خطب ومحاضرات
الترجمة النورانية لابن قيم الجوزية
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الرحمين.
أما بعد:
فأيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا موعدنا مع الدرس الثالث بعد المائة في يوم الجمعة الموافق للثامن من شهر الله المحرم عام 1415هـ.
وعنوان هذا الدرس: "الترجمة النورانية لـابن قيم الجوزية " وهي وقفات يسيرة مع ترجمة عالم من علماء الأمة، وعلم من أعلامها، ومجاهد من مجاهديها، الذين أجرى الله عز وجل على أيديهم خيراً كثيراً، ونفعاً عميماً، وخلد لنا من سيرتهم ومن آثارهم وكلامهم وعلمهم شيئاً كثيراً، والحقيقة أن هذا الموضوع أعرض منه ما أحسب أنه يفيد لعموم الإخوة، سيما في مثل هذا الدرس، وأعرض عما قد يكون من أمور يحسن عرضها للمتخصصين في علوم الشريعة أو بعضها على أقل تقدير، ونحن نريد أن نقتبس أنواراً من ترجمة ابن القيم في حاله وفي منهجه. في حاله: من خلال أخلاقه وعلمه وعبادته وما يتعلق بذلك.
وفي منهجه: من خلال أمور كثيرة تميز بها وبرز فيها، وهي من أعظم ما نحتاج إليه في مثل أوقاتنا المعاصرة.
وأول ما نعرج عليه هو تسمية ابن القيم رحمة الله عليه.
هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي الحنبلي يكنى بـأبي عبد الله ، ويلقب بـشمس الدين ، ويعرف بـابن قيم الجوزية ، وهذه الشهرة قد تختصر فيقال: ابن القيم ، وقد يقع الخطأ في تسميته كما هو واقع من كثيرين، فيقال: ابن القيم الجوزية أو ابن الجوزية وهذا وذاك غير صحيح.
فالقيم: هو الذي يقوم على الأمر، ويكون قائماً بشئونه وما يحتاج إليه، فيقال مثلاً: قيم المسجد: أي: المسئول عنه، القائم بشئونه، وقد كان أبوه قيماً على الجوزية، والجوزية مدرسة ودار فيها كتب، فـابن قيم الجوزية هو ابن الرجل الذي كان قيماً على الجوزية، ولو اختصرت فقلت: ابن القيم لكفى بغض النظر عما كان قائماً بشأنه من الأمور والأعمال.
كانت ولادته رحمة الله عليه في السابع من شهر صفر عام (691هـ) أي: في أواخر القرن السابع الهجري، وكانت وفاته في السابع عشر من شهر رجب عام (751هـ)، أي: على رأس النصف الثاني من القرن الثامن، وكانت مدة حياته ستين عاماً، وكان له خلالها جهد كبير وتاريخ عظيم.
نقف وقفات نقتبس أنواراً من حاله، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أنوار نقتبسها من منهجه.
الوقفة الأولى: أخلاقه وخلاله التي تحلى بها وعرف بها وأقوال العلماء فيه
قال ابن كثير -وقد كان من أقران ابن القيم وزملائه وأحبابه-: كان ابن القيم حسن القراءة والخلق، وكان كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه، ولا يحقد على أحد.
وهذه الكلمات الموجزة تنبئنا عما ينبغي أن يتصف به المسلم الحق، والعالم الذي فقه العلم حق الفقه، فهذا ابن كثير يخبرنا عن حسن سلوك ابن القيم رحمة الله عليه.
وتأمل إلى قوله: كان كثير التودد. فهذا نور ينبغي أن نقتبسه، فإن المؤمن يألف ويؤلف، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، فالمؤمن منبسط الوجه باش الوجه دائم التبسم، محب لإظهار السرور على إخوانه؛ وبهذا يتميز كل صاحب إيمان وصاحب علم، وليس من ضرورة الالتزام والعبادة والتهجد الغلظة والفضاضة والتجهم، فإن بعض الناس ربما غلب عليه هذا السمت، لذلك لا تراه إلا مقطب الجبين، عابس الوجه، ويظن أنه بذلك يحقق مقتضى تعبده ولوازم تعلمه! وليس الأمر كذلك.
ويقول ابن كثير رحمة الله عليه واصفا ابن القيم : لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه.
جاء في مسند الإمام أحمد قصة الرجل الذي بشره النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة ثلاث مرات، ثم صحبه بعض الصحابة ليرى حاله ويعرف سر بشارة النبي عليه الصلاة والسلام له، فلم ير عنده شيئاً يتميز به من كثير قيام أو صلاة أو نحو ذلك، إلا أن الرجل قال له: إني أبيت وليس في صدري غش ولا غل لأحد من المسلمين، فقال: هذه التي بها بلغت، وهي التي عنها نعجز.
فغاية التهذيب الإيماني أن يكون المرء حسن السريرة على إخوانه، يحسن الظن بهم، ولا يحمل الحقد في قلبه عليهم وإن أخطئوا عليه.
كانت هذه الصفة في ابن القيم بالرغم أن له خصومات مع بعض من خالفه في الآراء، حتى سجن وأوذي، ومع ذلك كان لا يحمل حقداً، فالرجل الكبير العظيم يكون مترفعاً عن الدنايا والصغائر، ولا يجعل لخلاف الرأي أثراً على محبة القلوب، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم.
ولذلك كان وصف ابن كثير مطلقاً، يقول: كان لا يحسد أحداً، ولا يؤذيه، ولا يعيبه، أي: ينتقصه بالعيب أو يقدح فيه سواءً في علمه أو في سمته أو غير ذلك.
وقال كذلك: ولا يحقد على أحد.
ولا يظنن ظان أن هذا السمت يدل على الهوان والضعف والذلة، وإنما كما قال ابن حجر عندما ذكر كثيراً من صفات ابن القيم : كان جريء الجنان، شجاع القلب، يقول الحق لا يخشى في الله لومة لائم، وقد خالف كثيرين وأصر على رأيه وأنه الحق، وسجن وأوذي فما تردد، ولا ارتجف قلبه ولا خاف ولا داهن في دينه.
فتجد أن تبسمك وإدخالك السرور على إخوانك فيهما تنقية قلبك وتهذيب نفسك، بما لا يفضي إلى أن تداهن في الحق أو أن تتراجع عما تعتقده صواباً، وإنما تجمع بين هذه المحاسن كلها، وهكذا كان ابن القيم رحمة الله عليه كما في بعض هذه الكلمات اليسيرة الوجيزة التي ذكرها عنه بعض من ترجم له من أهل العلم.
الوقفة الثانية: عبادة ابن القيم رحمه الله تعالى
كان ابن كثير من أصحابه وجلسائه الذين عرفوه وخبروه، يقول: وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ومعنى هذا: أنه سيكون مطلعاً على خبايا أمره، وعلى أحواله الخاصة.
ثم يقول ابن كثير رحمة الله عليه -وتأمل هذه الكلمات عندما يقولها الإمام ابن كثير وهو من هو في علمه وفضلة وتأريخه وتراجمه المعروفة-: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادةً منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع من شأن عبادته وطوله فيها، وتفرغه لها وبذله من جهده ووقته فيها.
ولم يكن ابن القيم رحمة الله عليه رجلاً منقطعاً عن الناس متفرغاً للعبادة، حتى نقول: إن هذا الوصف يليق به؛ لأنه لم يكن عنده شأن آخر، بل كان عالماً صنف مصنفات يحار العقل في فهمها وتدبرها، ومعرفة ما فيها من غزير العلم، ودقائق المسائل، وكان مع ذلك مجاهداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ينشر العلم ويلقنه، ويرد على المخالفين، ويقوم المبتدعين، ونحو ذلك، ومع ذلك كله ما شغل عن أمر هو من أهم الأمور وأعظمها وآكدها للعالم والداعية والمسلم على وجه العموم، وهو أمر الصلة بالله عز وجل، وأمر العبادة وربط القلب به، واستمداد العون منه.
ويقول ابن رجب - وهو ممن تتلمذوا على ابن القيم رحمة الله عليه، وقد وصفه في ذلك وصفاً أطول وأعجب مما ذكره ابن كثير -: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله عز وجل، والانكسار له والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، ثم يقول على غرار ما قال ابن كثير : لم أشاهد مثله في ذلك، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف.
قال: وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.
فذاك قرينه، وهذا تلميذه، وهما من المقربين إليه والمختصين به، العارفين بحاله، فإذا بهما يذكران هذا الوصف الذي يغلب على السامع عندما يسمعه أن هذا الرجل لم يكن له شأن إلا العبادة وحدها، ومع ذلك كان رحمة الله عليه يجمع مع هذا الشأن شئوناً أخرى عظيمة وجليلة؛ ولذلك سمت العبادة ونورها الذي يقذف بالقلب، وتوفيقها الذي يجعله الله عز وجل مسدداً لصاحبها؛ هو أمر مقتبس أصلاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من العبادة مع كونه رسول الأمة، وقائد جيوشها، ومدبر أمرها، ورئيس دولتها، ومع ذلك كان هو الموصوف بالعبادة إلى الغاية القصوى التي لا منتهى إليها ولا قرب منها، وكذلك كان صحابته رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، كانوا يجمعون بين هذا وهذا، وعندما ضعف هذا السمت في أجيالنا المعاصرة، وفي المتصدرين للخير والإصلاح، والدعوة والعلم وطلبه، رأينا ضعفاً في الآثار: من قبول الحق، ومن سرعة الفهم، ومن غزارة العلم وغير ذلك من الأمور التي فتح الله عز وجل بها على أسلافنا من الأئمة؛ لأنهم أحسنوا ما بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى فسهل لهم أمورهم، وفتح لهم من أبواب خزائنه سبحانه وتعالى توفيقاً وتسديداً وإلهاماً ورشداً وصواباً في الرأي، ودقةً في الاستنباط، إلى غير ذلك مما عرفوا به واشتهروا به رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم أجمعين.
الوقفة الثانية: علم ابن القيم رحمه الله تعالى
قد قلنا ذاك الموجز في أخلاقه، وهذه العبارات الجامعة في عبادته، فلا نظن أن هذا وذاك جاء من كلام غير خبير، فقد ذكره من ترجم له أمثال ابن كثير وابن رجب وغيرهما، وابن كثير إمام عالم، فإذا قوم فهو تقويم العلماء، وإذا مدح وأثنى فهو يعرف من هذه العلوم ما يجعله يعرف مواقع الكلمات، وليس كما هو الحال في عصورنا المتأخرة، فأنت تجد من حفظ كلمةً أو كلمتين أو اطلع على كتاب أو كتابين، ربما وصف بأنه عالم الأمة وإمام الأئمة، لكن السابقين من العلماء ما كانوا يطلقون هذه الأوصاف إلا عن علم بها، وتحر فيها، ودقة في إطلاقها.
قال ابن كثير رحمة الله عليه في وصف علمه: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لاسيما علم التفسير والحديث والأصلين، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه.
يعني: قل أن يوجد له نظير في مجموع أحواله، من علمه، وعبادته، وأخلاقه، إلى غير ذلك كله.
وقال ابن رجب في وصف علمه -وقد توسع في ذلك؛ لأنه تلميذه الذي تلقى عنه وأخذ منه-: تفقه في المذهب، وبرع، وأفتى، ولازم ابن تيمية وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يبارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى -تأمل هذه العلوم والأوصاف- والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، وله في كل من هذه الفنون اليد الطولى.
فهذا يدلنا على شمول علمه في مسائل كثيرة وفي فنون متعددة.
وقال الذهبي -وهو من نعلم في تقويم الرجال-: عني بالحديث وفقهه، ومعرفة بعض رجاله، وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين، وتصدى للاشتغال وإقراء العلم، ونشره.
ويقول ابن رجب : ما رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه -ثم يستدرك ويدلنا ذلك على دقة العلماء- قال: وهو ليس بمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
وقال القاضي برهان الدين الزرعي عن ابن القيم : ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه، وقد درس في الصدرية -وهي إحدى مدارس الشام نسبة إلى صدر الدين الدمشقي- وأم بالجوزية، أي: كان إماماً فيها.
فهذه الأوصاف التي ذكرت عن بعض ما كان عليه من العلم، تجعلنا نقتبس من نور أهل العلم أنه لا بد من بذل الجهد والتفرغ والحرص على التلقي وعدم التعجل، فإن ابن القيم ما حاز هذه العلوم ولا نال هذه الرتب إلا بعد وقت طويل، وعمل كثير، وتلق متنوع، ورحلة في طلب العلم، وعكوف عليه، وسهر لأجل حفظه وإتقانه.
وقال الشوكاني عنه: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.
الوقفة الرابعة: أثر صحبة ابن القيم لشيخه ابن تيمية واستفادته منه
صحب ابن القيم شيخه من عام (712هـ) حتى وفاته في عام (728هـ) أي: أنه لازمه ستة عشر عاماً، كان فيها مختصاً به، مرافقاً له، أكثر الأخذ عنه والمدارسة معه، واطلع على سائر أحواله، وقد وصف من حال شيخه الكثير والكثير، مما يدل على تأثره به وأخذه عنه، وأنه لم يأخذ عن ابن تيمية رحمة الله عليه العلم وحده، وإنما أخذ عنه العلم والسلوك، وأخذ عنه الحال الإيماني والوصف التربوي، كما أنه أخذ منه أمر مهم وهو المنهجية في أخذ العلم والاستنباطات ونحو ذلك مما يأتي ذكره، وقد قال ابن القيم في وصف هذه العلاقة أبيات. يحكي فيها عن نفسه وما مضى به من الأحوال:
يا قوم والله العظيم نصيحـة من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت فـي تلك الشباك وكنت ذا طيران
أي: قبل أن يصحب شيخه ثم يقول:
حتى أتاح لي الإله بفضلـه من ليس تجزيه يدي ولساني
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولهـا نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثاراً عظيـم شأنـها محجوبة عن زمرة العميان
وقال ابن كثير رحمة الله عليه: إن ابن القيم صحب ابن تيمية لما عاد الشيخ من الديار المصرية في سنة (712هـ) ولازمه إلى أن مات، وأخذ عنه علماً جماً.
وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: إنه غلب على ابن القيم حب شيخه؛ حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه.
وهذا الكلام من ابن حجر رحمة الله عليه ليس على إطلاقه؛ فإن ابن القيم قد استقى من شيخه أن المجتهد لا يقلد، وأن المصدر الذي ينبغي أن يعود ويرجع إليه العالم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فقد خالف ابن القيم شيخه في مسائل عديدة، ولم يكن موافقاً له في كل شيء، وإن كان استفاد منه كثيراً، وقد قرر ذلك في كتبه وطول النقل عنه، وكان يقول: أفدت ذلك من شيخنا، وكان يقول: ما أطلقت من قول شيخ الإسلام فأعني به ابن تيمية ونحو ذلك مما كان ينسبه إليه ويستفيده منه، ولكنه مع ذلك خالفه في مسائل ليست قليلة، وليس هذا موضع ذكرها، لكني أذكر بعض هذه المسائل، مثل مخالفته لشيخه في فهم كلام للإمام أحمد في مسألة الرضعة الواحدة، والاعتداد بها، وكيف تكون الرضعة.
وكذلك أيضاً مسألة تتعلق بعدة الأمة، فقد خالف فيها شيخه، وغير ذلك من المسائل.
وما نقتبسه هنا أيها الأحبة! أنه لا بد لطالب العلم من الشيخ الذي يتلقى عنه العلم، ويتعلم منه السلوك والسمت الصالح، ويأخذ عنه النهج الذي يفتح الله به عليه في معرفة ما يأخذ من العلم وما يدع، وكيف يأخذ هذا العلم، وكيف يصنع به ويستفيد منه وينشره، إلى غير ذلك من الأمور؛ لأنه ليس المطلوب هو مجرد حفظ العلم وتلقيه، بل كيفية الإفادة منه، والتعريف به، ونحو ذلك من الأمور اللازمة التي يحتاج إليها كثيراً.
الوقفة الخامسة: تصانيف ابن القيم وتآليفه
يقول ابن كثير في شأن مؤلفاته: وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف.
وهذا وصف إجمالي سنذكر بعض تفصيله.
و ابن رجب يقول: كتب بخطه ما لا يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرةً جداً في أنواع العلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتنى من الكتب مالم يحصله غيره.
وكان كلام ابن حجر في وصفه في هذا الباب من أجمل وأنفس ما يقال، يقول: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره.
يعني كان يجمع الكتب ويقتنيها، ونحن نعلم أن الكتب في ذلك العصر لم تكن مطبوعة بآلاف وعشرات الآلاف كما هو في عصرنا، فكان تحصيلها وجمعها وتتبعها ونسخها أمراً فيه مشقة وجهد وعناء لا يعرفه إلا من كابد ذلك أو بعضاً منه أو اطلع عليه.
يقول ابن حجر : وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً سوى ما اصطفوه لأنفسهم.
من أولاده إبراهيم وعبد الله كانا من العلماء، وقد درسا بعد موت والدهما في المدرسة الصدرية، وكان أحدهما من أهل الفتيا والقضاء، وهما من أهل العلم، فاصطفوا لأنفسهم كتباً، ومع ذلك كانت كتبه من الكثرة أنهم باعوا بعضاً منها على مدىً طويل من الدهر والزمن.
وقال ابن حجر في وصف تصانيفه -وهذا إطلاق عجيب دقيق مفيد من ابن حجر -: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعاني الإيضاح جهده فيسهب جداً، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف فيه في ذلك، وله في ذلك ملكة قوية، ولا يزال له يد في ذلك، ويبسط مفرداته وينتصر لها.
إن قبول المؤلفات وسريانها بين الناس دليل من أدلة التوفيق الإلهي، وقد ذكر العلماء في تراجم بعض أهل العلم هذا المعنى كثيراً، وهو أنه رزق القبول في تصانيفه، أو انتشرت تصانيفه، وتلقاها الناس بالقبول، أو سارت الركبان بتصانيفه في حياته وأخذ بها العام والخاص، ونحو ذلك من الأمور التي ذكرت في بعض العلماء الأعلام الذين ما نزال اليوم نقرأ كتبهم ونتتلمذ عليها، ونرجع إليها، ونعتبرها عمدة الكتب التي خلفها سلف الأمة، مثل: كتب ابن القيم وابن تيمية والإمام النووي وابن حجر والذهبي وغير أولئك من الأعلام رحمة الله عليهم أجمعين.
يقول الشوكاني معلقاً بعد نقل كلام ابن حجر : وله من حسن التصرف مع العذوبة السائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الآذان، وتحبه القلوب، وليس له على غير الدليل معول في الغالب، وقد يميل إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة كما يفعل غيره من المتمذهبين.
وانظر إلى هذا المعنى الذي أضافه الشوكاني وهو معنى ً جميل جيد وواقعي حقيقي، فإن ابن القيم رحمة الله عليه اشتهر بعذوبة عبارته، وسلاسة أسلوبه، وعلو بلاغته، وحسن عبارته، وكثرة استشهاده بالأمثلة والأشعار والبلاغات ونحو ذلك، مما يجعل كلامه مقبولاً في النفوس، وله وقع في القلوب كما قال: تميل إليه الآذان، وتعشقه وتحبه القلوب، وهذا قول واقعي يعرفه من قرأ في كتبه رحمة الله عليه.
وهذا أمر نحتاج إليه، وهو ما قاله عنه ابن حجر : يتعانى في التوضيح والتبيين وبسط المسائل حتى تعرف، فليس أمر التعليم وتفهيم الناس أمراً هيناً، وإنما يحتاج إلى معرفة طرق التدريس والتعليم، وقد كان ابن القيم قد أخذ بالحظ الأوفى والأوفر من هذا الوصف، وكتبه مع وضوحها وجمالها فيها العلم والتفصيل والتفريع الذي هو من شأن تخصصات العلوم ودقائقها، إلا أنه كان يسهب بحيث يفهم عنه ويقبل منه، ويكون قد أقام الحجة والدليل بالطريقة الواضحة البينة، وهذه الصفة من الأمور المهمة التي ينبغي أن نستفيدها وأن نقتبسها.
الوقفة السادسة: استعراض مؤلفات ابن القيم في شتى العلوم
فقد ألف رحمة الله عليه في الإيمانيات والروحانيات كتباً كثيرة ومن أشهرها وأوسعها وأنفعها "مدارج السالكين شرح منازل السائلين" للهروي .
وألف كذلك "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" وهو في أمر الصبر والشكر، وفيه كلام نفيس في التربويات والإيمانيات.
وألف "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" وهو في أمر المحبة الإلهية وما يتفرع عنها من كلامه على أمر المحبة والعشق، وما يتعاطاه الناس من ذلك، وما يذم منه، وما يمدح، ونحو ذلك مما توسع فيه، وهو كتاب من الناحية الأدبية يعتبر في الرتبة العليا الذي صاغ فيه ابن القيم الكلام بأسلوب عجيب فريد، وبسجع قوي غير ملول، وشنفه وطعمه بأبيات شعرية هي من أروع أبيات الشعر العربي في هذا الباب.
وألف أيضاً في الإيمانيات فيما يتعلق بأمور العقائد كتاب "الروح" و"حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
وألف في المسائل العلمية المتعلقة بالعقيدة والتوحيد والرد على أهل الكلام، كما كان شيخه؛ لأن العصر في ذلك الوقت كان يقتضي هذا، ولنا وقفة وجيزة ستأتي إن شاء الله عن الفترة والبيئة التي عاش فيها.
ألف "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وقد أتى فيه بمنطق القوم وبلسانهم وحجتهم، ونقضها على طريقتهم ومنهجهم، ودحضها بالحجج من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كتبه من عناوينها فيها مدلولات عجيبة، فهذا اسمه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وهي المسائل التي خاض فيها الخائضون فاضطربوا وحاروا، وتقلبت قلوبهم وأصبحوا على شوك الشك متقلبين، فهذا الكتاب شفاء لهذا المريض بهذه الشبه والشكوك، ينزعها منه ويدحضها له ويعدمها بالكلية، حتى يطمئن قلبه ويبرأ من علة الشك.
له كتاب آخر "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وهي صواعق من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطلت حججهم، وأفنت أمرهم، وأحرقت مقالاتهم، والكتاب من عنوانه مطابق لهذه العناوين.
وكذا ألف كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية".
وله النونية المشهورة واسمها "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" وغير ذلك أيضاً من الكتب.
وأما في شأن الفقه وما يتعلق بمسائله، فله الكتاب البديع الرائع الذي هو "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ذكر فيه مسائل وضوابط في الفقه والقضاء والفتيا والتقليد والاجتهاد والتمذهب ونحو ذلك، وأتى فيه بنفائس عظيمة وجليلة ربما تستحق أن تكون مواضيع لدروس عديدة، وقد أفدنا من هذا الكتاب في دروس كثيرة، ومنها على سبيل المثال الدرس الذي كان بعنوان: اللباب في السؤال والجواب.
وألف كتاب: "الطرق الحكمية في طرق الإثبات" وغيرها من الكتب الكثيرة في هذا المجال.
وفي السيرة له الكتاب المشهور المعروف "زاد المعاد في هدي خير العباد" وهذا الكتاب فيه مزايا كثيرة جداً يضيق المقام عن حصرها، لكنه جمع فيه بين ما كان يسمى بكتب الشمائل وما كان يسمى بكتب السير والمغازي، فجمع المنهجين معاً في كتابه، إضافة إلى ما في هذا الكتاب من التحريرات التاريخية، والمسائل الفقهية الدقيقة التي توسع فيها كثيراً في بعض المواضع، فجمع في كتابه هذا بين التاريخ والفقه والسيرة والشمائل، وغير ذلك من العلوم، ومنها تعرضه لعلل بعض الأحاديث، وقد ألف هذا الكتاب أثناء سفره، أي: من غير كتب ولا مراجع، وإنما مما كان يحفظه في رأسه وفي قلبه من هذه النصوص والعلوم، وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين أنه ألف في السفر الكتب التالية:
1- مفتاح دار السعادة.
2- روضة المحبين.
3- زاد المعاد.
4- بدائع الفوائد.
5- تهذيب سنن أبي داود .
هذه الكتب ألفها في حال السفر، ولو نظرت إلى بعضها لرأيت فيها علماً جماً لو عكف عليه الباحثون وتفرغوا له، ربما لم يأتوا بجزء منه، وهذا يدلنا على علمه الواسع.
وتميز ابن القيم بالكتب المتعلقة بالناحية التربوية النفسية، وله في ذلك: "إغاثة اللهفان" و"الجواب الكافي" وغيرهما من الكتب التي تتكلم على أمر الذنوب والمعاصي، وأمراض القلوب وعللها وأدوائها مما هو أيضاً معلوم وواسع.
وقد توسع ابن رجب في ذكر هذه المؤلفات كثيراً، فنحن من خلال هذه الوقفات نؤكد على ما ينبغي أن نستفيده من هذه الترجمة في شقها الأول: ما يتعلق بحال ابن القيم في أخلاقه وخلاله، وفي عبادته وتهجده، وفي علمه ومؤلفاته، وأيضاً في استفادته من شيوخه وتعلمه على أيديهم.
وننتقل الآن إلى الشق الثاني وأحسب أن له أهميةً أكبر من الشق الأول: وهو ما يستفاد من منهج ابن القيم رحمة الله عليه الذي قرره في كتبه، وعرف به في حاله وتقريره للمسائل التي تعرض لها.
إن أول وقفاتنا مع الأخلاق والخلال التي تحلى بها وعرفت عنه، ولا شك أن البدء بهذا من المهمات؛ لأن غاية العلم هو أن يثمر العمل، والإيمان في حقيقته تهذيب للسلوك وتقويم لأخلاق الإنسان، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في مستدرك الحاكم : (الإيمان والحياء جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال أيضاً: (الحياء شعبة من الإيمان)، مما يدل على أن الإيمان لا بد أن يثمر بهذه السلوكيات والأخلاقيات والعبادات، فالعلم يورث العمل الصالح.
قال ابن كثير -وقد كان من أقران ابن القيم وزملائه وأحبابه-: كان ابن القيم حسن القراءة والخلق، وكان كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه، ولا يحقد على أحد.
وهذه الكلمات الموجزة تنبئنا عما ينبغي أن يتصف به المسلم الحق، والعالم الذي فقه العلم حق الفقه، فهذا ابن كثير يخبرنا عن حسن سلوك ابن القيم رحمة الله عليه.
وتأمل إلى قوله: كان كثير التودد. فهذا نور ينبغي أن نقتبسه، فإن المؤمن يألف ويؤلف، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، فالمؤمن منبسط الوجه باش الوجه دائم التبسم، محب لإظهار السرور على إخوانه؛ وبهذا يتميز كل صاحب إيمان وصاحب علم، وليس من ضرورة الالتزام والعبادة والتهجد الغلظة والفضاضة والتجهم، فإن بعض الناس ربما غلب عليه هذا السمت، لذلك لا تراه إلا مقطب الجبين، عابس الوجه، ويظن أنه بذلك يحقق مقتضى تعبده ولوازم تعلمه! وليس الأمر كذلك.
ويقول ابن كثير رحمة الله عليه واصفا ابن القيم : لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه.
جاء في مسند الإمام أحمد قصة الرجل الذي بشره النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة ثلاث مرات، ثم صحبه بعض الصحابة ليرى حاله ويعرف سر بشارة النبي عليه الصلاة والسلام له، فلم ير عنده شيئاً يتميز به من كثير قيام أو صلاة أو نحو ذلك، إلا أن الرجل قال له: إني أبيت وليس في صدري غش ولا غل لأحد من المسلمين، فقال: هذه التي بها بلغت، وهي التي عنها نعجز.
فغاية التهذيب الإيماني أن يكون المرء حسن السريرة على إخوانه، يحسن الظن بهم، ولا يحمل الحقد في قلبه عليهم وإن أخطئوا عليه.
كانت هذه الصفة في ابن القيم بالرغم أن له خصومات مع بعض من خالفه في الآراء، حتى سجن وأوذي، ومع ذلك كان لا يحمل حقداً، فالرجل الكبير العظيم يكون مترفعاً عن الدنايا والصغائر، ولا يجعل لخلاف الرأي أثراً على محبة القلوب، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم.
ولذلك كان وصف ابن كثير مطلقاً، يقول: كان لا يحسد أحداً، ولا يؤذيه، ولا يعيبه، أي: ينتقصه بالعيب أو يقدح فيه سواءً في علمه أو في سمته أو غير ذلك.
وقال كذلك: ولا يحقد على أحد.
ولا يظنن ظان أن هذا السمت يدل على الهوان والضعف والذلة، وإنما كما قال ابن حجر عندما ذكر كثيراً من صفات ابن القيم : كان جريء الجنان، شجاع القلب، يقول الحق لا يخشى في الله لومة لائم، وقد خالف كثيرين وأصر على رأيه وأنه الحق، وسجن وأوذي فما تردد، ولا ارتجف قلبه ولا خاف ولا داهن في دينه.
فتجد أن تبسمك وإدخالك السرور على إخوانك فيهما تنقية قلبك وتهذيب نفسك، بما لا يفضي إلى أن تداهن في الحق أو أن تتراجع عما تعتقده صواباً، وإنما تجمع بين هذه المحاسن كلها، وهكذا كان ابن القيم رحمة الله عليه كما في بعض هذه الكلمات اليسيرة الوجيزة التي ذكرها عنه بعض من ترجم له من أهل العلم.
نقتبس أنواراً أخرى من أمر وحال عبادته رحمة الله عليه، وقد ذكر المترجمون له في هذا الشأن حالاً عجيبة، وأوصافاً غريبة، وأموراً يتعجب منها كثير منا، وقد ضعفت هممنا، وكثرت بالحياة الدنيا انشغالاتنا، وقصرنا في الطاعات، وفرطنا في كثير من الخيرات.
كان ابن كثير من أصحابه وجلسائه الذين عرفوه وخبروه، يقول: وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ومعنى هذا: أنه سيكون مطلعاً على خبايا أمره، وعلى أحواله الخاصة.
ثم يقول ابن كثير رحمة الله عليه -وتأمل هذه الكلمات عندما يقولها الإمام ابن كثير وهو من هو في علمه وفضلة وتأريخه وتراجمه المعروفة-: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادةً منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع من شأن عبادته وطوله فيها، وتفرغه لها وبذله من جهده ووقته فيها.
ولم يكن ابن القيم رحمة الله عليه رجلاً منقطعاً عن الناس متفرغاً للعبادة، حتى نقول: إن هذا الوصف يليق به؛ لأنه لم يكن عنده شأن آخر، بل كان عالماً صنف مصنفات يحار العقل في فهمها وتدبرها، ومعرفة ما فيها من غزير العلم، ودقائق المسائل، وكان مع ذلك مجاهداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ينشر العلم ويلقنه، ويرد على المخالفين، ويقوم المبتدعين، ونحو ذلك، ومع ذلك كله ما شغل عن أمر هو من أهم الأمور وأعظمها وآكدها للعالم والداعية والمسلم على وجه العموم، وهو أمر الصلة بالله عز وجل، وأمر العبادة وربط القلب به، واستمداد العون منه.
ويقول ابن رجب - وهو ممن تتلمذوا على ابن القيم رحمة الله عليه، وقد وصفه في ذلك وصفاً أطول وأعجب مما ذكره ابن كثير -: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله عز وجل، والانكسار له والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، ثم يقول على غرار ما قال ابن كثير : لم أشاهد مثله في ذلك، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف.
قال: وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.
فذاك قرينه، وهذا تلميذه، وهما من المقربين إليه والمختصين به، العارفين بحاله، فإذا بهما يذكران هذا الوصف الذي يغلب على السامع عندما يسمعه أن هذا الرجل لم يكن له شأن إلا العبادة وحدها، ومع ذلك كان رحمة الله عليه يجمع مع هذا الشأن شئوناً أخرى عظيمة وجليلة؛ ولذلك سمت العبادة ونورها الذي يقذف بالقلب، وتوفيقها الذي يجعله الله عز وجل مسدداً لصاحبها؛ هو أمر مقتبس أصلاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من العبادة مع كونه رسول الأمة، وقائد جيوشها، ومدبر أمرها، ورئيس دولتها، ومع ذلك كان هو الموصوف بالعبادة إلى الغاية القصوى التي لا منتهى إليها ولا قرب منها، وكذلك كان صحابته رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، كانوا يجمعون بين هذا وهذا، وعندما ضعف هذا السمت في أجيالنا المعاصرة، وفي المتصدرين للخير والإصلاح، والدعوة والعلم وطلبه، رأينا ضعفاً في الآثار: من قبول الحق، ومن سرعة الفهم، ومن غزارة العلم وغير ذلك من الأمور التي فتح الله عز وجل بها على أسلافنا من الأئمة؛ لأنهم أحسنوا ما بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى فسهل لهم أمورهم، وفتح لهم من أبواب خزائنه سبحانه وتعالى توفيقاً وتسديداً وإلهاماً ورشداً وصواباً في الرأي، ودقةً في الاستنباط، إلى غير ذلك مما عرفوا به واشتهروا به رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2907 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2729 استماع |
فاطمة الزهراء | 2694 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2627 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2541 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2533 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2533 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2485 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2467 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2449 استماع |