قراءة دعوية في السيرة النبوية


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في كل حال وفي كل آن، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!

أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وأن يوفقنا للهدى، وأن يرزقنا التقوى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الاستقامة، وأن يمن علينا بالثبات حتى الممات، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

هذا موعدنا مع الدرس الثامن والثمانين، في اليوم العاشر من شهر شعبان عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، وعنوان هذا الدرس: (قراءة دعوية في السيرة النبوية).

أيها الأحبة! نحن نعلم أننا ما تُعبِّدنا باتباع أحد إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قدوتنا وأسوتنا كما قال جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] وإذا عرفنا ذلك ظهرت لنا أهمية سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهمية تعلمها، والاقتباس منها، والاقتداء بها، سيما في مثل هذه الأعصر التي كثر فيها التخليط، وازدادت فيها الشبهات، وتكاثرت الفتن، وأصبح كلُّ يقول بقول، ويدعو إلى دعوة، ويبقى المسلم لا يربطه شيء إلا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين، وبهذه الأمة على وجه الخصوص، وبالناس أجمعين عامة: أن هذه السيرة واضحة مفصلة كأنما ولد عليه الصلاة والسلام على ضوء الشمس كما يقول بعض المؤرخين، فليس هناك شيء خفيٌ من سيرته، فنحن نعلم عن مولده، وعن طفولته، وعن قبيلته وأسرته، وعن نسبه، وعن حسبه، كما نعلم أيضاً عن حياته في بيته، ونعلم أقواله وأفعاله حتى في أدق الأمور وأبسطها، وذلك من النعمة الكبرى، حتى يجتني المسلم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كل ما يحتاج إليه.

ومن هنا فإن السيرة النبوية يمكن أن تقرأ قراءات عديدة: فيمكن أن نقرأها قراءة عسكرية، وذلك في حنكته عليه الصلاة والسلام في الغزوات التي قادها، والسرايا التي أنفذها، وما يلحق بذلك من الأمور، ويمكن أن نقرأها قراءة اجتماعية، وذلك في سيرتة عليه الصلاة والسلام زوجاً وأباً ومربياً ومعلماً، كما يمكن أن نقرأ السيرة قراءة فكرية، وذلك فيما كان يبينه النبي عليه الصلاة والسلام من دحض الشبه، وإبطال الباطل، وإقامة الحجة، إلى غير ذلك من الأساليب والمقتبسات التي يمكن أن تؤخذ من سيرته عليه الصلاة والسلام.

أما قراءتنا: فهي قراءة دعوية في السيرة النبوية، وهي صفحات متنوعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنها متدرجة ومرتبة بحسب التاريخ الذي وقعت فيه هذه الأحداث، وقرئت فيه هذه الصفحات، إضافة إلى أن هذه القراءة تأتي بصورة منهجية مرتبط بعضها ببعض، فهي تعبر عن البداية والخطوة التي بعدها وما يلحق بذلك، مع بيان الأولويات وترتيبها؛ ولذلك فهذا الدرس محاولة لاختصار السيرة من خلال عرض الدعوة فيها، فنحن نريد أن نرى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، والملامح والمعالم التي ينبغي أن يستقيها الدعاة والمربون من هذه السيرة العطرة؛ ليكون تأسيسهم وبناؤهم ودعوتهم على طريقة قويمة، ولكي تؤتي -بإذن الله عز وجل- الثمار المرجوة المنشودة.

نبدأ أولاً بما كان من حياته عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، وهذه هي الصفحة الأولى:

روى ابن إسحاق في (السيرة) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان -أي: في سن الصبا- وكلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته، يعني: أنهم عند نقل الحجارة رفعوا الأزر على العواتق؛ ليحملوا عليها الحجارة، فكان يبدو منهم جزء من العورة.

قال: فإني لأُقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم -وفي بعض الروايات: ما أراها شديدة، أي: اللكمة، وفي بعضها: إذ لكمني لكمة شديدة ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي).

وروى البخاري من حديث جابر في المغازي والسير مثل هذه الرواية، إلا أن هذه الرواية التي عند البخاري تذكر أن ذلك في سن شباب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء نقل الحجارة للمشاركة في بناء الكعبة، وأنه كان قد شد عليه إزاره فرآه عمه العباس فقال: ارفع إزارك -يعني: حتى تقوى على حمل الأحجار- قال: فلما فعلت ذلك غشي علي، فلم أعد إلى ذلك أبداً، أو كما جاء في الرواية.

وروى الحاكم عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، وما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعالي مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دور من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوج فلانة بنت فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، فجئت إلى صاحبي فقال: ما خبرك؟ فقصصت عليه الخبر، قال: ثم كان ذلك ثانية، فلما جلست لأستمع ضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، قال: فلم يقع منه عليه الصلاة والسلام إلا مثل هذا) قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وضعف بعضهم هذا الحديث بعلل معتبرة عند بعض أهل العلم، فقال ابن كثير رحمة الله عليه في تاريخه: هذا غريب جداً.

ولكن هذه الروايات تتقوى بمجموعها خصوصاً مع وجود رواية صحيحة في البخاري ، وهي التي نريد أن نقف فيها الوقفة الأولى؛ إذ إن هذه الصفحة من سيرته عليه الصلاة والسلام تبين لنا معلماً مهماً من معالم الدعوة، وهو تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام عاش في هذه الجاهلية التي كانت منحرفة في أفكارها وعقائدها، وكانت منحرفة في سلوكها وأخلاقياتها، وكانت منحرفة في قوانينها وعاداتها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك أولئك القوم في شيء من هذا، ولم يخالطهم فيه، ولم يقبل منهم ذلك، بل كان -بما وفقه الله عز وجل إليه، وما عصمه به- مجتنباً هذه الصور الانحرافية كلها.

وهذا أمر مهم في شأن الدعوة، وهو سياج الوقاية والحماية، ولا بد لنا أن ندرك أن الوقاية أهم وأولى في التقديم من العلاج، خصوصاً في مجال الدعوة، سيما في الأعصر التي تختلط فيها المفاهيم الإسلامية، ولا تتمثل معالم المجتمع الإسلامي تمثلاً كاملاً، وإذا بمبادئ ومذاهب فكرية تخالف دين الله عز وجل، وإذا بشرائع وأحكام وقوانين لا تتفق مع شريعة الله سبحانه وتعالى، وإذا بأوضاع وعادات وتقاليد لا تتطابق مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا بالمسلم في وسط هذه البيئة إن خالطها، أو أخذ شيئاً منها، أو قبلها، أو فتن بها، أو اعتقدها، أو دعا إليها، فلا شك أنه سيكون متأثراً غاية التأثر، وسيضع هذا الاشتراك بصماته على فكره، وعلى قلبه، وعلى سلوكه وتصوراته.

ولذلك لا بد أن نؤكد على هذا المعنى، وهو أن يعتزل المسلم كل انحراف في الجاهلية التي يعيش فيها، وألا يكون موافقاً لها من ناحية المبدأ، وألا يكون مائلاً لها من ناحية الشعور، وألا يكون متطابقاً معها من ناحية السلوك، وألا يكون مساعداً لها من ناحية الغض عنها، أو عدم السعي لإنكارها وتضييق سبل ترويجها وقوتها وانتشارها؛ ولذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل، وتلا عليه الصلاة والسلام قول الله جل وعلا: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79] ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض).

فهذا معلم مهم ينبغي أن يرسِّخه أهل الدعوة وأهل العلم والإيمان في قلوب المسلمين، وأن ينشئوا في قلوب المؤمنين تلك العزلة الشعورية، والمفاصلة القلبية، والمفارقة من حيث الاعتقاد والمبدأ لكل صورة انحرافية يعيشها المسلم في وسط أي مجتمع من المجتمعات؛ وذلك حتى يبرأ من الآثار؛ لأن السمع والبصر جهازا استقبال، فإذا سمع المرء الخنى، وإذا رأى الفحش والفجور، وإذا سمع مقالات الباطل، فإنه يوشك أن ينطبع بعضها في قلبه، وأن يغير في فكره، وأن يؤثر في سلوكه، وهذا معلم مهم يعد أول الخطوات، ألا وهو الوقاية استعداداً لما بعدها.

الصفحة الثانية من سيرته عليه الصلاة والسلام: أنه كان يتحنث الليالي ذوات العدد في حراء، وفي رواية خديجة رضي الله عنها قالت: فكنت أزوده لذلك، فيختلي في غار حراء الشهر والشهرين أو أكثر من ذلك، وورد في بعض الروايات في سيرة ابن هشام : أنه كان يمكث شهراً من كل سنة، وفي بعض الروايات: أنه كان يمكث ستة أشهر.

وهذا المعلم معلم مهم أيضاً في حياة المرء المسلم في البيئة الجاهلية، فكما أنه فارقها بقلبه، فإنه يحتاج إلى خلوة يخرج بها من صخب الدنيا إلى الهدوء الذي يتأمل فيه في ملكوت الله عز وجل، ويخرج من فتنة إغراء ومدح المادحين وذكر محاسنه ومناقبه، إلى خلوة يتذكر فيها أمره، ويحاسب نفسه.

كما أنه يخرج من هذه المشكلات والمعضلات التي قد تؤثر على نفسه وعلى إيمانه، فيصفو قلبه في لحظات من المناجاة لله عز وجل، والدعاء له، والسكينة إليه سبحانه وتعالى، ولذلك يحتاج المسلم بين الفينة والأخرى إلى أوقات قليلة من يومه، وإلى أوقات أطول قليلاً في أسبوعه وشهره؛ حتى يجعل لنفسه هذه المحطات التي يراجع فيها نفسه، ويخلصها من أدرانها وأوضارها، وأن يكون أيضاً مستقلاً فيها عن كل ما يؤثر على فكره ورأيه وموقفه؛ ليكون ذلك أدعى له إلى تجديد نشاطه، وإلى تقويم مسيرته.

وقد كانت هذه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فكانت معينة له ومهيئة له لاستقبال الوحي بعد ذلك، وما تلقاه من الرسالة.

في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أول اتصال بين الأرض والسماء، وأول نزول للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما كان في بعض أيامه ولياليه في غار حراء؛ إذ نزل عليه جبريل فقال له: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغتني، وفي رواية: فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني -أي: أطلقني- فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ؛ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:1- 4]) فكان هذا أول نزول للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الصفحة معلمان مهمان في حياة الإنسان المسلم، وفي سيرة الدعوة التي ينبغي أن ننتبه لها:

الصلة بالله تعالى والالتجاء إليه

أولهما: الصلة بالله عز وجل، فإنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يواجه الباطل، ولا أن يقف في وجوه الأعداء، ولا أن يتغلب على شهوات النفس، ولا أن يستعلي على فتن الدنيا، إلا أن يكون موصول الحبل بالله عز وجل.

فهذا النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن أكرمه الله تعالى بهذه النبوة وهذه الرسالة بقي مشدوداً بهذا الحبل المتين في الصلة بالله عز وجل، تلك الصلة التي تجعل المرء كلما احلولكت في وجهه الظلمات، وسدت في وجهه الأبواب، وجد أن النور والشعاع والضياء فيما عند الله عز وجل، ووجد أن الفرج والتنفيس والنصر من عند الله عز وجل، كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

وهذه الصلة بالله عز وجل هي الأساس المكين، والركن الركين الذي يقوي الإنسان المسلم، فيجعله في صورة يستطيع بها أن يطبق هذا الدين، وأن يسعى فيه، وأن يثبت عليه بإذن الله عز وجل، أضف إلى ذلك أن هذه الصلة هي التي تفرغ في قلبه السكينة، وتنشئ في نفسه الطمأنينة، وتجعله مُطمئن البال، مجتمع الفكر، فليس عنده حيرة ولا اضطراب ولا قلق، ولا نوازع نفسية، ولا أمراض قلبية، ولا غير ذلك مما يعتري الناس عندما لا يركنون إلى الله عز وجل، وعندما يركنون إلى هذه الدنيا، أو يخافون من البشر، فإذا بهم قد تفرقت بهم الأهواء، وقد انخلعت قلوبهم خوفاً، وقد تفرقت نفوسهم في شعاب الأرض تطلب كل جهة، أما المؤمن فينطبق فيه قول الله عز وجل أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فهو راسخ إلى هذا الوعد الرباني، وإلى هذا الزاد الإيماني الذي تمثل في هذه الصورة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأمر الصلة بالله أمر طويل، وقد سلف لنا فيه حديث عندما تحدثنا عن التربية الإيمانية، ونحن نعلم الزاد الإيماني الناشئ عن العبادة والصلة والخضوع والذلة والابتهال والدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى.

القوة والشدة في أخذ هذا الدين والتمسك به

المعلم الثاني في هذه الصفحة: القوة والشدة:

فليس أمر هذا الدين هيناً ليناً، فهو لا يؤخذ بالنوم والكسل، ولا يمكن أن يلتزمه المرء دونما جهد وعمل، ولذلك فإنه في اللحظة الأولى التي كان الوحي فيها غريباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان المتصور والمتوقع أن يأتيه في صورة هينة لينة، وبأسلوب تدريجي تقليدي، ولكن الأمر فيه دلالة على عظمة هذه الرسالة، وعلى شدتها، وعلى أنها تحتاج إلى ذلك الجَهد الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما غطه جبريل أول مرة وثاني مرة وثالث مرة؛ حتى يكون هناك استعداد وتأهل وإدراك لعظمة هذه الرسالة كما قال الله عز وجل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، وكما قال الله عز وجل في شأن يحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].

ولا بد لنا أن ندرك أن من أهم المعالم الدعوية: أن نبين للناس عظمة هذه الرسالة، وعظمة حملها، وعظمة الأمانة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فلا بد من الإعداد منذ البدايات؛ حتى يمكن -بعد ذلك- أن يسير المرء ليبلغ النهايات، أما أن تكون البداية ضعيفة، وأن تكون البداية نوعاً من الترف، أو التأمين في هذه الدنيا، أو التيسير الذي يتعدى حده ليوهم الإنسان أن هذا الدين يمكن أن يكون محققاً لبعض المكاسب الدنيوية، ليأكل، أو ليشرب، أو لينعم، أو ليعيش بعيداً عن أي مهمة ورسالة، أو جهد وعمل، فإن ذلك لا يتفق مع هذه الصورة من صور سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يظهر فيها القوة التي ينبغي أن يؤخذ بها أمر الله عز وجل؛ لأنه أمر مهم عظيم في حياة الإنسان.

أولهما: الصلة بالله عز وجل، فإنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يواجه الباطل، ولا أن يقف في وجوه الأعداء، ولا أن يتغلب على شهوات النفس، ولا أن يستعلي على فتن الدنيا، إلا أن يكون موصول الحبل بالله عز وجل.

فهذا النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن أكرمه الله تعالى بهذه النبوة وهذه الرسالة بقي مشدوداً بهذا الحبل المتين في الصلة بالله عز وجل، تلك الصلة التي تجعل المرء كلما احلولكت في وجهه الظلمات، وسدت في وجهه الأبواب، وجد أن النور والشعاع والضياء فيما عند الله عز وجل، ووجد أن الفرج والتنفيس والنصر من عند الله عز وجل، كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

وهذه الصلة بالله عز وجل هي الأساس المكين، والركن الركين الذي يقوي الإنسان المسلم، فيجعله في صورة يستطيع بها أن يطبق هذا الدين، وأن يسعى فيه، وأن يثبت عليه بإذن الله عز وجل، أضف إلى ذلك أن هذه الصلة هي التي تفرغ في قلبه السكينة، وتنشئ في نفسه الطمأنينة، وتجعله مُطمئن البال، مجتمع الفكر، فليس عنده حيرة ولا اضطراب ولا قلق، ولا نوازع نفسية، ولا أمراض قلبية، ولا غير ذلك مما يعتري الناس عندما لا يركنون إلى الله عز وجل، وعندما يركنون إلى هذه الدنيا، أو يخافون من البشر، فإذا بهم قد تفرقت بهم الأهواء، وقد انخلعت قلوبهم خوفاً، وقد تفرقت نفوسهم في شعاب الأرض تطلب كل جهة، أما المؤمن فينطبق فيه قول الله عز وجل أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فهو راسخ إلى هذا الوعد الرباني، وإلى هذا الزاد الإيماني الذي تمثل في هذه الصورة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأمر الصلة بالله أمر طويل، وقد سلف لنا فيه حديث عندما تحدثنا عن التربية الإيمانية، ونحن نعلم الزاد الإيماني الناشئ عن العبادة والصلة والخضوع والذلة والابتهال والدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى.

المعلم الثاني في هذه الصفحة: القوة والشدة:

فليس أمر هذا الدين هيناً ليناً، فهو لا يؤخذ بالنوم والكسل، ولا يمكن أن يلتزمه المرء دونما جهد وعمل، ولذلك فإنه في اللحظة الأولى التي كان الوحي فيها غريباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان المتصور والمتوقع أن يأتيه في صورة هينة لينة، وبأسلوب تدريجي تقليدي، ولكن الأمر فيه دلالة على عظمة هذه الرسالة، وعلى شدتها، وعلى أنها تحتاج إلى ذلك الجَهد الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما غطه جبريل أول مرة وثاني مرة وثالث مرة؛ حتى يكون هناك استعداد وتأهل وإدراك لعظمة هذه الرسالة كما قال الله عز وجل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، وكما قال الله عز وجل في شأن يحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].

ولا بد لنا أن ندرك أن من أهم المعالم الدعوية: أن نبين للناس عظمة هذه الرسالة، وعظمة حملها، وعظمة الأمانة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فلا بد من الإعداد منذ البدايات؛ حتى يمكن -بعد ذلك- أن يسير المرء ليبلغ النهايات، أما أن تكون البداية ضعيفة، وأن تكون البداية نوعاً من الترف، أو التأمين في هذه الدنيا، أو التيسير الذي يتعدى حده ليوهم الإنسان أن هذا الدين يمكن أن يكون محققاً لبعض المكاسب الدنيوية، ليأكل، أو ليشرب، أو لينعم، أو ليعيش بعيداً عن أي مهمة ورسالة، أو جهد وعمل، فإن ذلك لا يتفق مع هذه الصورة من صور سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يظهر فيها القوة التي ينبغي أن يؤخذ بها أمر الله عز وجل؛ لأنه أمر مهم عظيم في حياة الإنسان.

الصفحة الرابعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي من أعظم الصفحات، وقد أشرتُ إلى أمر التدرج، فإننا نحتاج أولاً إلى تلك المفارقة في الجاهلية؛ لئلا تنعكس علينا آثارها، وكذلك نحتاج إلى تلك المراجعة والخلوص من هذه الدنيا وأهلها؛ حتى نقوم المسيرة، ونحتاج إلى هذين المعلمين صلة بالله عز وجل لا تضعف؛ كي تُهيئنا هذه الصلة لحمل هذه الرسالة بكل قوة وعزم ومضاء، ثم نأتي إلى الصفحة الرابعة فإذا فيها قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1- 7].

وهذه الآيات يعلق عليها صاحب (الرحيق المختوم) تعليقاً جيداً فيقول: فغاية الإنذار (قُمْ فَأَنذِرْ) أن يبلغ به العالم كله، فلم يحدد في هذه الآية أي نوع من الناس الذين يُنذَرون، بل هو إنذار للعالم كله، وللبشرية جمعاء، وغاية التكبير ألا يكون لأحد في الأرض كبرياء إلا وتكسر شوكته؛ حتى لا يبقى كبرياء إلا لله عز وجل، وغاية التطهير للثياب، وهجران الرجز، أن يتطهر الباطن، وتتزكى النفس من الشوائب، وغاية عدم الاستكثار بالمنة ألا يرى لنفسه ولجهده ولبذله في سبيل الله عز وجل أي شيء يذكر، بل ما يزال يبذل في سبيل الله عز وجل.

قوله تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] إشعار بأن هذا الطريق فيه ابتلاء، وفيه عناء، وفيه معضلات ومشكلات تحتاج إلى هذا الصبر الذي يعين على هذا الطريق، ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع من غار حراء، وجاء إلى زوجه خديجة وهو يقول: (دثروني.. زملوني)، فتنزلت عليه هذه الآيات، وكذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1- 2]؛ وهنا: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1- 2] هذا الذي تدثر بالأغطية؛ ليهدئ من روعه، وليجلب الدفء إلى جسمه، جاءه هذا الأمر؛ ليبين أن معلم الدعوة المهم هو ألا يكون المرء مسلماً في نفسه، ولا صالحاً في سلوكه فحسب، ولا يكفيه ما في قلبه من المشاعر، حتى ينطق لسانه، ويحرك جوارحه، ويمضي بهذه الدعوة مشرقاً ومغرباً بكل صورة؛ حتى يبلغ الغاية والمنتهى في الإنذار، وفي التكبير لله عز وجل، وفي هجران الرجز، وفي التطهير للنفس، وفي عدم الاستكثار فيما يطلبه في هذا الطريق، مما يدل على أن هذا المعلم مهم جداً.

فلا بد أن نربي الناس، وأن نعلمهم أن من تعلم شيئاً وجب عليه تبليغه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ، وأن كل امرئ في عنقه مسئولية وأمانة أن يبلغ من دين الله عز وجل ما عرفه من حكم، أو من حكمة، أو من إصلاح يحتاج الناس إليه في هذه الحياة؛ حتى يشع نور هذا الدين في كل مكان، وحتى تغزو هدايته كل قلب، وحتى تطرق حلاوته كل أذن ومسمع.

ولذلك نجد في هذا المعلم: الدعوة وتبليغها، ونجد الدعوة وطريقها، ونجد الدعوة وأسلوبها الذي توافق في قوله سبحانه وتعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، فهذه الآية نزلت في سورة الشعراء، وقد كان في أولها قصة موسى عليه السلام منذ بعثته إلى خروجه من أرض مصر، ثم رجوعه ومواجهته لفرعون، ثم خروجه مع بني إسرائيل، وجاءت بعد ذلك قصص الرسل والأنبياء مع أقوامهم، وجاء بعد ذلك هذا الأمر الرباني، وكل ذلك التلخيص -سيما لسيرة موسى عليه السلام- بيان لطريقة الدعوة، وأنها -كما أمر الله عز وجل- تبدأ بالأقربين، وبالصورة التي ستأتي انتقاء وتجميعاً لأهل الإيمان، ثم مفارقة لأهل الباطل ومواجهة لهم.

فإذاً: بعد أن ندرك عظمة هذه الرسالة، فإن ذلك ينبغي ألا يكون أمراً فكرياً؛ لأن هذه الرسالة عظيمة، ولأن هذه المهمة خطيرة، ولأن هذا العمل جليل، بل ينبغي أن يتحول ذلك كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر واجب التنفيذ، وهو أن ينطلق المرء بالدعوة إلى الله عز وجل، وكما أمر سبحانه وتعالى.

الصفحة الخامسة، وهي صفحة مندرجة أيضاً في هذا الباب، وهي: الحكمة والتهيئة منه صلى الله عليه وسلم في تنفيذ هذا الأمر، والدعوة إلى الله عز وجل.

لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأقربين، وليس كل الأقربين، وإنما كان يختار اختياراً، وينتقي انتقاءً، ويتوسم توسماً، ويتفرس فراسة، فيختار الأدنى والأقرب من هذا الدين في خلقه وسمته، ورجاحة عقله، وطهارة سلوكه، فكان أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، وقد ورد في كثير من الآثار: أنه ما شرب خمراً، ولا سجد لصنم قط، وكان أنسب قريش لقريش، وكان أشهر رجالها في تجارتهم، وكانت هذه الملامح هي ملامح الانتقاء التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر .

وكان أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب ، وكان لصيق النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة ، وكان مولىً للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن النساء زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت قريبة منه، فكان صلى الله عليه وسلم يبذر الدعوة في الأقربين المقربين، لقربهم من هذه الدعوة، ولوجود الملامح التي يؤمل فيهم من خلالها أن يكونوا أسرع في القبول، وأسرع في التأثر، وأسرع في أن يعضدوا هذه الدعوة، وأن يسيروا في ركابها، وأن يدعموها، إضافة إلى القرب الحسي، سواء كان قرباً في النسب أو كان قرباً في البيئة.

وهذا لا شك أنه مهم؛ لأن بعض من يحبون الدعوة، ويرغبون في نشرها، يشرقون ويغربون، ويدعون هنا وهناك، فينفع الله بهم، إلا أن النفع الأكثر والأظهر في تأثيره، والأسرع فيما يعود على الدعوة والمجتمع الإسلامي من أثر، هو هذا الأسلوب الدعوي الذي يختص بهذه الدوائر القريبة حساً ومعنىً، فإذا أردت أن تدعو اليوم فإنك تدعو من يصلي ولو في بيته، فهذا أدنى إلى القبول ممن قد ترك الصلاة، أو ترك بعضها، أو أخرها عن أوقاتها، وتدعو من يصلي في المسجد، فتكون استجابته أدعى وأقوى ممن يصلي في بيته، وتدعو من لا يقارف المعاصي والمنكرات، ولا يتوغل في الشهوات، فيكون أقرب استجابة ممن هو واقع فيها.

فالأقرب إلى هذه الدعوة هو الأقرب استجابة إليها، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال ألا يُدعى غير هؤلاء، ولكن هذه أولويات وانتقاءات، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أنذر عشيرته أجمعين، لكنه خص أولئك ابتداءً كما رأينا، حتى كان اختياره عليه الصلاة والسلام في موضعه ومكانه، فإذا بهذه الكوكبة: امرأة وغلام ومولىً وشريف من الأشراف، تنطلق بهذه الدعوة، فإذا أبو بكر يسجل في صحيفته عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، ويدخلون في هذا الدين بدعوة أبي بكر رضي الله عنه، بسبب ما كان عنده من إيمان وحصافة ورجاحة عقل إضافة إلى شرفه وكلمته المسموعة.

إذاً: من هذه الصفحة نقرأ حكمة الدعوة، والأسلوب الذي تطبق به هذه الدعوة، فإنها ليست مجرد اندفاع، وإنما هي دراسة وفراسة، وتحليل وتقويم، ثم تأتي بعد ذلك خطوات مبنية على دراسة وعلى تهيؤ وتدرج؛ حتى يكون لها أثرها، ويكون لها رصيدها وثمارها المرجوة.

ننتقل إلى صفحة أخرى ملامسة ومقاربة لما قبلها، وهي عموم هذه الدعوة للناس أجمعين.

فلا يظن ظان أن الدعوة خاصة بفئة معينة، بل هي عامة لجميع الناس؛ ولذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم -عندما نزل قول الله جل وعلا: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]- بإنذار قومه، فصعد إلى الصفا، ودعا قريشاً بطناً بطناً، وقال لهم: (ما تقولون لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب عليه لعنة الله!: تباً لك ألهذا جمعتنا؟!).

ثم كان النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ بمبدأ التوسع في الدعوة، فلما جاءت المواسم التي كان يجتمع فيها العرب ويفدون فيها إلى مكة كان عليه الصلاة والسلام يطوف على القبائل قبيلة قبيلة، ويمر بمجالس القوم مجلساً مجلساً، ويدعو الناس هنا وهناك، إلا أن تلك الصفوة التي ذكرنا سابقاً هي التي أولاها عليه الصلاة والسلام جهده وتربيته؛ لأنها كانت قريبة منه، وكانت مستجيبة له، وكانت متلقية عنه، فكان تأثيره فيها واهتمامه بها عظيماً، وكان نتاج ذلك فيما بعد أعظم وأعظم في مسيرة الدعوة.

وفي الوقت نفسه وسع عليه الصلاة والسلام دائرة الدعوة، فبلغها لكل أحد، وأسمعها لكل أذن، وهكذا ينبغي أن يكون دعاة الإسلام اليوم: يدعون كل أحد، ويرفعون راية الإسلام، ويظهرون محاسنه، ويؤلفون الكتب، وينشرون القول الحسن، إلا أن ذلك رغم فائدته ونفعه يحتاج إلى أن يكون هناك ذلك التخصيص الذي نبه عليه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، سيما في المرحلة الأولى من دعوته عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ما يؤكد هذا المعنى أيضاً في بقية الصفحات التي نقرأ فيها معالم دعوته صلى الله عليه وسلم، فإنه رغم هذا التوسع والانتشار في هذه الدعوة إلا أن ذلك التركيز كان يختص بتلك الفئة، فهذان معلمان مهمان: الحكمة والانتقاء، والدعوة والاتساع، وينبغي أن يسيرا معاً جنباً إلى جنب، فليست الدعوة مجرد كلمات تُذر هنا وهناك، ولا مؤلفات تكتب هنا وهناك، وإنما هي صياغة وتربية وتوجيه وتكثيف، وسيأتي ذكرها فيما يلي:

صفحة دار الأرقم بن أبي الأرقم :

فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد أخذ بالدعوة سراً حتى أُمر بالجهر بالدعوة، وجهر بها وهي لا تزال سرية، أي: جهر بها هو عليه الصلاة والسلام، وأما أصحابه فكانوا يستخفون بدينهم، ويسرون إسلامهم، ويستترون بعباداتهم، فيصلون في الشعاب والمناطق البعيدة عن أهل مكة، ويختفون بدينهم، ولذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ما بدأ به أهل الكفر من قريش من الإيذاء والاضطهاد، ولما رأى تكاثر هؤلاء الذين استجابوا لدعوته، عزم عليه الصلاة والسلام أن يجمع القوم، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم ملتقى الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت هذه الدار في أدنى الصفا بمكة، فكان الصحابة يأتونها سراً، حتى إن بعضهم كان يلقى بعضاً ولا يعرف أنه من المسلمين، فيقول له: أين تذهب؟ فيقول: أقضي حاجتي؛ ويقول الثاني: أين تذهب؟ يقول: أذهب إلى كذا وكذا، ثم إذا بهما يلتقيان في دار الأرقم بن أبي الأرقم .

وفي هذه الصفحة معلمان مهمان من معالم الدعوة: الأول: هو المعرفة والتعليم، والثاني: هو التربية والتكوين.

المعرفة والتعليم

أما الجانب الأول: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدار يعلم الصحابة رضوان الله عليهم، فيتلو عليهم آيات القرآن، ويبين لهم أحكام الإسلام، ويعرفهم أيضاً بما يجري في واقعهم ومجتمعهم، وما يحاك حولهم، فلا بد للفئة المؤمنة أن تنشر العلم الشرعي، والمعرفة الإيمانية، والأخبار الواقعية، والأحداث القديمة التاريخية، في المساجد وبيوت الله، وفي المنتديات والمحاضرات، وفي اللقاءات والمؤتمرات، وتكون كذلك في كل آن وفي كل حال، في الحل والترحال، وفي السفر والحضر، وفي بيوت الناس ومجامعهم؛ لأن المعرفة والعلم أساس مهم كما قال الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].

وليس المقصود بالمعرفة والعلم الناحية الشرعية فحسب، بل كذلك الناحية المعرفية التي فيها استقراء التاريخ، واستنطاق العبر، ومعرفة الواقع، وإدراك ما يدور حول الدعوة والمسلمين من أمور، فينبغي أن يعرفوها، وأن يحتاطوا لها، وأن يعدوا لها العدة، ولذلك كانت هذه الدار تمثل هذه المرحلة المهمة، فإنه ينبغي لنا ألا نرضى من الناس بالعواطف، وألا نكتفي منهم بأن يؤدوا عباداتهم، بل لا بد أن نزيدهم ونعطيهم من العلم الذي جاء في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نوسع دائرة معرفتهم، وأن نعمق الوعي في عقولهم؛ لأننا نحتاج ونفتقر إلى شخصية المسلم العالم الواعي، فإذا ذكرت شبهات وطعون في الإسلام كان عنده من العلم ما يمنعه من التأثر بها، بل عنده من العلم ما يفندها ويرد عليها، ويثبت بطلانها، فيكون ذلك انتصاراً لهذا الدين، وإقناعاً للآخرين، ويكون عنده أيضاً من العلم والمعرفة حتى لا ينخدع، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لست بالخب، ولا الخب يخدعني، فإذا ما تستر الباطل في ستور مختلفة، وإذا ما جاء الأعداء في لبوس الأصدقاء؛ لم يخدعه ذلك، بل كان عنده الوعي والمعرفة والإدراك الذي يميز به بين الحق والباطل، ويدرك به ما وراء السطور، ويعرف ما يحاك للأمة الإسلامية، وما يمكر به الماكرون، وما يدبره المنافقون، فإن الأمة اليوم مستهدفة من أعدائها، ومغزوة من داخلها ببعض أبنائها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث عنهم: (من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).

التربية والتكوين

الجانب الثاني: وهو جانب التربية والتكوين:

فإن العلم وحده لا يكفي، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الدار يربي الصحابة، ويبين لهم ما يواجهون من الأخطار، ويركز فيهم المعاني الإيمانية التي تقوي عزيمتهم، ويؤكد لهم أن بعد العسر يسراً، ويبين لهم أن الاستمساك بالمنهج هو الذي يؤدي إلى النصر والتمكين، ويبين لهم عليه الصلاة والسلام من واقع سير الرسل والأنبياء قبله، ومن واقع حياة المؤمنين في كل وقت وأوان، أنه لا بد لهم أن يثبتوا، وأن يسعوا إلى تكامل شخصياتهم، وذلك كله يؤذن بأن يوسع دائرة الدعوة، وأن يضعضع ويضعف جهود الأعداء، وينخر في صفوفهم، وأنه ينبغي لهم ألا يغيروا وألا يبدلوا، ولذلك لا بد من معرفة العلم، مع التطبيق العملي، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، هذا هو الزاد الذي يقوي في الإنسان المسلم التزاماً صادقاً، ووعياً وإدراكاً، إضافة إلى أمل وثقة بالله عز وجل لا تنقطع، ولا تنفصل.

إن هذه الدار كانت هي المدرسة العظيمة التي تخرج منها كبار الصحابة من المهاجرين، والسابقين الأولين إلى الإسلام، من أمثال أبي بكر وعمر ، والعشرة المبشرين، ومن جاء بعدهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم جميعاً أن هذه الفترة المكية الأولى لم يكن عدد المسلمين فيها كثيراً؛ وذلك لظروف هذا الإيذاء والاضطهاد، ولظروف سرية الدعوة، إلا إن نوعية المسلمين الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الدار كانت نوعية فريدة، فكان الواحد بألف، بل بآلاف، ولذلك فإن هذا المعلم يبين لنا أهمية صياغة الشخصية المسلمة، والتربية والتكوين الإسلامي الصادق الخالص القوي، فإننا نريد مسلماً صادقاً خالصاً كاملاً، وربما يكون أجدى وأنفع لهذه الأمة، وأقوى في نصرة هذا الدين من كثرة كاثرة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنهم غثاء كغثاء السيل، وأنهم يقذف في قلوبهم الوهن، فلما سئل عنه عليه الصلاة والسلام قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت).

فقد تكون هناك صفوف متراصة، لكن فيهم جبان، وفيهم خائف، وفيهم متردد، وفيهم متشكك، فما أسرع ما تُخترق هذه الصفوف، بينما إذا كان هناك صف واحد، ولبناته قوية متماسكة مترابطة، فإن كل هجوم على هذا الصف يبوء بالفشل، ويرجع خائباً، وهذه القوة والمكانة هي التي تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم، ونحن في غنى عن ذكر الأمثلة التي كانت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل صحابته رضوان الله عليهم، فإنهم قد ثبتوا في المحن، وثبتوا أمام الإغراءات، إضافة إلى أنهم لم يتأثروا بالشبهات، وكل ذلك كان يبين أهمية تلك التربية التي رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فـبلال تحت الصخر يقول: أحد.. أحد، وما تغير ولا تردد، بل تغير من كان يجلده، فأسلم بعضهم، وهذا كعب بن مالك جاءه الإغراء من قبل الدولة العظمى في ذلك الوقت الذي كان الصحابة قد نهوا عن كلامه، وأمروا بمقاطعته، ومع ذلك لم يستجب لهذا النداء، ولم يضعف، ولم يستوحش من المسلمين، ولم يقطع رابطته بهم؛ لأن التربية والتكوين كانت في أعلى المستويات المطلوبة، وهذه الدار هي التي أخرجت تلك الكوكبة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2909 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2534 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2534 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2453 استماع