(تسونامي) التغيير في البلاد العربية، وواجب العلماء نحوه
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
(تسونامي) التغيير في البلاد العربية، وواجب العلماء نحوهالتغيير سنة كونية وفريضة شرعية.
تأصيل التغيير واجب غاب عنه العلماء:
بعد أنْ أصبحت المطالَبة بالتغيير تيَّارًا جارفًا، وسيْلاً هادرًا، يجري في بلادنا؛ طولاً وعرْضًا، شرقًا وغربًا، ويترك أثرَه على الأفراد والمجتمعات؛ سلبًا أو إيجابًا، طوعًا أو كرْهًا؛ سواء مَن غمَس يدَه فيها أو اعتزلها، أو المعوِّقون لها، وقد ملأت صُوَر الاحتجاجات الشعبيَّة ولوحاتها وهديرها وسائلَ الإعلام والشاشات الفضائيَّة، وجرَى التبشير بالتغيير على ألْسِنة الخُطباء، وأقلام الكُتَّاب وقصائد الشعراء، بل وأقلام الصِّبيان الصغار على الجُدران، ودَوتْ بها حناجرُ الفتيان والشُّبان، والذُّكران والنِّسوان، ونجحتْ بعضها في ثلِّ عروش بعض الطُّغاة، دون وقوع فتنة أو إراقة دماءٍ؛ كتونس ومصر، فيما يُشبه الحُلم، وما زال بعضها يكافح ويُنافح، ويُطالب بحقوقه - نصَر الله المظلوم، وأذلَّ ظالِمَه.
وعلى ضوء "تسونامي" التغيير هذا، فإنه يستوجب تأصيل التغيير، واستنفار الفقهاء والعلماء؛ للبحث والنظر في الأدلة الشرعيَّة، وفِقْه المصالح والموازنات، والمآلات ودراسة الواقع؛ لبيان موقف الشرْع من التغيير، ووسائله وأدواته وأساليبه، وضوابطه الشرعيَّة وآدابه المرعية؛ حتى لا ينقلب إلى فوْضى عارمة، لا تُبقي ولا تذر.
ولا يجوز في هذا المقام تعميمُ الفتوى في النوازل والأحداث الراهنة؛ لاختلاف الظروف والأحوال، ولا أن يُفتي علماء المشرق لأهل المغرب، ولا أن يُفتي علماء المغرب لأهل المشرق، بل الفتوى حقُّ علماء كلِّ بلد أو ناحية على حِدَة، فأهل مكة أدْرى بشِعابها.
كذا لا يصحُّ نقْل الفتاوى التي احتوتْها بطون الكُتب، وأفتى بها علماء زمانٍ قد مضَى، وتنزيلها على وقائع معاصرة كما هي، دون اعتبار لاختلاف الزمان والمكان.
ولوضْع النقاط على الحروف دون مُوَاربة، فنحن نعيش في مناخ الثورات، ونستنشق عبيرَها، أقول: لا يصح قياس هذه الثورات على ثورة ابن الأشعث - رحمه الله - على سبيل المثال، ومن ثَمَّ نقف منها كما وقَف كثيرٌ من السلف الصالح منها، فهذا القياس فاسدٌ، وهو قياس مع الفارق، وقياس أيضًا لا يُراعي اختلاف الزمان والمكان، والظروف والأحوال.
ليس تأصيل التغيير هو واجب الفقهاء والعلماء فحسب، بل الواجب ترشيدُ هذه الحركات التغييريَّة، والتواصُل معها، وبذْل النُّصح لها؛ المشروعة منها وغير المشروعة، أو تلك التي خلطَت عملاً صالحًا وآخر سيِّئًا، والالتحام بها في حال مشروعيَّتها ومشروعيَّة مَطالِبها ومقاصدها ووسائلها، ولا ينبغي ولا يَليق - بالعلماء وأهل القرآن - أن يتخلَّفوا عنها؛ لأنها ستتجاوزهم، ويتم التغيير دون أن يكون لهم حضورٌ فيه ولا دور، بل سيستولي على حركة التغيير العلمانيون والليبراليون، والنصارى وأصحاب الأفكار المستوردة، ويقطفون ثمارَ هذه الثورات، ويوجِّهون دَفَّتها حيث يشاؤون.
ألا إنَّ حركة التغيير التي تعيشها الأمة لن تنتظر أحدًا تخلَّف عنها أو تثاقَل، وهي أيضًا - وبكلِّ صراحة - لن تنتظرَ فتاوى شيوخنا الأفاضل للخروج والانطلاق؛ وذلك لأنها نتيجة حتميَّة خاضعة لسُنن كونيَّة، لا يملك أحدٌ أن يوقِفَها أو يعوقها؛ لا الحُكَّام بجَبَروتهم وسَطْوتهم، ولا بعض العلماء بفتاواهم المندِّدة بالتظاهرات والاعتصامات، وتسمية الشباب والجماهير التي خرجتْ - لإزاحة الظلم، وتغيير المنكر - بالخوارج والمارقين، وتلك المسمَّيات التي توضَع في غير موضعها.
وليس مقبولاً الآن، ولا سائغًا أيضًا أن يَصْمت العلماء عن مظالِم الحُكام، ويسكتوا عن مُنكراتهم، ثم إذا طالَب الناس بحقوقهم، وأرادوا دفْع الظلم عن أنفسهم، صدرت الفتاوى تَتْرى بالتنديد بمطالبهم، وعدُّوها فتنةً عمياءَ صماءَ!
ما هكذا - يا أسيادنا - تُورَدُ الإبل، وإن مثل هذا السلوك المزدوج من العلماء، والميْل إلى جانب الحُكام، يُضْعِف ثقة الناس بهم، ويدفع الشباب إلى الارتياب في أمْرهم، ومِن ثَمَّ عدم الاكتراث بهم، وتجاوزهم، وشَقّ طريقهم وحْدهم، أو الْتِفَافهم حول رموزٍ أخرى؛ ليبراليَّة، أو قوميَّة، أو سواها؛ حتى يتحقَّق التغيير المنشود.
ولا بدَّ هنا من التأكيد على أنَّ المطالبة بالتغيير اليوم في أكثر الدول الإسلامية مشروعة، بل واجبة؛ لرفْع الظلم والحَيف عن الناس، وحتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، والمقصود بالتغيير هو: تغيير الأوضاع المخالفة للشرع، في جميع المجالات: الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية وسواها، والسعْي في تبديلها ببدائلَ مشروعة، ومن خلال وسائل مشروعة أيضًا؛ لأن الغاية لا تُبَرِّر الوسيلة، وذلك يعني: أن مَن أراد التغيير فإنَّ عليه أن يلتزم حدود الشرع وضوابطه وشروطه في تغيير المنكر، وأن يتبين أيضًا عواقب التغيير وما قد تؤول إليه الأمور، ورب تغيير يستبدل منكرًا بأشدَّ منه، وظالمًا بأظلم منه، ورب تغيير يمزق وحدة البلاد، ويغرق أهلها في بحر من الدماء، وكم من قائل اليوم: ليت ذلك التغيير لم يحصل، وليتنا سكتنا وصبرنا على جرحنا القديم! ورب تغيير يؤدي إلى تدمير! ورب تغيير أهوج لم يحسب للعواقب حسابًا، يؤدي إلى استبدال طغيان باحتلال أو بتسلط وتمكين أصحاب المطامع وأهل الأهواء والبدع، واستغلال الجهات الأجنبية والطوائف المشبوهة للموجة المطالِبة للتغيير، فتكون الطامة أكبر والمصيبة أدهى وأخطر!.
أما الزعم بأن راية التغيير اليوم راية عمِّيَّة، يغضب أهلها لعصبيَّة، ويخرجون لعصبيَّة، فليس صحيحًا على إطلاقه، فالمطالبة بالحُريات وحقوق الإنسان بمفهومها الشرعي لا الغربي، والعدالة والمساواة، وتكافُؤ الفرَص، وصوْن الكرامة، وحِفظ ثروات البلاد ومصالحها، والسيادة والاستقلال، وضبْط سُلطة الدولة وصلاحيات الحاكم وتقييدها، من خلال إقرار نظام المؤسَّسات الفاعلة المستقلة، وربْطها بالمصلحة أيضًا بمفهومها الشرعي، ورفْض التبعيَّة للقوى الاستعمارية - كل هذه المطالِب مِنْ صُلب الدين وجَوْهره، وأينما يكون العَدْل، فثَمَّ شرْع الله.
نعم، لا بأْس بالتدرُّج والتأسيس؛ لتطبيق أحكام الشريعة وحدودها، وتهيئة الأجواء لها، من خلال منهج تربوي ودعوي متدرِّج حكيم، يستغل مناخ الحرية الذي تُبشِّر به هذه الثورات التحرُّرية، كذا تهيئة المجتمع، من خلال مكافحة البطالة والعوز، والقضاء على الفقر، وتحقيق التحصين الذاتي والأمن الفكري للبلاد والعباد.
وعود على بدء، فإنه لا مندوحة من اعتبار فقه المآلات في عملية التغيير، والنظر والتدبر في العواقب: هل عواقب حركات التغيير مأمونة؟ وهل خيرها أعظم من شرها؟ وهل نفعها أكبر من إثمها؟ م أنها ستجر إلى فتنة عمياء صماء وهرج واختلاط، وتضيع في خضمها البلاد والعباد، وتستباح فيها الدماء والحرمات؟.
والحق يقال: أن كثيرًا من المطالبين بالتغيير بسبب الاستعجال والعاطفة لا يتفطنون للعواقب التي يمكن أن تنشأ فيما لو انفلت حبل الأمن، وخرجت حركة التغيير عن القبض والسيطرة، وركب موجتها مخربون ومفسدون، حيث ينفتح باب الفوضى والفتنة، وإذا فُتح قد لا يُغلق! وليس المطلوب هنا أن نوقف حركة التغيير وعجلة التاريخ، فإنها لن تتوقف، لكن المطلوب الحذر والنظر والفطنة واليقظة .
والحاصل أن تغييرَ الأوضاع الفاسدة واجبٌ شرعي، خاصة في حال العدوان على الدين وحُرماته، ولا يجوز السكوت عليه عند القُدرة على تغييره وأمْن الفتنة، لكن الشرْع والعقل والواقع والتجربة، كل ذلك يوجب التأنِّي، وعدم الاستعجال، والتدرُّج في التغيير، والتربُّص والتبصُّر بالعواقب ومآلات الأمور.
فإذا كان التغيير إزالةً لظلمٍ طالَ أمدُه، وعَظُم شرُّه، وخِيف من عواقبه الوخيمة، وآثاره المدمِّرة، وفتنة الناس في دينهم، وكان التغيير بما شرَع الله من الوسائل والأساليب والأدوات، ونحن نمتلكُها ونقدر على تغييره، دون وقوع فتنة أكبر، فحَيّ هلاً بهذا التغيير، ووفَّق الله أهلَه، وسدَّد رمْيهم، ونحن منهم ومعهم.
فَحَيَّهَلاً بِالْمَكْرُمَاتِ وَبِالْعُلاَ ♦♦♦ وَحَيَّهَلاً بِالْفَضْلِ وَالسُّؤْدَدِ الْمَحْضِ