سهام المعاصي


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا موعدنا مع الدرس الثاني والخمسين بعنوان: سهام المعاصي والدواء الشافي، في يوم الجمعة منتصف شهر رجب من عام ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، وهذا الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعب، ولذلك ينبغي لنا أن ندرك أن الحديث في مثل هذه الموضوعات يحتاج إلى دقة في النظر، وجمع للمتفرقات، وتركيز حتى يكون جامعاً لأكثر ما يحتاج إليه، ولذلك إذا تأملنا في معنى العنوان: سهام المعاصي، نجد أن المعصية سهم جارح؛ فإذا وقعت هذه السهام على اليد شلتها، وإذا جاءت على الأذن أصمتها، وإذا جاءت على العيون أعمتها، وأما إذا جاءت على القلوب فإنها تقتلها، ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل.

فهي جروح، لكن قد يكون الجرح في مكان قاتل فيؤدي إلى ما لم يكن يتصور أنه يؤدي إليه.

الأمر الثاني: إن المعاصي قد كثرت وتفشت، وقلّ من سلم منها، بل قل من سلم من كثرتها، وقد شملت أضراب الناس وأصنافهم، كما قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): والناس على ضربين: عالم يغلبه هواه فيتوانى عن العمل، وجاهل يظن أنه على الصواب، وهذا الأغلب على الخلق.

ثم استعرض أنواع أجناس الناس ومخالفاتهم فقال: فالأمير يراعي سلطنته، ولا يبالي بمخالفة الشرع، أو يرى بجهله جواز ما يفعله، والفقيه همته ترتيب الأسئلة ليقهر الخصم، والقاص همته تزويق الكلام ليعجب السامعين، والزاهد مقصوده تزيين ظاهره بالخشوع لتقبل يده ويتبرك به، والتاجر يمضي عمره في جمع المال كيف اتفق؛ ففكره مصروف إلى ذلك عن النظر إلى صحة العقود، والمغرى بالشهوات منهمك على تحصيل غرضه تارة بالمطعم وتارة بالوطء وغير ذلك، فإذا ذهب العمر في هذه الأشياء، وكان القلب مشغولاً بالفكر في تحصيلها؛ فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه، ومحاسبة النفس في أفعالها، ورفع الكدر عن باطل السر، وجمع الزاد للرحيل، والبدار إلى تحصيل الفضائل والمعالي؟! فالظاهر قدوم الأكثرين على حسرات، إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل، فالله الله يا أهل الفهم! اقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع الاختلاف بغتة على شتات القلب وضياع الأمر، وهذا حال أكثرنا إلا من رحم الله عز وجل.

أول ما أحب أن أبدأ به هو ما يتعلق بطبيعة الإنسان وفطرته وبيئته:

الإنسان خلقه الله عز وجل قبضة من طين ونفخة من روح، فلذلك يجتمع فيه ما يكون داعياً إلى التصاقه بالطين ودنوه وتسفله إلى الأرض والدنيا الدنية، وفيه كذلك نفخة روح الرحمن سبحانه وتعالى التي تسمو به إلى عليين وإلى ملكوت السماوات وإلى الترفع والتحليق في آفاق الرفعة بعيداً عن الدنايا والرزايا والأقذار والأوساخ.

والإنسان بين هذين الجذبين وبين هذين المتنازعين إما أن تغلب روحه وتحلق فيكون في مصاف الملائكة، بل ربما كان أعلى، لأن الملائكة مفطورة على الطاعة، وربما مال إلى شهواته وإلى غذاء بدنه وإلى طينيته ودنيويته وأرضيته فيكون أسفل من الحيوانات، كما قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].

الدين لا يخالف الفطرة

الأمر الثاني: أن هذا الدين العظيم لا يصادم الفطرة ولا يعارض ما استكن وما استقر في نفوس الناس على ما خلقهم الله عليه، فإن في الفطر ميلاً طبعياً إلى الشهوات، وإن فيها حباً للنساء والأزواج وأنساً بالبنين ورغبة في جمع الأموال، وكل ذلك ليس محظوراً ولا ممنوعاً في الشرع، لكنه مضبوط بضوابط تسمو بالإنسان، ولا تجعله يقع فيما فيه مغبته وفساد حاله في الدنيا وخسرانه في الآخرة، إضافة إلى ما يقع عند التعدي على حقوق الآخرين وعلى أنظمة المجتمع، فلذلك كل فطرة وميل ورغبة لها في تشريع الله عز وجل ما يحققها بالقدر الكافي وبالأسلوب الطاهر النظيف وبالتشريع المحكم البليغ، فليس هناك مصادمة ولا معارضة.

أثر البيئة والنوازع على الإنسان

الأمر الثالث الذي ينبغي أن نفهمه هو: أن الإنسان يتأثر بالبيئة وتدعوه نوازع كثيرة، قال عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] كل هذه في آثار البيئة تدعوه وتغريه وتزين له بعض ما قد يكون من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.

وكذلك هناك أمر ثانٍ وهو: أن طبيعة النفس البشرية غير المهذبة بالإيمان وغير المنضبطة بشرع الرحمن فيها غرس يميل إلى المعصية، ويهوى الهوى، ويرغب في الشهوات.

وهنا أشير إلى أن أكثر الكلام أنقله عن ابن القيم ، وقد كنت عزمت أن أجعل عنوان الموضوع: ابن القيم وكشف المعاصي؛ لأنه فيما رأيت ممن أكثر في هذه الموضوعات، وفاض فيها، وغاص في أغوار النفس، واستقرأ خطرات العقول، واستنطق شواهد الكتاب والسنة، ودقق في الاستنباط في معانيها، وضرب الأمثلة من الوقائع، فكان إحكامه لمثل هذا الأمر ومعالجته له على أبلغ ما يكون رحمة الله عليه، فيقول في شأن البيئة المحيطة: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن عداوته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوىً مردٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه؟ فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.

وكم من بيئة كلها قواطع وموانع من الطاعة والثبات عليها، وفيها مرغبات ومغريات ومنزلقات للوقوع في المعاصي والركون إليها.

الأمر الثاني: أن هذا الدين العظيم لا يصادم الفطرة ولا يعارض ما استكن وما استقر في نفوس الناس على ما خلقهم الله عليه، فإن في الفطر ميلاً طبعياً إلى الشهوات، وإن فيها حباً للنساء والأزواج وأنساً بالبنين ورغبة في جمع الأموال، وكل ذلك ليس محظوراً ولا ممنوعاً في الشرع، لكنه مضبوط بضوابط تسمو بالإنسان، ولا تجعله يقع فيما فيه مغبته وفساد حاله في الدنيا وخسرانه في الآخرة، إضافة إلى ما يقع عند التعدي على حقوق الآخرين وعلى أنظمة المجتمع، فلذلك كل فطرة وميل ورغبة لها في تشريع الله عز وجل ما يحققها بالقدر الكافي وبالأسلوب الطاهر النظيف وبالتشريع المحكم البليغ، فليس هناك مصادمة ولا معارضة.

الأمر الثالث الذي ينبغي أن نفهمه هو: أن الإنسان يتأثر بالبيئة وتدعوه نوازع كثيرة، قال عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] كل هذه في آثار البيئة تدعوه وتغريه وتزين له بعض ما قد يكون من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.

وكذلك هناك أمر ثانٍ وهو: أن طبيعة النفس البشرية غير المهذبة بالإيمان وغير المنضبطة بشرع الرحمن فيها غرس يميل إلى المعصية، ويهوى الهوى، ويرغب في الشهوات.

وهنا أشير إلى أن أكثر الكلام أنقله عن ابن القيم ، وقد كنت عزمت أن أجعل عنوان الموضوع: ابن القيم وكشف المعاصي؛ لأنه فيما رأيت ممن أكثر في هذه الموضوعات، وفاض فيها، وغاص في أغوار النفس، واستقرأ خطرات العقول، واستنطق شواهد الكتاب والسنة، ودقق في الاستنباط في معانيها، وضرب الأمثلة من الوقائع، فكان إحكامه لمثل هذا الأمر ومعالجته له على أبلغ ما يكون رحمة الله عليه، فيقول في شأن البيئة المحيطة: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن عداوته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوىً مردٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه؟ فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.

وكم من بيئة كلها قواطع وموانع من الطاعة والثبات عليها، وفيها مرغبات ومغريات ومنزلقات للوقوع في المعاصي والركون إليها.

ووصف ابن القيم الأمر الثاني وهو طبيعة النفس وما فيها من بعض العلل التي لا تبرأ منها إلا بالتزام الشرع وبتهذيب الإيمان وبتطهير وتمحيص الطاعات لله سبحانه وتعالى، فقال:

"في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل ، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود ، واستطالة فرعون، وبغي قارون ، وقحة هامان ، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل"، وهذه كلها هي من أوصاف من كانوا بارزين في أبواب عظمى من المعاصي.

ثم قال: "وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك كله، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند -يعني: من جند هذه الحيوانات وشاكلتها- ولا تصلح سلعته لعقد: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ [التوبة:111]"، أي: أن النفس الخبيثة لا يمكن أن تكون ثمناً للجنة، ولا أن تكون جزءاً من هذا العقد الرباني.

ثم قال: "فما للمشتري إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون".

إذاً: لكي نفهم أصل المسألة نعلم أن طبع النفس البشرية تميل إلى المعصية، والبيئة تحض أو تسهل أمرها، ومن هنا نعلم أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة كبيرة، ولذلك من هذا المنطلق ومن حكمة هذا التشريع قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) .

وليس للإنسان عصمة من المعصية إلا ما قضى الله عز وجل من عصمة الرسل والأنبياء، وإلا فإن كل إنسان قد يقع في المعصية قليلاً أو كثيراً نادراً أو غالباً، ولذلك إذا قُرر هذا فإن العلة والمصيبة والخطورة ليست في مجرد الوقوع في المعصية بقدر ما هي في استمرائها والاستمرار عليها وعدم الحذر منها إلى غير ذلك.

أشير إلى نقطة مهمة أيضاً في طبيعة المعصية وصلتها بالنفس الإنسانية: ينبغي أن نعلم أن هناك مداخل عظمى وبوابات كبرى إذا فتحت فقد انفتحت أبواب وأنواع وأصناف وألوان من المعاصي على الإنسان؛ لذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه: أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة:

أولاً: تعلق القلب بغير الله.

ثانياً: طاعة القوة الغضبية.

ثالثاً: طاعة القوة الشهوانية.

ثم فصلها فقال: وهي الشرك، الذي هو التعلق بغير الله، والظلم وهو القوة الغضبية، والفواحش وهي القوة الشهوانية. ثم قال: فغاية التعلق بغير الله الشرك، بأن يدعو معه إلهاً آخر، وغاية طاعة القوة الغضبية القتل، وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ ولذلك جمع الله بينها في قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68].

فهذه أسس هذه المعاصي: تعلق بغير الله، اندفاع مع القوة الغضبية يقع به الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، اندفاع مع القوة الشهوانية يحصل به إغراق وإسراف في الشهوات والملذات دون مراعاة للمنهيات والمحرمات، وهذه نماذجها: شرك، وظلم، وفواحش، نسأل الله عز وجل السلامة.

كيف تتسلل المعصية إلى الإنسان، وتدخل عليه، ويقع فيها دون أن يشعر في بعض الأحوال؟

أشار إلى ذلك ابن القيم أيضاً، وهذا من الأمور المهمة التي لها أثر كبير في فهم العلاج والوقاية من المعاصي، قال رحمة الله عليه: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها.

فانظر ما هو أول الإدمان: هو تلك الخاطرة التي تجول ولم تستقر في العقل، فإذا بالإنسان يردد نظره فيها، ويعمل فكره فيها، ويجيء بها ويذهب، فإذا بها تنتقل من خطرة إلى فكرة تعشعش في العقل وترسخ فيه، ثم إذا به يعمل عقله في تلطف الأسباب الموصلة إليها، وفي تخيل اللذة الحاصلة منها، فإذا بها تختلط بقلبه، فإذا بها شهوة قد أنست النفس إليها، ومال القلب إليها، وإذا بها بعد ذلك تصبح همة وعزيمة قد تهيجت مشاعره لها، وتحركت نفسه لفعلها، بل ربما قد شغلت عليه فكره كله؛ فلم يعد يسمع إلا ما يوصله إليها، ولا يرى إلا ما يربطه بها، ولا يتذوق إلا ما يعينه عليها، وعند ذلك في هذه اللحظات يحتاج إلى قوة حاسمة وإلى ردع قوي، وإلا فإنه يقع في الفعل، يعني: يقع في المعصية، قال: فتداركها بضدها؛ بالحسنات والاستغفار والتوبة، فإن لم تفعل صارت عادة يصعب عليك الانتقال عنها. ولينظر كل واحد إلى ما وقع فيه من المعاصي، فإنه سيجد أنها كانت على مثل هذا التسلسل، فالفطن اللقن والحريص المؤمن هو الذي يقطع الطريق من أولها؛ فلا يسمح للخواطر الرديئة ولا للأفكار الدنيئة أن تخالط عقله، ولا يشغل بها فكره.

ثم أفاض ابن القيم في مثال طويل فقال: مثال هذه الخواطر: كرجل يطحن برحى، فيضع فيها الحب والأشياء التي يطحنها، فينتفع بها ويأكل، فيأتيه رجل ومعه تبن وحصى وتراب يريد منه أن يطحنه في طاحونه، فإذا قبل ذلك أفسد ما كان يطحن من حب وطعام، وفسد الأمر كله، وإذا منعه فإنه يبقى سليماً، وذلك مثل الخواطر إذا جاءت وطحنها في العقل طحنت، ثم نزلت وتسربت إلى القلب، ثم انقلبت إلى فعل.

أي: أن الأفكار هي كل ما يطحن، فإن طحن تبناً جاء تبناً، وإن طحن حصىً جاءت حصىً، وإن طحن حباً نقياً نظيفاً جاء دقيقاً نقياً نظيفاً، فمن كان مفكراً في الخيرات، ودائماً تكون خطراته في الطاعات، فإن طاحونه ينتج همة لها، ورغبة فيها، وتعلقاً بها، وممارسة لها، وإدماناً عليها، ومبالغة في الاستكثار منها، ومن كان على غير ذلك في شأن المعاصي كان أمره إليها، وركونه وسكونه ومحبته وملذته فيها، نسأل الله عز وجل السلامة.

ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه سبحانه وتعالى.

أيها الأحبة الكرام! هذا الذي أشرت إليه، هدفت منه إلى أن نعرف طبيعة الإنسان في فطرته وبيئته ونفسه التي بين جنبيه، والتسلل الذي تدخل به المعاصي إلى نفسه وقلبه فترديه، نسأل الله عز وجل السلامة.

ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون حاسماً في هذه الأمور، فإن علاج الأمر والمرض في بداياته سهل يسير، أما إذا تمكن فإنه يحتاج بعد ذلك إلى وقت طويل، وإلى طبيب بصير، وإلى جراحة واستئصال، وربما فوق ذلك كله يكون قد استشرى المرض بحيث لا تنفعه كل الأدوية والعلاجات.

النقطة الثانية: فلسفة الذنب، وأعني بالفلسفة -حتى لا يعترض معترض- التحليل والتعليل لتقدير الذنب؛ فإن من الناس من تعرض له شبهة، فيقول: لأي أمر قدر الله وقوع الذنوب وحصول المعاصي؟ ولأي شيء يبتلي بها العباد؟ ولأي شيء زين الدنيا وزخرفها حتى خطفت الأبصار وسبت القلوب؟

نقول: كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر، وكل قدر له حكمة، وكل حكمة فيها رحمة ولطف منه سبحانه وتعالى، فلا يعجلن المرء في مثل هذا، وينبغي أن يعلم أن هناك حكماً كثيرة لتقدير الذنوب، وما ذكره أهل العلم منها إنما هو بقدر ما استنبطوا، وإلا فإن الإدراك لحكمة الله في أقداره أمر يعجز البشر أن يكونوا محيطين به إحاطة كاملة، ومن هذه الحكم: أن مجاهدة المعاصي من أعظم ما يقوي خوف العبد وذله لربه سبحانه وتعالى الذي ابتلاه بالشهوات والنزوات، فهو معها في حرب طاحنة، وكلما رأى عظم أثرها وخطورتها لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وخاف من العقوبة، وهذا في حد ذاته لون من ألوان العبودية لم يكن ليحصل لولا تقدير الذنب، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ ولذلك جاء من حديث أبي هريرة عند مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وبعض من ليس عنده بصيرة يقول: كأن دلالة الحديث تدعو من لم يكن عاصياً إلى أن يعصي حتى يرضى الله عنه؛ لأنه يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، وليس الأمر كذلك، بل هي أقدار الله التي تجعل العبد يعرف مقام عبوديته، ثم يعرف مقام ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ويعرف عجزه، فيلجأ إلى قدرة الله عز وجل، ويعرف ضعفه فيلجأ إلى قوة الله سبحانه وتعالى، ويعرف قلة حيلته فيلجأ إلى مكر الله وكيده، ويعرف فقره فيلجأ إلى غنى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الأمر حكم كثيرة؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

ومن حكمة تقدير الذنوب إظهار تأييد الله سبحانه وتعالى ونصره لأوليائه، وإظهار معجزاته في قهره وعقوبته لأعدائه، فنحن نرى حكماً وعبراً ودروساً عظيمة نشهدها، لكننا ربما نغفل عنها أو لا نعطيها حقها من التأمل، أفلسنا نرى أرباب المعاصي وعلى وجوههم ظلمة! ونرى كيف تحل بهم القواصم التي لم يكونوا يحسبون لها حساباً، ولا كان الناس يقدرون لها قدراً؟!

ألم نسمع ونقرأ في كتاب الله عز وجل عن قارون الذي بغى وطغى وقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] ثم خرج على قومه في زينته فكان العقاب: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]؟! وعلى مرأىً من الناس أظهر الله عز وجل قدرته، وفي ذلك ما فيه من المنافع والمصالح التي تجعل الناس يعرفون الحق فيقبلون عليه، ويعرفون الباطل فيحذرون منه، ويعرفون آثار المعاصي الوخيمة وآثار الطاعات النافعة المفيدة، فهذا أيضاً من الحكم.

ومن ذلك ظهور أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما أفاض في ذلك ابن القيم وابن تيمية وصاحب شرح الطحاوية وغيرهم، فإن من أسمائه سبحانه وتعالى التواب، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الغفار، كما أن العزيز والجبار والقهار من أسمائه سبحانه وتعالى، فكيف يكون غفاراً وليس ثمة مذنب؟ وكيف يكون تواباً وليس ثمة تائب؟ فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى.

وكذلك في تقدير الذنب من الحكم أن فيه إبطالاً لدعوى القائلين بالجبر، وهم الذين يقولون: إننا مجبورون، فإذا كنا كذلك فلا حساب علينا!

فهذا الاختيار جعله الله عز وجل امتحاناً وابتلاءً، كما قال سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وتقدير المعصية والطاعة فيه بيان لهذا الابتلاء والامتحان، وإلغاء وإبطال لشبه أهل الجبر والاضطراب؛ ولذلك كتب ابن القيم مقالات نفيسة تبين مثل هذا الأمر، وفيها ما نحتاج بالفعل إلى أن نعيد النظر فيها، لا تهويناً لأمر الذنوب، ولكن فهماً لحكمة تقديرها وابتلاء الناس بها، يقول ابن القيم وكان الله يخاطب آدم عليه السلام: يا آدم! كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك، أي: قبل أن تسبق من آدم معصية ما كان يشعر بأنه مفتقد إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، وزاد ذلك توضيحاً فقال: يا آدم! لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك؛ فطنت فيها لعدوك، وعرفت مكمن الخطر الذي يتربص بك. وهذا أيضاً من حكمة تقدير الذنب، فقد استخرج الله منك داء العجب، وألبسك خلعة العبودية.

وأضرب لذلك مثالاً: لو أن مدرساً يدرس طلاباً على مستوىً عالٍ من الفهم والذكاء والحفظ والفطنة، وكان لا يسأله أحد منهم ولا يخطئ واحد منهم في إجاباته، فهل ترون هذا المدرس يكون سعيداً بهذا؟

إذا لم يكن منهم خطأ مطلقاً، ولا سؤال أبداً، فكأنه لا قيمة له، وكأن هؤلاء قد استغنوا عنه، لكن قيمته تظهر عندما يكون هؤلاء على مستوىً عال من الفهم والإدراك والحفظ والفطنة والذكاء وغير ذلك، ثم هم يفتقرون إليه ولو في أقل القليل، فإن ذلك يشعره بمنزلته كأستاذ لهم، ويعرفون أنهم طلاب له، ولله المثل الأعلى فإن العبد إذا لم يكن عنده شيء من الغفلة ولا المعصية فإنه يدل بطاعته على ربه ومولاه، ويقول: أنا لم أعص، وإنما أفعل دائماً الطاعات، فكأنه يستشعر -عياذاً بالله- منة منه على ربه ومولاه سبحانه وتعالى، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] أي: لا تستكثر شيئاً تعمله في طاعة الله تمن به على الله سبحانه وتعالى، فالله أمن وأجل.

قال أهل العلم: إن في تقدير الذنب ما يشعر الإنسان بأن نعم الله عليه أكثر مما يستحق، فإنه عندما يرى ذنوبه يقول: كيف لطف الله بي، أنعم علي، وأنا على مثل هذه المخالفات؟! فإذا وفق للطاعات رأى أن ما أنعم الله به عليه أكثر مما قدم من هذه الطاعات، فلا يزال مستشعراً نعمة الله حال طاعته وحال وقوعه في الذنب، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه في الحديث عن آدم: تالله ما نفعه عند معصيته عز: ( اسجدوا ) العز الذي جعله الله له عندما قال للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] ، ولا شرف: ( وعلم آدم ) الشرف الذي ناله عندما قال الله له: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، ولا خصيصة: ( لما خلقت بيدي ) لما قال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ولا فخر: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] كل هذه المزايا ما نفعته، وإنما انتفع بذل: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] .

فتأمل كل تلك الأمور التي كانت أمور علو ورفعة، فقد يدخل العجب فيها إلى نفس الإنسان، أو إلى ما كان من آدم عليه السلام، حيث علمه الله عز وجل وخصه بأن خلقه بيديه، وشرفه بأن نفخ فيه من روحه، وعظمه بأن أسجد له ملائكته، كل ذلك أمر آخر، لكن عندما وقع في المخالفة والمعصية جبلة وفطرة وقضاءً وقدراً وحكمة من الله بالغة رجع إلى ربه كما حكى الله عنه: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] ، وكما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37].

يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لما كان وقوعه في الذنب -أي: العبد- ليس اجتراءً على سيده، ولكنه ضعف النفس وغفلة الهوى واستزلال الشيطان علمه كيف يتوب إليه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] فالذي عصى هو آدم عليه السلام حيث وقع في الاجتراء والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، لكن لما وقع حصول الندم والذل لله عز وجل من قبل آدم علمه الله سبحانه وتعالى الكلمات التي يتوب بها إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يذلوا له، وأن يفتقروا بين يديه، وأن يتضرعوا إليه، وأن يكونوا مستشعرين دائماً لعبوديتهم له، ولربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى، وأن نفهمه، ولذا قال ابن القيم : لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.

وانظروا الآن إلى من كانت عنده بعض الطاعات وقلت عنده المعاصي، فإن لم يكن حذراً وإن لم يكن متيقظاً فإنه يعلوه العجب، ويخالط نفسه الغرور، ويكون غروره وكبره هو حتفه وخسارته، ولا تنفعه تلك الطاعة التي رافقتها هذه الخلال الذميمة، كما أن المذنب عندما يستشعر الخطأ والاجتراء على عظمة الله عز وجل فيندم يكون أقرب إلى الله عز وجل من ذاك الطائع إذا تكبر، ولذلك قال ابن القيم : لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.

وذنب يذل به العبد أحب إلى الله تعالى من طاعة يدل بها عليه، ولذلك قال ابن القيم : شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار، إذا لم تنكسر لله عز وجل وتمرغ الجبهة وتذرف الدمعة ندماً وخوفاً ورغبة فيما عند الله عز وجل فما وقعت من أمر العبودية على الأمر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه.

وليس فيما ذكرت تهوين للذنب، وإنما بيان للحكمة البالغة التي جعلها الله عز وجل فيه.

ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة وهي ما تتعلق ببعض أسباب المعاصي، ولست أريد أن أفيض في الأمور المعروفة من مثل ضعف الإيمان ووهن اليقين الذي يكون في نفوس العاصين، فإن ذلك أكبر وأظهر من أن يشار إليه، ولكني أشير إلى بعض ما أظنه دارجاً في حياتنا ومتمكناً في سلوكياتنا ومستولياً على نظراتنا تجاه هذه المعاصي، ولعل من أخطره إلف المعصية، فإذا ألفها الإنسان، فإن ذلك يكون مثل قضية الإدمان؛ فإن الذي يشرب كأساً -عياذاً بالله- من الخمر تجره إلى غيرها وإلى غيرها، ثم لا يرى بعد ذلك هذه الأمور إلا سهلة هينة، وكذلك إذا ألف هذه المعصية فإنه يكون من أعظم أسباب وقوعه فيها، ومن أعظم أسباب بقائه عليها، ومن أعظم أسباب منعه من فعل الأسباب التي تجعله يقلع منها، والتي تحمله على أن يبتعد عنها، ولذلك كان بعض السلف رحمة الله عليهم يقول: والله! لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قل أن تتأثر به، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: شيئاً فشيئاً، وفي بعض الروايات: (عَوداً عَوداً) يعني: مرة بعد مرة (فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) ثم في آخر الحديث ذكر أن القلوب تصير قلبين: (أحدهما أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والعياذ بالله!

إلف العقوبة سبب في للوقوع في المعاصي

ومن أسباب المعصية أيضاً: إلف العقوبة، ليس إلف المعصية فحسب، بل إلف العقوبة، فهو يقع في المعصية ويبتليه الله عز وجل ببعض العقوبات فيألفها ويقبلها ولا يلتفت إلى كونها عقوبة، فيكون هذا كحال المريض الذي يعلم خطورة المرض ويعلم ما سيؤدي إليه، ثم يستمر فيه، ومثل هذا لا شك أنه أحمق، ولذلك يقول ابن الجوزي: "واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض"، يرى نفسه -عياذاً بالله- قد عصى وما مسخ قرداً ولا خنزيراً، ولا خسف به ولا أحرق ماله، ولا وقع له شيء من ذلك، فيظن أنه قد أمن العقوبة، وما يعلم أن هناك عقوبات قد جاءته من حرمان علم ومن منع رزق وغير ذلك دون أن يفطن لها، بل تقبلها على أنها أمر معتاد لا شيء فيه، وهذا لا شك أنه من الأمور الخطيرة.

الغفلة سبب من أسباب الوقوع في المعاصي

ومن أسباب المعاصي أيضاً: الغفلة، أي: الغفلة التي يغفل فيها الإنسان عن حقيقة هذه الحياة الدنيا وحقيقة وجوده فيها، وحقيقة عظمة خالقه وربه ومولاه، وحقيقة ما تنتهي إليه هذه الدنيا من زوال وفناء، وحقيقة الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والصراط وزلاته، وهذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والوقائع اليومية كلها زواجر ومذكرات، ومع ذلك كأن على قلوبنا وعلى عيوننا أكواماً وأكواماً وأكواماً من الحواجز التي لا تجعلنا نبصر ولا نتبصر، نسأل الله عز وجل السلامة، كأنما يصح في كثير من العاصين أنهم لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، وكأن الإنسان قد عطلت حواسه فغدا أعمى أصم أبكم أكسح أشل كأنه لا يدرك شيئاً في هذا الوجود.

هذه الغفلة إنما تأتي من سكرة الهوى، وإنما تأتي من لذة الشهوة، وإنما تأتي من موت القلب، وإنما تأتي من إلف المعصية وإلف عقوبتها، فيظلم القلب بها، ويغدو المرء -عياذاً بالله- يسمع الآيات تندك لها الجبال ولا يكترث لها، ويرى الأحداث والزلازل والوقائع والفتن والمحن -وكلها عقوبات- والمذكرات من الله عز وجل وكأنه في وادٍ آخر، وكأنه غير مخاطب بهذه الآيات ولا معني بهذه الحوادث ولا معاقب بهذه الأقدار، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فهو في ذلك الوقت قد طغت عليه غفلته عن الله عز وجل وعن عقوبته وعن حقيقة ما يرتكب من المعصية، وعن حقيقة ما يجترئ عليه من حرمة الله عز وجل ومجاهرته بالمعصية، ولا يشك الإنسان أنه غافل مثل الإنسان المخدر الذي يكون قد شرب مسكراً أو مخدراً فإنه لا يعي من أمره شيئاً، ويهرف بما لا يعرف، ويفعل ما لا يقدر، ولذلك فإن حال العاصي كحال هذا المدمن المخدر الذي لا يدرك شيئاً مما يفعل، نسأل الله عز وجل السلامة.

تذكر حلاوة المعصية من أسباب معاودتها

ومن أسباب وقوع الناس في المعاصي تذكر الذنب وحلاوته، فعندما يبتعد عن المعصية وعندما يقلع عن الذنب ولو لم يكن قاصداً لذلك، وإنما ألجأته الظروف فسافر في عمل فبعد عن بعض معاصيه وشهواته أو كذا أو كذا، فإن الذي يدفعه مرة أخرى إلى تلك المعاصي هي اللذة التي ما يزال عقله يرددها عليه ويصورها له، فيهيج نفسه إلى معاودتها، كحال الإنسان إذا أكل أكلة طيبة دسمة حلوة لذيذة فإنه ربما كلما ذكرها تحلب ريقه مرة أخرى، وانبعثت نفسه إلى مثلها.

وكذلك الإنسان ينبغي له ألا يورد على نفسه تلك اللذائذ، بل ينبغي له أن يصورها في نفسه تصويراً قبيحاً، ويتصور الآثار الوخيمة في مثل هذه المعاصي.

تلك هي بعض الأسباب التي تجعل الناس يقعون في هذه المعاصي، ويتشبثون بها أو يقيمون عليها.

ومن أسباب المعصية أيضاً: إلف العقوبة، ليس إلف المعصية فحسب، بل إلف العقوبة، فهو يقع في المعصية ويبتليه الله عز وجل ببعض العقوبات فيألفها ويقبلها ولا يلتفت إلى كونها عقوبة، فيكون هذا كحال المريض الذي يعلم خطورة المرض ويعلم ما سيؤدي إليه، ثم يستمر فيه، ومثل هذا لا شك أنه أحمق، ولذلك يقول ابن الجوزي: "واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض"، يرى نفسه -عياذاً بالله- قد عصى وما مسخ قرداً ولا خنزيراً، ولا خسف به ولا أحرق ماله، ولا وقع له شيء من ذلك، فيظن أنه قد أمن العقوبة، وما يعلم أن هناك عقوبات قد جاءته من حرمان علم ومن منع رزق وغير ذلك دون أن يفطن لها، بل تقبلها على أنها أمر معتاد لا شيء فيه، وهذا لا شك أنه من الأمور الخطيرة.