خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
أيام معدودات وليال محدودات
الحلقة مفرغة
الحمد لله عالم الخفيات، رب الأرض والسماوات، أنزل الرحمات، وأفاض البركات، وزاد الخيرات، وجعل لعباده في أيام دهره نفحات، تمحى فيها السيئات، وتضاعف الحسنات، وترفع الدرجات، فله الحمد ملء الأرض والسماوات، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الرسول المجتبى، والنبي المصطفى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! في الجمعة الماضية كنا نقول عما قريب نستقبل العشر، واليوم نقول: قد مضى نصفها، وعما قليل يودع رمضان، تنتهي أيامه، وتقوض خيامه، عما قليل يؤذن بالرحيل، نفتقد من بعده كما هو غالب الحال الصلوات الخاشعة، والدعوات الضارعة، والتلاوات المرتلة، والمساجد الممتلئة، والنفقات المتكاثرة، والزيارات المتواصلة، نفتقد من بعده قلوباً مشرقة بالإيمان، ونفوساً مطمئنة باليقين، وجوارحاً مشغولة بالطاعة، نفتقد من بعده خيراً كثيراً، فأي شيء نقول في هذا المقام؟!
إنها أيام معدودات، وليال محدودات، لا تتصور أن بها نهاية رمضان، بل تخيل أنها نهاية عمرك، أو أنها نهاية الدنيا كلها، لو قيل لك: لم يبق إلا هذه الأيام، وسوف تطوى صفحات حياتك، وتلفظ أنفاسك، وتودع دنياك، وتوضع في قبرك، وتقبل على ربك ما الذي ستفعله؟
هل ستبقي وقتاً للنوم الطويل والراحة المديدة؟
هل ستخصص زماناً للنزول إلى الأسواق، والجلوس مع الأصحاب؟
هل ستبقي جهداً وفكراً لتحصيل مزيد من الأموال، وتكثير مزيد من الأرصدة، ولحاق أسواق الأسهم قبل إغلاقها، والبنوك قبل إقفالها؟
هل سيكون شيء من ذلك؟ أم أنك لن تجد مطلقاً شيئاً يشغل بالك، ولا يقلق همك، ولا يملأ قلبك إلا ما ينبغي أن يكون من إقبالك على الله، وعدّ الدقائق بل الثواني لكي تملأها بشيء ينفعك بين يدي الله عز وجل، نعم لم يبق إلا خمسة أيام وأربع ليال قد تزيد يوماً وليلة، وقد لا يكون إلا ذاك، والزمن إذا مر لا يعود.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
الوقت الذي بدأنا به هذه الخطبة لن يعود، اليوم الذي مضى لن يكرر (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ويقول: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وإذا ذهبت فلا أعود أبداً).
تصور ذلك إن أردت لنفسك خيراً، وأردت أن تكون هذه الأيام أياماً غير أيام الدنيا كلها؛ لأنها الأيام الأخيرة التي تتصور أنه ليس لك بعدها حياة، وليست عندك بعدها فرصة عمل: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك).
وجوب المبادرة بالأعمال الصالحة
إلى متى (سوف)؟ وإلى متى (لعل)؟ وإلى متى (غداً)؟ وإلى متى (في الموسم القادم)؟ وهل يضمن الإنسان عمره؟ هل يستطيع أحد أن تكون عنده وثيقة بأنه باق إلى رمضان القادم ليعوض ما فات، ليستدرك ما نقص، ليحيي قلبه بعد الموات، ليرجع من غفلته إلى ذكر ربه؛ قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] خاطبنا الله جل وعلا، فعندما أمرنا وحثنا وذكرنا بأن نأخذ حظنا من الدنيا فأي شيء قال؟
وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77] لكن ما الغاية؟ ما الأمر الأساسي؟ ما المحور الجوهري؟
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77] ذلك نصيب محدود قد تنساه إن علقت قلبك بالله عز وجل، فكيف بك وهو محور حياتك، وأوكد همك، وأعظم شغلك، ومستنفذ جهدك، ومستغرق وقتك، حتى كاد قلبك ألا يكون فيه مكان للآخرة، ولا اعتبار بموعظة، ولا تذكر لنهاية الحياة بالموت؟
ففروا إلى الله
إذاً: لو تأملنا ذلك لوجدنا أننا في حاجة إلى أن نفر إلى الله؛ لأنه عندما دعانا لكسب الدنيا قال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] مشي بقدر وقت نكتسب فيه العيش، قال: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، لكنه عندما دعانا إلى الآخرة، عندما حثنا إلى طريق الجنة لم يقل ذلك جل وعلا، بل قال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].. سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21].. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].. وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] إنه ميدان سباق ليس فيه مشي ولا سعي ولا جري، بل هو أعظم من ذلك.
ثم لما بين الحق جل وعلا لنا الأمر إذا ضاقت المشارب وأظلمت الدنيا، وإذا وجد المرء نفسه كما هو حاله في كل آن ضعيفاً يحتاج إلى مدد من القوة، عاجزاً يحتاج إلى مدد من القدرة، فقيراً يحتاج إلى عطاء من عطاء ذي الجود والكرم سبحانه وتعالى، جاء الخطاب بقوله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] إنه أمر عظيم، إنه خوف يدفعك إلى الفرار، إنها نار تدفعك إلى الفرار، إنه مصير يدفعك إلى الفرار، فإلى أين المفر؟ وأين المهرب؟ وكيف النجاه؟ وأين طريقها؟
إنه لا ملجأ من الله إلا إليه، لا بد أن تقر هذه الحقائق في قلوبنا .. في نفوسنا .. أن ندرك أنه لا بد لنا من الله، وأن نكون بالله .. ومع الله .. ولله .. وفي الله، تكون حياتنا كلها كما قال الحق عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] هل أنفاسك، هل أوقاتك، هل أموالك، هل أزواجك، هل أولادك؛ كلها لله أم أن حظ النفس قد غلب؟ وأبواب الرحمة في هذا الشهر، وأبواب الجنان مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مصفدة، والغفلة مع ذلك مستحكمة، والتكاسل عن الإقبال إلى الطاعات سمة ظاهرة، متى يفيق النائمون؟ متى يستيقظ الغافلون؟ متى ينشط المتكاسلون؟ متى يقبل المعرضون؟
متى الرجوع إن لم يكن في مثل هذه الأيام، في مثل هذه الخمس الباقيات من شهر البر والإحسان، شهر الذكر والقرآن، شهر المسارعة إلى الجنان، شهر جعل الله له باباً مخصصاً في الجنان وهو باب الريان، إذا لم يكن الرجوع هذه الأيام فمتى نفعل ذلك؟
إن المرء ليعجب من نفسه، وإن الإنسان ليفكر في حاله، لا شك أن هذه الحال قد سرى إلى قلوبنا فيها موات إلا ما رحم الله، وإلى نفوسنا كدر وظلمة إلا ما رحم الله، فعلينا أن ننعى أنفسنا، أن نتذكر ولو على أقل تقدير في هذه الأيام الباقيات، فروا إلى الله .. فروا إلى التوبة من ذنوبكم .. فروا منه إليه واعملوا بطاعته .. فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن .. فروا مما سوى الله إلى الله.
والفرار إليه فرار من كل ما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً من الجهل إلى العلم .. من الكفر إلى التوحيد .. من المعصية إلى الطاعة .. من الغفلة إلى الذكر، كل شيء يحتاج في حياتنا إلى تبدل، نحتاج أن نشعر أن وراءنا ما يلحقنا، ويوشك أن يدركنا، أرأيتم إذا خاف الوليد الصغير ماذا يصنع؟
إنه يفر سريعاً إلى أمه فإذا وصل إلى حضنها اطمأن .. أفضى بهمه .. رفع صوته بالبكاء .. وجد الصدر الحنون، وجد اليد الحانية، ولله المثل الأعلى، وسعت رحمته كل شيء، وقال: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] والله سبحانه وتعالى كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم قد سبقت رحمته غضبه.
أنموذج نبوي للفرار إلى الله
إنها مسألة مهمة، إنه لا بد لنا أن نتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، تأملوا الدعوات التي نكررها أحياناً مما حفظنا من دعوات المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
تأمل هذه الكلمات لتشعر أنك محاط بكل ما يذكرك بالله إن كان قلبك حياً بالإيمان بالله:
(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، إن خفت سخط الله ففر إلى رضاه، (وبمعافاتك من عقوبتك)، إن خفت العقوبة فاطلب العفو منه، فهو سبحانه وتعالى العفو الكريم، وعذ به منه سبحانه وتعالى؛ فإنه لا منجى ولا ملجأ لك منه إلا إليه سبحانه وتعالى.
تلك كلمات نطق بها الإيمان واليقين على لسان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38] من ذا الذي يملك لك من الله شيئاً؟! من ذا الذي يمكن أن يعطيك شيئاً لم يكتبه الله لك، أو أن يمنع شيئاً قد كتبه الله لك؟! تلك الوصية التي قالها النبي لغلام صغير؛ لأن القلوب كانت مؤمنة، والنفوس كانت حية: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إن لم يكن أحد يقدم أجلاً ولا يؤخر، إن لم يكن أحد يقدر رزقاً ولا يقتر، فأي شيء يجعلنا نتعلق بهذه الحياة أو بأولئك الأحياء؟ لم لا يكون التعلق بالله ونحن نودع هذا الشهر في الأيام القلائل، والليالي المعدودات، والزمن المحدود، والثواني التي سوف تنقضي شيئاً فشيئاً!
نداء للظلمة ليفروا من مظالمهم إلى الله
أيها الغافلون! فروا إلى الله بذكره، بدعائه، بتلاوة آياته، بالتضرع بين يديه، فإن لم تفعلوا فيما مضى من الأيام فبقيت هذه الأيام، إن فاتت يوشك ألا ترجع، إن مضت يوشك ألا تعود، ويوشك أن تعود وأنت في حال سقم، أو في حال لا تستطيع فيها أن تؤدي ما تستطيعه اليوم، فلماذا التسويف؟ ولماذا التأخير؟ ولماذا هذا التكاسل والتراخي؟
أيها الظالمون! الذين ظلمتم واعتديتم كيف تصلون وتصومون وتدعون وأنتم عن الظلم لا تقتصرون؟ فروا إلى الله بترك المظالم وإرجاعها إلى أهلها، والبراءة منها قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
أيها الأزواج الظالمون لأزواجهم! فروا إلى الله بحسن العشرة، بالعدل والإكرام، وإيفاء الحقوق، وإدخال السرور، فإن معاملة الخلق طريق إلى معاملة الخالق، روى أبو هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل سؤالاً عظيماً وقال: (يا رسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة)؟
هل هناك سؤال أعظم من هذا وأجل؟ هل هناك شيء ينبغي أن يكون محور تفكيرنا وشغل بالنا أكثر من هذا وأعظم؟
جاءت الإجابة في كلمتين موجزتين من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق)، معاملة الناس، الإحسان إليهم، كف الأذى عنهم فرار إلى الله غداً.
يا من أخذت المال! يا من اعتديت بالضرب! يا من أسأت بعنيف القول وغليظه! غداً يقتص منك، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء)، يعني: يقتص من الشاة التي لها قرون ونطحت شاة لا قرون لها يوم القيامة، فكيف بمن أكل الحقوق؟ كيف بمن استولى على الأموال بغير حق؟ كيف بمن ظلم أهله أو زوجه أو أبناءه؟ فروا إلى الله، فإنها أوقات مباركة، وليال فاضلة، وأواخر فيها عتق من النار، فيها إدراك لليلة القدر، فيها ختام شهر يعتق الله عز وجل من النار من شاء ممن أخلص وأقبل عليه سبحانه وتعالى.
نداء للكسالى ليفروا إلى الله
أين الذين يبكرون إلى الجمعة؟ إننا نراهم وهم يأتون تباعاً متأخرين؛ لأن هناك ضعفاً، ولأن هناك عدم استشعار بأن الأمر جد، وأن الخطب عظيم، وأن الكرب جسيم، وأن الأمر أكثر وأعظم من أن يسوف فيه أو يؤجل له.
كثيرة هي المعاني التي نشعر بها في واقعنا، ونرى أنها صورة تعكس شيئاً من المعاني الضعيفة الهزيلة في نفوسنا مما ينبغي أن يغير ويبدل، ولو نظرت لرأيت ضعفاً عظيماً، ولرأيت تراخياً مستغرباً مستهجناً من مؤمن يدرك أن الأمر جد، وأن الحياة قليلة، وأن الأيام منتهية، وأن الإقبال بين يدي الله عز وجل قريب عاجلاً أو آجلاً: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
اليوم تستطيع وغداً لا تستطيع، اليوم أنت في الحياة، وغداً أنت تحت طباق الأرض في عداد الأموات، كم ودعنا في هذه الأيام الماضية من أقارب أو أصدقاء! أليسوا كانوا يؤملون ويؤملون ويقولون: سنفعل في العشر، وسنفعل في آخر الشهر، أين هم اليوم؟ وأين سنكون نحن بعد لحظات أو بعد أيام؟
الله عز وجل وحده عالم بهذا.
أيها المقصرون! متى على الله تقبلون؟ أيها المعرضون! متى عن شرودكم تنتهون؟ فروا إلى الله عز وجل من كل شيء لا يحبه ويرضاه إلى كل أمر يحبه ولا يرضاه.
نداء للغارقين في الشهوات ليفروا إلى الله
أيها الجاهلون! الذين لا تعلمون شيئاً من كلام الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تعرفون الله بذاته وأسمائه وصفاته كما عرفها لكم في كتابه، لأنكم منقطعون عن العلم لا تسمعونه، لا تقرءونه، لا تطلبونه، وتنشغلون بكل شيء من اللهو! فروا إلى الله بالعلم به، والتذكر له، والإقبال عليه، والمعرفة له بكتابه، وبما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسوفون الذين يمدون الأمل طويلاً طويلاً! فروا إلى الله باليقين بأن الأجل يقطع الأمل ويعترضه، فتعود الآمال كلها متبددة، ينبغي لنا أن نعيش ذلك، وأن نستشعره، وأن يكون صورة ذلك الفرار إلى الله قلباً معلقاً بالله، وعيناً دامعة من خشية الله، ولساناً رطباً بذكر الله، وأقداماً ساعية لمرضاة الله، وأيدي عاملة بأمر الله، وحياة مغمورة معمورة بكل ما يرضي الله؛ ليكون من وراء ذلك قلب مطمئن بالله، ونفس راضية بقضاء الله، وجوارح معافاة بأمر الله، وبركة في الرزق والمال من فضل الله، تتحول الحياة كلها من جحيم إلى نعيم، من شقاوة إلى سعادة، من ضيق إلى سعة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
ينبغي لنا أن ندرك أن هم قلوبنا، وضيق صدورنا، وكدر عيشنا، وغم حياتنا إنما هو لأننا لسنا مع الله كما ينبغي، فإن فعلنا ذلك كان الأمر على غير ذلك بإذن الله عز وجل، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق في هذه الأيام الأمل فيما بقي منها، فإن فيها خيراً كثيراً، وإن فيها فرصة عظيمة، لا ينبغي أن يكون فيها شيء من غفلة، ولا كسل، ولا تراخي، ولا انشغال بغير مرضاة الله وطاعته.
لا تقل لي: قليلاً من هنا .. وقليلاً من هنا، فإن الوقت أعظم وأجل، وإن الخطب أكبر وأدهى من أن يقبل مثل هذه الشركات، لا بد لنا من حرص تام وإقبال عظيم يمثل هذه الصورة في الأمر الرباني الكبير: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] لو أن النذير وراءنا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وجمع بين الأصبعين) كم مقدار تلك المسافة؟ نعم زادت مئات وآلاف من الأعوام لكنها في عمر الزمان قليلة، وكل أحد بانتهاء حياته وإقبال مماته، تلك هي الحقائق التي نغفل عنها ولا نكاد نتذكرها، لا تحيا بها قلوبنا، ولا تتأثر بها نفوسنا، قد تتكلم بها ألسنتنا كما أتكلم، لكننا والحال إلا من رحم الله ليست كما ينبغي أن يكون في حقيقة بواطننا، وفي ظواهر أعمالنا وأحوالنا.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعيننا على طاعته ومرضاته، وأن يحسن ختام شهرنا، وأن يمن فيه علينا بالمغفرة والرضوان، والعتق من النيران، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
إذاً: لا بد من المبادرة: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً.. -إلى أن قال:- أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
إلى متى (سوف)؟ وإلى متى (لعل)؟ وإلى متى (غداً)؟ وإلى متى (في الموسم القادم)؟ وهل يضمن الإنسان عمره؟ هل يستطيع أحد أن تكون عنده وثيقة بأنه باق إلى رمضان القادم ليعوض ما فات، ليستدرك ما نقص، ليحيي قلبه بعد الموات، ليرجع من غفلته إلى ذكر ربه؛ قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] خاطبنا الله جل وعلا، فعندما أمرنا وحثنا وذكرنا بأن نأخذ حظنا من الدنيا فأي شيء قال؟
وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77] لكن ما الغاية؟ ما الأمر الأساسي؟ ما المحور الجوهري؟
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77] ذلك نصيب محدود قد تنساه إن علقت قلبك بالله عز وجل، فكيف بك وهو محور حياتك، وأوكد همك، وأعظم شغلك، ومستنفذ جهدك، ومستغرق وقتك، حتى كاد قلبك ألا يكون فيه مكان للآخرة، ولا اعتبار بموعظة، ولا تذكر لنهاية الحياة بالموت؟