صفحات من سيرة المصطفى


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، له الحمد سبحانه وتعالى هو الكريم الوهاب، وهو الغفور التواب، نحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! عود إلى صفحات من التاريخ، تميزت باختصاص عظيم، وجعلت قدوة وعبرة ونفعاً وفائدة للمسلمين، صفحات من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تشدني إليها كلما جاء شهر شوال وهو الشهر الذي وقعت فيه غزوة أحد من العام الثالث للهجرة، وكلما قلبنا صفحات هذه الغزوة وجدنا أن فيها سفراً عظيماً للدروس والعبر التي تقوّم اعوجاج مسالكنا، وتحيي وتقوي ضعف إيماننا، وتثبت مواضع أقدامنا، وتكشف ما وراء المظاهر إلى حقائقها.

تهيؤ قريش لغزو المدينة

ولست اليوم أتحدث عن أحداثها، غير أني أتحدث عن مقدماتها؛ لأنها مقدمات تكشف لنا عن حال المجتمع المسلم، ما الذي كان في القلوب والنفوس؟! ما الذي كان في الخواطر والعقول؟! كيف كان ذلك المجتمع ينتبه ويلتفت نظره إلى ما حوله؟!

هل كان منكفئاً على نفسه غارقاً في ذاته؟! هل كان متعلقاً بأمنه وسلامته فحسب؟! هل كان يدرك ما حوله وينتبه له أم لا؟! وكيف كان التفاعل مع ذلك؟!

لا شك أننا جميعاً نعلم كيف كان التهيؤ لهذه الغزوة من قبل قريش أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك.

بعد أن انجلى غبار بدر بما كان فيه من ظفر ونصر لأهل الإسلام والإيمان، وما كان فيه من هزيمة عظيمة لأهل الكفر والطغيان، سعى أرباب قريش كـعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، ممن قتل آباؤهم وأقرباؤهم؛ سعوا إلى أبي سفيان ، وإلى من كان له مال في تلك القافلة التي نجت، وقالوا: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فما عليكم أن تعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا أن ندرك ثأرنا بمن أصاب منا.

ففعلوا، ودخل معهم أحابيشهم وهم الذين كانوا في حلف مع قريش، وانضوى معهم بعض قبائل كنانة وبعض أهل تهامة، بل ذكر الواقدي في مغازيه: أنه اجتمع معهم مائة نفر من ثقيف، واحتشد أولئك جميعهم في ثلاثة آلاف رجل، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة درع، وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح ما أوعبوا.

ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن قريشاً اليوم حاضرة كما هي بالأمس، وقد ألبت وأجلبت لثأرها من أمة الإسلام، ولئن جمعت قريش ثلاثة آلاف ومائتي فرس وثلاثة آلاف جمل أو نحو ذلك، فقد جاء القوم اليوم بمئات الآلاف من الجند والطائرات الخارقة وغير ذلك مما تعلمون، وأنفقوا لأجله الأموال، وجيشوا لأجله الجيوش، والله جل وعلا يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

رسالة العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشأن قريش

نعم! لقد أعدوا عددهم وشغلوا وسائل إعلامهم وحشدوا جيوشهم، وقالوا مقالة سابقيهم: لتدركوا ثأركم ولتوقفوا مسيرة هذا الدين الذي غزاكم في عقر دياركم، ذلك كان حال قريش، فأي حال كان حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ هل كانوا غارقين في شهواتهم، ملتهين بملاعبهم ومسارحهم وغير ذلك مما نعلمه اليوم؟!

روى أهل السير: أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم برسالة سرية مع رجل قطع المسافة في نصف المدة أو أقل يخبره بتجهز قريش، وكان مما جاء في رسالته: إن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه الآن.

تهيأ قبل أن يأتوا إليك، واستعد قبل أن يطرقوا بابك، وتجهز قبل أن يكونوا في أرضك، وقد توجهوا إليك في ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس ومعهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف من الإبل، وقد أوعبوا من السلاح، أي: قد جمعوا ما لديهم من السلاح كله، هل اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟

لقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة لـأبي بن كعب فقرأها عليه، فقال: اكتم الخبر، ثم مضى إلى سيد الأنصار وأخبره الخبر وقال: اكتم عني ذلك.

الاستخبارات النبوية تأتي بأخبار قريش وجيشها

ثم لما تقارب الأمر وحل الجيش قام النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الحباب بن المنذر قبل الغزوة عندما وصلت قريش إليهم، وقال له عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم وائتني بخبرهم، ولا تخبرني بخبرهم بين أحد من المسلمين، قال: فدخل فيهم وحزر ونظر وجاس بينهم.

وهذا من شجاعته من جهة، ومن فرط ذكائه وحسن حيلته وتدبيره من جهة، ثم انظروا إلى التقرير الاستخباراتي الذي جاء به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: يا رسول الله! والله لقد رأيت أعداداً حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ومعهم أفراس حزرتها مائتين من الخيل، ومعهم أدرع حزرتها سبعمائة، وإبل حزرتها ثلاثة آلاف، ثم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت معهم الظعن -أي: النساء-؟ قال: نعم يا رسول الله! رأيتهم ومعهم الدفاف والأكبار -أي: الطبول والدفوف- فقال صلى الله عليه وسلم: أردن أن يحركنهم وأن يذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، ثم قال له: لا تذكر مما قلت شيئاً ولا حرفاً، ثم قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول).

إنه الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والثقة به، والالتجاء إليه، إنه اليقين الذي لا يتزعزع معه قدم، ولا يطيش معه عقل، ولا يخالج النفس منه اضطراب، ولا يداخل القلب منه خوف، إنه علم لمعرفة الحقيقة لا ليكون أثرها الوهن والضعف والخذلان، بل ليكون أثرها من قوة الإيمان وعظمة اليقين، مع شدة وصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى: (اللهم بك أجول وبك أصول) هذا كان شعار المصطفى صلى الله عليه وسلم.

تلك مقدمات تبين لنا اليقظة والانتباه والرصد وجمع المعلومات، وتبين أن أعداء الحق لا يفترون ساعة ولا تتوقف مكائدهم لحظة، فلا ينبغي أن يكون المسلمون في غفلة، وأن يكونوا مسرفين في حسن الظن حتى بلغوا حد السفه والسذاجة، حتى وصفوا أعداءهم بأنهم شركاؤهم، وقالوا في حق من تربصوا بهم الدوائر وثبتت جرائمهم وتيقن عداؤهم: إنهم لا بأس أن يكونوا معه في صف واحد في مواجهة أمور انطلت حيلها وترددت كلماتها في وسائل الإعلام، حتى راجت وصارت هي حجة كل أحد في كل مسلك خاطئ، وفي كل اعوجاج مستمر، نسأل الله السلامة!

ولست اليوم أتحدث عن أحداثها، غير أني أتحدث عن مقدماتها؛ لأنها مقدمات تكشف لنا عن حال المجتمع المسلم، ما الذي كان في القلوب والنفوس؟! ما الذي كان في الخواطر والعقول؟! كيف كان ذلك المجتمع ينتبه ويلتفت نظره إلى ما حوله؟!

هل كان منكفئاً على نفسه غارقاً في ذاته؟! هل كان متعلقاً بأمنه وسلامته فحسب؟! هل كان يدرك ما حوله وينتبه له أم لا؟! وكيف كان التفاعل مع ذلك؟!

لا شك أننا جميعاً نعلم كيف كان التهيؤ لهذه الغزوة من قبل قريش أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك.

بعد أن انجلى غبار بدر بما كان فيه من ظفر ونصر لأهل الإسلام والإيمان، وما كان فيه من هزيمة عظيمة لأهل الكفر والطغيان، سعى أرباب قريش كـعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، ممن قتل آباؤهم وأقرباؤهم؛ سعوا إلى أبي سفيان ، وإلى من كان له مال في تلك القافلة التي نجت، وقالوا: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فما عليكم أن تعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا أن ندرك ثأرنا بمن أصاب منا.

ففعلوا، ودخل معهم أحابيشهم وهم الذين كانوا في حلف مع قريش، وانضوى معهم بعض قبائل كنانة وبعض أهل تهامة، بل ذكر الواقدي في مغازيه: أنه اجتمع معهم مائة نفر من ثقيف، واحتشد أولئك جميعهم في ثلاثة آلاف رجل، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة درع، وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح ما أوعبوا.

ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن قريشاً اليوم حاضرة كما هي بالأمس، وقد ألبت وأجلبت لثأرها من أمة الإسلام، ولئن جمعت قريش ثلاثة آلاف ومائتي فرس وثلاثة آلاف جمل أو نحو ذلك، فقد جاء القوم اليوم بمئات الآلاف من الجند والطائرات الخارقة وغير ذلك مما تعلمون، وأنفقوا لأجله الأموال، وجيشوا لأجله الجيوش، والله جل وعلا يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

نعم! لقد أعدوا عددهم وشغلوا وسائل إعلامهم وحشدوا جيوشهم، وقالوا مقالة سابقيهم: لتدركوا ثأركم ولتوقفوا مسيرة هذا الدين الذي غزاكم في عقر دياركم، ذلك كان حال قريش، فأي حال كان حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ هل كانوا غارقين في شهواتهم، ملتهين بملاعبهم ومسارحهم وغير ذلك مما نعلمه اليوم؟!

روى أهل السير: أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم برسالة سرية مع رجل قطع المسافة في نصف المدة أو أقل يخبره بتجهز قريش، وكان مما جاء في رسالته: إن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه الآن.

تهيأ قبل أن يأتوا إليك، واستعد قبل أن يطرقوا بابك، وتجهز قبل أن يكونوا في أرضك، وقد توجهوا إليك في ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس ومعهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف من الإبل، وقد أوعبوا من السلاح، أي: قد جمعوا ما لديهم من السلاح كله، هل اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟

لقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة لـأبي بن كعب فقرأها عليه، فقال: اكتم الخبر، ثم مضى إلى سيد الأنصار وأخبره الخبر وقال: اكتم عني ذلك.

ثم لما تقارب الأمر وحل الجيش قام النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الحباب بن المنذر قبل الغزوة عندما وصلت قريش إليهم، وقال له عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم وائتني بخبرهم، ولا تخبرني بخبرهم بين أحد من المسلمين، قال: فدخل فيهم وحزر ونظر وجاس بينهم.

وهذا من شجاعته من جهة، ومن فرط ذكائه وحسن حيلته وتدبيره من جهة، ثم انظروا إلى التقرير الاستخباراتي الذي جاء به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: يا رسول الله! والله لقد رأيت أعداداً حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ومعهم أفراس حزرتها مائتين من الخيل، ومعهم أدرع حزرتها سبعمائة، وإبل حزرتها ثلاثة آلاف، ثم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت معهم الظعن -أي: النساء-؟ قال: نعم يا رسول الله! رأيتهم ومعهم الدفاف والأكبار -أي: الطبول والدفوف- فقال صلى الله عليه وسلم: أردن أن يحركنهم وأن يذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، ثم قال له: لا تذكر مما قلت شيئاً ولا حرفاً، ثم قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول).

إنه الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والثقة به، والالتجاء إليه، إنه اليقين الذي لا يتزعزع معه قدم، ولا يطيش معه عقل، ولا يخالج النفس منه اضطراب، ولا يداخل القلب منه خوف، إنه علم لمعرفة الحقيقة لا ليكون أثرها الوهن والضعف والخذلان، بل ليكون أثرها من قوة الإيمان وعظمة اليقين، مع شدة وصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى: (اللهم بك أجول وبك أصول) هذا كان شعار المصطفى صلى الله عليه وسلم.

تلك مقدمات تبين لنا اليقظة والانتباه والرصد وجمع المعلومات، وتبين أن أعداء الحق لا يفترون ساعة ولا تتوقف مكائدهم لحظة، فلا ينبغي أن يكون المسلمون في غفلة، وأن يكونوا مسرفين في حسن الظن حتى بلغوا حد السفه والسذاجة، حتى وصفوا أعداءهم بأنهم شركاؤهم، وقالوا في حق من تربصوا بهم الدوائر وثبتت جرائمهم وتيقن عداؤهم: إنهم لا بأس أن يكونوا معه في صف واحد في مواجهة أمور انطلت حيلها وترددت كلماتها في وسائل الإعلام، حتى راجت وصارت هي حجة كل أحد في كل مسلك خاطئ، وفي كل اعوجاج مستمر، نسأل الله السلامة!

ننتقل إلى صفحة أخرى قبل المعركة ولن نذكر من المعركة شيئاً مطلقاً.

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في البقاء أو الخروج

النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغته الأخبار عن تجمع قريش ومن معها لمقاتلته وأصحابه، توجه إلى أصحابه يستشيرهم ويرى رأيهم في صورة هي أعظم صور المشورة وأعظم صور التلاحم بين القيادة والأمة، دعك من ديمقراطية زائفة، ودعك من انتخابات مزورة، ودعك من صور كثيرة مبهرجة، واخلص إلى جوهر الإسلام في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

رأى رؤياه عليه الصلاة والسلام وقصها على أصحابه قال: (رأيت بقراً تذبح، ورأيت ثلمة في سيفي، ورأيت أني آوي إلى درع حصينة، وأولت البقر: نفراً من أصحابي يقتلون، وثلمة في سيفي: بعضاً من أهل بيتي يقتلون، والدرع الحصينة: المدينة، فلو رأيتم أن نبقى فيها، فإن أقاموا هم أقاموا بشر مقام، وإن أتوا إلينا قاتلناهم، فكان لنا عليهم النصر والظفر).

نفوس أبية وحماسة متقدة

فلننظر إلى المجتمع المسلم عندما تحل به الظروف العصيبة، عندما تحيط به الأخطار، عندما تأتي الأخبار بأن الأعداء على الأبواب، وبأن حرباً ضروساً يوشك غبارها أن يصل إليهم.

استمعوا إلى هذه المواقف التي هي في حقيقتها غنية عن كل تعليق: كان ممن تحدث حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله وأسد رسوله، ومعه سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، والنعمان بن مالك، فكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فأظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير قد كنا نتشوق لهذا اليوم وندعو به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مائلاً لهذا الرأي، فقام مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين: إما أن يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة كوقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، أو الأخرى يا رسول الله! فإنها والله الشهادة، والله يا رسول الله! ما أبالي أين كنا إن كانت الشهادة يا رسول الله!

فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) وكان حمزة رضي الله عنه كما قال أهل السير صائماً في يوم الجمعة، وكذلك كان صائماً في يوم السبت يوم غزوة أحد نفسها، فقال: (والله يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم بسيفي خارجاً من المدينة، ثم قام النعمان بن مالك فقال: يا رسول الله! أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك، فلم تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله، ولا أولي يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت).

وكان النعمان من شهداء أحد.

ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: (جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـسعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد ؟ فجاء قول سعد : لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.

فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها من العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا -، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله، وقام إياس بن أوس وقال: نحن بنو عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله! أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله! لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله! قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله) .

مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجع بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.

أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثير من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق، لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واه لريح الجنة والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لأن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع) تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم، والأعداء -لا أقول: قريبون منا- قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا إلى مواقع ديارنا إلا ما رحم الله، هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً.

إن تلك الجيوش الضخمة التي ما يزال يعلن عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة.

إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ، وقال عز وجل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] .

كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا، كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال.

وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة.

هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟

نفوس تواقة إلى الشهادة في سبيل الله

ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـسعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد ؟ فجاء قول سعد : لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.

فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا - فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله).

وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بني عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله) .

مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجعا بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.

أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثيراً من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق!

لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واها لريح الجنة! والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع).

دعوة للاقتداء بالصحابة في النهوض للجهاد

تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم والأعداء قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً.

إن تلك الجيوش الضخمة لم يزالوا يعلنون عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة.

إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ، وقال عز وجل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] .

كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا.

كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى، فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، فيها إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال.

وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة.

هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟

النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغته الأخبار عن تجمع قريش ومن معها لمقاتلته وأصحابه، توجه إلى أصحابه يستشيرهم ويرى رأيهم في صورة هي أعظم صور المشورة وأعظم صور التلاحم بين القيادة والأمة، دعك من ديمقراطية زائفة، ودعك من انتخابات مزورة، ودعك من صور كثيرة مبهرجة، واخلص إلى جوهر الإسلام في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

رأى رؤياه عليه الصلاة والسلام وقصها على أصحابه قال: (رأيت بقراً تذبح، ورأيت ثلمة في سيفي، ورأيت أني آوي إلى درع حصينة، وأولت البقر: نفراً من أصحابي يقتلون، وثلمة في سيفي: بعضاً من أهل بيتي يقتلون، والدرع الحصينة: المدينة، فلو رأيتم أن نبقى فيها، فإن أقاموا هم أقاموا بشر مقام، وإن أتوا إلينا قاتلناهم، فكان لنا عليهم النصر والظفر).

فلننظر إلى المجتمع المسلم عندما تحل به الظروف العصيبة، عندما تحيط به الأخطار، عندما تأتي الأخبار بأن الأعداء على الأبواب، وبأن حرباً ضروساً يوشك غبارها أن يصل إليهم.

استمعوا إلى هذه المواقف التي هي في حقيقتها غنية عن كل تعليق: كان ممن تحدث حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله وأسد رسوله، ومعه سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، والنعمان بن مالك، فكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فأظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير قد كنا نتشوق لهذا اليوم وندعو به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مائلاً لهذا الرأي، فقام مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين: إما أن يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة كوقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، أو الأخرى يا رسول الله! فإنها والله الشهادة، والله يا رسول الله! ما أبالي أين كنا إن كانت الشهادة يا رسول الله!

فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) وكان حمزة رضي الله عنه كما قال أهل السير صائماً في يوم الجمعة، وكذلك كان صائماً في يوم السبت يوم غزوة أحد نفسها، فقال: (والله يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم بسيفي خارجاً من المدينة، ثم قام النعمان بن مالك فقال: يا رسول الله! أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك، فلم تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله، ولا أولي يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت).

وكان النعمان من شهداء أحد.

ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: (جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـسعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد ؟ فجاء قول سعد : لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.

فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها من العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا -، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله، وقام إياس بن أوس وقال: نحن بنو عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله! أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله! لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله! قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله) .

مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجع بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.

أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثير من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق، لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واه لريح الجنة والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لأن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع) تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم، والأعداء -لا أقول: قريبون منا- قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا إلى مواقع ديارنا إلا ما رحم الله، هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً.

إن تلك الجيوش الضخمة التي ما يزال يعلن عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة.

إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ، وقال عز وجل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] .

كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا، كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال.

وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة.

هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟

ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـسعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد ؟ فجاء قول سعد : لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.

فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا - فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله).

وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بني عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله) .

مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجعا بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.

أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثيراً من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق!

لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واها لريح الجنة! والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2910 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2730 استماع
فاطمة الزهراء 2696 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2542 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2539 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2535 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2450 استماع