروافض منهم أجهلهم بهذا العلم، وأكذبهم في النقل، كما هو مشهور عنهم في التاريخ، وقد ذكره أحد علماء ألمانية المستشرقين في كتاب له، وإنما النواصب أولئك الخوارج الذين يتبرؤون من علي كرم الله وجهه، وكذلك مَن يتولون مَن بغوا عليه ومَن قتلوا سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أو يصوبون أعمالهم، لا أئمة السنة الذين محّصوا رواياتها، وبينوا درجاتها. ونذكر على سبيل النموذج لجهلهم بالحديث ما انتقدته مجلة العرفان على مجلة الشبان المسلمين المصرية من الثناء على معز الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما أوردته فيه من هذه النقول وكنت قد كتبته للجزء الماضي فلم يتسع له وهو: علم عمر وعلي رضي الله عنهما بالدين والقضاء بين مجلة الشبان المسلمين ومجلة العرفان لا يطيق أحد من الشيعة المتعصبين أن يرى في كتاب أو مجلة ثناءًا عظيمًا على أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما ولا سيما إذا كان فيه صيغة اسم التفضيل، مع العلم بأن اسم التفضيل كثيرًا ما يستعمل في التفضيل الإضافي أو بتقدير من التبعيضية. وقد كتب الأستاذ الدكتور يحيى أحمد الدرديري مقالة في مجلة جمعية الشبان المسلمين في الثناء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فيها: كان عمر رضي الله عنه أعلم الصحابة بالدين وأفقههم فيه.
فنقل عنه الأستاذ صاحب مجلة العرفان نبذة منها وعلق على هذه الجملة ردًّا عليها لعله لم ينقلها إلا لذلك قال: هذا منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) وقول عمر نفسه: (لولا عليٌّ لهلك عمر، ولا كنت لقضية ليس لها أبو الحسن) اهـ. ونقول في الرد على الأستاذ صاحب مجلة العرفان: إن الحديثين اللذين ذكرهما وهما مما يحفظه كل شيعي وكثير من غير الشيعة ليس لهما رواية صحيحة ولا حسنة، ولو فرضنا صحتهما لما كانا معارضين لقول مَن قال: كان عمر أعلم الصحابة. أما العلم والقضاء فإنه يجوز عقلاً أن يكون عمر أعلم بأصول الدين ومقاصده وحكمه وسياسته، ولا يكون مع ذلك أقضى الصحابة، وأن يكون علي أقضاهم أي أعلم بالفصل بين الخصوم وتطبيق قضاياهم على أحكام الشرع، ولا يكون مع ذلك أعلم من عمر به، وقد كان أبو يوسف أقضى من أستاذه أبي حنيفة وزميله محمد بن الحسن ولم يكن أعلم منهما، ومثل هذا كثير مشاهَد في كل زمان.
كان الشيخ محمود نشابة في طرابُلس الشام أعلم من أحمد أفندي سلطان بكل علوم الشرع وكان أحمد أفندي أقضى منه، بل لم يكن الشيخ محمود نشابة علامة سورية في زمنه الذي أدركناه في آخره مستعدًّا لأن يكون قاضيًا. وأما حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) فليس بينه - على تقدير صحته - وبين ما قاله الكاتب في تفضيل عمر أدنى تعارض ولا منافاة؛ إذ المتبادر من معناه أن عليًّا رضي الله عنه موصل إلى علم النبي صلى الله عليه وسلم بالرواية للسنة والتفسير للقرآن والعمل بهما، وهذا المعنى صحيح في نفسه، معلوم من جملة سيرته كرم الله وجهه، وإن كان الحديث المذكور غير صحيح، ليس في لفظه ما يدل على أنه أعلم بما كان في هذه المدينة من كل مَن كان فيها، ولا برواية ذلك العلم وتفسيره أيضًا.
وإلا لحكمنا بأن كل ما رُوي عن غيره كرم الله وجهه من الحديث والتفسير والأحكام فليس من علم النبوة.
ولم يقل بهذا رافضي ولا غيره. والحديث رواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي الصلت بن عبد السلام بن صالح عن ابن عباس وتتمته (..
فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون.
ونقل توثيقه عن يحيى بن معين، وتعقبه الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك فقال ردًّا على قوله (صحيح) : بل موضوع.
قال: (أبو الصلت ثقة مأمون) قلت: لا والله لا ثقة ولا مأمون اهـ.
وتصحيح الحاكم للأحاديث لا يعتمد عليه أحد من المحدثين؛ فقد صحح كثيرًا من الضعاف والمنكرات وكذا الموضوعات وتعقبه الذهبي وغيره فيها. وأخرج الترمذي من طريق شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن الصنابحي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا دار الحكمة وعلي بابها) هذا حديث غريب منكر، روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك، وفي الباب عن ابن عباس.
اهـ.
كلام الترمذي. وأقول: أبو الصلت راوي الحديث الأول وثقه ابن معين كما قال الحاكم ولكن طعن فيه الأكثرون والجرح مقدم على التعديل.
قال مسلمة عن العقيلي: كذاب، وكذا محمد بن طاهر قال: إنه كذاب، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
وكلهم أنكروا حديثه هذا، وكأنهم يتهمونه بوضْعه على أبي معاوية، ولكن ابن معين يقول: إنه ليس ممن يكذب، وذكر أن محمد بن جعفر الغيدي حدث به عن أبي معاوية وقال: أخبرني ابن نمير قال: حدث به أبو معاوية قديمًا ثم كف عنه اهـ ومراد ابن معين أن أبا الصلت لم يكن هو الذي افتراه بل كان حدث به أبو معاوية ثم كف عنه فلعل أبا الصلت رواه عنه ولم يبلغه كفه عن التحديث به لعدم الثقة بصحته. وقال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث) : حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) رواه الحاكم في المناقب من مستدركه عن ابن عباس مرفوعًا والترمذي من جامعه عن علي بمعناه وقال: إنه منكر، وكذا قال البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح.
وقال ابن معين: إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك، وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث لم يثبتوه وقيل: إنه باطل.
اهـ. وقد أورده الأستاذ الشيخ محمد الحوت الكبير علامة بيروت في (أسنى المطالب) وذكر بعض ما نقله الديبع عن أستاذه الحافظ السخاوي من قول الحفاظ بوضعه حتى ابن معين، ثم قال: قد ولع به العلماء، وذكره من دون بيان رتبته خطأ، ومثله: (أنا دار الحكمة وعلي بابها) وزاد بعضهم: ( ...
وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها) ، وذلك لا ينبغي ذكره في كتب أهل العلم لا سيما مثل ابن حجر الهيتمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيد من مثله.
اهـ. وأقول: إن ابن حجر الهيتمي هذا قد أتقن فقه الشافعية التقليدي على طريقة أهل زمنه، وهو ليس بحافظ للحديث ولا من نقاده، وإنما ينقله من الكتب، فإن لم تكن له عناية خاصة بالاحتجاج به فلا يبالي أكان صحيحًا أم ضعيفًا أم موضوعًا. فكيف إذا كان له هوى يوافق معناه كالغلو في المدح؟ ! وأخطأ مَن حَسَّنَه بكثرة طرقه. وأما حديث: (أقضاكم عليّ) فقد قال الحافظ السخاوي: ما علمته بهذا اللفظ مرفوعًا بل في مستدرك الحاكم عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.
اهـ. وأقول إن الحافظ الذهبي أقر الحاكم على روايته له عن ابن مسعود من قوله، ولو ورد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو من طريق منكر - لأورده الحاكم، ولعمري إنه لَحقٌّ في نفسه سواء كان اسم التفضيل على بابه أم لا، ولكن لا ندري متى قال ابن مسعود هذا؟ هل قاله في زمن عمر أو بعده. وأما ما ذكره صاحب مجلة العرفان من قول عمر فهو لم يروَ بسند صحيح وإنما ذكره بعضهم فيما يتساهلون فيه من رواية المناقب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه لم يذكر عنه إلا في قضية إن صح، وكان عمر يقول مثل هذا لمن دون علي كما قال للمرأة التي عارضته في الصداق: امرأة أصابت وأخطأ عمر.
وبيَّن في (منهاج السنة) بالشواهد أنه كرم الله وجهه لم يكن أقضى الصحابة رضي الله عنهم، وفيه نظر. وأما الأحاديث الدالة على علم عمر في الصحاح والسنن فهي كثيرة: منها موافقات رأيه للقرآن وكونه من المحدَثين (بفتح الدالة المهملة) أي الملهَمين، وغير ذلك، ولسنا بصدد تفصيل هذه المسألة، وكذلك ما رُوي في قضائه باجتهاده وفي اتباع الصحابة له في مسائل متعددة، وكذلك المسائل التي كان يستشير فيها الصحابة. هذا، وإن العلم الذي يتعلق به القضاء هو الأحكام العملية من شخصية ومدنية وعقوبة، وهو أدنى علوم الدين الإسلامي، وأما أعلاها فهو العلم بالله تعالى وصفاته وبسننه في خلقه من نظام العالم، ويليه العلم بتهذيب النفس وتزكيتها بالعبادات الصحيحة، والعلم بسياسة الأمم وإقامة الحق والعدل فيها، والذين يفضلون عمر على غيره في علوم الإسلام - ولا سيما بعد أبي بكر - يفضلونه بهذه العلوم التي هي في الذروة العليا، وهي ما تثبتها له أعماله وأقواله وأحواله وسياسته وإدارته، ولم يغمطْه أحد حقه في علم الأحكام العملية القضائية أيضًا، وما روي من تفضيل علي لعمر أصح مما روي من قول عمر في علي، وما هما إلا أخوان، ومن مصائب التعصب جعْلهما خصمين يتضادان. فإن كان قد روي عن عبد الله بن مسعود أنهم كانوا يتحدثون بأن عليًّا كرم الله وجهه كان أقضى أهل المدينة، فقد روي عنه أنه قال لما مات عمر: إني لأحسب أنه ذهب بتسعة أعشار العلم.
رواه أبو خيثمة في كتاب العلم عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم بن عبد الله.
وقد أورده أبو طالب المكي في قوت القلوب والغزالي في الإحياء.
قالا: فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة -وفي القوت- وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون؟ ! فقال: إني لست أعني العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجل.
اهـ.
وجرير الراوي لهذا الأثر هو ابن حازم وهو ثقة فيما يرويه إلا عن قتادة.
وأما إبراهيم بن عبد الله فلا نعرفه في شيوخ الأعمش وإنما يروي الأعمش عن إبراهيم النخعي فلعله هو وناهيك به في رواة حديث ابن مسعود وآثاره. هذا وإن علماء السنة الذين طعنوا في رواية الحديثين المذكورين قد أثبتوا من الروايات في مناقب علي رضي الله عنه أكثر مما أثبتوه من مناقب غيره من الصحابة رضي الله عنهم وصرح بذلك إمامهم الأعظم أحمد بن حنبل وأقروه عليه، فهل يعدون من النواصب؟ ! وأختم هذا البحث بالتذكير بأنني كنت نوهت بشيعة العراق في أول العهد باستيلاء الإنكليز عليها؛ لأنهم كانوا أشد من أهل السنة في الثورة عليهم، ولما بلغنا عنهم من احتقار الدسيسة التي عرضها عليهم الإنكليز للتفرقة بينهم وبين أهل السنة؛ إذ عرضوا عليهم أن يكون القضاء في الجهات التي يكثرون فيها بمذهبهم الجعفري، فأجابوهم بأن الشريعة واحدة لا فرق فيها بين مذهب جعفر ومذاهب أهل السنة، وإنما الخلاف في كل مذهب يشبه ما في غيره وهو في مسائل اجتهادية، يعذَر فيها كل مجتهد.
ثم نُكسوا على رؤوسهم وعادوا إلى خدمة الأجانب بالتفريق والتعادي من حيث لا يشعرون، ولم يعتبروا باعتدال شيعة إيران وميلهم إلى الوحدة والاتفاق، وإنما كان أسلافهم من أمراء الفرس وموابذتهم هم الذين أسسوا قواعد الغلو في الرفض ونظموا جمعياته ونشروه في العالم لإزالة ملك العرب وإعادة دين المجوس وملكهم كما شرحناه مرارًا، فقد أخبرني الأستاذ الثعالبي الذي زار بلادهم في العام الماضي بمثل ما أخبرني به الأستاذ الكردي الذي ذكرت خبره من قبل وهو ناشئ في بلادهم، قالا: إن الميل فيهم إلى الوحدة الإسلامية والاتفاق مع أهل السنة قوي جدًّا، وهذا ما نشاهده في جاليتهم بمصر، فهم كأهل السنة هنا في كراهتهم للخلاف، وحبهم للائتلاف، إلا بما شذ به صديق لنا منهم طعن علينا وافترى، فكان قدوة للعاملي فيما امترى ثم تصافحنا وتصالحنا. ونسأله تعالى أن يصلح الجميع، فالشقاق شر للجميع. أفليس من أعجب العجائب أن نرى أخلاف أولئك الفرس يرجعون عن ذلك الغلو ويجنحون إلى الاتفاق مع أهل السنة من العرب وتقوية الرابطة الإسلامية ثم نرى مع هذا أخلاف العرب - حتى المنتسبين إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم - يزدادون غلوًّا في الشقاق المذهبي والسياسي الذي كان أكبر عيوب سلفها وخلفها، وهو الذي أضعف دولها، وأزال ملكها، واللهِ إن هذا لشيء عُجاب، وعسى أن يزول قريبًا بسعي أُولي الألباب.