من يحمل الأمانة


الحلقة مفرغة

العقيقة هي الشاة تذبح للمولود يوم سابع ولادته، وهي سنة للقادر عليها من أولياء المولود، لما فيها من شكر لله تعالى على نعمة الولد، ويشترط في العقيقة سلامتها من العيوب، وما يجزئ في الأضحية يجزئ فيها، ويستحب أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة واحدة ويقسمهما أثلاثاً يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن عنوان درسنا لهذه الليلة ليلة الخميس الموافق للعشرين من شهر رجب عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم هو (من يحمل الأمانة؟).

وأشكر في بداية هذا اللقاء الإخوة في مركز الدعوة والإرشاد بالدمام على حسن ظنهم بي، وتشريفي بهذا اللقاء والحديث لإخوتي الكرام.

معشر الإخوة الكرام! لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، كرم الله عز وجل بني آدم، فخلق الله سبحانه وتعالى آدم بيده عز وجل، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وخص سبحانه وتعالى بني آدم دون سائر المخلوقات بتكريم ومنزلة ومزايا خاصة لهم دون غيرهم.

لكن أعظم تكريم هو أن الله سبحانه وتعالى حملهم هذا الدين، وجعلهم سبحانه وتعالى عباداً له، فشرفهم عز وجل بالانتساب إليه سبحانه وتعالى، والتعبد له عز وجل، فصار شرف الإنسان وعزه هو حينما يذل بين يدي مولاه، فشرفه في عبوديته لله سبحانه وتعالى، وكماله هو في فقره إلى الله عز وجل، واستغنائه عمن سواه، بل هذا هو الذي خلق بنو آدم من أجله، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فأعظم تشريف وتكريم لهذا المخلوق أن جعله سبحانه وتعالى عبداً له، وجعله سبحانه وتعالى خاضعاً له.

ومن تمام هذه العبودية وكمالها تشريف آخر، وتعظيم لمنزلة هذا الإنسان دون سائر خلق الله سبحانه وتعالى، وذلك أن الله عز وجل جعله حاملاً لمشعل الهداية ولدعوة الخير إلى الناس جميعاً، فهو الذي يحمل كلام الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يبلغ كلام الله عز وجل ودينه سبحانه وتعالى للناس كافة.

إن الإنسان العابد لله عز وجل، والمتجه له وحده سبحانه وتعالى ذكراً كان أو أثنى، صغيراً كان أو كبيراً، قد شرفه الله سبحانه وتعالى بحمل هذا الدين إلى الناس كافة، وتبليغه لهم، وحين يعرض هذا الإنسان، ويتنكب الطريق يكون بديله إنساناً آخر، فالقضية إنما تدور حول الإنسان ومعشر البشر.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، وقال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

إذاً: فهذا الدين إنما يقوم به، وينصره، ويذب عن حياضه أولئك الذين تشرفوا بعبودية الله سبحانه وتعالى، والخضوع له عز وجل، فصار سبحانه وتعالى هو أعظم محبوب إليهم، وهو سبحانه وتعالى المعبود الحق، والمعبود الواحد لهؤلاء جميعاً، وصار البشر -مهما علت منزلتهم وشأنهم- لا يساوون شيئاً عند هذا العابد لله سبحانه وتعالى، وأنى له أن يرجوهم ويتطلع إلى ما عندهم، وترمق عينه ذات اليمين وذات الشمال، وقد اختار العبودية لله سبحانه وتعالى؟!

بالله عليكم -أيها الإخوة، وأيتها الأخوات- أي تشريف ورفع لمنزلة الإنسان أسمى من أن يكون داعياً للناس إلى عبودية الله عز وجل، وتوحيد الله عز وجل، وأن يخلعوا عنهم كل توجه لغير الله سبحانه وتعالى، وأن يدعو الناس بلسان حاله، وأن يدعو الناس بلسان مقاله، وأن يوظف وقته وجهده لتحقيق هذه الغاية، وأداء هذه الرسالة، وحين لا يستجيب الناس يشهر سلاحه مجاهداً في سبيل الله سبحانه وتعالى، قد هانت عليه نفسه في سبيل الله عز وجل، كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].

فهل يعدل هذه المنزلة منزلة أخرى؟! وهل يعدل هذا الشرف شرف آخر؟!

ومما يزيد الأمر وضوحاً -وهو أوضح من الشمس في رابعة النهار- ويزيد القضية برهاناً وبياناً أن الله سبحانه وتعالى اختار لهذه المهمة، ولهذه الوظيفة خيرة خلقه: أنبياءه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، فقولوا لي -بالله عليكم-: ما هي وظيفة الأنبياء؟ وما هي وظيفة الرسل؟ لماذا أرسل الله الرسل؟ لماذا أرسل الله الأنبياء؟ أليس الله سبحانه وتعالى قد أرسلهم لتحقيق هذه الغاية، فكل يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]؟

إذاً: فالذي يختار هذا الطريق، ويسير في هذا الطريق إنما يختار أن يسير على هدي الأنبياء، وأن يقتفي آثارهم، وأن يختار لنفسه المهمة التي اختارها الله عز وجل لصفوة خلقه عليهم صلوات الله وسلامه.

معشر الإخوة الكرام! إن النصوص في كتاب الله سبحانه وتعالى تأمر الناس أن ينصروا الله عز وجل، وأن ينصروا دين الله سبحانه وتعالى، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يدعوا إلى الخير، كقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

فمن المخاطب بهذه النصوص المتظافرة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

ويقول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) فقوله: (منكم) يعني: أياً كنتم رجالاً ونساء، وشيباً وشباناً، وعلماء ومتعلمين وعامة، يقول: (من رأى منكم) فكل من يعتقد أنه مخاطب بكلام الله عز وجل، وكل من يعتقد أنه مخاطب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو داخل تحت هذه النصوص، فهو إما أن يختار ألا يكون منا، وهو خيار صعب لا يرضاه المسلم، وإما أن يختار الخيار الآخر: أنه مخاطب بهذه النصوص وهذا التكاليف الشرعية، ومحمل بهذه الأمانة العظيمة.

بل إن الله سبحانه وتعالى يصف هذه الأمة وصفاً عاماً جامعاً لهذه الأمة فيقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].

ألستم من أمة الإسلام؟! مَنْ مِنَ المسلمين لا يرضى أن ينتسب لهذه الأمة؟! بل مَنْ مِنَ المسلمين يرضى أن يناقش انتماؤه لهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟!

فما هي وظيفة هذه الأمة؟! وما هي مهمة هذه الأمة؟! إنها في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

إذاً: من الذي يحمل هذا الدين؟! ومن الذي يحمل هذه الأمانة؟! أهي طائفة خاصة من هذه الأمة؟! أهو خطاب للنخبة؟! أم هو خطاب للأمة ولكل من يعقل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، رجلاً كان أو امرأة، شاباً كان أم شيخاً، أياً كان موقعه في سلم الأمانة والمسئولية الدنيوية في هذه الدنيا، وأياً كان موقعه الاجتماعي بين الناس، وأياً كان علمه وتحصيله؟

فهو ما دام يرى أنه من هذه الأمة فهو مخاطب بهذه الصفة، فالأمة كلها إنما اكتسبت هذه الخيرية؛ لأنها تقوم بدين الله سبحانه وتعالى، ولأنها تأمر بالمعروف، والمعروف اسم جامع يشمل كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به عز وجل من اعتقاد أو عمل أو سلوك أو خلق، ولئن كان هذا المعروف يغضب فئة من الناس فهذا لا يخرجه عن كونه معروفاً، فالأمة كلها إنما اكتسبت هذه الخيرية؛ لأنها تأمر بهذا المعروف.

والمنكر كلمة جامعة عامة لكل ما يخالف شرع الله عز وجل في الاعتقاد والتعبد والعمل والسلوك، فالأمة كلها مخاطبة بأن تسعى لإزالة هذا المنكر، وأن تسعى لتغيير هذا المنكر أياً كان، سخط من سخط، ورضي من رضي، ما دام أنه منكر في عرف الشرع، وخطاب الشرع، فالمناط في تحديد المعروف والمنكر إنما يؤخذ من وحي من أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الله سبحانه وتعالى.

لقد أخبر الله عز وجل أن هذه الأمة أمة وسط فقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، أليس هذا للأمة أجمع؟! أليست الأمة كلها موصوفة بأنها شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة؟!

إذاً: فلماذا نتأخر؟ ولماذا نتقهقر؟ ولماذا نختزل كل هذه النصوص ونحصرها في زاوية ضيقة لنقول بعد ذلك: إنها تعني النخبة، وإنها تعني فئة خاصة من الناس، أما نحن فدورنا كدور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، دورنا أن نسير وراء القطيع، أما هذه النصوص، وأما هذه المهمة، وإبلاغ هذا الدين، وحماية مجتمعات المسلمين، والقيام بأمر الله عز وجل؛ فهي مهمة النخبة؟!

لست أدري كيف وصل الحال بهذه الأمة إلى هذا الفهم؟! وكيف تلقي عن نفسها هذا اللباس، وهذا العز، وهذا التكريم والتشريف، حيث كرمها الله سبحانه وتعالى بأن تحمل الرسالة، وبأن تحمل الدين؟! وأي قيمة أشرف وأعلى من دين الله سبحانه وتعالى؟!

إذاً: فمن منطلق عموم النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ندرك أن الجميع مخاطبون بحمل الأمانة، وأن الجميع ما داموا ضمن إطار هذه الأمة، وما داموا منا، فواجب عليهم جميعاً أن يكونوا شركاء في الأمانة.

موقف الربيين أتباع الأنبياء

إننا حين نقف مع قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جليا، يقول سبحانه وتعالى مخاطباً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً لهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].

لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لابد أن يقوموا معه، ولابد أن يقاتلوا معه ويتحملوا، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].

موقف مؤمن آل فرعون وصاحب أصحاب القرية

ويسمع رجل من آحاد الناس مؤامرة تحاك في الظلام لأحد أنبياء الله عز وجل، وهو موسى عليه السلام، فيسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فيشعر أن من واجبه أن يؤدي دوره، ومن واجبه أن يساهم في كشف هذه المؤامرة لموسى عليه السلام، قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20].

ورجل آخر يسمع بأنبياء الله عز وجل وقد واجهوا ما واجهوا، فيتحمل النصب والتعب واللأواء، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:13-14].

ثم جاء هذا الرجل كما يقول الله عز وجل عنه: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:20-25].

لقد شعر هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يكذبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم لا يرى أن عليه أن يسترجع، وأن يحوقل، وأن يندب ويبكي على هذا الدين وهذه العقيدة كيف تضيع ويأفل نجمها فحسب، بل يشعر أن عليه أن يقوم بدوره، فيأتي من أقصى المدينة، ويأتي يسعى ويمشي.

قال ابن هبيرة : تأملت حال هذا الرجل، فرأيته قد جاء من أقصى المدينة، ورأيته قد جاء يسعى على قدميه، ليأتي وهو لا يقول إلا كلمة واحدة، يقول: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوا المرسلين، فالقضية هم يسيطر عليه، فكانت عاقبته أن يعتدي عليه أولئك لأنه خاطبهم بهذا الخطاب، أو لأنه -بمنطق أولئك المتجبرين المتكبرين- تدخل فيما لا يعنيه، فيقتل ويدخل الجنة، وحين قتل ودخل الجنة كان هم قومه يختلج في صدره، قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

إنه يتمنى أن يعلم قومه منزلته؛ حتى يؤمنوا ويلحقوا به بعد ذلك كله، وأنى لمثل هذه الحقائق المستقرة في قلب هذا الرجل أن يقتلعها الطغيان، وأن يقتلعها الإيذاء، وأن يقتلعها حتى القتل؟! فبعد أن أراقوا دمه لم يزل يختلج في صدره هذا الهم، ولم يزل يبكي على حال قومه، ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه؛ علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم.

ونعود مرة أخرى إلى موسى، فحين جاء موسى، وواجه قومه بدعوتهم، قام رجل مؤمن، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28].

ويعيش في جدل مع قومه وهو يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أن الأمر لم يعد فيه مجال للمداراة مع هؤلاء؛ أظهر ما هو عليه فقال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:38-39].

موقف الصديق الأكبر رضي الله عنه

ولقد تمثل بنصيحة هذا المؤمن أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين كان يدفع أذى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا بلغ علي بن أبي طالب أن بعض الجهلة يفضلونه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! ثم يذكر قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع نبي الله صلى الله عليه وسلم حين جاء عقبة بن أبي معيط وخنقه بردائه، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!

فكان علي رضي الله عنه ييقول: بالله ربكم: أهو خير أم مؤمن آل فرعون؟! فيسكتون، فيقول: والله! هو خير من مؤمن آل فرعون، هو يعلن إيمانه، وذاك رجل يكتم إيمانه.

إننا حين نقف مع قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جليا، يقول سبحانه وتعالى مخاطباً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً لهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].

لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لابد أن يقوموا معه، ولابد أن يقاتلوا معه ويتحملوا، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].

ويسمع رجل من آحاد الناس مؤامرة تحاك في الظلام لأحد أنبياء الله عز وجل، وهو موسى عليه السلام، فيسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فيشعر أن من واجبه أن يؤدي دوره، ومن واجبه أن يساهم في كشف هذه المؤامرة لموسى عليه السلام، قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20].

ورجل آخر يسمع بأنبياء الله عز وجل وقد واجهوا ما واجهوا، فيتحمل النصب والتعب واللأواء، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:13-14].

ثم جاء هذا الرجل كما يقول الله عز وجل عنه: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:20-25].

لقد شعر هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يكذبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم لا يرى أن عليه أن يسترجع، وأن يحوقل، وأن يندب ويبكي على هذا الدين وهذه العقيدة كيف تضيع ويأفل نجمها فحسب، بل يشعر أن عليه أن يقوم بدوره، فيأتي من أقصى المدينة، ويأتي يسعى ويمشي.

قال ابن هبيرة : تأملت حال هذا الرجل، فرأيته قد جاء من أقصى المدينة، ورأيته قد جاء يسعى على قدميه، ليأتي وهو لا يقول إلا كلمة واحدة، يقول: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوا المرسلين، فالقضية هم يسيطر عليه، فكانت عاقبته أن يعتدي عليه أولئك لأنه خاطبهم بهذا الخطاب، أو لأنه -بمنطق أولئك المتجبرين المتكبرين- تدخل فيما لا يعنيه، فيقتل ويدخل الجنة، وحين قتل ودخل الجنة كان هم قومه يختلج في صدره، قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

إنه يتمنى أن يعلم قومه منزلته؛ حتى يؤمنوا ويلحقوا به بعد ذلك كله، وأنى لمثل هذه الحقائق المستقرة في قلب هذا الرجل أن يقتلعها الطغيان، وأن يقتلعها الإيذاء، وأن يقتلعها حتى القتل؟! فبعد أن أراقوا دمه لم يزل يختلج في صدره هذا الهم، ولم يزل يبكي على حال قومه، ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه؛ علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم.

ونعود مرة أخرى إلى موسى، فحين جاء موسى، وواجه قومه بدعوتهم، قام رجل مؤمن، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28].

ويعيش في جدل مع قومه وهو يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أن الأمر لم يعد فيه مجال للمداراة مع هؤلاء؛ أظهر ما هو عليه فقال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:38-39].

ولقد تمثل بنصيحة هذا المؤمن أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين كان يدفع أذى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا بلغ علي بن أبي طالب أن بعض الجهلة يفضلونه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! ثم يذكر قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع نبي الله صلى الله عليه وسلم حين جاء عقبة بن أبي معيط وخنقه بردائه، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!

فكان علي رضي الله عنه ييقول: بالله ربكم: أهو خير أم مؤمن آل فرعون؟! فيسكتون، فيقول: والله! هو خير من مؤمن آل فرعون، هو يعلن إيمانه، وذاك رجل يكتم إيمانه.

ومع موسى مرة أخرى، فقد وعد الله عز وجل قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، فيذكرهم موسى بوعد الله، ويعدهم بأن يتحقق لهم النصر بشرط أن يدخلوا الباب، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، فيمتنع القوم، ويستكبرون عن الدخول، وحين لم تجد هذه المحاولات مع أولئك الجبناء، ومع أولئك الذين قالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، قال موسى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25].

نعم، حين يتخلى الناس عن الأمانة، وحين يتخلى الناس عن القيام بهذا الدور، ماذا يصنع موسى؟ لقد شكا إلى ربه فقال: إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي .

أما هؤلاء فقد شعروا أن القضية لا تعنيهم، وإنما تعني موسى وربه، فقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22].