خطب ومحاضرات
الشباب بين الحماسة والكياسة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي أتم النعمة وأكمل الدين، وجعل الحجة على كل أحد لكتابه المبين، وجعل العصمة في كل أمر لرسوله الكريم، نحمده سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يخيب من رجاه، ولا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى.
والصلاة والسلام التامان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب هذا الكلام في موازين حسناتنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وأن يجعل لنا به أجراً، وأن يجعل لنا من ورائه نفعاً.
إن اختيار هذا الموضوع لم يكن بطلب من أحد ولا بتحديد منه، وإنما كان بمبادرة مني، وإذ أعترف بذلك فإني أقر بأن الموضوع مشكل، وكان بعض الأساتذة يقولون: إنه موضوع شائق. فقلت: هو بالكاف لا بالقاف. فهو شائك، وربما بين طرفي الموضوع يغضب من قد يظن أنه انتُقِصَ شيءٌ من تلك الحماسة، أو تكون لفئة أخرى غضبة مقابلة إن رأوا أنه قد جاء الحيف على الكياسة، وبين الأمرين دائماً يكون شيء من التوازن المطلوب الدقيق الذي لا يؤمن أن يكون فيه شيء من الخلل، فنسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد.
وأول ما نبدأ به من حديثنا حديثنا عن عنوان هذا الموضوع، ولا شك أننا سنحاول أن نجعل حديثنا في نقاط محددة وفي تعليقات مختصرة؛ لأن الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعاب كثير الفروع دقيق المآخذ، مما يجعل الاسترسال في بعض فروعه يحيف باستكمال الموضوع في بقية جوانبه.
في معاجم اللغة يقولون: الشباب: الفتاء والحداثة.
وذكر صاحب تاج العروس عن محمد بن حبيب تحديدات للفئة العمرية التي تتصل بالشباب، ومن محاسن ما ذكره أنه قد وسع في بعض الأحوال فجمع من هم في المصطلح العام خارج دائرة الشباب، فقد نقل عن محمد بن حبيب أن الشباب يمتد من سن السابعة عشرة حتى الحادية والخمسين، وبعد ذلك هو شيخ، لكنه أردف بعد ذلك الأقوال الأخرى، فمما قاله: إنه من البلوغ حتى يكمل الثلاثين. وقيل: ابن ست عشرة سنة إلى ثنتين وثلاثين، ثم هو كهل.
لكننا باقون على العهد الأول لنكون جميعاً شباباً إن شاء الله، ولنا عود إلى معنى الشباب في بعض نقاطنا الأخرى.
أما الحماسة فهي في اللغة تدل على الشدة، والحماسة: الشجاعة والشدة. والتحمس هو: التشدد، ويقولون في اللغة: حمس بالشيء إذا تعلق وتولع به. والأحمس: هو الورع من الرجال المتشدد في دينه.
وكذلك جاء في لسان العرب أن الأحمس هو الشديد الصلب في الدين والقتال.
والكلام في هذا يطول، وخلاصته التي يمكن أن نخلص بها إلى تعريف محدد أو واضح أن الحماسة: تعلق وولع بالأمر يدعو إلى التشدد فيه، والجرأة والشجاعة في إنفاذه. فهو يبدأ بشعور وعاطفة وتعلق ينبثق منه حينئذ تغير وسلوك نفسي يتولد من خلاله جرأة تترجم إلى شجاعة في إنفاذ الأمر وعدم التساهل أو الترخص فيه.
وأما الكياسة فهي أصل يدل على ضم وجمع، ومنه الكيس الذي تجمع فيه الأشياء، والكيس في الإنسان ضد الخرق أو ضد الحمق؛ لأنه -كما قال ابن فارس في معجمه- مجتمع الرأي والعقل، والكياسة: هي خلاصة الرأي والعقل، ولذلك يقولون: الكيس: العقل والفطنة والفقه. والكيس في الأمور يجري مجرى الرفق فيها، والكَيّس هو: الظريف الخفيف المتوقد الذهن، ورجل كيس الفعل: أي: حسنه.
ومن هذه الومضات أيضاً ننتهي إلى خلاصة نقول فيها: إن الكياسة هي عقل وفطنة تقود إلى الرفق في الأمور والإحسان في أدائها دون حمق.
وإذا نظرنا إلى هذه المعاني فسيتبين لنا أنها ليست متقابلة، بمعنى: ليست متضادة، وإنما كل منها يعطي دلالة في جانب من الجوانب، فجانب الحماسة متعلق بالعاطفة والشعور والحمية، وجانب الكيس والكياسة متعلق بالعقل والرفق والرشد، ولا يعني أن يكون العاقل ليست له عاطفة، ولا يعني كذلك أن يكون المتحمس طائشاً لا عقل له ولا رشد عنده، وهذا هو الذي نريد أن نعالجه، أو هذه -إذا صح التعبير- هي المعادلة التي نحب أن يكون في طرفيها اتزان كما هو شأن المعادلات كلها.
عندما نخص العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة المجتمعة في عنواننا لابد أن يثور السؤال: ما صلة الشباب على وجه الخصوص بالحماسة؟
والجواب أن الشباب فيه قوة وفتوة، ونحن نرى ونعلم جميعاً أنه إذا ذكرت الحماسة جاء في الذهن الشباب، وأنه إذا ذكرت الكياسة جاء في الذهن الشيوخ، وهذا انطباع تغليبي، ولكنه ليس إقصائياً كما أشرت من قبل.
وأما لماذا يتحمس الشباب، وهل الحماسة في الشباب عيب أو شيء طارئ أو أمر غريب فنقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي، لعناصر كثيرة، منها أن الشباب فيه حيوية وقوة، والله سبحانه وتعالى قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم:54] ، فالشباب قوة بين ضعفين، وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين، وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما، حتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما تزال الخلايا والأعضاء تزيد فيها وتنمو وتعظم وتتكاثر، وهذا أمر بين، وإذا رجعنا إلى اللغة فإنها تسعفنا بهذه المعاني بشكل واضح؛ لأن الاشتقاق اللغوي للأصل (شب) يبين أن مادة الشين والباء في اللغة تدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه، وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطبيعة الشباب، ومن ذلك قولهم: شبت النار. أو: شبت الحرب. ويقول ابن فارس : ثم اشتق الشباب منه، وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته.
ولذلك نرى هذا الأمر واضحاً، ونرى أن من طبيعة الشباب الفطرية -بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيلوجية، أي: الطبيعية الفيزيائية- أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة، وهذا مما يزيده قوة وحماسة، ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تقلب لأسبابها، بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.
هناك جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر، وهو قضية إرادة التحدي، فإن من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية.
ومن خصائص الشباب قبول التحدي، بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه، وسوف نأخذ أمثلة على ذلك، والأمثلة ستكون دائماً محدودة؛ لأننا لو تشعبنا فيها سيطول المقام عن ذكر ما وراء ذلك، ومن هذه الأمثلة قصة لـابن مسعود رضي الله عنه، كان ابن مسعود من صغار الصحابة وشبابهم، وكان حين ذلك نحيل الجسم، دقيق الساقين، وكان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه، وكان ذلك في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين، وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتحدثون فيما بينهم عمن يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في منتدى قريش، وهي عملية تحدٍ كبيرة، وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة، فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل، وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن، وقام يقرؤها بين ظهرانيهم، ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم، بل كان يعرف ما قد يترتب على ذلك، فعمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح، ولعلنا نقول بعد هذا الحدث: إنه قد أخذ درساً كافياً. لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها).
فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي؛ لأن نفس الشاب دائماً فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو تهادن أو تتراجع، بل تريد دائماً أن تثبت نفسها، وأن تظهر قوتها، وأن تصر على رأيها، وأن تثبت على مبدئها، وأن تكون نموذجاً ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمر بها النفس.
هناك سمة ثالثة، وهي الأمل والطموح؛ لأن الشباب هو في مقتبل العمر، فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعاً، وقد يرسم طريقاً في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم، وأنه سيحصل فيه كذا، وأنه سيكون له كذا وكذا وكذا، وقد يرسم طريقاً في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية، لكن لو أننا تصورنا المرء في الخمسين أو في الستين فلا شك أن الأمل موجود لكنه قطعاً سيكون محدوداً، ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم.
ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس، وكيف يزكي تلك الآمال، وكيف يشحذ تلك الهمم، فهذا ربيعة بن كعب كان يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام، فأراد النبي أن يكرمه فقال: (يا
ونعلم قوله لـعبد الله بن عمر يوم أَوَّل رؤياه فقال: (نعم الرجل
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكلٍ ما كان يناسبه، حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله، كما هو معروف في الحديث الذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة، وذكر في كل منهم خصيصة تميز بها فقال: (أقرؤهم
ثم إن الشباب وهو في مقتبل العمر يتردد: هل يتزوج الآن؟ أو هل يكمل دراسته؟ أو هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة، وربما نرى نحن أننا نضيق الآن في المجال، فلا يبقى فيه مساحة إلا لمعاشر الشباب الذين يدخلون في جميع التعريفات، أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه فإنه تبدأ تضيق الدائرة عليه كما قلنا.
لما كانت الحماسة من طبيعة الشباب كان دورنا أن نرحب بها ولا نعارضها، ولا نقول: إنها شيء شاذ أو أمر غريب. ولكننا نواصل أيضاً في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها، لتكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.
الهمة والعزة
ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في صور الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال، لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج، فعند البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أُخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتقرأ القرآن في كل ليلة؟ فقال: بلى يا رسول الله)، فهذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو ، فانظر إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر، ولا ينام ليله، ويختم في كل ليلة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رده إلى الاعتدال المعروف في الحديث، لكن الشاهد هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.
العمل والإنتاج
وأيضاً زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جُعل من مؤهلاتها الشباب، ففي صحيح البخاري في الحديث المشهور في جمع القرآن قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت : (إنك شاب عاقل لا نتهمك، كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأول هذه الخصائص أنه شاب، والمهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة، وتحتاج إلى عمل متواصل، فوكلها إلى هذا الشاب الفتي، مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال، ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته، ومع أن الذي كان يحدثه هو أبو بكر خليفة المسلمين، ومعه عمر وزيره، وهما أفضل الصحابة وأكبرهم سناً إلى غير ذلك، ومع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشاب: (كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية، لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: (فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي)، ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة، وأعانه عمر ، ووضع الشروط والضوابط، والشهادة المطلوبة على كل ما هو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته، وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمكن صورة ذكرت، ليستفاد من هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب، والأمر في هذا يطول الحديث عنه.
الثبات والإصرار
فهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرأ القرآن في مسجده كل يوم مدة أربعين عاماً، وهو أمير، وهو يتولى الحكم، لكنه كان في صفته وسمته ظل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل، فالقضية ليست قضية ردود أفعال، ولا سحابة صيف تنقشع، ولا أمراً أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها، كما نرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات العاطفية، خاصة ونحن في عصر عولمة وإعلام وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثاً كبيراً.
وحبيب بن زيد رضي الله عنه -وهو من أمثلة الشباب- لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب ثبت، وكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فيقول له مسيلمة : قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله. فيقول: لا أسمع. وإذا بـمسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه، فيقطع أذنه، ويقطع أنفه، وجعل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه.
وهذا مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتىً أحسن لمة في أهل مكة من
وهكذا بقي موقف جعفر في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه، فقطعت فضمها بعضديه، حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ.
النجدة والإعانة
مثال ذلك قصة حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه، ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهداً في سبيل الله ناسياً أنه لم يغتسل من جنابته، حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي.
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء، وانتفاع من حولهم بهم بدلاً من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.
الحماسة تورث خلالاً كثيرة وسمات عديدة، أولها: الهمة والعزة، فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية، والعزيمة ماضية، والعزة قضية، والروح فتية، بحيث إن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تُعد من مظاهر القوة الإيجابية، فليس في الشباب رخاوة، وليس في الشباب ضعف، وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا أنه قد صارت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء، ولكننا نقول: إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائماً في قصب السبق والتقدم، كما سيأتي في المراحل التالية.
ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في صور الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال، لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج، فعند البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أُخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتقرأ القرآن في كل ليلة؟ فقال: بلى يا رسول الله)، فهذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو ، فانظر إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر، ولا ينام ليله، ويختم في كل ليلة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رده إلى الاعتدال المعروف في الحديث، لكن الشاهد هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.
الأمر الثاني المتولد عما سبق هو العمل والإنتاج، فالهمة والعزة تتحول إلى عمل وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل، لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة؛ لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود، ولا يرضى بالكسل والخمول، ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه، ولذلك نرى شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كانوا دائماً يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة، حتى في مجالات مختلفة، وأذكر على ذلك مثالاً في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو الذي كان غلاماً صغيراً في نحو السادسة عشرة من عمره، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام -كما في المسند عند الإمام أحمد - : (اقرأ حرف يهود) أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة، فتعلم السريانية، وفي بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوماً، وفي بعض الروايات سبعة عشر يوماً، فكان يقرأ للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب له.
وأيضاً زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جُعل من مؤهلاتها الشباب، ففي صحيح البخاري في الحديث المشهور في جمع القرآن قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت : (إنك شاب عاقل لا نتهمك، كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأول هذه الخصائص أنه شاب، والمهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة، وتحتاج إلى عمل متواصل، فوكلها إلى هذا الشاب الفتي، مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال، ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته، ومع أن الذي كان يحدثه هو أبو بكر خليفة المسلمين، ومعه عمر وزيره، وهما أفضل الصحابة وأكبرهم سناً إلى غير ذلك، ومع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشاب: (كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية، لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: (فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي)، ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة، وأعانه عمر ، ووضع الشروط والضوابط، والشهادة المطلوبة على كل ما هو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته، وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمكن صورة ذكرت، ليستفاد من هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب، والأمر في هذا يطول الحديث عنه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2544 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2535 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |