آفات الأخوة


الحلقة مفرغة

من عقيدة الإسلام الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وقد دلت الدلائل النقلية والعقلية على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد ظهرت خوارق ومعجزات أجراها الله على يديه مثل انشقاق القمر، وحنين الجذع، ونطق الشجر، ودعائه على كسرى، وتكثير الطعام والماء بدعائه، وحادثة الإسراء والمعراج، والمعجزة الخالدة القرآن الكريم، وكانت لهذه المعجزات فوائد كبيرة وعظيمة في تقرير نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فنحمد الله تبارك وتعالى أن جمعنا وإياكم في هذا المقام الطيب المبارك، ونسأله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المقام أن يجمعنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.

معشر الإخوة الكرام!

قد يختار المرء حين يطلب منه الحديث، وتتسابق أمامه الموضوعات والعناوين، فلا يدري أيها يختار، خاصة أن هذا الدرس جاء عارضاً ولم يكن في البرنامج ابتداءً، ولهذا أردت أن أتحدث وإياكم في موضوع أشعر أننا نحتاج إليه جميعاً، ألا وهو: آفات الأخوة.

لقد جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء، تسود بينهم الفتن والصراعات، وعلاقات الناس وصلاتهم كلها كانت على أسس جاهلية، تنبثق من حياتهم ونظرتهم للحياة، فالقبلية والعنصر والجنس هو الأساس الذي كان المرء يؤاخي عليه، فيعادي عليه ويوالي عليه، ويقيس الناس من أجله ويزنهم بهذا الميزان، فهو لا يملك إلا هذا الميزان وحده، ولا يملك إلا هذه الصنجة التي يقيم بها الناس، وامتن الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين كانوا:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً

الذين كان منطقهم:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

امتن الله عليهم بنعمة الإسلام وأخوة الإيمان: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، وكما أن الأخوة في الله سبحانه وتعالى والمحبة من أجله رباط يربط المؤمنين في الدنيا، فهي شجرة باسقة أصلها ثابت، ويجد الناس ثمراتها في الدنيا والآخرة، وهي ليست قضية سلوكية، ولا قضية من قضايا الآداب والأخلاق، بل هي كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان)، فأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

فقضية الأخوة بين المؤمنين، والولاء والبراء على أساس هذا الدين، وعلى أساس هذا الإيمان، وعلى أساس الطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم هي قضية أبعد من أن تكون مجرد هدف من الأهداف أو خلق من الأخلاق، وإن كان كل ما يشعر المسلم أنه من عند الله عز وجل فهو قضية محترمة وقضية معظمة، لكن هذه القضية قضية تتعلق بالمعتقد.

فأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله والتآخي من أجله، ولما كانت بهذه المنزلة كان المسلمون بحاجة إلى أن يتعاهدوا هذه النبتة وأن يراجعوها وأن يبحثوا عن حقوق الأخوة وآدابها ولوازمها حتى يفوا بها، وفي المقابل أن يبحثوا عن آفاتها حتى يحموا هذا البنيان، ويحموا هذه الشجرة الطيبة بإذن الله من أن تنحرف أو تضل.

وحين ترد الآفات على هذا الرباط وهذه الصلة فإنها قد تهوي به وتقضي عليه كله، وقد تبقيه على دخنه.

وقد يشعر المسلم برابطة الصلة والأخوة مع أخيه، لكن يبقى هناك من الإحن والدخن ما يحتاج إلى مراجعة، وما يحتاج إلى أن يعيد بنيان هذه الأخوة مرة أخرى، وأن يعيد موازينه ونظرته وحبه وبغضه، وقد تتسبب هذه الآفات لا في هدمها أو في بقائها على دخن ، قد تتسبب في انحرافها حتى تصبح أخوة لغير الله، ومحبة لغير الله، ويوهم صاحبها نفسه أنه يحب في الله، ويؤاخي من أجل الله.

وهذا مع ما تعانيه الأمة من التفرق والتشرذم، وإعادة النعرات الجاهلية، ومن تعالي الصيحات من قبل أولئك الذين يريدون أن يعيدوها جذعة، تارة باسم القبيلة، وأخرى باسم الوطن والقطر، وثالثة باسم الإقليم، ورابعة باسم انتماء حزبي، تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، هي الأخوة على غير الله، والمحبة على غير الله عز وجل.

وفي هذا الواقع الذي أصبحت تعاني منه الأمة، أصبح المسلمون يعيشون شذر مذر، والأخ يعادي أخاه، وربما يسعى في سفك دمه، ومع هذا الواقع البئيس بدأ هذا الجيل المبارك -جيل الصحوة- يعيد هذه المفاهيم من جديد، فأصبحنا نراه يتجاوز كل هذه الرابطة الجاهلية، فيشعر أن الذي يربطه بزيد هو المحبة في الله، والأخوة في الله، وأن الذي يفصل بينه وبين عمرو هو بغضه في الله؛ لأنه معرض عن الله عز وجل، فصار كما قال صلى الله عليه وسلم: (يحب المرء لا يحبه إلا لله)، صارت محبته وبغضه وولاؤه وعداؤه لأجل الله عز وجل.

ومع هذا الإنجاز والتصحيح والصحوة لا بد أن يكون ثمة ثغرات، ولا بد أن يكون ثمة عيوب، وهي ليست بحال شهادة طعن في هذه الأخوة، ولا في هذا النشء المبارك، فيكفيه ذخراً وفخراً أن أحيا هذا المنطق بعد أن نسيته الأمة، بل حتى كادت الأمة أن تنسى مصطلح الأخوة في الله، والحب في الله، والبغض في الله، ومن أحيا سنة قد أميتت فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.

مع ذلك لا بد من التثبيت والتصحيح وتلمس الثغرات لتقويمها قبل أن يكتمل البنيان على عوج وعلى خلل، ومن ثم كان الحديث عن آفات الأخوة.

الآفة الثانية: طلب الكمال والمثالية:

إن البعض حين يسمع عن حقوق الأخوة في الله، وعن ثمراتها في الدنيا، ويسمع عن أخلاق المتحابين في الله، يوهم نفسه أنه سيعيش في جنة من الحب والود والرخاء، سيعيش مع رفقة لا يمكن بحال أن يسمع من أحدهم كلمة جارحة، أو يرى من أحدهم زلة أو يدرك منه هفوة، فهو يطمح إلى أن يكونوا إخواناً على سرر متقابلين، ويفاجأ فيما بعد بخلاف ما كان يحلم به، فيحتمل الأولى، ويصبر على الثانية، ويقبل الثالثة على مضض، وتأتي الرابعة بعد ذلك، فتقول له: إن أولئك ليسوا جادين، إن أولئك لا يعرفون حق الأخوة، ولا معاني الأخوة، إن هذه الأخوة طلاء خارجي، إنها تزويق ومخادعة أكثر من أن تكون محبة صادقة، ولو كان واقعياً مع نفسه لرأى أن السبب في ذلك أنه كان يتطلع إلا ما لا يمكن أن يحصل في دار الدنيا، ولو كان واقعياً لقال لنفسه: إن البشر يبقون بشراً مهما بلغوا من التقوى والصلاح والإيمان، ومحبة الخير للناس، فلا يمكن أن يبلغ أحد منهم درجة العصمة والسلامة من الخطأ.

فهذه الأخوة وإن كانت أخوة في الله، ومحبة من أجله، فهي بنيان بشري، وهي عمل بشري، وهي جهد بشري لا بد أن يصيبها جهد البشر، ولا بد أن يرى من إخوانه الأسخياء الورعين الصالحين الهفوة والزلة والخطأ في أنهم بشر.

ثانياً: يقول الله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، لو فكرنا -معشر الإخوة الكرام- في هذه الآية لرأينا أنها تدعونا إلى أن نكون واقعيين في تلك البحبوحة التي نتصورها من هذه الأخوة، فإن الله عز وجل حكى أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من غل، وهذا يعني أنه كان في النفوس ما فيها، وكان بينهم ما كان، والجنة دار طيبة لا يدخلها إلا ما كان طيباً محضاً، فيحبسون حينئذٍ فينزع الغل منهم، حتى يتأهلوا لأن يدخلوا هذه الدار الطيبة المحضة، ثم هذا نعيم يمتن الله به على أهل الجنة، أفترون أن أحداً في دار الدنيا يمكن أن يدرك نعيم الجنة قبل أن يموت؟!

إذاً: فنحن نكون مثاليين حين نطلب من إخواننا أن لا يصدر منهم زلة ولا هفوة، حين نتطلع إلى هذه الصورة المشرقة المبالغة في الخيال فنطلب نعيم الجنة، ولن يدخل أحد الجنة في دار الدنيا.

ثالثاً: نقرأ في سيرة خير القرون الرعيل الأول، فرط هذه الأمة، أولئك الذين امتن الله عليهم فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله عز وجل إخواناً، أولئك الذين امتن الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بأن ألف بين قلوبهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لو أنفق ما في الأرض جميعاً ما ألف بينهم، فمع تلك الصورة المشرقة التي رسمها هذا الرعيل في وسط تلك الجاهلية الظلماء إلا أننا نقرأ فيها بعض ما قد كان يعكر هذه الصورة ويخدش في هذه الأخوة.

رأى أحدهم أبا ذر رضي الله عنه ومعه غلام وعليه حلة، وعلى غلامه حلة مثلها، فسأله كيف يلبس رقيقه كما يلبس، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: (عيرته بأمه؛ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس).

إن أبا ذر رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن السابقين إلى الإسلام، ومع ذلك تأتيه حالة من حالات الضعف البشري فيعير رجلاً بأمه، يعيره بمقاييس الجاهلية، لكنه رضي الله عنه ما يلبث أن يستفيق ويستيقظ مع هذا التوجيه النبوي فيتجاوز تلك الهفوة ليعطينا صورة مشرقة يعجز عنها الكثير من المسلمين الآن يلبس خادمه كما يلبس، ويطعمه كما يطعم، ويعتبره أخاً له!

وفوق هذه الصورة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب كثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يقول: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر ، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أحدهم: أمر فلاناً؛ فيقول صاحبه: أمر فلاناً، فيرد عليه: ما أردت إلا خلافي، فيقول: ما أردت خلافك، فترتفع أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2]، ومع ذلك تبقى حدثاً عارضاً ثم تزول، لكن أولئك كانوا يدركون تماماً أن هذه الأخوة مع عمق بنيانها وقوة أركانها تبقى أخوة بشرية قد يأتيها ما يعكرها، قد يأتيها ما يهزها لكنها كالعاصفة التي تهب ثم تزول، ولا تزيدهم إلا ثباتاً ورسوخاً، فالذي يحصل أن المرء يتطلع إلى صورة مثالية، فيعتبر هذه العواصف والخوادش شهادة إدانة على عدم صدق الأخوة والمحبة، ولئن كانت شهادة إدانة أفيحق أن تدين بها الرعيل الأول، فإن كان يحدث ما يحدث بين ذلك الجيل فلأن يحدث مع غيرهم من باب أولى.

رابعاً: لقد رأى الشرع هذا الأمر بين الناس، فيقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، فهو صلى الله عليه وسلم ينهى المسلم أن يهجر أخاه من أجل الدنيا فوق ثلاث، وهذا يعني بالضرورة أنه يحل له أن يهجر أخاه دون ثلاث ولو لحظ الدنيا.

إن هذا فيه مراعاة لطبيعة النفس البشرية التي قد يكون فيها ما فيها، لكن لها حد ومدى معين حين تتجاوزه تصبح مرضاً، تصبح شحناء وبغضاء ينتقل إلى منزلة من يقول الله عز وجل له حين يغفر للناس كل اثنين وخميس: (أنظرا هذين حتى يصطلحا).

إذاً معشر الإخوة الكرام! ومع شعورنا بتلك المنزلة العالية والدرجة الرفيعة من الأخوة، ينبغي أيضاً أن نتصور أنها مع ذلك كله نتاج بشري قد يحصل فيها من الهفوات والزلات ما ينبغي أن نتقبلها، وكما أننا نقع في الخطأ ينبغي أن نتحمل الخطأ من الآخرين.

ومع حرصنا معشر الإخوة الكرام على أن ترقى الأخوة وتصفو، ينبغي أيضاً أن لا نبالغ فنصبح مثاليين، وحينئذ نتهم الناس بعدم صدق الأخوة والمودة لأجل هفوة أو زلة.

الآفة الثالثة من آفات الأخوة: الأثرة وحب النفس.

إن من نتاج الأخوة أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، بل لا يتم إيمانه إلا حين يرقى إلى هذه المنزلة، ويصل إلى هذه الدرجة، حين يحب لأخيه ما يحب لنفسه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس)، أما حين يرقى درجة أعلى من ذلك فهو يكون ممن أثنى الله عليهم في كتابه في آيات تتلى إلى يوم القيامة: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فحين نطمع في الوصول إلى منزلة الأخوة، وإلى أن نجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فلنعلم أن غلاء الثمرة وصفاءها يفرض علينا أن ندفع ثمناً باهضاً، أوله أن نتخلى عن محبة ذواتنا وعن رغبات أنفسنا، أما حين يكون المرء لا يحب الخير إلا لنفسه، أما حين يفوز منطق الأثرة والأنانية، وتعلو وترتفع لغة (أنا) فهو أول وخز في بنيان هذه الأخوة، وأول دليل على أننا لسنا مؤهلين لأن نجني هذه الثمرة اليانعة، وأن نصل إلى هذه المنزلة العالية.

الآفة الرابعة: رابطة الجاهلية.

إن الأخوة في الله تعني أن تكون أخوة في الله، من أجل الله حقاً، تعني أن نكون كما قال صلى الله عليه وسلم: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).

قد يحب المرء أخاه لله، لكن مع ذلك قد يكون من وطنه، أو قد تكون ثمة رابطة حزبية أو قبلية أو عنصرية أو جاهلية، قد تأتى هذه الرابطة فتزيد الأخوة أخوة والمحبة محبة، فتبقى حينئذ رابطة الجاهلية، وحين تزداد محبتك لفلان وتنقص لفلان، والدافع لذلك انتماء وطني أو فكري أو حزبي أو قبلي فاعلم أن محبتك مدخولة، وأن أخوتك مخدوشة.

فالأخوة في الله -معشر الإخوة الكرام- تعني أن نتجاوز كل هذه الحواجز تعني أن نتجاوز كل هذه النظرات، فالذي يحب في الله ويؤاخي في الله، لا فرق عنده بين من كان من هذه البلاد ومن كان من تلك البلاد، لا فرق ولا ميزان ولا معيار على أساس الانتماء، ولا أساس الأصل ولا غيرها من تلك الموازين الهشة، قد يستطيع المرء أن يجمع خليطاً متناثراً من هذه الموازين، فتقوم صلته على أساس إقليمي وحزبي وفكري وقبلي، أما الأخوة في الله، فهي بنيان متفرد لا يقبل غيره، وحين يدخل عامل آخر فالنقيضان لا يجتمعان، فهي لا تعيش إلا وحدها، ولا تنمو إلا بعيدة عن سواها من الروابط، فحين نريد الأخوة حقاً في الله فلنخلصها من كل رابطة من روابط الجاهلية!

وعجباً لهذه الأمة التي أكرمها الله بعد أن كان يقتل بعضها بعضاً، ويسبي بعضها بعضاً، وبعد أن كان منطق الجاهلية هو المنطق السائد، وقانونها هو المحكم، وأعرافها هي تلك الأسوار التي لا يقبل أحد أن يتسورها، عجباً لهذه الأمة بعد أن انتشلت من هذا الحضيض أن يخرج فيها من يريد أن يعيدها جذعة مرة أخرى، فبعد أن ارتقت هذا المرتقى، وصعدت إلى هذه المنزلة تعود مرة أخرى لتشد إلى خيوط الجاهلية وجواذبها.

ولهذا حين كسع غلام لرجل من المهاجرين غلاماً آخر من الأنصار فتنادوا: يا للمهاجرين! ويا للأنصار! غضب صلى الله عليه وسلم وقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)! متى عرف أولئك مصطلح المهاجرين ومتى عرفوا مصطلح الأنصار؟ إنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا بعد أن جاء الإسلام، لم يعرف أولئك إلا قريشاً وبني مخزوم والأوس والخزرج وغطفان، هي تلك المصطلحات التي كانت سائدة عند أولئك، أما مصطلح المهاجرين فلم يعرف إلا حين فر أولئك بدينهم، والأنصار لم يعرف إلا حين تبوأ أولئك الدار والإيمان فآثروا إخوانهم، فإنه إذاً مع أنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا تحت دائرة الإسلام، يرفض صلى الله عليه وسلم أن يتعصب أولئك لهذا الاسم، وأن يتحزبوا هذا التحزب.

مع أن هذا الاسم اسم شرعي بحت لم يعرفوه إلا بعد أن دخلوا هذا الدين، فكيف بعد ذلك بالأسماء التي خير حالها أن تكون عليه مصطلحات تواضع الناس عليها، أفيسوغ بعد ذلك أن تكون مقاييس يتنادى عليها، ويوالى ويعادى من أجلها، إنها بحق دعوى الجاهلية، ومن دعا بدعوى الجاهلية وتعزى بعزاء الجاهلية فهو جدير بأن يعير بتعيير الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا).

الآفة الخامسة: أن تدخل أغراض دنيوية غير شرعية:

كما أن الروابط الجاهلية قد تخدش بنيان هذه الأخوة، فقد تأتي أيضاً الروابط الدنيوية، قد يأتي جانب المال والمنفعة، وقد يأتي أيضاً جانب آخر، الذي هو إفراز لهذا الانحراف والشذوذ الذي أصبحت تعاني منه وللأسف تجمعات شباب هذه الأمة، فقد يحب الشاب أخاه لله، لكن تدخل مع ذلك شهوة محرمة، فقد يكون هذا الشاب مع طاعته وصلاحه وضيئاً، فيتسلل الشيطان إلى قلب صاحبه، فتدخل الشهوة المحرمة.

ولئن كانت رابطة الأخوة في الله والمحبة من أجله رابطة لا تعيش إلا وحدها، ولا تقوم إلا متفردة فهي ترفض أي شريك، ومن أشرك مع الله غيره تركه الله وشركه، فهي إن كانت ترفض الروابط الجاهلية وترفض رابط المال والمصلحة فهي أشد رفضاً ومقتاً لهذا الرابط، وحين يدخل مع داعي المحبة والأخوة داعي الشهوة المحرمة، فهي بداية للانحراف والخلل.

سادساً: من آفات الأخوة الإفراط في المعاتبة، قد يعتاد الناس أموراً يرون أنها من مكملات الأخوة ومن حقوقها، فمثلاً: قد يشعر البعض منكم أنه حين يأتي عليه ضيف في هذه البلاد فإن من حقه عليه أن لا ينصرف قبل أن يتناول طعام العشاء، رغبة في إكرامه وأداء الحق له، وقد يكون في هذا إثقالاً على صاحبه وإحراجاً له، والأخ لا يريد أن يبالغ في الاعتذار، فيستجيب محرجاً ويشعر أن أخاه قد أحرجه وضايقه.

وأحياناً يسود منطق العتاب على التقصير والمقاطعة، فحين يلقى صاحبه يعاتبه فهو منذ شهر لم يره، فلماذا القطيعة، أين الاتصال؟ لم نرك من سنة أو سنوات، وكما تعرفون مع تغير الحياة وتعقدها قد يكون الإخوان في مدينة واحدة فيمر على الأخ سنوات لا يرى أخاه فيها، وحين يلتقون يبادر بالمعاتبة، فيبادر الآخر بالاعتذار ولو كان سريع البديهة حصيفاً لكال له الصاع صاعين، وكما يقول أهل الصحافة: لقذف الكرة في مرماه، فقال: لئن كنت لا أزورك فلم لا تزورني أنت، لئن كنت قاطعاً فلم تكون قاطعاً أنت، ولو عاد الجميع إلى واقعيتهم ورشدهم لرأوا أن عدم زيارة هذا الأخ لأخيه وعدم لقائه به، ليس دليلاً بالضرورة على عدم محبته، وعلى عدم أخوته.

وهذا المعنى الذي يشير إليه الإمام أحمد رحمه الله حين قال له أحد أصحابه: يا أبا عبد الله ، لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لكنت آتيك كل يوم، فقال الإمام أحمد رحمه الله: لا تقل ذلك، إن لي إخوة لا أراهم في العام إلا مرة، أنا أوثق بمودتهم ممن ألقاهم كل يوم.

فعدم كثرة اللقاء لا تعني بالضرورة ولا تستلزم عدم المحبة والمودة!

أقول: أحياناً نفرط في العتاب واللوم على إخواننا ونتصور أن هذا مما يزيد بنيان الأخوة، فلا شك أنه حين يبالغ فيه الأخ قد يهدمها وقد يشعر الأخ أنه محرج، فقد يضطر أحياناً للكذب، قد يضطر لعدم مقابلة أخيه، قد يضطر لأمور لأنه يشعر أنه سيفرط في عتابه ولومه.

سابعاً: من آفات الأخوة تصيد الأخطاء، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)، والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر ، ورواه أحمد وأبو داود عن أبي برزة ، ورواه أهل السنن عن البراء رضي الله عنه، فهو حديث مشهور في كتب السنة.

إن من يبحث عن العورات والأخطاء ويتصيدها يجازيه الله، والجزاء من جنس العمل.

وشتان بين من يتتبع عورته ويتصيد كلماته وعباراته بشر من البشر، وبين من يتتبع الله عز وجل عورته، فإن الله عليم بالنوايا وما تخفي الصدور، والبشر قد يتزين لهم في لحن القول، وقد يقال لهم قول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب كما يقال، أما الله عز وجل فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالبحث عن الزلات والأخطاء من صفات أهل النفاق عافانا الله وإياكم.

يقول ابن المبارك : المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات.

فالمؤمن حين يرى هفوة على أخيه أو خطأً يبحث له عن العذر، أما المنافق فهو يبحث عن الزلة ويبحث عن الهفوة.

الآفة الثامنة: سوء الظن:

في سورة الحجرات يقول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، ثم يعقبها الله عز وجل بوصايا تعين على إتمام بنيان الأخوة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [الحجرات:11]، ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

وسوء الظن هو تلك الأرض التي تنبت التصيد والبحث عن الأخطاء، سوء الظن هي تلك الشرارة التي توقد هذه العداوات والإحن، والتي تبدأ من شعور في الداخل، ومن ظن سيء، فحينئذٍ يظل الأخ يبحث عن برهان يؤيد ما يختلج في صدره من ظن سيء، فيحول الشك إلى يقين والوهم إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ويبني من هذه الأوهام بنياناً شامخاً على رأس دبوس كما يقال.

ولو كان المرء واقعياً لرأى أن الناس تمر بهم ظروف ومواقف وأحوال يراها الإنسان من نفسه، فمثلاً قد يقابل الأخ أحد أخوانه فلا يبش له، ولا يرحب به ذاك الترحيب الذي اعتاده، فيبدأ يفسر ويتساءل عن السبب، ويحمل في نفسه علي شيء، كره مقابلتي... إلى آخره، ويبدأ يقرأ في وجهه أوهاماً لو عاد إلى الحقيقة لعرف أن هذا الشخص كان مريضاً، هذا الشخص كان يعاني من مشكلة، هذا الشخص على الأقل كان يفكر، كان شارد التفكير.

أحياناً يتصل على أخيه في الهاتف، ويشعر بعدم الترحيب، ويشعر أن صاحبه يرغب أن ينهي المكالمة في أسرع وقت، وهو لا يعرف ظروفه، أنت اتكأت على أريكتك وأردت أن تنتظر الترحيب ولا تدري أن صاحبك قد يكون على طعام الغداء، قد يكون ينتظره صاحبه عند الباب، قد يكون يقرأ، قد يكون منشغلاً، فهو يريد أن ينهي المكالمة على أحر من الجمر، وقد يكون استيقظ من نومه وينتظر أن تنهي المكالمة حتى يدعو بدعاء الاستيقاظ، فمشاعر الناس لا تعرف ما وراءها.

وبعض الناس طبيعته أنه لا يرحب، وبعض الناس قليل الابتسامة، هكذا طبعه، وهو يكن المحبة والتقدير، وتراه يعني أغلى فرصة هي تلك الفرصة التي تقابله فيها.

فلو كان الإنسان واقعياً لاستطاع أن يجد ألف تفسير وتفسير لمثل هذه الظواهر، لكن حينما يكون حساساً يبدأ يقرأ ما وراء السطور، ويقرأ أوهاماً ليس لها حقيقة، ويقصد كذا ويريد كذا، ثم يعاقبه الله فيبدأ يعيش في جحيم، فعندما يخرج للشارع ويقابل فلاناً ويسلم عليه، يرى ردود الفعل والقضية كلها أوهام.

وافترض يا أخي الكريم أنك أحسنت الظن بعشرة من الناس، واكتشفت منهم تسعة ليسوا أهلاً لحسن الظن، فقال واحد كلمة في مجلس يقصد الإساءة إليك، وأنت حملتها على المحمل الخير، فالنتيجة أنك استرحت منه واستراح خاطرك، وبدأ هذا الشخص يغتاظ، وأنت خرجت سليماً معافى، وماذا عليك مثلاً لو قال رجل كلمة يقصدك بها، أو أخفى ابتسامة وبخل بها عنك ماذا تخسر، لكن حين تحسن الظن ولو أخطأت أحياناً فمنحت حسن الظن لغير من لا يستحق، ستجني راحة البال والطمأنينة.

ويضرب لنا الإمام الشافعي مثلاً في ذلك، جاءه الربيع بن سليمان وهو مريض، فقال له يدعو له: قوى الله ضعفك، قال الإمام الشافعي : لو قوى الله ضعفي لقتلني، يعني لو قوى الله المرض لقتلني، قال: فاعتذر الربيع بن سليمان ، وقال: والله ما أردت إلا الخير، فقال الشافعي : إني والله أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير، لكن الإمام الشافعي أراد أن يداعبه، وأن يصحح له هذا الخطأ، فيقول له: لو شتمتني أعلم أنك لا تريد إلا الخير.

ومتى يسود بيننا هذا المنطق، للأسف أننا نحسن الظن بالأعداء، نحسن الظن بأهل النفاق، الذين يتربصون بالدعوة الدوائر، يجتهد الإنسان فيفتش لهم عن ألف عذر، ربما إذا أعوزته المعاذير قال: لعل لهم عذراً وأنت لا تعلم، أما أخوه الذي معه على الطريق، فإنه يتهمه ويقول: هذا يخادع، أنت لا تعرف عواقب الأمور، ولا تعرف ما يريد!

يا أخي! هذا على الأقل معك على خط واحد.

ذاك صاحب فجور وفسق لا يحضر الصلاة في جماعة المسلمين وهو يجاهر بالمعصية، فيقول: لا يا أخي الكريم، إنه يريد الخير، يريد المصلحة، أحسن الظن بالناس، اتق الله، هل فتشت عن قلبه، لكن تجاه الأخ الناصح يقول: هذا فيه مشكلة، وإذا لم يكتشف الخطأ يقول: هناك خطأ لكن نتيجة دهائه وخبثه ومكره استطاع أن ينطلي عليك. فهذا أحياناً منطق نسمعه بين الإخوان وبين الدعاة، نعم قد يكون أخطأ، لكن متى يأتي الحال الذي يعامل الإخوة بعضهم بعضاً بذاك المنطق الذي يعاملون به أعداءهم، وتلك المجاملات التي يعاملون بها أعداءهم. على الأقل.

الآفة التاسعة: كثرة المخالطة:

لا شك أن من الأخوة في الله أن يجلس الأخ مع إخوانه وقتاً ربما كان أكثره معموراً بذكر الله، وطاعة الله والمحبة فيه، لكن إذا طال الأمر فإنه يتحول إلى داء، ويلفت الإمام ابن القيم رحمه الله إلى ذلك فيقول: الاجتماع بالإخوان قسمان:

أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت.

يعني: أناس يرتاح بعضهم لبعض، يريدون أن يقضوا الوقت فقط، كحال أكثر مجالس الناس.

قال: فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه، أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.

الثاني: الاجتماع بهم على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات، يعني ينبغي أن نحذر من هذه الآفات الثلاث:

إحداها: تزين بعضهم لبعض. يعني: وجود نوع من المجاملة والمراءاة أحياناً.

الثاني: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.

الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.

هو في البداية أخ له في الله ويحبه في الله، ويتعاون معه على الخير، ثم إنهم لا يفترقون، يسهرون مع بعض ويذهبون مع بعض، ويأتون، والقضية تحولت إلى مؤانسة على الطبع، ولو فتشنا كم هي المجالس التي يقضيها الإخوة الصالحون، والناس الأخيار المتحابون في الله، وهي من هذا الصنف وهذا النوع التي تتحول إلى مؤانسة الطبع واللقاء فيه، فهذا من آفات الأخوة، يبدأ يجامل صاحبه، وتبدأ هذه الأخوة تفتقد ثمراتها الحقة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2589 استماع
الشباب والاهتمامات 2464 استماع
وقف لله 2325 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2257 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
كلانا على الخير 2189 استماع
يا فتاة 2183 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2087 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2084 استماع