رمضان والأمة بين عامين


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب الرحمة، وبسط أسباب المغفرة، ووعد بمنته بالعتق من النيران في شهر رمضان، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من الرحمات، وما ضاعف من الحسنات، وما محا من السيئات، نحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء الأرض والسماوات، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، ويولي لنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! اكتمل القمر، وانتصف الشهر، واقتربت العشر، وكل بداية تمضي إلى منتهاها، وتصل إلى غايتها، والعاقل المتدبر من يفكر في العواقب، ومن يستعد للخواتم، ومن لا ينقطع في أثناء السير، وكل مشمر له عزم ونية خالصة يوشك -بإذن الله جل وعلا- أن يتحقق له وعد ربه في قوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

ولا شك -أيها الإخوة الأحبة- أننا ننتظر في مثل هذا المقام أن يكون مختصاً بالحديث عن مزيد الطاعة والعبادة، والأجر والفضيلة فيما بقي من هذا الشهر العظيم، وفي عشره الأواخر على وجه الخصوص، وهو أمر مطلوب ومرغوب، وجدير أن نتحدث عنه، ولكنني أعلم أن كثيراً مما يذكر في هذا الموضوع يكاد يكون محفوظاً.

لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر.

وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل عشر أخيرة من شهر رمضان.

وكان يخلي بينه وبين الخلائق؛ ليتفرغ لصلته بربه، ولما بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى.

وكلنا يعرف ويستطيع ويجيد أن يتحدث عن ليلة القدر وفضيلتها، وما ورد من أنها في أوتار الشهر، وذلك أمر نحتاج أن نتواصى به، وأن نتذكره، سيما وأن صوراً من الواقع -وللأسف الشديد- تعارضه وتناقضه وتخالفه، فمع عشر الذكر والتذكر والاعتبار نرى عشر اللهو والتسوق والانشغال، ومع عشر الليل الذي يُحيا بالتلاوة والدعاء والركوع والسجود نرى العشر التي تُشغل بشراء الأحذية، والبحث عن الأكسية، والاستعداد بالأطعمة.. إلى غير ذلك مما هو معلوم.

ومع كل هذه المقدمة التي أحدثكم بها فإنني لم أتحدث عن العشر، ولا عن فضلها، ولا عن ليلة القدر وأجرها؛ لما ذكرته من المعرفة؛ ولأنكم ستسمعون ذلك خلال الأيام القادمات في كل الكلمات والمواعظ، غير أن وقفتنا اليوم هي عن: (رمضان والأمة بين عامين).

أليس جديراً بنا أن نتفكر في دور رمضان، وأثر فريضة الصيام في أمة الإسلام، ليس في الأفراد لما يكثرون من تلاوة القرآن، وما يزيدون من صلاة الليل، وما يسعون إليه من أمور الخير هنا أو هناك؛ لكن في تغير أحوال الأمة كلها؟!

أليس جديراً بنا -ونحن نمضي، وتمر بنا الأيام، وتتوالى الأعوام- أن ننظر إلى مسيرتنا، ونقوم ما اعوج منها، ونكمل ما نقص منها، ونستدرك ما فات منها؟

هذه نظرات عامة، ووقائع حاضرة، ومن بين صور الواقع المؤلم تبزغ أنوار وبشريات لمستقبل مشرق بإذن الله جل وعلا.

رمضان والوحدة:

في رمضان وحدة في العبادات، فالأمة كلها تصوم شهراً في وقت واحد، وعلى صفة وهيئة واحدة، ووفق متابعة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم واحدة، إنها أمة تصوم وتصلي، وتزكي وتعتمر، وتتلو القرآن، وتكثر الذكر، وتعظم الدعاء، وتجتهد في الابتهال، وتتواصل في التضرع.

إنها أمة يقول لها الله في رمضان ما جاء في القرآن: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].

إنها الأمة التي يذكرها رمضان بأن لها إلهاً واحداً لا تخضع إلا له، ولا تخشى إلا منه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تعتمد إلا عليه، ليس في قلوبها رهبة من الخلق وإن عظمت قوتهم، وليس في نفوسها ذل للمخلوقين وإن عظمت أعطياتهم، إنها أمة العبادة؛ أمة واحدة، يجمعها التعبد لله سبحانه وتعالى.

رمضان ووحدة المشاعر:

كلنا نردد هذا القول؛ فنقول: إننا في رمضان نشعر بشيء من ألم الحرمان، ونتذكر الفقير والمسكين، ولكننا كذلك في وحدة مشاعرنا تشدنا هذه المشاعر إلى أن نرتبط بكل مسلم على ظهر الأرض من أقصى الصين شرقاً إلى أقصى المغرب غرباً، ونذكر كل دمعة تذرفها أم فلسطينية، وكل دم يُراق على أرض العراق، وكل بيت يُهدم فوق رءوس ساكنيه، وكل جريمة تُرتكب في حق أمتنا هنا أو هناك.

إن لم يكن رمضان هو الذي يوحد مشاعرنا، ويربط قلوبنا، ويجدد وحدتنا، ويقوي آصرتنا، ويذكرنا بتاريخنا، ويلزمنا باستعادة ترتيب صفوفنا، فإن رمضان يمر علينا، وحينئذ لا نخرج منه إلا بآيات تُتلى، وأذكار تردد، وركعات تُصلى، وربما تكون القلوب ليست فيها حاضرة، والنفوس ليست بها متأثرة، فهل نرضى لأنفسنا ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس أن يكون حظها من فريضة من الفرائض وركن من الأركان هو هذا الزاد الضئيل، والتأثير الخافت الذي لا يكاد يبين؟!

لننظر بين عام مضى وعام أتى ما الذي في أمتنا جرى، ولنتنبه إلى صور أخرى في رمضان.

رمضان والتكافل:

ألسنا اليوم في مجتمعاتنا المحدودة نرى المال يُبذل للفقير، والمواساة تُبذل للحزين، وصور من التكامل والتكافل تجدد وتحرك المعاني المؤثرة المعبرة فيما وصف ومثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة الإسلام بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، فأين تكافلنا خارج نطاق حينا، وخارج نطاق مسجدنا ومدينتنا وبلدنا؟ إنه تكافل أمة الإسلام كلها، فهل نسينا ما كنا نذكره من قبل، ونتحدث عنه بكل قوة وجرأة وحرقة عن فلسطين؟ واليوم تجددت لنا أحداث العراق، ولم تكن من قبل، وغداً وبعد غد، لكن الأصوات خفتت، والألسن خرست، والأقلام أُغلقت، ولا يكاد المرء يسمع شيئاً من ذلك، وإن سمع فعلى ندرة، وربما بتخوف، وكأن الأمور تحتاج منا إلى تأمل أكبر.

رمضان والانتصار:

إنها حقيقة مهمة لابد أن نقف عندها وقفات كثيرة: ففي رمضان يحصل انتصار على الشهوات والملذات، وانتصار على علل النفس والنزغات، وانتصار على الضغائن والخصومات، تلك هي حقيقة هذا الشهر في أمة الإسلام إذا وعت وأدركت المقاصد العظيمة والحكم الجليلة في مثل هذه الفريضة.

إنه انتصار لهذا الشهر على سلطان شهوة الجسد، وعلى الكبر والغرور في النفس، وعلى العادات والتقاليد المخالفة في المجتمع، وعلى السمعة والرياء في الأعمال، وعلى القوة والأذى من الأعداء.

إن رمضان الذي يحقق انتصار المؤمن في نفسه، وانتصاره على ضعفه، وانتصاره على شيطانه يحقق في حقيقة الأمر انتصار الأمة على ضعفها وذلها وخذلانها واستسلامها لأعدائها؛ وذلك الذي تجدد في يوم بدر؛ اليوم الذي سماه الله عز وجل يوم الفرقان.

وهكذا فتح مكة الذي كان نهاية لصورة الجاهلية والظلم والطغيان، وما جرى بعد ذلك من فتوح وانتصارات في رمضان، نعم قد يكون اتفاقاً في التاريخ، لكنه قطعاً تجدد في معاني الانتصار الحقيقية في أوصال الأمة، بدءاً من قوة إيمانها، ومروراً بقوة وحدتها، وانتهاءً بقوتها المادية العملية.

واليوم نتساءل: هل هذه المعاني موجودة في حياة أمتنا؟ وما هو الواقع بين عام مضى وعام أتى؟

أستسمحكم عذراً -ونحن في هذه الأيام التي تهش فيها النفوس وتبش، وتفرح القلوب وتطرب لما في هذا الشهر والعشر من الخير- أن نذكر شيئاً من المآسي والأحزان؛ لأن الواقع يفرض علينا ألا نكون أسرى لمجرد ما نحن فيه في ذواتنا أو مجتمعاتنا، فالدائرة أوسع.

نقف وقفة سريعة أمام أرقام لقضيتنا الأولى في أرض فلسطين خلال فترات الانتفاضة الجهادية المباركة، أريد منها في ومضات سريعة أن أشير إلى أن الأمر ما يزال متفاقماً، وهناك صور تزيده ظلمة وظلاماً وحيرة وأسىً وألماً.

أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيد، منهم نحو سبعمائة من الطلبة، وواحد وثلاثون جنيناً قتلوا على الحواجز التي منعت وصول أمهاتهم إلى المستشفيات، وقتل كذلك أكثر من مائة مريض.

وهكذا أصيب خمسة وخمسون ألف جريح وأكثر، منهم ألفان وخمسمائة وأربعون امرأة، وأكثر من ستة آلاف إعاقة، وأكثر من أربعة آلاف وستمائة إصابة للطلبة، ونحو من أربعمائة إصابة لأهل الإسعاف من الممرضين، وثمانية آلاف أسير إلى يومنا هذا يقبعون في سجون الظلم والإرهاب في الكيان الصهيوني، منهم سبعة وتسعون قد أمضوا عشرين عاماً، ومنهم فئات من صغار السن ما بين السادسة عشرة والسابعة، ومنهم ست فتيات قاصرات يُعتدى عليهن ويُؤذين بكل صور الإيذاء، وأضف إلى ذلك نحو ثمانمائة من الأطفال الشهداء، وأكثر من تسعين بالمائة من أطفال فلسطين يشعرون في كل لحظة بأنهم معرضون للأذى أو القتل، ونحو ستة آلاف وسبعمائة بيت مدمر تدميراً كاملاً، ونحو ذلك العدد بأقل من المباني التي هدمت، ونحو عشرة آلاف شردوا من بيوتهم، وأكثر من مليون ونصف شجرة دمرت، وأكثر من مائتين وثمانمائة وثمانين بئراً ردمت، وأكثر من آلاف وآلاف من رءوس الأغنام والأبقار أتلفت وقتلت، والمدارس التي أغلقت تجاوزت ألفاً، والمعاهد والجامعات العليا تجاوزت عشراً، وستة وأربعون في المائة من إخواننا في تلك الأرض الطاهرة لا يأكلون في يومهم إلا وجبة واحدة، ونحو ثلاثة عشر وأربعة من عشرة في المائة مصابون بسوء التغذية!

والجدار الذي يسمى: جدار الفصل العنصري نسمع عنه، ولا نعلم أنه قد اقتطع نحو ستة عشر بالمائة من الأراضي، وأنه قد أفنى وأنهى وجود مائة قرية من قرى إخواننا في فلسطين، وأنه قد استولى على أكثر من خمسين في المائة من مصادر المياه في غزة!

أقول -أيها الإخوة الأحبة-: أليس هذا جديراً بأن يكون حديثنا هذا أيضاً في رمضان، أم أننا نتحدث عن عدد الركعات، وأصوات الأئمة، وحسن الدعاء، وكأن عبادتنا ليست إلا في هذه الجوانب، وكأن دور هذا الشهر ليس إلا في هذه الميادين، وكأننا ننسى الحقائق؟!

وليس هذا هو المؤلم فحسب؛ بل اليوم، وخلال هذا العام نجد تغيراً كبيراً، فالعمليات الاستشهادية أصبحت بنوع من شبه الإجماع انتحارية، ومساعدة الذين هدمت بيوتهم أو الذين قتل عائلهم هو تمويل للإرهاب، والتعليم الإسلامي وتعليم أحكام الشريعة ضرب من التطرف والتشدد، بل وحلقات القرآن وتحفيظه بؤر للإرهاب والعنف، وسيروا وراء ذلك؛ فإنكم ستجدون أن تغيراً كبيراً قد جرى في عام، وأصبحنا اليوم تمر علينا الأحداث ونسمعها كما يشرب أحدنا كأس الماء!

ألسنا بالأمس سمعنا، واليوم سنسمع كم قتل في العراق! وكم استشهد في فلسطين! وكم حصل هنا! وكم جرى هناك! وكأن الأمر يمضي ولا يعنينا، بل ونحن نكرس عكسه وضده في واقعنا.

وأنتقل بكم إلى صورة أخرى ارصدوها خلال عام، ولست هنا براصد ولا محلل: الواقع الإعلامي:

إنها قنوات أكثر، وفجور أكبر، وتطبيع أظهر، وإشغال وإلهاء، ألسنا نرى ذلك، ونتحدث به في مجالسنا؟! ولكنه يسري في صفوفنا، ويتسلل إلى بيوتنا، ويؤثر في شبابنا وشاباتنا، ويغير في كلماتنا ومصطلحاتنا، فلم نعد نسمع اليوم العدو الصهيوني، وإنما أصبحنا نسمع ونرى ونشاهد من يتحدث من أولئك المغتصبين والمحتلين، ويؤتى بهم على أنهم محللون، أو أنهم كذا أو كذا إلى غير ذلك، وأصبح الحال كما قال الشاعر:

يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال

ونحيا العمر أوتاراً وقصفاً ونحيا العمر في قيل وقال

وننسى إخوة في الله دارت بهم كف الزمان على الرمال

ألسنا نرى القنوات ترقص وتغني، ومن بعد في نشرة الأخبار الدبابات تقصف وتدمر؟! ألسنا نرى الفوازير والمسابقات المخزية والمخجلة في بعض القنوات، بل ونحن نسمع ونرى من يطعن في كل هذه المعاني مروراً بتعليمنا الإسلامي، وانتهاءً بحجاب نسائنا وعفة بناتنا بلسان عربي مبين في قنواتنا الفضائية الكثيرة الشهيرة؟! أليس ذلك جديراً بأن يلفت نظرنا؟!

وأنتقل إلى واقع اجتماعي:

ففي قضية المرأة: فهنا وهناك تبرج واختلاط، مصحوب بتبرير وتشريع قانوني أو تشريع من فتاوى وأقاويل باطلة.

وفي الأسرة: تفكك وانحلال.

وفي الشباب: تميع واختلال.

وفي العلاقات الاجتماعية: تقطع وانشغال.

وفي الوحدة المطلوبة: تنصل واستقلال، وذلك له حظ حقيقي في واقع الأمر.

ولسنا نقول ذلك توهيناً؛ ولكن لئلا نغفل عن واقعنا، ونعيش في لذة من أمور حسنة ممدوحة، لكنه لا ينبغي أن يكون الاقتصار عليها.

قال الشاعر:

نحن يا شهرنا العظيم غدونا أرنبات تفيد من صياد

وغدت خيمة الأخوة في الريـ ح بلا أعمد ولا أوتاد

كتبتنا الأيام في هامش السـ طر روتنا من غير ما إسناد

ولعل بعضكم يقول -وأنا قد قلت ذلك لنفسي-: لمَ مثل هذا الحديث؟ وهل أغلقنا نوافذ الأمل وأطفأنا أنواره؟

فأقول: لا؛ لكن الشق الأول: هو أننا لابد أن نفتح أعيننا، وأن نرى ما حولنا، وأن ندرك تعاظم الأخطار التي تهدد أمتنا، وأن نقول ذلك، وأن نذكر به، كما قال الشاعر:

يا أمتي إن قسوت اليوم معذرة فإن كفي في النيران تلتهب

وإن قلبي قد طاف الرجاء به وقد تدفق منه الماء والعشب

فكم يعز بقلبي أن أرى أمماً طارت إلى المجد والعربان قد رسبوا

ومع ذلك -أيها الإخوة الأحبة المؤمنون- ليست هذه هي الصورة، بل ثمة صورة أخرى تبشرنا بخير، تلك التي ننظرها في واقع أمتنا عموماً، وفي مثل هذه المناسبات والمواسم الإيمانية والعبادية خصوصاً.

فنحن بحمد الله اليوم نجد صوراً أخرى، نجد إيماناً في القلوب يقوى، وعزة في النفوس تزأر، وشموخاً في مواقف إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين تبدي لنا صوراً عجيبة فريدة! كل الذي ذكرناه يقابله أنهم أبلوا في العدو بلاءً حسناً، وأنهم أقضوا مضجعه، وأنهم خربوا تجارته، وأفسدوا سياحته، وأدخلوا الرعب في قلوب أبنائه، وخلطوا أوراقه السياسية، وأوقعوا من القتلى في صفوفهم ما لم يقتل بمجموع كل الحروب التي كانت مع العدو الصهيوني في الحروب العربية الرسمية كما يقال.

ونرى فيهم وفي نسائهم وفي شبابهم صوراً تذل لها أعناقنا إعزازاً وإكراماً لها، وكذلك خجلاً من مواقفنا أمام تلك المواقف الشامخة البطولية العظيمة.

ونحن نرى جيلاً من العقيدة والإيمان يبزغ في كل بقاع الأرض، وكلما اشتدت قبضة الظلم والطغيان على أمتنا تفجرت ينابيع اليقين والإيمان في صدور أبنائها، وكلما عظمت صور المقاومة والجهاد والمغالبة لأعداء الله، وصور الرجوع والتمسك بدين الله، ألسنا نرى اليوم المساجد تملأ أكثر مما كانت من قبل؟ ألسنا نرى القرآن يتلى أكثر مما كان من قبل؟ ألسنا نرى مكة -حرسها الله عز وجل- ومسجدها الحرام يغص بالناس في زحام شديد لم يكن مشهوداً منذ سنوات قريبة ماضية؟

كل ذلك من مبشرات الخير التي نراها في أمتنا، والتي نستشرف فيها أملاً مشرقاً، ونستشرف فيها تعرضاً لسنة الله عز وجل، قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

ونرى فيها اقتراباً من تحققنا لما أراد الله منا ليتحقق لنا ما وعدنا الله به: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وذلك ما لا نغفل عنه؛ لكننا -وللأسف الشديد- نغفل عن الجانب الأول، والإعلام يصرفنا عنه، والسياسة تلبسه علينا، ونحن ربما ننصرف أو ننجرف وراء هذا التيار أو ذاك.

فحقيق بنا وجدير بنا في هذا الشهر أن ننظر إلى أحوال أمتنا، وأن نصحح مسارها، وتصحيح المسار يبدأ منا كأفراد، وذلك ما نقوله الآن ونحن في منتصف الشهر وقرب بداية العشر.

فما هي أوضاعنا التي كنا نشكو منها، والتي تحدثنا عنها بأسىً بعد رحيل رمضان الذي مضى؟ قولوها الآن، وأعيدوها مرة أخرى، وقلتم وقلنا جميعاً بعد انقضاء شهر رمضان الذي مضى: لئن جاءت العشر القادمة -إن شاء الله- فإنني لن أفعل ولن أفعل ولن أفعل، وإذا جاءت سأفعل وسأفعل وسأفعل! فهاهي الآن تأتينا من جديد، فهل نحن نقول ولا نفعل؟ وهل نحن نضحك على أنفسنا أو نخادع ربنا؟!

أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يقوي عزائمنا في طاعته ومرضاته، وأن ييسر لنا فيما بقي من شهرنا جداً وتشميراً في الطاعات، ومغفرة في الذنوب والسيئات، ومضاعفة في الأجور والحسنات، ورفعة في المنازل والدرجات.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2914 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2733 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2633 استماع
المرأة والدعوة [1] 2548 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2545 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2541 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2491 استماع
خطبة عيد الفطر 2474 استماع
التوبة آثار وآفاق 2455 استماع