تربية الأبناء


الحلقة مفرغة

الحمد لله جلت قدرته، وظهرت حكمته، واتسعت رحمته، واشتدت نقمته، له الحمد سبحانه وتعالى، ما أوسع علمه! وما أعظم حلمه! وما أجل فضله! وما أكثر كرمه! نحمده سبحانه وتعالى على آلائه الجسيمة، ومننه العظيمة حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وهدى به البصائر والأبصار، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! الأمانة المضيعة، والثروة المهدرة، تحتاج منا إلى مراجعة ومذاكرة، ومعاتبة ومحاسبة، وإلى إصلاح الخلل وتقويم الاعوجاج.

أبناؤنا فلذات أكبادنا، أطفالنا رجال مستقبلنا، شبابنا أمل أمتنا، سلف حديث لنا في الجمعة الماضية عن الوقت الممتد في هذه الإجازة، والإهدار لهذه الأوقات في كثير مما لا يجدي نفعاً، وقد يجلب ضرراً، ولقد وجدت بذلك صدى عند كثير من الإخوة، وقالوا: حدثنا عن مشكلاتنا، وخاطبنا في القضايا التي تحيط بنا، ومن أهمها وأجلها: مسئولية تربية الأبناء، ثروة أجيالنا القادمة، علّنا نستشعر هذه المسئولية، وندرك عظمتها، ونعرف ثقلها، ونعي أثرها ودورها في واقع حياتنا ومستقبل أمتنا.

هذا حديث أعلم أنه جليل واسع وعظيم لا يكفيه مثل هذا المقام، وحسبي اليوم أن أجتهد في الوصول إلى هدفين اثنين مهمين، أولهما: توضيح هذه المسئولية وعظمتها ومكانتها وأهميتها.

وثانيهما: البيان الإجمالي العام لآثارهما التي نعيشها ونلمسها ونراها بأعيننا.

مكانة مسئولية تربية الأبناء في القرآن الكريم

هذه المسئولية مسئولية عظيمة جليلة، وهي في كتاب الله وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا هذه الومضات التي نريد أن نبين فيها اقتران الفرائض والواجبات التي يعرفها كل المسلمين مع هذه المهمة العظيمة في التربية، يقول عز وجل: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] هذه الآية في هذا الأمر العظيم والمهمة الجليلة، قال السيوطي في الإكليل تعليقاً على هذه الآية: إنه يجب على الإنسان أن يأمر أهله من زوجة وعبد وأمة وسائر عياله بتقوى الله والطاعة، وخصوصاً الصلاة.

وقال ابن علان الدمشقي في هذه الآية: أي: يأمر زوجته وأبناءه المميزين الذكور والإناث.

إن الأمر الرباني الذي حملنا أمانته كالإيمان والتوحيد وأداء الفرائض والعبادات، حملنا كذلك معه هذه المسئولية الجسيمة والأمانة العظيمة فيمن ولانا الله عز وجل أمرهم، وجعلنا سبباً لوجودهم، وسخرنا لكي نكون رعاة لهم، نغذوهم ونقوتهم، ونعينهم ونحدب عليهم ونحميهم، ويجب كذلك أن نعلمهم ونؤدبهم ونربيهم، فإن فرطنا فقد أخللنا بهذه الأمانة، وضيعنا هذه المسئولية، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

وهذا النداء الإيماني له عظمة كبيرة قال ابن مسعود : (إذا سمعت قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تزجر عنه).

ومما قاله أهل التفسير في هذا النداء: إنه تلطف من الله سبحانه وتعالى بعباده، وتحبب إليهم بندائهم بأحسن أوصافهم وأجل خلالهم وهو إيمانهم به، وفي النداء كذلك أيضاً أمر مهم وهو استدعاء متطلب الإيمان وتبعته، فإن للإيمان أمانة ومسئولية، فكأن النداء يقول: إن مقتضى إيمانكم وحقيقته يترتب عليه التزام أمر الله وشرعه، واقتفاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام بالمهمة والأمانة التي كلفك الله عز وجل بها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ [التحريم:6]، وليست هذه وحدها مسئوليتكم، بل وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهلكم بذكر الله، ينجيكم الله من النار).

وقال مجاهد رحمه الله: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله.

وتوسع قتادة في بيان المعنى فقال رحمه الله: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها.

وأوجز البغوي ذلك مع ربطه بالعاقبة المهمة في الآخرة فقال: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم، والنتيجة والثمرة المهمة تقونهم بذلك النار.

من يريد أن يكون أبناؤه حطباً لجهنم؟! إذا فرط في تربيتهم وقصر في تعليمهم ولم يجتهد في تأديبهم، كان سبباً مباشراً في انحرافهم والعياذ بالله!

وامض مع الآيات فإنك واجد فيها كثيراً من ذلك في الآداب والتربية قبل التكليف، وهي الأساس المهم والقاعدة الرئيسة والركن الركين الذي لا بد من العناية به، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58] الذين لم يبلغوا الحلم ليس عليهم تكليف، ما زال القلم مرفوعاً عنهم، ومع ذلك يعلمهم آباؤهم وأمهاتهم تلك الآداب، عند سن التمييز ومنذ نعومة الأظفار؛ لأن الآية بعد ذلك جاءت: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59] عند ذلك صاروا أهل تكليف، وصارت المهمة في أعناقهم، والأمانة في رقابهم، أما قبل ذلك فما زالت الأمانة في رقابكم، والواجب منوطاً بكم، والمهمة معقودة عليكم، والله عز وجل قد ذكر من ذلك الكثير.

مكانة مسئولية تربية الأبناء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته

نقف وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم المربين في تاريخ البشرية كلها، ففي سنته الكثير والكثير مما يلفت أنظارنا إلى هذه المهمة الجسيمة، وحسبنا ذلك النداء الشامل الذي فصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعض التفصيل: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، -ثم ختم عليه الصلاة والسلام بالتأكيد مرة أخرى- ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ألست تنفق على أبنائك وتأتيهم بالطعام والشراب والكساء؟ هل ترى أن أحداً مسئول عن ذلك غيرك؟ لكنك بعد ذلك تهبهم للشوارع أو للقنوات لتعلمهم وتربيهم، أو لأصحاب الشر والسوء ليفسدوا فطرهم ويسودوا قلوبهم ويحرفوا سلوكهم، هل تخليت عن هذه الأمانة وبقيت للطعام والشراب؟ هل جاء أبناؤك ليكونوا بالنسبة لك كالبهائم تعطيها علفها حتى تمضي وتتحرك دون أن تشعر بالأمانة العظمى وهي التربية على الإيمان، وتقويم السلوك، وتحسين الأخلاق وغير ذلك مما هو معلوم من أسس التربية؟!

ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) والسبع والعشر ليستا سن تكليف ووجوب، ولكنهما سن تمييز وتربية، من الذي يقوم بها؟ أنتم.

(مروا) أنتم، ينبغي ألا تنسوا ذلك وألا تغفلوا عنه، ما بالك تخرج إلى المسجد في الغلس لصلاة الفجر، وحولك من الأبناء والبنات من لم يستيقظوا لأداء عبادة الله والقيام بفريضة الله؟! تمضي مسبحاً وترجع محوقلاً وبينهما تكون ذاكراً وقارئاً ومصلياً، والأمانة التي فوق ظهرك قذفت بها وألقيتها، كأن لم يكن عليك من الله فيها أمر ولا تكليف ولا واجب، كأن لم يكن لك فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي ولا توجيه ولا تعليم!!

وهكذا نمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنرى كيف يراعي الأمور الدقيقة؟! وكيف اعتنى بها ووجه إليها وربى عليها، حتى فيما هو دقيق خفي لا يكاد يعرفه أولئك الصغار من الأطفال؛ لأن صفحات قلوبهم بيضاء، كل كلمة تكتب فيها، كل سلوك ينطبع أثره فيها، فإن كان خيراً أورث الخير، وإن لم يكن في ذلك السن مدركاً وواعياً، لكنها آثار وبصمات ما تزال تترسخ في أعماق نفسه وسويداء قلبه، ما تزال تصبح من أسس فكره ورشد عقله، ثم إذا بها تنعكس على سلوكه وحسن أدبه.

فهذا الحسن بن علي رضي الله عنه ريحانة من ريحانات الجنة، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صغير في سن دون التكليف بل ربما حتى لم يكن مميزاً، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تمر من تمر الصدقة، فإذا بالصغير يمد يده ليأكل، فينهاه نبي الله صلى الله عليه وسلم نهياً رفيقاً خفيفاً: (كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟) أي: أنت من آل البيت والصدقة تحرم عليك، والصغير لا يعرف ذلك، ولا يعرف تلك الأحكام، لكن الكبير المربي صلى الله عليه وسلم يريد من البدء في أول الأمر ألا يدخل إلى جوف ذلك الطفل الصغير إلا ما حل، وأن يكون هناك تقويم يرشد إلى التمييز من أول الأمر بين الخير والشر والحلال والحرام، يريد أن يغذي الفطرة النقية بنور التقى والهدى، وأساس الخلق القويم والأدب الجم.

وهكذا نراه عندما كان ابن أبي سلمة ربيباً في بيته وهو ابن أم سلمة أم المؤمنين، كان يأكل فتطيش يده في الصحفة، فيقول المربي العظيم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) حتى هذه الآداب يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن المهمة ليست مقتصرة على المهم العظيم من الفرائض كالتوحيد وسائر العبادات، بل للآداب والأخلاق وما هو من المكملات مكانة عظيمة في حديثه صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد بين أن الأمانة مربوطة بأعناق الآباء والأمهات حيث قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام مغروس في فطرته، لكن كيف نغذيه؟! كيف ننميه؟! كيف نسقيه؛ لتنبت شجرته يانعة، وتكون ثماره ناضجة بإذن الله عز وجل؟!

هذه ومضات، ونحن عندنا ما يكفينا لكي نؤسس تربية عظيمة كاملة منهجية قويمة؛ لأن عندنا النهج القويم، والهدى المستقيم في كتاب الله عز وجل: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16] عندنا هذا ولا نبذله لأبنائنا، ولا نربيهم عليه، وعندنا من بعد ذلك الصورة المثالية الحية المتحركة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] وعندنا بعد ذلك أجيال عظيمة وقمم شامخة وقدوات سامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة والعلماء، لنا رصيد عظيم، فما بالنا نتنكر له وننساه، ونبقى مع سقط المتاع وأراذل القوم من شرق وغرب؟!

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).

نعمة الأبناء وفضل تربيتهم

إذا أردنا أن نجد الصورة العظيمة في كتاب الله التي تعرفنا بهؤلاء الأبناء من هم؟ فقد ذكر الله عز وجل في مجمل الآيات صفات عظيمة نوردها إجمالاً، وفي التفصيل في ذلك ما يكون له أثر أكبر وأعظم، هؤلاء هم زينة الحياة، يقول عز وجل: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].

وهم نعمة الله سبحانه وتعالى حتى كان من دعاء عباده المقربين قوله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

وهم كذلك القوة التي منّ الله عز وجل بها علينا بقوله سبحانه: وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء:6].

وهم من بعد ذلك المثوبة والأجر الممتد كما أخبر الحق عز وجل في دعاء الرسل والأنبياء، وفي كثير مما جاء في قصص القرآن يقول عز وجل حاكياً عنهم: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40].

من يستشعر المسئولية ويرغب في المثوبة والأجر والذكر الممتد بعد وفاته فالطريق إليه هو تربية الأبناء وحسن تأديبهم؛ ليكونوا الأنموذج الذي يذكر بآبائهم وأمهاتهم، وليكونوا العمل الصالح المستمر من بعدهم، والدعاء الخاشع المتواصل لآبائهم وأمهاتهم، والأمر في ذلك يطول كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آياته الكثيرة، ولعلنا ندرك بهذا أهمية الأمر وجسامة المسئولية فننتدب لها، ونهيئ أنفسنا لأدائها، كما نحرص على إيماننا وتوحيدنا، وكما نجتهد على أداء فرائضنا من صلاتنا وزكاتنا وحجنا وصومنا، كما نكون كذلك ينبغي أن نستشعر أن المهمة والأمر والواجب والمسئولية تجاه أولئك الأبناء والبنات، الذين نشكو اليوم من صور انحراف ما بين تفريط وإفراط، ومرد ذلك في كثير من الأحوال والأسباب إلينا نحن معاشر الآباء والأمهات.

اللهم إنا نسألك أن تصلح أزواجنا وذرياتنا، وأن تجعلهم صالحين، وأن تجعلنا وإياهم من الطائعين، وأن تحسن ختامنا أجمعين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

هذه المسئولية مسئولية عظيمة جليلة، وهي في كتاب الله وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا هذه الومضات التي نريد أن نبين فيها اقتران الفرائض والواجبات التي يعرفها كل المسلمين مع هذه المهمة العظيمة في التربية، يقول عز وجل: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] هذه الآية في هذا الأمر العظيم والمهمة الجليلة، قال السيوطي في الإكليل تعليقاً على هذه الآية: إنه يجب على الإنسان أن يأمر أهله من زوجة وعبد وأمة وسائر عياله بتقوى الله والطاعة، وخصوصاً الصلاة.

وقال ابن علان الدمشقي في هذه الآية: أي: يأمر زوجته وأبناءه المميزين الذكور والإناث.

إن الأمر الرباني الذي حملنا أمانته كالإيمان والتوحيد وأداء الفرائض والعبادات، حملنا كذلك معه هذه المسئولية الجسيمة والأمانة العظيمة فيمن ولانا الله عز وجل أمرهم، وجعلنا سبباً لوجودهم، وسخرنا لكي نكون رعاة لهم، نغذوهم ونقوتهم، ونعينهم ونحدب عليهم ونحميهم، ويجب كذلك أن نعلمهم ونؤدبهم ونربيهم، فإن فرطنا فقد أخللنا بهذه الأمانة، وضيعنا هذه المسئولية، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

وهذا النداء الإيماني له عظمة كبيرة قال ابن مسعود : (إذا سمعت قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تزجر عنه).

ومما قاله أهل التفسير في هذا النداء: إنه تلطف من الله سبحانه وتعالى بعباده، وتحبب إليهم بندائهم بأحسن أوصافهم وأجل خلالهم وهو إيمانهم به، وفي النداء كذلك أيضاً أمر مهم وهو استدعاء متطلب الإيمان وتبعته، فإن للإيمان أمانة ومسئولية، فكأن النداء يقول: إن مقتضى إيمانكم وحقيقته يترتب عليه التزام أمر الله وشرعه، واقتفاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام بالمهمة والأمانة التي كلفك الله عز وجل بها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ [التحريم:6]، وليست هذه وحدها مسئوليتكم، بل وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهلكم بذكر الله، ينجيكم الله من النار).

وقال مجاهد رحمه الله: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله.

وتوسع قتادة في بيان المعنى فقال رحمه الله: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها.

وأوجز البغوي ذلك مع ربطه بالعاقبة المهمة في الآخرة فقال: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم، والنتيجة والثمرة المهمة تقونهم بذلك النار.

من يريد أن يكون أبناؤه حطباً لجهنم؟! إذا فرط في تربيتهم وقصر في تعليمهم ولم يجتهد في تأديبهم، كان سبباً مباشراً في انحرافهم والعياذ بالله!

وامض مع الآيات فإنك واجد فيها كثيراً من ذلك في الآداب والتربية قبل التكليف، وهي الأساس المهم والقاعدة الرئيسة والركن الركين الذي لا بد من العناية به، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58] الذين لم يبلغوا الحلم ليس عليهم تكليف، ما زال القلم مرفوعاً عنهم، ومع ذلك يعلمهم آباؤهم وأمهاتهم تلك الآداب، عند سن التمييز ومنذ نعومة الأظفار؛ لأن الآية بعد ذلك جاءت: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59] عند ذلك صاروا أهل تكليف، وصارت المهمة في أعناقهم، والأمانة في رقابهم، أما قبل ذلك فما زالت الأمانة في رقابكم، والواجب منوطاً بكم، والمهمة معقودة عليكم، والله عز وجل قد ذكر من ذلك الكثير.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2911 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2731 استماع
فاطمة الزهراء 2698 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2545 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2540 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2537 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2489 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2451 استماع