شموس الخيرات وظلم العثرات


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، الحمد لله على ما شرح به الصدور من الإسلام، وعلى ما طمأن به القلوب من الإيمان، وعلى ما لفظ به الألسنة من القرآن، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين!

وبعد:

أحييكم بتحية الإسلام الطيبة المباركة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

وأبدأ بشكر لجنة التوعية على ما هيأت من هذا اللقاء، وأبشكر الحاضرين على ما أسرفوا من حسن الظن، سائلاً الله سبحانه وتعالى في أول الأمر وفي مبتدأ القول أن يرزقنا الإخلاص في الأعمال، والصدق في الأقوال، والحسن في الأحوال، والنجاة عند المرجع والمآل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الرجوع إلى المنبع الصافي في العلم

من المهم في بداية هذا الحديث أن نبدأ بذكر مضمون هذا الموضوع؛ لأنه ربما لا يستشف من عنوانه المضمون الواضح الذي يرتسم في ذهن السامع أو في ذهن القارئ ابتداءً، وأحب أن أضرب لذلك مثلاً يجعله إن شاء الله مدخلاً إلى الحديث عن مضمون هذا الموضوع.

لو تصورنا إنساناً بلغ به العطش غايته، وليس له من شراب ولا غيره أمداً طويلاً، فلنتصور حالته إذا أقبل على واحة أو على نبع من الماء، لا شك أنه يندفع اندفاعاً قوياً ويعب من الماء عباً، وهو يقصد في ذلك خير نفسه وصلاحها، ولكنه ربما لا يلتفت حينئذ إلى ما على هذا الماء، وما جاء إليه، وما اختلط به من بعض الأكدار التي جاءت من خارجه، وربما أيضاً أسرف في شربه بما قد يضره مع أن قصده المنفعة. ولو أنه تروى قليلاً، فأزاح ما قد يكون من الماء من الشوائب أو الأخلاط، أو عمد إلى منبع الماء الصافي، فأخذ قدر حاجته شيئاً فشيئاً لكان ذلك أصح له وأنفع له بإذن الله سبحانه وتعالى ولا شك.

في الفترة الماضية من الزمان هاجت رياح التغريب، وجنح كثير من الناس في مزالق الشيطان، وأهواء النفوس، وضلالات العقل، وكثر البعد عن دين الله سبحانه وتعالى، ثم يسر الله سبحانه وتعالى هذه الصحوة المباركة التي نشاهد فيها الإقبال العظيم على الخير، والرغبة الجامحة في الاستزداة والاستفادة، والحمية والغيرة القوية على هذا الدين، وهذه كلها مقاصد حسنة، لكن كما أقبل العطشان، ربما لم يلحظ شيئاً من الأكدار، وربما أخذ بمقدار أكثر من الحاجة، وربما يقع له في مثل هذه الحال ما يقع لذلك الرجل.

هذا هو مدخل موضوعنا، أن نحاول أن نرجع إلى النبع الصافي، وأن نحاول أن نستوضح من كلام الأئمة والعلماء ما يبين بعض مواطن الخلل التي قد نقع فيها، وبعض مواطن الزلل التي قد تزل الأقدام فيها، وهذا يتعلق بالذات بالأكثر وروداً، والأكثر تداولاً، وهو ما يتعلق بالتقويم والنصح والإرشاد، أو بالدفاع عن الدين والذب عن حياض الإسلام، فإنه ربما كان في مثل هذا الأمر ما يقع فيه الخلل، حتى قد يسرف الناقد فيأتي بما لا ينبغي، وبما لا يجدي، وقد يسرف أيضاً المتغاضي فيتهاون فيما لا ينبغي وفيما لا يجدي.

وبالجملة: فإن مسألة التقويم ومسألة النقد والتصويب والتخطئة لا شك أنها من أدق المسالك ومن أصعبها، ومن أكثر المسالك التي قد يرد الخطأ فيها، ومن هنا فإنا أحببنا أن نبين بإذن الله سبحانه وتعالى ما ينبغي في مثل هذا الأمر من القواعد والضوابط، ومن الاسترشاد بالآيات والأحاديث، ومن ضرب الأمثلة من واقع تطبيقات الأئمة الموثوقين والمتبوعين والمرضيين من سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الخير له نور، وإن للطاعة حلاوة، ونجد لصاحب تصويباً وتوفيقاً من الله سبحانه وتعالى يوقعه على الصواب، ويجنبه الخطأ والزلل في غالب الأمر، كما أن للمعصية ظلمة وسواداً في القلب، وربما تورث فساداً في الرأي، وخطأً في العمل؛ لأن لذلك آثار، ولذلك آثار وبهذا قضت سنة الله سبحانه وتعالى، ولكن الخير إذا كثر وكثرت أنواره فإن قليل الظلام من العثرات يعفى، بل قد يعم النور فلا يظهر لتلك العثرات أثر إلا لمن نقر وبحث في هذه العثرات، ومن هنا فإن حديثنا وموضوعنا هو فيما يتعلق بهذا الجانب المهم والخطير، الذي ربما يكثر مساحة الاختلاف والتنابز، أو التنافر، فعلينا أن نسعى جاهدين إلى قصد الحق، ورؤية ميزان العدل في مثل هذا الأمر، فنسأل الله جل وعلا الإعانة والتوفيق، وهو سبحانه وتعالى ولي هذه الأمور، وما يكون للإنسان فيها إن شاء الله من توفيق فمن الله، وما يكون من خطأ فمن الشيطان أو من نفس الإنسان، ومن إحسان ظن الناس به أن يلتمسوا له عذراً.

لا عصمة لأحد من الخلق غير الأنبياء

أول قضية مسلمة عند الجميع أنه لا عصمة لأحد من أهل الحق أبداً إلا للأنبياء والمرسلين، وأن الخطأ يجوز على بقية البشر من صغير أو كبير أو من جاهل أو عالم أو من تابع أو متبوع، بل هو محتم الوقوع، فينبغي أن نعلم ابتداءً هذه القضية، وأن نعلم أيضاً قضية أخرى لازمة لها، وهي أن منشأ وجود الخطأ إنما هو حكمة الله سبحانه وتعالى، وسنته في تباين الفهوم، واختلاف مدارك العقول، ويجوز في الدين الاجتهاد في كثير من المسائل التي يحتاج إليها، فلا عصمة لأحد، وهذه الأخطاء غالبها يقع بالاجتهاد الذي هو سائغ في هذا الدين، وله ما يؤسسه ويبينه، قال الشاعر:

سامح أخاك إذا خلط منه الإساءة بالغلط

من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

فجميع الناس -غير الرسل والأنبياء- لا يسلم أحدهم من نوع خطأ أو قليل هفوة أو بعض زلة يقع فيها، لكنها تغتفر في كثير حسناته، ويلتمس له فيها العذر؛ لأنه سار فيها وفق نهج الدين بالاجتهاد السائغ وفق شروطه، والله سبحانه وتعالى بين هذه الحكمة بقوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] أي: في موارد الاجتهاد، وكذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم يبين ذلك فيقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فهو في كلا الحالين مأجور، سواء أصاب أو أخطأ، لكن الأجر لا يتعلق بالإصابة والخطأ، وإنما يتعلق بالقصد الذي في قلبه، والنية التي بين جنبيه في أنه أراد إصابة الحق، وموافقة أمر الله سبحانه وتعالى، وسعى إلى قصد ما يحصل له به الثواب والأجر ورضا الله جل وعلا، وما يتجنب به من الوزر والإثم وسخط المولى سبحانه وتعالى.

وهذا الموضوع طويل، والنقول فيه كثيرة، وما يسر الله لي جمعه قليل من كثير، وما سيقال لكم مما جمع قليل منه، فلعل هذا القليل من القليل يكون فيه إشارة إلى ما وراءه، ويكون مؤسساً إن شاء الله لما نهدف إليه من التبصير بهذا الأمر.

ليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه

الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] فهذه الآية نأخذ منها أن كل أمر من قدح أو تزكية ينبغي فيه التبين والتثبت، لا التعجل والتسرع الذي قد يفقد الدقة في تصويب الأمر أو تخطئته.

ونجد أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبصرنا في إطار عام إلى بعض الأمور والقواعد التي توضح مسار هذا الأمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (من ستر على مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة) وهو جزء من حديث طويل في الصحيح، فليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه، وليس كل زلة ينبغي نشرها وإذاعتها، وإلا لم يكن لهذا الحديث معنى عملياً ولا تطبيقياً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المدح، وعقب عليه بثبوت الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولذلك شواهد يأتي ذكرها.

ثم إن قصد التنبيه والتبيين لا يقتضي بالضرورة التشهير والتوبيخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه كان إذا رأى أو سمع ما لا ينبغي أو ما ليس بصواب يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا كذا؟ ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟) فيحصل المقصود الأعظم -وهو بيان الخطأ والتنبيه من الوقوع فيه- مع تجنب التجريح، ومع تجنب ما قد يكون فيه نوع جرأة على حرمة المسلم، ونوع توغير للصدور، ونوع منافرة بين القلوب، ونوع تفرق في الصفوف، مما قد تكون آثاره أعظم وأخطر من هذه الزلة التي تم التنبيه عليها أو التشهير بصاحبها إذا صح التعبير.

ونجد في هذا أحاديث وتطبيقات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: الحديث المعلوم في الصحيحين في قصة ماعز الأسلمي الذي زنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلوم أنه جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام معترفاً بزناه يقول: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً، وفي الرابعة رأى إصراره على الاعتراف فلم يبادره رغم تكرره منه، وإنما قال له ملقناً له للحجة التي قد يدرأ بها الحد عن نفسه، ويبصره بأنه ربما لم يفهم ما يوجب عليه الحد، فقال له: (لعلك قبلت أو لعلك فاخذت، فقال له: لا يا رسول الله!) حتى في الرواية التي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح باللفظ الصريح في معنى الجماع!

فلما حصل كل هذا من الاعتراف أربع مرات ثم تعيين الفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) لأنه يكون مسقطاً للحد عنه، ثم بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنكهوه)، يعني: شموا رائحته لعله يكون قد شرب خمراً خالط عقله فلم يدر ما يقول، (فاستنكهوه، فقالوا: ليس به شيء يا رسول الله، فحينئذ أمر به فرجم)، وفي بعض روايات مسلم أنه لما رجم هرب من شدة الرجم لكنهم لحقوه ورجموه حتى مات، فورد في بعض الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلا تركتموه؟) قال بعض الشراح: أي: لعله يتوب ويرجع، فهذا يبين لنا عظيم ما ينبغي من الستر على المسلم. وفي رواية أنه جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فاعترف بالزنا فقال له: (استر على نفسك وقد ستر الله عليك)، فلم يكن منه تشهير، بل حتى لم يكن منه إبلاغ للحاكم أو الإمام، لأنه داخل في مفهوم الستر متى ما تحصل المقصود، وهو وقوع الندم، وصدق التذلل لله سبحانه وتعالى، وعظيم الإخلاص في قصد التخلص من آثار هذا الذنب ولو بإقامة الحد الذي فيه إزهاق النفس، ثم إنه ذهب إلى عمر فقال له مثل ما قال له أبو بكر إنه ذهب إلى هزال فأخبره؛ فقال له: اذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقيم عليك الحد، فجاء في الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـهزال: (هلا سترته بردائك؟) وهذا يبين لنا أن الستر مطلوب، ما دام أنه لا يكون فيه الضرر العام الذي تحصل به الفتنة، والذي يستلزم الوضوح وتبيين الأمر، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترفاً على النحو الذي أشرنا إليه أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الحد تنفيذاً لحكم الله سبحانه وتعالى، وبياناً لقضية أن الحد إذا بلغ الإمام فلا بد أن يقام.

وكذلك قصة الغامدية نحوها، مما يبين لنا أن الأمر إذا كان يحتمل الستر، ومما لا يشيع أثره، ولا يعم ضرره؛ فإنه يكون الستر أولى، مع تقديم النصح والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أنه لا يقر بالذنب، ولا يفضح أحد نفسه عند غيره إلا وقد حصل له من حرارة لسع أثر الذنب ومن حرارة قصد إرادة التوبة ما يحصل به المراد من إقامة الحد، وهو الرجوع إلى الصواب، والتطهير من الذنب.

من قلت أخطاؤه غمرت في بحار حسناته

نمر ونعرج من خلال نصوص السنة النبوية المشرفة على قضية أخرى وهي: أن كثرة الخير تغمر وتغطي قليل الخطأ والزلل، بل ربما كان للخير الأعظم والأكبر ما يغفر زللاً قد سبق، وزللاً قد مضى، ولذلك شواهد عظيمة في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

الأول: ما جرى من أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما أرسل إلى أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتحها، وأخبر الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فأرسل علياً ومعه نفر من الصحابة وقال لهم: اذهبوا إلى روضة خاخ فإنكم تجدون امرأة معها كتاب فخذوه، فذهبوا فلما وجدوا المرأة أخذوا الكتاب قبل أن تصل به، وعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاطب في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بالظنة رغم وضوح الفعل، ورغم صراحة وثبوت القضية -كما يقولون- بالأدلة المادية المحسوسة، ولكنه قال له عليه الصلاة والسلام مبيناً منهجاً عظيماً: (ما حملك على ما فعلت؟) ليبدي عذره، وليبين تأوله أو اجتهاده، أو ليعترف ويقر بذنبه، فقال ما معناه: إنه مؤمن بالله ورسوله، وأنه ما غير ولا بدل، ولكن الأمر أن له مالاً وأسرة، وليس له عند قريش من يحميهم، فأراد أن يجعل له يداً عندهم ينتفع بها، فحينئذ قام عمر رضي الله عنه بغيرته المعروفة، وبشدته الظاهرة المعلومة فقال: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا عمر ! ما أدراك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؟ وقد كثرت أقوال الشراح لهذه المقالة وكلها تجمع على أن فضيلة التقدم في الإسلام، وشهود بدر، والمنافحة عن دين الله؛ كان لها الأثر أن تكون معفية لذنوب سبقت أو لذنوب تلحق، أو أنها تكون سبباً لصاحبها فلا يقع في العظائم، وربما يقع له بعض الهنات التي يغفرها الله سبحانه وتعالى له، وهكذا من كان له قدم صدق، ومزيد فضل، وغزير علم، وسابقة خير في الناس؛ ربما يكون له من الخير ما يعفي عنه أو ما يغطي عنه أو ما يقلل أثر الذنب القليل أو الخطأ اليسير بعون الله تعالى. ومن ذلك حديث عند الترمذي حينما جهز عثمان جيش العسرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) وهذا شاهد على ما قلنا من قوله صلى الله عليه وسلم.

ما جاء في صحيح البخاري ومسلم أن رجلاً كان اسمه عبد الله ولقبه الحمار ، وفي بعض الروايات لم يسم، وفي بعض الروايات أنه نعيمان أو ابن نعيمان ، كان يؤتى به وقد شرب الخمر، ثم يجلد، ثم يؤتى به مرة أخرى، وتكرر منه ذلك كثيراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) وهذه قاعدة عظيمة أنه قد يجتمع حب الله ورسوله وثبوت الإيمان مع حصول الخطأ والمخالفة، وهذه من المزالق العظيمة التي وقع فيها الخوارج وغيرهم حينما كفروا مرتكب الكبيرة، ونفوا عنه اسم الإيمان، فهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عن رجل تكرر منه شرب الخمر، وحد فيه، أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن لعنه، قال العلماء: إن كان مراد لاعنه اللعن المعروف -وهو الطرد من رحمة الله- فلا شك أنه منهي عنه بالجملة؛ لأنه يكفره به، وقد يقصد بلعنه توبيخه أو التشنيع عليه كما يكون بين الناس عندما يلعن إنسان إنساناً ولا يقصد الحكم عليه بالطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات لهذا الحديث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) فإن مثل هذا الجرح أو مثل هذا السب أو مثل هذا التشنيع ربما يسبب أن الإنسان تأخذه العزة بالإثم فينجرف وراء الإصرار على المعصية، وقد كان يوشك أن يكون قريباً من حبل التوبة فيعتصم وينجو به بإذن الله سبحانه وتعالى.

وهذه مقالة نفيسة لـأبي الدرداء رضي الله عنه، فإنه كان يقول: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ولكن كونوا عوناً لأخيكم على الشيطان)، وهذه مسألة من المسائل التي نستشفها من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه.

الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) والمقصود بذوي الهيئات الذين اشتهر فضلهم في الناس، والذين بزغ نجمهم في المجتمع، والذين كثر خيرهم، فإذا وقعت لهم عثرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أن تقال عثرتهم، وألا تكشف سوأتهم؛ لئلا يذهب كثير خيرهم في الناس، ولئلا تنعدم قدوتهم في كثير من الخير الذي هم عليه عند الناس، ونص الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) إلا ما كان موجباً للحد، فإذا بلغ الحد الحاكم فلا تقال مثل هذه العثرة، إلا ما كان في باب التعزيرات، أي: ما يكون موجباً للعقوبة دون الحد، فللحاكم -عندما يكون الواقع في هذا الأمر من ذوي الهيئات- أن يسقط عنه التعزير الذي هو مقدر من عند الحاكم أو القاضي، ولذلك قال الشافعي في ذلك: ذوو الهيئة من لم يظهر منه ريبة. وقال العلماء في الاستنباط من الحديث: وفيه دليل على جواز ترك التعزير، وأنه غير واجب، يعني: لمن كان عليه هذا الأمر.

وقد روى الترمذي وضعفه بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) وهي قاعدة مقررة عند الفقهاء، وهي درء الحد ولو بشبهة، وهذا حديث من الأحاديث التي نستشهد ونستأنس بها في هذا الباب، وقد ذكر الماوردي في الحاوي الكبير في فقه الشافعية هذه القضية، وضرب لها أمثلة كثيرة.

تجويز الكذب للإصلاح بين الناس

عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب -فإن الحرب خدعة-، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك) رواه الترمذي وأحمد .

وشاهدنا منه أنك في بعض الأحيان قد تلطف القول، وقد تسعى للإصلاح، فتقول ما ليس بواقع حقيقة، فتجد من ينتقد ذلك أو ربما يشنع على هذا الفعل؛ لأنه يرى فيه تجاوزاً، ويرى فيه بعداً عن الغيرة عن الدين، ونحو ذلك مما يتوهمه، وهذا ليس بصحيح، فإن سفيان بن عيينة قال تعليقاً على هذا الحديث: لو أن رجلاً اعتذر إلى رجل فحرف الكلام وحسنه ليرضيه بذلك لم يكن كاذباً، لماذا؟ قال: يتأول الحديث: (ليس الكذاب من أصلح بين الناس) فإصلاحه ما بينه وبين صاحبه أفضل من إصلاح ما بين الناس.

عمر رضي الله عنه وهو من نعلم شدته، ومن نعلم حرصه على إقامة الحق بكل وجه من الوجوه، روي أن رجلاً في عهد عمر قال لامرأته: نشدتك بالله هل تحبينني؟! قالت: أما إذ نشدتني بالله فلا، أي: ما دام المسألة فيها يمين وفيها قضية فاصلة فلا؛ لأنها لا تريد أن تكذب، فخرج حتى أتى عمر فأخبره، فأرسل إليها عمر فقال: أنت التي تقولين لزوجك: لا أحبك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! نشدني بالله، أفأكذب؟! قال: نعم فاكذبي، ليس كل البيوت تبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب.

هذا الموقف صح عن عمر وهو الشديد وهذا يبين لنا أثر المقاصد الحسنة في تجويز الكذب أحياناً، ما لم يكن في ذلك مخالفة لحكم صحيح أو تغيير لحكم من حل إلى حرمة أو نحو ذلك، فالمقصد الحسن يعفو عن قليل الكذب؛ ليصلح بين الناس، مع بيان الحق، والنصح للمسلمين.

وجوب الذب عن عرض المسلم

روى أحمد وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله وأبي سهل الأنصاريين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته).

قد يمر بك الطعن فيمن له خير وفضل، وفيمن لا يكون هذا الأمر الذي وقع فيه موجباً للتشهير به؛ فيكون هذا الحديث شاهداً لك، ودليلاً لك إن انتصرت له، وذببت عن عرضه، وبينت ما يلزم من الستر، مع التنبيه على أن الخطأ لا يصوب بحال من الأحوال، وأن الحلال لا ينقلب حراماً بحال من الأحوال، والتنبيه يكون مع لزوم الأدب، ومع الحرص على هذا الأمر. كان بين خالد بن الوليد وبين سعد بن أبي وقاص كلام، كما يحصل بين الناس عند الاختلاف، فتناول رجل خالداً عند سعد ، أي: ذكره بأمر، ومعلوم أن المذكور خالد ، والسامع سعد ، فربما يظن الظان أنه قد يفرح بذلك أو يسكت عنه؛ لأن بينهما شيئاً من الخلاف، فقال سعد : إن الذي بيننا لم يبلغ ديننا.

فينبغي أن يكون الخلاف بيننا لا يؤدي إلى ما هو أبلغ منه وإلى ما هو أعظم منه في هذا الشأن.

المسلم مرآة أخيه المسلم

حديث عظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، ويروى عن أبي هريرة موقوفاً، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: (المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيباً أصلحه) وأما الرواية المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه) ومعنى (المؤمن مرآة أخيه) أنه مقوم له ومصحح لمساره؛ لأن الإنسان إذا لبس ثوبه نظر في مرآته ليصحح من وضعه، وليرى خطأه في ذلك، ويرى في المرآة ليستكشف ما لا يحب الاطلاع عليه؛ لأن العين لا تبصر جبهته، ولا تبصر وجنته، فيستعين بهذه المرآة، ولا شك أنه يحتاج إليها، ويفتقر إليها، فلو تصورنا أن في المرآة غبشاً أو نوعاً من الضباب أو نوعاً من الغبار فما تراه يصنع؟ هل تراه يعمد إليها، فيكسرها فيفقد خيرها فلا ينتفع بها ألبتة أم تراه يتلطف بها ويمسح عنها غبارها، وينظفها بكل أسلوب حسن يستطيعه حتى ينتفع بها؟

إن كان فيها الغبار ولم يزله بقي عليها، وإن كسرها أو استغنى عنها لم يزل مفتقراً إليها؛ وكذلك الأمر ما بين المؤمن والمؤمن، ينبغي أن يكونا على مثل هذا الأمر. هذه جملة يسيرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبئنا عن منطلقات مبدئية لولوجنا حول هذا الموضوع، وقد قال الله سبحانه وتعالى في أقسام الناس: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102] فرجا الله سبحانه وتعالى العفو لمن خلط ذاك بذاك. وقد عمم العلماء حديثاً من قاعدة فقهية تطبيقية إلى قاعدة معنوية في التقويم، وهو حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، ما معنى لم يحمل الخبث؟ قد يكون فيه خبث ولكنه لا يضره، وكذلك من غلبت محاسنه وكان فيه قليل خطأ؛ فإن قليل الخطأ لا يضره مع كون الخطأ يبقى خطأً، ولا يفهم من قولهم: (لا يضره) أنه ينقلب إلى صواب.

من المهم في بداية هذا الحديث أن نبدأ بذكر مضمون هذا الموضوع؛ لأنه ربما لا يستشف من عنوانه المضمون الواضح الذي يرتسم في ذهن السامع أو في ذهن القارئ ابتداءً، وأحب أن أضرب لذلك مثلاً يجعله إن شاء الله مدخلاً إلى الحديث عن مضمون هذا الموضوع.

لو تصورنا إنساناً بلغ به العطش غايته، وليس له من شراب ولا غيره أمداً طويلاً، فلنتصور حالته إذا أقبل على واحة أو على نبع من الماء، لا شك أنه يندفع اندفاعاً قوياً ويعب من الماء عباً، وهو يقصد في ذلك خير نفسه وصلاحها، ولكنه ربما لا يلتفت حينئذ إلى ما على هذا الماء، وما جاء إليه، وما اختلط به من بعض الأكدار التي جاءت من خارجه، وربما أيضاً أسرف في شربه بما قد يضره مع أن قصده المنفعة. ولو أنه تروى قليلاً، فأزاح ما قد يكون من الماء من الشوائب أو الأخلاط، أو عمد إلى منبع الماء الصافي، فأخذ قدر حاجته شيئاً فشيئاً لكان ذلك أصح له وأنفع له بإذن الله سبحانه وتعالى ولا شك.

في الفترة الماضية من الزمان هاجت رياح التغريب، وجنح كثير من الناس في مزالق الشيطان، وأهواء النفوس، وضلالات العقل، وكثر البعد عن دين الله سبحانه وتعالى، ثم يسر الله سبحانه وتعالى هذه الصحوة المباركة التي نشاهد فيها الإقبال العظيم على الخير، والرغبة الجامحة في الاستزداة والاستفادة، والحمية والغيرة القوية على هذا الدين، وهذه كلها مقاصد حسنة، لكن كما أقبل العطشان، ربما لم يلحظ شيئاً من الأكدار، وربما أخذ بمقدار أكثر من الحاجة، وربما يقع له في مثل هذه الحال ما يقع لذلك الرجل.

هذا هو مدخل موضوعنا، أن نحاول أن نرجع إلى النبع الصافي، وأن نحاول أن نستوضح من كلام الأئمة والعلماء ما يبين بعض مواطن الخلل التي قد نقع فيها، وبعض مواطن الزلل التي قد تزل الأقدام فيها، وهذا يتعلق بالذات بالأكثر وروداً، والأكثر تداولاً، وهو ما يتعلق بالتقويم والنصح والإرشاد، أو بالدفاع عن الدين والذب عن حياض الإسلام، فإنه ربما كان في مثل هذا الأمر ما يقع فيه الخلل، حتى قد يسرف الناقد فيأتي بما لا ينبغي، وبما لا يجدي، وقد يسرف أيضاً المتغاضي فيتهاون فيما لا ينبغي وفيما لا يجدي.

وبالجملة: فإن مسألة التقويم ومسألة النقد والتصويب والتخطئة لا شك أنها من أدق المسالك ومن أصعبها، ومن أكثر المسالك التي قد يرد الخطأ فيها، ومن هنا فإنا أحببنا أن نبين بإذن الله سبحانه وتعالى ما ينبغي في مثل هذا الأمر من القواعد والضوابط، ومن الاسترشاد بالآيات والأحاديث، ومن ضرب الأمثلة من واقع تطبيقات الأئمة الموثوقين والمتبوعين والمرضيين من سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الخير له نور، وإن للطاعة حلاوة، ونجد لصاحب تصويباً وتوفيقاً من الله سبحانه وتعالى يوقعه على الصواب، ويجنبه الخطأ والزلل في غالب الأمر، كما أن للمعصية ظلمة وسواداً في القلب، وربما تورث فساداً في الرأي، وخطأً في العمل؛ لأن لذلك آثار، ولذلك آثار وبهذا قضت سنة الله سبحانه وتعالى، ولكن الخير إذا كثر وكثرت أنواره فإن قليل الظلام من العثرات يعفى، بل قد يعم النور فلا يظهر لتلك العثرات أثر إلا لمن نقر وبحث في هذه العثرات، ومن هنا فإن حديثنا وموضوعنا هو فيما يتعلق بهذا الجانب المهم والخطير، الذي ربما يكثر مساحة الاختلاف والتنابز، أو التنافر، فعلينا أن نسعى جاهدين إلى قصد الحق، ورؤية ميزان العدل في مثل هذا الأمر، فنسأل الله جل وعلا الإعانة والتوفيق، وهو سبحانه وتعالى ولي هذه الأمور، وما يكون للإنسان فيها إن شاء الله من توفيق فمن الله، وما يكون من خطأ فمن الشيطان أو من نفس الإنسان، ومن إحسان ظن الناس به أن يلتمسوا له عذراً.

أول قضية مسلمة عند الجميع أنه لا عصمة لأحد من أهل الحق أبداً إلا للأنبياء والمرسلين، وأن الخطأ يجوز على بقية البشر من صغير أو كبير أو من جاهل أو عالم أو من تابع أو متبوع، بل هو محتم الوقوع، فينبغي أن نعلم ابتداءً هذه القضية، وأن نعلم أيضاً قضية أخرى لازمة لها، وهي أن منشأ وجود الخطأ إنما هو حكمة الله سبحانه وتعالى، وسنته في تباين الفهوم، واختلاف مدارك العقول، ويجوز في الدين الاجتهاد في كثير من المسائل التي يحتاج إليها، فلا عصمة لأحد، وهذه الأخطاء غالبها يقع بالاجتهاد الذي هو سائغ في هذا الدين، وله ما يؤسسه ويبينه، قال الشاعر:

سامح أخاك إذا خلط منه الإساءة بالغلط

من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

فجميع الناس -غير الرسل والأنبياء- لا يسلم أحدهم من نوع خطأ أو قليل هفوة أو بعض زلة يقع فيها، لكنها تغتفر في كثير حسناته، ويلتمس له فيها العذر؛ لأنه سار فيها وفق نهج الدين بالاجتهاد السائغ وفق شروطه، والله سبحانه وتعالى بين هذه الحكمة بقوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] أي: في موارد الاجتهاد، وكذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم يبين ذلك فيقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فهو في كلا الحالين مأجور، سواء أصاب أو أخطأ، لكن الأجر لا يتعلق بالإصابة والخطأ، وإنما يتعلق بالقصد الذي في قلبه، والنية التي بين جنبيه في أنه أراد إصابة الحق، وموافقة أمر الله سبحانه وتعالى، وسعى إلى قصد ما يحصل له به الثواب والأجر ورضا الله جل وعلا، وما يتجنب به من الوزر والإثم وسخط المولى سبحانه وتعالى.

وهذا الموضوع طويل، والنقول فيه كثيرة، وما يسر الله لي جمعه قليل من كثير، وما سيقال لكم مما جمع قليل منه، فلعل هذا القليل من القليل يكون فيه إشارة إلى ما وراءه، ويكون مؤسساً إن شاء الله لما نهدف إليه من التبصير بهذا الأمر.

الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] فهذه الآية نأخذ منها أن كل أمر من قدح أو تزكية ينبغي فيه التبين والتثبت، لا التعجل والتسرع الذي قد يفقد الدقة في تصويب الأمر أو تخطئته.

ونجد أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبصرنا في إطار عام إلى بعض الأمور والقواعد التي توضح مسار هذا الأمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (من ستر على مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة) وهو جزء من حديث طويل في الصحيح، فليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه، وليس كل زلة ينبغي نشرها وإذاعتها، وإلا لم يكن لهذا الحديث معنى عملياً ولا تطبيقياً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المدح، وعقب عليه بثبوت الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولذلك شواهد يأتي ذكرها.

ثم إن قصد التنبيه والتبيين لا يقتضي بالضرورة التشهير والتوبيخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه كان إذا رأى أو سمع ما لا ينبغي أو ما ليس بصواب يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا كذا؟ ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟) فيحصل المقصود الأعظم -وهو بيان الخطأ والتنبيه من الوقوع فيه- مع تجنب التجريح، ومع تجنب ما قد يكون فيه نوع جرأة على حرمة المسلم، ونوع توغير للصدور، ونوع منافرة بين القلوب، ونوع تفرق في الصفوف، مما قد تكون آثاره أعظم وأخطر من هذه الزلة التي تم التنبيه عليها أو التشهير بصاحبها إذا صح التعبير.

ونجد في هذا أحاديث وتطبيقات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: الحديث المعلوم في الصحيحين في قصة ماعز الأسلمي الذي زنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلوم أنه جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام معترفاً بزناه يقول: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً، وفي الرابعة رأى إصراره على الاعتراف فلم يبادره رغم تكرره منه، وإنما قال له ملقناً له للحجة التي قد يدرأ بها الحد عن نفسه، ويبصره بأنه ربما لم يفهم ما يوجب عليه الحد، فقال له: (لعلك قبلت أو لعلك فاخذت، فقال له: لا يا رسول الله!) حتى في الرواية التي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح باللفظ الصريح في معنى الجماع!

فلما حصل كل هذا من الاعتراف أربع مرات ثم تعيين الفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) لأنه يكون مسقطاً للحد عنه، ثم بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنكهوه)، يعني: شموا رائحته لعله يكون قد شرب خمراً خالط عقله فلم يدر ما يقول، (فاستنكهوه، فقالوا: ليس به شيء يا رسول الله، فحينئذ أمر به فرجم)، وفي بعض روايات مسلم أنه لما رجم هرب من شدة الرجم لكنهم لحقوه ورجموه حتى مات، فورد في بعض الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلا تركتموه؟) قال بعض الشراح: أي: لعله يتوب ويرجع، فهذا يبين لنا عظيم ما ينبغي من الستر على المسلم. وفي رواية أنه جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فاعترف بالزنا فقال له: (استر على نفسك وقد ستر الله عليك)، فلم يكن منه تشهير، بل حتى لم يكن منه إبلاغ للحاكم أو الإمام، لأنه داخل في مفهوم الستر متى ما تحصل المقصود، وهو وقوع الندم، وصدق التذلل لله سبحانه وتعالى، وعظيم الإخلاص في قصد التخلص من آثار هذا الذنب ولو بإقامة الحد الذي فيه إزهاق النفس، ثم إنه ذهب إلى عمر فقال له مثل ما قال له أبو بكر إنه ذهب إلى هزال فأخبره؛ فقال له: اذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقيم عليك الحد، فجاء في الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـهزال: (هلا سترته بردائك؟) وهذا يبين لنا أن الستر مطلوب، ما دام أنه لا يكون فيه الضرر العام الذي تحصل به الفتنة، والذي يستلزم الوضوح وتبيين الأمر، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترفاً على النحو الذي أشرنا إليه أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الحد تنفيذاً لحكم الله سبحانه وتعالى، وبياناً لقضية أن الحد إذا بلغ الإمام فلا بد أن يقام.

وكذلك قصة الغامدية نحوها، مما يبين لنا أن الأمر إذا كان يحتمل الستر، ومما لا يشيع أثره، ولا يعم ضرره؛ فإنه يكون الستر أولى، مع تقديم النصح والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أنه لا يقر بالذنب، ولا يفضح أحد نفسه عند غيره إلا وقد حصل له من حرارة لسع أثر الذنب ومن حرارة قصد إرادة التوبة ما يحصل به المراد من إقامة الحد، وهو الرجوع إلى الصواب، والتطهير من الذنب.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2904 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2726 استماع
فاطمة الزهراء 2690 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2623 استماع
المرأة والدعوة [1] 2534 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2530 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2514 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2480 استماع
خطبة عيد الفطر 2460 استماع
التوبة آثار وآفاق 2445 استماع