خطب ومحاضرات
الغلو معالمه ومخاطره [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، شرح به الصدور، وطمأن به القلوب، وهدى به البصائر، وجعلنا على بينة من أمرنا، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في موضوع: الغلو معالمه ومخاطره، ووقفتنا اليوم مع الفهم الصحيح لحقيقة الغلو، وبيان بعض صوره، وقد أسلفنا القول من قبل أنه لابد لنا أولاً من فهم وفقه حقيقة الإسلام في وسطيته واستقامته، ويسره وسماحته؛ لأن هذا هو الحد المشروع الذي إنما يعرف الغلو بتجاوزه وتعديه، والزيادة عليه أو النقص منه.
المرجعية لكتاب الله وسنة رسوله عند حصول النزاع
الأمر الثاني: أن المرجعية عند حصول الاختلاف أو النزاع إنما هي لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فلابد من معرفة هذه القضية، فعند اختلاف الآراء، أو تباين الأفكار، أو تعدد الاجتهادات فالفصل لا يرجع إلى الأشخاص، ولا يرجع إلى المذاهب، ولا يرجع إلى التقليد أو التعصب، وإنما إلى الاستنارة بضوء وأنوار الكتاب والسنة على ما تقتضيه الأصول العلمية المرعية، والاجتهادات العلمية المقبولة.
الأمر الثالث الذي ننبه عليه: هو أن هذا الرجوع فيه ثبات للمرجعية والمعيارية، وسلامتها من تنازع الأهواء وضغوط الواقع، فلو أنه لم يكن لنا رجوع إلى الثابت المعصوم من نصوص الكتاب والسنة لانفرط عقدنا، واختلف رأينا، وتشتت شملنا، وذلك أنما في كتاب الله حق لا باطل معه، ويقين لا شك فيه، وأمر صالح لكل زمان ومكان.
ثم هو من جهة أخرى سالم من التغير والتبدل رغم كل تغيرات الظروف والأحوال، وبذلك نفقه هذا الأصل المهم في حقيقة فهم الغلو، فإنه ليس فهماً ينشأ من واقع الناس، فإذا بدل الناس وغيروا في دين الله، وفرطوا فيه، صار الغلو عندهم مفهومه مفهوماً آخر.
وربما رأوا أن التمسك بالفرائض والمحافظة عليها، والاجتهاد في الطاعات، والزيادة في المشروع منها غلواً غير مقبول كما يظن أولئك الضعفة والكسلة المفرطون في الواجبات، المتخاذلون عن التزام الفرائض، ولو جعلنا ذلك مرجعه إلى الناس لربما جنحت أهواؤهم ممالأة لأعداء الله عز وجل، ومصانعة لهم، أو خوفاً منهم أو توهماً أن عندهم شيئاً من صواب، وذلك يؤدي بنا إلى الانحراف.
فلنعلم هذه الحقيقة المهمة، ثم لنفهم الإطار العام والمنهج الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الغلو فيه حتى لا نجنح إلى مثل هذه الأمور التي أشرنا إليها.
ولذلك أول أسس الفهم الصحيح هو الفهم للحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير إفراط ولا تفريط.
الأمر الثاني: أن المرجعية عند حصول الاختلاف أو النزاع إنما هي لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فلابد من معرفة هذه القضية، فعند اختلاف الآراء، أو تباين الأفكار، أو تعدد الاجتهادات فالفصل لا يرجع إلى الأشخاص، ولا يرجع إلى المذاهب، ولا يرجع إلى التقليد أو التعصب، وإنما إلى الاستنارة بضوء وأنوار الكتاب والسنة على ما تقتضيه الأصول العلمية المرعية، والاجتهادات العلمية المقبولة.
الأمر الثالث الذي ننبه عليه: هو أن هذا الرجوع فيه ثبات للمرجعية والمعيارية، وسلامتها من تنازع الأهواء وضغوط الواقع، فلو أنه لم يكن لنا رجوع إلى الثابت المعصوم من نصوص الكتاب والسنة لانفرط عقدنا، واختلف رأينا، وتشتت شملنا، وذلك أنما في كتاب الله حق لا باطل معه، ويقين لا شك فيه، وأمر صالح لكل زمان ومكان.
ثم هو من جهة أخرى سالم من التغير والتبدل رغم كل تغيرات الظروف والأحوال، وبذلك نفقه هذا الأصل المهم في حقيقة فهم الغلو، فإنه ليس فهماً ينشأ من واقع الناس، فإذا بدل الناس وغيروا في دين الله، وفرطوا فيه، صار الغلو عندهم مفهومه مفهوماً آخر.
وربما رأوا أن التمسك بالفرائض والمحافظة عليها، والاجتهاد في الطاعات، والزيادة في المشروع منها غلواً غير مقبول كما يظن أولئك الضعفة والكسلة المفرطون في الواجبات، المتخاذلون عن التزام الفرائض، ولو جعلنا ذلك مرجعه إلى الناس لربما جنحت أهواؤهم ممالأة لأعداء الله عز وجل، ومصانعة لهم، أو خوفاً منهم أو توهماً أن عندهم شيئاً من صواب، وذلك يؤدي بنا إلى الانحراف.
فلنعلم هذه الحقيقة المهمة، ثم لنفهم الإطار العام والمنهج الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الغلو فيه حتى لا نجنح إلى مثل هذه الأمور التي أشرنا إليها.
الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة وعدم التجاوز
إنها الدعوة إلى النهج المستقيم، المتزن المتوسط المعتدل الذي هو جوهر ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الخروج عنه تجاوزاً أو تقصيراً، إفراطاً أو تفريطاً، والنهي هنا جاء محذراً من فئتين بوصفين ذكرتهما الآية الكريمة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه، والضالون: وهم الذين ضلوا في معرفة الحق فلم يصيبوه، والخصلة الأولى بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها ظاهرة في اليهود، والثانية ظاهرة في النصارى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين.
ثم بين صوراً لذلك فقال: وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه باليهود ومن انحرف من العباد ففيه شبه بالنصارى؛ لأن العالم إذا انحرف فهو ينحرف مع معرفته وعلمه وفقهه، فهو عرف الحق وجحده، إما اتباعاً للهوى أو طلباً للدنيا أو خوفاً على النفس فيما لا يكون عذراً من الناحية الشرعية، والعباد الذين يضلون لا يعرفون الحق، فيبتدعون ويزيدون وينقصون من دين الله عز وجل.
نهي الأمم السابقة عن الغلو الذي كان سبب هلاكهم
وبين الله عز وجل صوراً من آثار ذلك الانحراف من الناحية العملية، وأنكر ذلك وحذر منه كما في قوله: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك عندما ربطه كذلك بمن سبق من الأمم السابقة في قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم) أي: عندما قالوا: المسيح بن الله أو قالوا: المسيح هو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وما جاءت هذه الآيات ولا تلك الأحاديث للإخباء عن أمر قد مضى في الأمم السابقة إلا ليكون وجهاً من أوجه العظة والعبرة، وأن سبب انحرافهم ومن بعد ذلك هلاكهم إنما هو خروجهم عن مقتضى دينهم، وغلوهم فيه، وانحرافهم عن جادة الصواب الذي جاءهم عن الله، وبلغتهم إياه رسل الله صلوات الله وسلامهم عليهم.
النهي عن الغلو في صوره العامة
كما بين أهل العلم هذا في شرح الحديث فقالوا: وإن كان الأمر خاصاً فإن النهي عام عن كل ما فيه غلو وتجاوز للحد المشروع، أي: في صغير الأمور وكبيرها.
ومن صور التحذير والتنفير من الغلو بيان الشارع الحكيم لسوء عاقبته، وخطورة مغبته، وأنه لا يؤدي حتى إلى مقصود صاحبه، فإن المتشدد في العبادة أو الطاعة فوق الحد المشروع إنما يريد التقرب إلى الله، وإنما يريد الاستزادة من الخير ومضاعفة وكثرة الثواب والأجر، لكن النتيجة التي أخبر بها الشارع تؤدي إلى غير ذلك.
فجاء التحذير من هذا الغلو ببيان عاقبته السيئة الوخيمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكرر ويدلل ويبين فيقول: (هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون!)، هلكوا هنا معناه عام يشمل الهلاك في حقيقة الأمر المادي والمعنوي، فقد يهلك فينقطع عن تلك الطاعات والعبادات ويعجز عنها، وقد يهلك بانحرافه في اعتقاده ومخالفته لأمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين صفة ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، إن المنبت في صفة السفر لا يريد أن يرتاح، فهو يقول: أنا أمضي وأمشي إلى غايتي بقوة وعزيمة، من غير راحة ولا هدوء ولا توقف، يريد أن يبلغ الغاية في أقصر وقت، وبأعلى قوة وهمة، فإذا به ينقطع في وسط طريقه لا يستطيع الاستمرار، ثم يفقد الوسيلة التي بها يسير إلى الغاية إذ تنقطع دابته أو تهلك، فيكون حينئذ هلاكه مقطوعاً به في الصورة المادية في المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً قد تشددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]).
وهذا أمر واضح ومهم وبين، وله كثير من الأدلة التي تبينه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2729 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2485 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2448 استماع |