منزلة: السرور, الغربة, التمكن, المعاينة, الحياة - فهد بن عبد العزيز الشويرخ
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
{ بسم الله الرحمن الرحيم }منزلة السرور
* ومنها السُّرور, قال الله تعالى: {قُل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس:58] قال ابن عباس وقتادة فضل الله: الإسلام ورحمته القرآن
* الفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى, فيتولد من إدراكه حاله تسمى الفرح والسُّرور, كما أن الحزن والغمَّ من فقد المحبوب, فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الغمّ والحزن.
* الفرح بالله وبرسوله وبالإيمان والسنة, وبالعلم والقرآن من أعلى مقامات العارفين, قال الله تعالى: {وإذا ما أُنزلت سورة فمنهم من يقُولُ أيُّكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} [ التوبة :124]
* الفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه, فمن ليس له رغبة في الشيء لا يُفرحه حصوله ولا يُحزنه فواتُه فالفرح تابع للمحبة والرّغبة
* ذكر الإمام أحمد في كتاب " الزهد " له: أن المسيح كان يقول: على قدر ما تتبعون هنها تستريحون هنالك, وعلى قدر ما تستريحون ههنا تتعبون هنالك.
منزلة الغربة
* قال الله تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} [هود:116] استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدلُّ على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية
* أهل الإسلام في الناس غرباء والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشدُّ هؤلاء غربةً.
* قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها, ولا ينافس في عزها, للناس حال وله حال, الناس منه في راحةٍ, وهو من نفسه في تعبٍ.
* الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشدُّ غربةً منه في أول ظهوره, وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة, فالإسلام الحقيقيُّ غريب جداً, وأهله غرباء بين الناس.
* إذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرةً في دينه, وفقهاً في سنة رسوله, وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات...فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه, وطعنهم عليه, وإزرائهم به
* المؤمن...غريب في دينه لفساد أديانهم, غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع, غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم, غريب في صلاته لسوء صلاتهم, غريب في طريقه لفساد طرقهم...غريب في معاشرتهم لهم, لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
منزلة التمكُّن
* قال تعالى:{ولا يستخفنك الذين لا يُوقنون} [الروم:60]وجه الاستدلال بالآية ...أن المتمكِّن لا يبالي بكثرة المُشغلات, ولا بمخالطة أصحاب الغفلات, ولا بمعاشرة أل البطلات, بل قد تمكن بصبره ويقينه عن استفزازهم إياه واستخفافهم له.
*قال تعالى {فاصبر إن وعد الله حق} [الروم:60] فمن وفى الصبر حقَّه وتيقن أن وعد الله حق لم يستفزه المبطلون ولم يستخفه الذين لا يوقنون ومتى ضعف صبره أو يقينه أو كلاهما استفزه هؤلاء واستخفه هؤلاء فجذبوه إليهم بحسب ضعف قوة صبره
منزلة المعاينة
* قال شيخ الإسلام: باب المعاينة.
والعمل إنما هو على الشواهد, وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله.
*أول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة: أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلة وفائها...وخسة شركائها وسرعة انقضائها ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد عذَّبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمرَّ الشراب أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً
* إذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل قلبه عنها, وسافر في طلب الدار الآخرة , وحينئذ يقوم بقلبها شاهد من الآخرة ودوامها, وأنها الحيوان حقاً, فأهلها لا يرتحلون منها, ولا يظعنون عنها, بل هي دار القرار, ومحيط الرحال, ومنتهى السير.
*ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبُعد قعرِها وشدّة حرها وعظيم عذاب أهلها فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه...والسلاسل والأغلال في أعناقهم, فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها, فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع.
* فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يُسحبون, وفي النار كالحطب يُسجرون, {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} [الأعراف:41] فبئس اللحاف وبئس الفراش, وإن يستغيثوا من شدة العطش يُغاثوا بماءٍ يشوي الوجوه.
* إذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي, واتباع الهوى, ولبس ثياب الخوف والحذر وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كلُّ مصيبة في غير دينه وقلبه,...فيُذيب هذا الشاهدُ من قلبه الفضلات والمواد المهلكة.
*فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعدَّ الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فضلاً عما وصفه لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والبهجة والسرور
*فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جلّ جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة, فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشاهد الذي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح من مهابها, فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً
* هذا, وفوق ذلك شاهد آخر تضمحلُّ فيه هذه الشواهد, ويغيب العبد به عنها كلها, وهو شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله وعزِّه وسلطانه, وقيُّوميّته وعلوه فوق عرشه, وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه, وخطاب لملائكته وأنبيائه.
* فإذا شاهد بقلبه قيُّوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه, منفرداً بتدبير مملكته, آمراً ناهياً, مرسلاٍ رسله, ومُنزلاً كتبه, فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلَّت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تعدم, بل تصبير الغلبة والقهر لهذا الشاهد.
* ومن هذا شاهده فله سلوك وسير خاص, ليس لغيره ممن عن هذا في غفلةٍ أو معرفةٍ مجملةٍ.
فصاحبُ هذا الشاهد سائر إلى الله في يقتظه ومنامه, وحركته وسكونه, وفطره وصيامه, له شأن وللناس شأن, هو في وادٍ وهم في وادٍ.
* طهارة القلب ونزاهتُه من الأوصاف المذمومة...وخلوُّه وتفريغُه من التعلق بغير الله سبحانه هو كرسي هذا الشاهد الذي يجلس عليه, فحرام على قلبٍ متلوِّثٍ بالخبائث والأخلاق والصِّفات الذميمة متعلِّقٍ بأن يقوم به هذا الشاهد أو يكون من أهله.
* إذا طلعت شمسُ التوحيد , وباشرت حرارتها الأرواح, ونورها البصائر تجلت بها ظلمات النفس , وتحركت بها الروحُ في طلب من ليس كمثله شيءٍ, فسافر القلب في بيداء الأمر ونزل منازل العبودية منزلاً منزلاً, فهو ينتقل من عبادة إلى عبادةٍ
منزلة الحياة
* قال الله: ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه﴾ من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان فأحياه الربُّ تعالى بروح أخرى غير الرُّوح التي أحيا بها بدنه وهي روح معرفته وتوحيده ومحبته وعبادته وحده لا شريك له, إذ لا حياة للروح إلا بذلك.
* سمى وحيه روحاً لما يحصُل به من حياة القلوب والأرواح, فقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك رُوحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى:52]...
* الوحي حياة الروح, كما أن بالرُّوح حياة البدن, ولهذا من فقد هذا الرُّوح فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فحياته حياة البهائم, وله المعيشة الضَّنك, وأمّا في الآخرة فله جنهم لا يموت فيها ولا يحيا.
* جعل تعالى الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته, فقال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97]
* الحياة الطيبة حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه وإذا كانت حياة القلب حياةً طيبةً تبعته حياة الجوارح, فإنه مَلِكها.
ولهذا جعل سبحانه المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره وهي عكس الحياة الطيبة
* الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاثة, أعني: دار الدنيا, ودار البرزخ, ودار القرار, والمعيشة الضنك أيضاً في الدور الثلاثة, فالأبرار في نعيم هاهنا وهناك, والفجار في الجحيم هاهنا وهناك
* ذكر الله ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة, والإعراض والغفلة عنه ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة.
* إذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة, فما الظن بحياتهم في البرزخ, وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها ؟ فما الظنُّ بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول ؟ فهم في نعيم دائم, وخلود متصل, ومقام كريم,
* فإن قلت: ما سبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة؟ فأقوى الأسباب في ذلك ضعف الإيمان...فإذا قوي الإيمان قوي الشوق إلى هذه الحياة واشتد طلب صاحبه لها.
السبب الثاني: جثوم الغفلة على القلب, فإن الغفلة نوم القلب.
*تجد كثيراً من الأيقاظ في الحس نياماً فتحسبهم أيقاظ وهو رقود ضدّ حال من يكون يقظان القلب وهو نائم, فإن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن وكمال هذه الحياة كان لنبينا صلى الله عليه وسلم ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسوله.
* الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حيَّ البدن, فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض, قال تعالى: : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها} [الأنعام:123]
*حياة القلب بدوام الذكر , والإنابة إلى الله, وترك الذنوب, والغفلة الجاثمة على القلب والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قُربٍ تُضعف هذه الحياة, ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت, وعلامة موته: أنه لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً.
* قال عبدالله بن مسعود: أتدرون من ميِّتُ الأحياء الذي قيل فيه:
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنمـا الميتُ ميِّتُ الأحـياءِ
قالوا: ومن هو ؟ قال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
* الموت موتان: موت إرادي وموت طبيعي فمن أمات نفسه موتاً إرادياً كان موته الطبيعي حياةً له ومعنى هذا أن الموت الإرادي هو قمع الشهوات المردية, وإخماد نيرانها المُحرقة...فحينئذٍ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ومعرفته.
* إذا مات موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة والأعمال الصالحة...التي حصلت له بإماتة نفسه فتكون حياته هاهنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم.
* أكمل الناس حياة أكملهم حياءً, ونقصان حياء المرء من نقصان حياته.
* الروح إذا ماتت لم تحسّ بما يُؤلمها من القبائح, فلا تستحيي منها, وإذا كانت صحيحة أحسَّت بذلك فاستحيت منه, وكذلك سائر الأخلاق والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة, وضدها من نقصان الحياة.
* الرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه, إذ أكثر هذا الخلق يخافون موت أبدانهم, ولا يبالون بموت قلوبهم.
* حياة الفرح والسرور وقرّة العين...وحول هذه الحياة يُدندن الناس كلُّهم, وكلُّهم قد أخطأ طريقها, وسلك طرقاً لا تفضي إليها, بل تقطعه عنها, إلا أقلّ القليل, فدار طلبُ الكلِّ حول هذه الحياة, وحُرمها أكثرهم.
* هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها, ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات, وأمله موقوف على اجتناء اللذات, وسيرته جارية على أسوأ العادات, ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات, وهمته واقفة مع السفليات.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ