فن التهرب من المسئولية


الحلقة مفرغة

بيع الخيار ثابت ما دام البائع والمشتري في المجلس، ولم يتفرقا، ولكل واحد منهما الخيار في إمضاء البيع أو فسخه، والشرط مدة معينة في البيع يجوز لكل منهما، وإذا غبن أحدهما الآخر غبناً فاحشاً فإن للمشتري الفسخ أو الأخذ بالقيمة الحقيقية، وكذا إذا حصل في السلعة تدليس فإن للمشتري الخيار في الفسخ أو الإمضاء.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فإن واقع المسلمين اليوم لا يخفى على الجميع، ولعل أصدق وصف ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) ولا شك أن القيام بهذه الأمة ورفع الغربة وإزالتها، وإعادة الأمة إلى ما كانت عليه من المكانة الشرعية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتتبوأها لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون أمة شاهدة على الناس مسئولية الأمة جمعاء لا تخص أحداً دون أحد، ولا طبقة دون طبقة مهما تفاوتت المراتب ومهما تنوعت أعباء المسئولية، فإن النصوص التي خاطب الله هذه الأمة أن تعمل بها لتكون خير أمة أخرجت للناس عامة، وقد جعل شرط تلك الخيرية أن تتصف بصفة الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فهذا النص وغيره من النصوص الأخرى التي تدل على مضمونه هل تخاطب فئة معينة من الناس؟ هل هي موجهة إلى أولي الأمر؟ أم موجهة إلى العلماء أو طلبة العلم؟ أم إلى شريحة معينة من المجتمع؟ أم أنها موجهة إلى كل مسلم يقرأ القرآن؟!

ومما يدل على مضمونه قول الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] هذه الأمة أخرجها الله لتحمل الهداية للبشرية جمعاء، وهذه النصوص التي خاطب الله بها هذه الأمة -كما قلت- ليست خاصة بفئة دون فئة، ولا بطبقة معينة من الناس، بل هي عامة لكل مسلم مكلّف يقرأ القرآن أو يسمعه.

وكذلك النصوص الواردة في السنة النبوية والتي توجب على الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) هذا الخطاب خطاب للأمة جميعاً، فكل مسلم يرى منكراً مخاطب بهذا النص الشرعي، ومخاطب بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بهديه، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).

بالله عليكم عندما تقرءون هذه النصوص ماذا تفهمون منها؟! كل مسلم -مهما كان مستواه العلمي والثقافي، بل مهما كان مستوى إيمانه، حتى المسلم الفاسق المقصر، والمسلم الذي يرتكب الكبائر- داخل تحت هذه النصوص.

وهذا إذا كان يصدق على واقعة من الوقائع فيها منكر وأمر مخالف لأمر الله ورسوله، فكيف إذا كان الواقع كله يحتاج إلى تغيير؟! لا شك أن المسئولية تكون آكد، وكما كان الخطاب عاماً في الصورة الأولى لكل من رأى منكراً -سواء كان عالماً أو جاهلاً أو تقياً أو فاسقاً- فكذلك هذه النصوص مخاطب بها المسلمون جميعاً، ولا تخص أحداً دون أحد.

نعم تتفاوت المسئولية تبعاً لما عند الإنسان من علم، وتبعاً لموقعه وولايته، وتبعاً لعدة أمور يختلف فيها الناس ولكن تبقى بعد ذلك المسئولية مشتركة، فالمسلمون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم) فكل واحد من أبناء هذه الأمة يتكلم باسم الأمة، فهو عندما يجير رجلاً يُقبل جواره، وعندما يسعى بذمة المسلمين فهو أيضاً يتكلم باسم المسلمين، فهم يد واحدة على من سواهم.

وهذه معان أظن أنها بدهية، ولكن -أيضاً- مما نعاني منه غربة مثل هذه المفاهيم، والتي هي أحوج ما تكون الأمة إليها حتى تنهض من سباتها.

ولكننا عندما نخاطب الناس -سواء خطاباً عاماً أو خطاباً خاصاً- على اختلاف طبقاتهم نجد التهرب من المسئولية والتخلي عن هذه المسئولية وإلقاء المسئولية على الآخرين، ومحاولة اكتشاف أعذار ومبررات تخلص المرء من أن يتحمل هذه المسئولية ليلقيها على غيره، وهذا التهرب له أسباب، فما الذي يدعو المرء إلى أن يتهرب من المسئولية ويحاول أن يلقي بها على غيره؟

أحياناً يكون المرء لديه شبهة، فيرى أنه لا ينبغي له أن يأمر وينهى لقلة علمه، أو لأنه وقع في معصية أو لغير ذلك، فهو يعتقد أصلاً أنه غير مخاطب بهذا الأمر وأن واقع المسلمين واقع مؤلم وأنه يجب إعادة الأمة إلى مكانها الطبيعي، ولكن يرى أن الأمر يُخاطب به غيره، وأنه غير مخاطب.

وأحياناً يعلم ويدرك أن المسئولية مناطة به ولكنه يحاول أن يتنصل؛ لأنه لا يتحمل تبعات هذه المسئولية، والقضية ليست قضية يسيرة، أعني عندما نطالب بإعادة صياغة المجتمع وفق المنهج الشرعي، فهو مطلب كبير، فيحتاج منا إلى رجال ينذرون أنفسهم لذلك، ويضحون بأوقاتهم وأموالهم وراحتهم وأمور كثيرة مما قد يضن به الكثير من الكسالى! فحينئذ يأتي هذا الإنسان وهو مقتنع تمام القناعة أنه يتحمل مسئولية فيلقي المسئولية عن كاهله ويحاول أن يفتعل الأعذار لأجل أن يتخلص مما يُطالب به؛ لأنه يريد الراحة والدعة، ولا يريد أن يحمل تبعات القيام بهذا الدين.

السبب الثالث: ما يسمى بالحيل اللاشعورية، وذلك أن الإنسان عندما يقتنع ويكون صريحاً مع نفسه أنه يتحمل المسئولية ستلومه نفسه على التقصير، فحتى يتخلص من لوم النفس يحاول أن يوجد مبررات ليقنع نفسه -لا ليقنع الآخرين- أنه لا يتحمل هذه المسئولية، كما يفعل الطالب الآن عندما يرسب في الامتحان، والغالب أن التقصير يعود إليه جملة وتفصيلاً، فيحاول أن يوجد مبررات لرسوبه، فهو -مثلاً- يقول: إن الأسئلة كانت صعبة، كانت درجات أعمال السنة لا تؤهله للنجاح، كانت إجابته جيدة لكن الأستاذ في التصحيح ما كان دقيقاً، كان قد استذكر الكتاب كله لكن لم يوفق لأن يقرأ مواضع الأسئلة وترك أشياء كان يظن أنها لا تأتي في الأسئلة .. وهكذا يحاول أن يفتعل الأعذار؛ لأنه لو كان صريحاً مع نفسه لوجدها تلومه، ومن طبيعة النفس أن تلوم على التقصير، ولذلك يحاول أن يفتعل أعذاراً ليقنع بها نفسه، ونحن نستعمل الأسلوب نفسه مع أنفسنا فنحاول أن نقنع أنفسنا أننا بريئون من هذه المسئولية، وأننا لا نتحمل هذه المسئولية لسبب أو لآخر، حتى لا تلومنا أنفسنا على التقصير، وحتى نتخلص من تبعات هذه المسئولية.

لكن يجب أن نعلم أيها الأخوة أننا -سواء افتعلنا شبهات، أو دافعنا عن أنفسنا بحيل لاشعورية، أو افتعلنا أسباباً فخادعنا أنفسنا أو خادعنا الآخرين- سنقدم على الله سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله سبحانه وتعالى خاطبنا بكتاب يدركه كل الناس: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] ونصوص السنة النبوية واضحة يدركها الجميع، فلا عذر لأحد أبداً بالجهل أو التجاهل الذي نمارسه بصورة أو بأخرى للتخلص من هذه المسئولية.

بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية في هذه المحاضرة، وهي أساليب التهرب من المسئولية.

وقد تكون متداخلة، وهذه قضية لا تهمنا، الذي يهمنا أن أمامي فكرة أريد أن أنقلها إليكم بأي صورة، وأن أحملكم هذه الأمانة؛ لأننا مأمورون أن نتواصى بالحق وأن نتواصى بالصبر جميعاً.

الدفاع عن واقع المجتمع

أول أسلوب نمارسه للتخلص من المسئولية هو الدفاع عن واقع المجتمع.

نحن عندما نطالب الناس بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يتحملوا المسئولية تجاه هذا المجتمع فإن هذا فرع عن مقدمة أخرى اتفقنا عليها قبل، وهي أن واقع المجتمع واقع مخالف، فكيف تطالب الناس بالدعوة وواقع المجتمع واقع سليم؟

فالبعض يبدأ يناقشك في المقدمة أصلاً، يقول لك: يا أخي! واقع مجتمعنا واقع سليم، فلا داعي لهذا الحديث والمبالغة عن المشاكل التي يواجهها المجتمع، ولا داعي للمبالغة في الحديث عن الانحراف الموجود في صفوف المجتمع، وهي قضايا إما أنها قضايا تبالغون فيها أنتم أصلاً، أو أنها قضايا يمكن أن تحصل في أي مجتمع وقد وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- من وقع في الزنا؟! أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر؟ وهكذا يعطيك قائمة من تلك الحوادث التي كانت حوادث فردية وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أو في مجتمع الخلفاء الراشدين، حتى يقول لك: إنها الصورة نفسها، قد يكون حجم هذه الحوادث وحجم هذه المخالفات في مجتمعنا أكثر، لكن هذا لا يُخرج مجتمعاً عن كونه مجتمعاً واقعاً في وضع سليم.

قضية لا يمكن أن نتفق عليها، يعني أنت تقول: إن واقع المجتمع واقع سليم، وأنا أقول: واقع غير سليم! لا يمكن أن نصل إلى نتيجة بمثل هذا الأسلوب، لكن نريد أن نطرح السؤال، نتأمل في واقع المجتمع قليلاً.

أولاً: قد أكون أنا أتحدث عن هذا الجانب باعتبار أنني أتعامل معه من خلال عملي في ميدان التعليم، أو من خلال عنايتي نوعاً ما بهذا الموضوع.

جانب الفساد الأخلاقي في أوساط الشباب، وانتشار الشذوذ والفساد.. قضية مزعجة، وأظن أن هذه وحدها كافية أن تعطينا صورة عن مدى الانحراف الموجود في المجتمع.

صورة عن بعد المجتمع عن الواقع الشرعي، وفي الواقع أنني أملك معلومات وقضايا موثقة لكنني أتردد كثيراً في عرضها؛ لأنني أعرف أنها مزعجة، وأعرف أن أثرها قد يكون على الكثير هو ردة الفعل، فالكثير عندما يُصدم بمثل هذه المعلومات، ييأس ويتصور أن القضية انتهت.

ونحن لا نتحدث من فراغ، ولا نتحدث من مبالغة، ولكني قادر أن أذكر لكم صورة واحدة من النماذج المتكررة والمزعجة من هذا الواقع إلا أنني لا أرى أن أذكر مثل هذه المعلومات التي قد يكون لها آثار سلبية، لكن يكفي أن أقول: إن هذا الواقع سيئ وواقع مؤلم، والذي لا يعلم ذلك فهو قد يكون بعيداً عنه، لكن الذي يعمل في قطاعات أمنية، يعمل في قطاعات لها علاقة بمخالفات الشباب وما يتعلق بها يدرك مصداق ما أقول.

الجانب الاقتصادي في حياتنا: والجانب الاقتصادي جزء أساسي من كيان الأمة، من كيان مجتمعنا، نحن نتحدث عن مجتمعنا الذي نجد الناس يدافعون عنه، أليست حياتنا الاقتصادية قائمة على الربا من أولها إلى آخرها على المستوى الفردي، وعلى المستوى الرسمي، وعلى المستوى العام في كافة الأمور، وأصدق دليل على ذلك أنك تذهب إلى أي قرية من القرى لا تجدها تخلو من بنك ربوي.

وليست المشكلة وجود بنك ربوي، أو بنوك تمارس الربا أو أن الربا أصبح أمراً له شرعية، لكن المشكلة أن الربا دخل في الحياة الاقتصادية فحياتنا الاقتصادية بكافة جوانبها قل أن تخلو من الربا، وحتى تعرف مصداق ذلك يمكن أن تتحدث مع كبار التجار لترى ذلك، فإنك عندما تذهب إلى أي محل تجاري لتشتري علبة ألبان، أو علبة مياه صحية..، أو أي منتج صناعي، تشتريه وأنت لا يدور في بالك شيء، لكن هذا غالباً يكون قد دخله الربا، أما شركة الألبان مثلاً أو شركة المياه الصحية أو غيرها، فسيكون عندها فائض أموال ستودعه في البنك بفائدة.

وعندما تحتاج أحياناً سيولة ستقترض بفائدة.

وإذا سلمت مثلاً شركة الألبان من التعامل بالربا فشركة التغليف الذي تصنع العلب كذلك، وإذا سلمت هذه فالموزع..، وهكذا قل ما تجد منتجاً أو سلعة إلا وقد دخلها الربا بصورة أو بأخرى.

أظن أنكم جميعاً تعرفون أن هذا لا يعني أننا نحرم مثل هذه الأمور، ولا أن الإنسان الذي يتعامل مع مثل هذه السلعة أو مع مثل هذه الشركة يتعامل بالربا، لكن حتى أصور لك أنه ليست القضية قضية وجود الربا! بل إن الربا أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الاقتصادية، بل أصبحت وللأسف مجتمعاتنا تعتبر منافسة في القضايا الربوية، ولعل الفضائح الذي تخرج وما يتعلق بالبنوك العالمية، وتقرءون عنها كثيراً وتسمعون عنها.

خذ جانباً آخر كجانب المرأة وما فيه، وعلى كل حال فنحن لا نريد أن نسهب في الحديث عن الصور المؤلمة في مجتمعنا والتي يكفي جانب واحد منها ليعطينا قناعة أن مجتمعنا بحاجة إلى أن تتضافر الجهود لإعادته إلى الواقع الشرعي.

مرة أخرى نطرح هذا السؤال المحدد الذي نريد من كل رجل يدافع عن المجتمع أن يجيب عليه إجابة سيسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى:

هل واقع المجتمع الآن يرضي الله أم لا؟ هل هذا هو الواقع الشرعي أم لا؟

ونحن لا نبالغ فنقول: نعم مجتمعنا مسلم، وفيه جوانب خيّرة، ولكن أيضاً يجب أن توضع الأمور في نصابها.

ننتقل إلى الأسلوب الآخر وهو أسلوب قريب من هذا الأسلوب.

الاعتراف بالخلل مع اعتباره أحسن الموجود

أن يعترف لك بأن المجتمع فيه مخالفات، وأن المجتمع فيه خلل، ولكن يقول لك: مجتمعنا أحسن المجتمعات..

يا أخي نحن أحسن دولة في العالم، عندنا أجهزة رسمية غير موجودة في العالم، كجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وعندنا رئاسة تعليم البنات، وعندنا تقام الحدود، والأمور الشرعية ظاهرة..، وهكذا يُعطيك قائمة من المزايا التي يمتاز به هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، وهي قضية نسلّم بها ابتداء.. فنسلّم نحن أن مجتمعنا خير المجتمعات الموجودة في الجملة، ولكن إذا استعملنا هذا المنطق مثلاً ورتبنا المجتمعات الإسلامية الآن وحصل مجتمعنا على ترتيب رقم واحد مثلاً، فسنجد مجتمعاً بترتيب رقم اثنين، ولا بد أن فيه خللاً ومخالفات جعلته يتأخر فيحصل على المرتبة الثانية، فسيقول المجتمع رقم اثنين: أنا أفضل من سائر المجتمعات، وأيضاً سيأتينا مجتمع رقم ثلاثة ويقول: أنا أفضل أيضاً من سائر المجتمعات، حتى يأتينا آخر مجتمع في القائمة فيقول: أنا على الأقل موجود في دستور الدولة أن دين الدولة الرسمي الإسلام، فهو أفضل على الأقل من دولة دينها الإلحاد.

فلماذا نحتج نحن بأننا خير من غيرنا، ولا يحتج الآخرون بأنهم خير من غيرهم، سيقول الآخرون: نعم نحن يفوقنا مثلاً أربعة مجتمعات أو خمسة مجتمعات لكننا على الأقل أفضل من غيرنا، فلماذا لا تذهب إلى الدول الأخرى التي ينص دستور الدولة على أنها علمانية وعلى أنها دولة إلحادية، فهذا هو المنطق نفسه وإن اختلفت الصورة، أو اختلف حجم المقارنة لكن النتيجة التي يؤدينا إليها استخدام هذا المنطق هي النتيجة.

ثم مرة أخرى نطرح السؤال نفسه: هل واقع المجتمع واقع يرضي الله ورسوله أم لا؟

هل هذا الواقع هو الذي اختار الله هذه الأمة لتكون عليه أم لا؟

هب أننا اتفقنا على أن مجتمعنا من أفضل المجتمعات، وأن الظواهر السرية في المجتمع لا تستبعد إثارة الناس وحثهم على الدعوة والمشاركة وأن يتحمل كل منهم مسئوليته، فما مدى تحمل مجتمعنا لمسئوليته في هذا الدين ما دمنا الآن خير المجتمعات، وما دمنا وصلنا إلى المستوى فعلاً المطلوب؟ فالدين ليس خاص بجزيرة العرب، وليس خاصاً بهذه البلاد، بل هذا الدين للبشرية جمعاء، فما مدى قيام مجتمعنا بهذا الدور؟ فالواجب أن تكون سفاراتنا كلها مراكز دعوة لهذا الدين، وتحمل هذا الدين وتمثل هذا الدين، وبعوثنا الرسمية كلها تمثل هذا الدين، ومنتخباتنا الرياضية تمثل هذا الدين؛ لأنها تمثل هذا المجتمع، وكل إنسان يخرج من مجتمعنا يدعو إلى هذا الدين.

نترك هذه القضية.. ونقول: الآن يتوافد إلى مجتمعنا آلاف الناس من أقطار العالم، سواء من غير المسلمين أو من المسلمين.

فما مدى قيامنا بالواجب الدعوي تجاه هؤلاء؟

يأتينا غير المسلمين، فهل ندعوهم للإسلام؟ وما هي البرامج المنظمة لدعوة هؤلاء للإسلام؟

إنها جهود محدودة قائمة على جهود أفراد، ومهما كانت فهي لا تساوي حجم هذا العدد الهائل من العمالات الوافدة علينا من كافة أنحاء العالم، فهل نحن ننظم برامج لدعوة هؤلاء للإسلام؟

كذلك العمالة المسلمة التي تفد إلى هذه البلاد، نحن كثيراً ما نقول للناس: إننا أهل التوحيد وبلد التوحيد، ونحن الأوصياء على التوحيد وأولئك يقعون في الشرك، وما ينبغي الصلاة خلف رجل لا تدري أهو من أهل التوحيد أم لا؟ لكن ماذا فعل أهل التوحيد لأولئك الذين يفدون.

يأتينا أناس عبّاد قبور، ويبقى في مجتمعنا عشرين سنة، خمسة وعشرين سنة ويذهب إلى بلاده لم يسمع كلمة واحدة، ولم يقدم له دعوة من التاجر الذي يعمل عنده، أو قريبه، أو الذي يصلي معه في المسجد.. فإذا كنا نوافق هذا الرجل الذي يقول إن مجتمعنا ليس فيه حاجة إلى إعادة الدعوة فيه، فنقول: يا أخي لا نريدك أن تذهب للعالم وإن كان هذا من واجبنا، لكن نريد أن تؤدي دورك تجاه الذين يفدون إلى هذا المجتمع؛ لأن هذا المجتمع ما دام خير المجتمعات وما دام هو بلد التوحيد وهو بلد الحرمين، فيجب أن يكون هو الرائد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يكون المجتمع بكل ما يمثّله داعياً إلى الله سبحانه وتعالى.

تضخيم الفساد والانحراف وتقليل ثمار الدعوة

الأسلوب الثالث: هو الأسلوب المعاكس، تضخيم الفساد والانحراف:

فعندما تتحدث مع بعض الناس سيذكر لك ألواناً من الفساد والانحراف الواقع في المجتمع، ثم يقرن هذا بضآلة الجهود المبذولة للدعوة، وهي جهود محدودة، ماذا تصنع أنت؟ تأتي مثلاً تلقي محاضرة، أو خطبة، أو تتكلم مع الطلاب في الفصل وتلقي عليهم كلمة وموعظة وقد يتأثر الجميع، ولكن هذا يذهب إلى المنزل فيرى التلفاز، يرى الفيديو.. ويهدم في دقائق كل ما بنيته، يذهب مع زملائه في الحي، أو مع زملائه في المدرسة أو حتى مع بعض أقاربه فيُهدم كل ما بنيته، واتسع الخرق على الراقع، والقضية لن يحلها إلا أمر بقدر الله سبحانه وتعالى، فيبدأ يتحدث لك عن ألوان الفساد، والانحراف، الفساد الموجود، والفساد القادم بصورة تجعله يائساً من أن يقدم أي عمل، ويرى أن أي عمل نتائجه محدودة، وحتى لو فرضنا أننا قدمنا عملاً وعملنا جهوداً وأنتجت.. فسرعان ما تزول هذه النتائج ويُقضى عليها.

الاستسلام للأمر الواقع

الأسلوب الرابع: الاستسلام للأمر والواقع:

يقول لك هذا الواقع فماذا تصنع؟ ويعطيك بعض الأمثال العامية التي كثيراً ما نسمعها، والتي هي رد لأمر لله ورسوله، مثل قولهم: هل تريد أن تسد السيل بعباءتك؟ كما يقول المثل العامي، أو هل أنت وكيل آدم على ذريته؟ أو غيرها من العبارات التي غاية ما فيها أنها مخالفة لأمر الله ورسوله.

أنا ما أريد أن أسد السيل بعباءتي، ولست وكيلاً على الناس، لكن أنا مكلف شرعاً أن أُنكر أي منكر أراه، مكلف أن أساهم في رفع هذه الغربة عن الأمة.

فتتحدث عن منكر أو فساد، أو عن قضية معينة يقول لك: هذا الواقع، وماذا نصنع؟ ونحن في آخر الزمان..، وإلى آخره، ويسرد لك من مآسي الواقع ما يشعرك بأن الرجل قد أصابه اليأس والإحباط ويرى أن هذا الواقع قد أصبح يفرض نفسه.

ونحن نقول: من الذي صنع هذا الواقع؟ ألم تكن مجتمعات المسلمين قبل وقت قريب وقبل قرون قريبة مجتمعات محافظة تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى؟ فما الذي غير الواقع؟ أليس الذي غيره هم الناس؟ فالناس الذين غيّروا الواقع أظن أنهم قادرون، بل هم أقدر على أن يغيروه للأصلح، فإهمال الناس وتخليهم عن دين الله لم يكن كله مقصوداً، أعني أن كل هؤلاء الذين ساهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة ما كان مقصودهم تدمير الأمة، فإن الذين يسعون في تدمير الأمة قلة إذا نسبتهم إلى حجم الأمة، لكن بقية الأمة شاركت في هذا الواقع بصورة غير مباشرة بالتخلي، فعندما تهب الأمة لتغيير الواقع فالذي جعلها تغير الواقع من حسن إلى سيئ يجعلها قادرة وبصورة أكثر على أن تغيره من سيئ إلى حسن، ولماذا لا يتغير هذا الواقع؟ ولماذا لا تتبدل الصورة؟ ما الذي يمنع؟

الآن لو جاء وبعث أحد الذين ماتوا في الجيل الذي سبقنا لدهش مما رآه الآن من الفساد الموجود في المجتمع الذي لم يكن يألفه، هذا التغير السريع يمكن أن يحصل بنصف الوقت الذي حصل فيه بدون مبالغة؛ لأن الناس هم الناس، وهم الذين غيّروا الواقع، ولكن عندما يسعون للتغير الأصلح فعندهم دافع قوي، وعندهم قبل ذلك كله تأييد الله سبحانه وتعالى وإعانة الله عز وجل وتوفيقه، وعندهم رصيد الفطرة الموجود الذي جعلهم يوقنون أن هذا الفساد سيوصلهم إلى طريق مسدود.

الانشغال بالمصالح الخاصة

الأسلوب الخامس: الانشغال بالمصالح الخاصة.

يعني عندما تطلب من أي إنسان أن يشارك في أي أمر كأحد طلبة العلم: نريدك أن تسافر إلى منطقة قريبة لتلقي محاضرة أو تعطي كلمة أو أي جهد دعوي تقوم به، فتطلب منه أي عمل يحتاج إلى أن يفرغ له جزءاً من وقته، وحينئذ سيعطيك قائمة من الأعذار: أنا عندي المنزل، والأولاد، والزوجة، أو أعمال خاصة وارتباطات خاصة، وأنا إنسان لي ظروفي الخاصة.

فنقول: هل أنت كائن آخر غير البشر يا أخي؟ كل الناس عندهم زوجات وعندهم أبناء، بل النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تغزو في سبيل الله) كان عنده تسع زوجات.. وكم غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ ناهيك عما يقضيه النبي صلى الله عليه وسلم من وقته لخدمة دين الله سبحانه وتعالى وهو في المدينة، وهو في حجر أزواجه، وهو في مسجده..، في كل حياته كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش لهذا الدين ولهذه الأمة، وكان يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يشارك في كل غزوة وكل سرية ما كان يمنعه زوجاته وأهله، ومهما كنت لن تكون خيراً منه صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم من دفنوا في الهند، وتحت أسوار القسطنطينية، وفي أفريقيا هنا وهناك، أين كانت قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكن لهم أزواج؟ ألم يكن لهم أبناء؟ ألم يكن لهم ضيعات وبساتين؟ بل كانت ظروف أولئك غير ظروفنا، الآن يستطيع أحدنا أن يسافر إلى منطقة ثم يعود في نفس اليوم وبكل راحة أحياناً أحد مشاغله في نفس المدينة قد يأخذ عليه أكثر مما يأخذه عليه السفر إلى تلك المدينة وغيرها، وهكذا قائمة بمثل هذه المشاغل وهذه الظروف التي يبديها لك الإنسان حتى يتخلص من المسئولية.

وإذا أتيت إلى طالب العلم قال: أنا عندي بحث، أنا عندي رسالة ماجستير، عندي رسالة دكتوراه، عندي مشاغل، عندي كذا وكذا حتى تطلب منه أن يلقي محاضرة لا تحتاج منه إلى تحضير وقد تكون جزءاً من بحثه فيعتذر، أو تريده أن يشارك في مشروع أياً كان فيعتذر لك بمثل هذه الأعذار الطويلة، لكن عندما تدعوه إلى وليمة تجد عنده استعداداً لأن يأتي، أو تدعوه إلى مناسبة فتجد عنده استعداداً..

فأقول: يجب أن نعيد النظر في كثير من هذه الأعذار والمشاغل الخاصة التي ننشغل بها، أنا لا أدعو الإنسان إلى أن يترك أهله ويترك أزواجه ويعطّل مصالحه الخاصة جملة وتفصيلاً؛ لكن أريد أن نكون واقعيين، وأريد أن أضرب لكم مثالاً آخر: لو أن الإنسان أتيح له فرصة عمل خارج الدوام الرسمي، أو أتيح له فرصة انتداب لمدة شهر أو شهرين، فالكثير من طلبة العلم نلح عليه أحياناً ونطلب منه أن يشارك في محاضرة أو كلمة نعرف أن مادتها موجودة عنده فيعتذر بأن عنده رسالة ماجستير، أو رسالة دكتوراه، ويأتيه أحياناً انتداب لمدة شهر فيذهب ولا يهم رسالة الماجستير أو الدكتوراه، ولا يهم زوجة، ولا أبناء.. فكل المشاغل هذه لا أدري كيف انتهت؟

ثم من القضايا المعروفة لدينا جميعاً أن الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهناك فرق بين عصرٍ الأمةُ فيه ممكنة، يبقى واجب المسلم أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن يخدم الأمة بما تحتاج، وينكر المنكر بما يراه، فرق بين هذا العصر وبين العصر الذي تعيش فيه الأمة أسوأ أحوالها.

الاحتجاج بعدم القدرة

الأسلوب السادس: الاحتجاج بعدم القدرة.

يقول لك: أنا معك لكن أنا لا أستطيع، أنا إنسان ضعيف في العلم .. أنا إنسان..! لا شك أن هناك واجبات وأن هناك أموراً من أمور الدعوة قد لا يطيقها، ولا يقوم بها إلا أناس يملكون العلم ويملكون الخبرة، لكن هناك ما سوى ذلك، وسأعطيكم مثالاً تقيسون عليه ما وراءه.

الرجل كبير السن الذي يتوكأ على عصاه، والمرأة العجوز التي لا تعرف أن تقرأ وتكتب قادرة على أن تخدم الأمة، وذلك أنه عندما يعلن في أي منطقة من المناطق عن محاضرة ويأتي هذا الرجل كبير السن يتوكأ على عصاه ويجلس في المسجد، فمجرد حضوره هذا يعتبر تشجيعاً لإقامة هذا النشاط؛ لأنه كلما كثر الحضور في مثل هذه المحاضرات كان ذلك أكثر دافعاً للمحاضر ولغيره أن يزيد منها، وبالتالي فهي رسالة غير مباشرة تبعث إلى المفسدين يقال فيها: هذه الأمة تريد هذا الخير، الأمة لم تعد وراءكم، والناس لم يعودوا وراءكم.. فهم يسيرون وراء الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.

قد يحضر الرجل كبير السن محاضرة ولا يستوعب منها إلا القليل ولا يدرك إلا القليل، لكن عندما تنتهي المحاضرة يدعو لهذا المحاضر فيقول: جزاك الله خيراً وزادك علماً، ونفعنا وإياك، وحماك الله من شياطين الإنس والجن.. وغيرها من الدعوات التي نسمعها كثيراً من أولئك، فمجرد هذه الدعوة مطلوبة ويعتبر هذا الرجل قد قدّم خدمة، لأنه لا يدعو لزيد من الناس، وإنما يدعو لإنسان تصدى للدعوة، وتصدى لخدمة هذا الدين، فعندما يدعو له أن يزيده الله علماً، أن يزيده ثباتاً، أن يغفر الله له، قد يكون هذا صاحب تقصير ومهمل في حق نفسه، وذاك رجل صاحب عبادة ومجاب الدعوة فيجيب الله دعوته فينفع الله الأمة بدعوة مثل هذا، ونعتقد نحن أيها الأخوة أننا ما نُسقى ولا يأتينا الغيث إلا بدعوات أولئك الضعفاء.. أولئك العبّاد، البعيدون عن كل شهوة وعن كل هوى يخالف أمر الله ورسوله، فمثلاً إذا كانت هذه المرأة تستمع الشريط وتدعو لهذا الرجل الذي تسمع كلماته، وهذا الرجل أيضاً كبير السن كذلك فإنه يقدّم خدمة للأمة، ما بالك بعد ذلك بمن وراءه، أظن أن أقل الناس قدرة قادر على أن ينقل مثل هذه الأفكار التي يسمعها في خطبة جمعة أو يسمعها في محاضرة ينقلها بصورة أو بأخرى .. بتعبيره الخاص .. بلغته الركيكة الضعيفة إلى الآخرين، قادر مثلاً أنه يأخذ شريطاً ويعطيه الآخرين، قادر أن يصنع شيئاً كثيراً.

لأضرب مثالاً آخر من واقع الطلاب، أو واقع الشباب باعتبار أنهم أقل الطبقات سناً.. نأتي إلى واقع المدرسة، ونجد صورة تتكرر كثيراً في الجو الدراسي، فنأخذ صورتين ونعرف أن الطالب وحده قادر على أن يعالج مثل هذه المشكلة، ويعالج مثل هذه الصورة، لكنه هو يتوهم أنه غير قادر.

فمثلاً: المخالفات اللاأخلاقية من كلام، أو حركات، أو ممارسات، فيراها في الفصل، يراها في الممرات، يراها عند المقصف.. في كل مكان في المدرسة، فماذا يصنع الطالب؟

أعرف أن الكثير من هؤلاء الشباب يتألم عندما يرى مثل هذا المنكر، لكنه يعتقد أن القضية مسئولية الإدارة أو مسئولية الأستاذ فلان أو مسئولية فلان وفلان، وأنه غير قادر على أداء هذه المسئولية، فإذا كان عندنا فصل دراسي فيه خمسة من الشباب الأخيار، وكان كل واحد يرى أن الإنكار عليه واجب، فإن هذا يأتي إلى فلان ويقول له: اتق الله، لا يجوز لك أن تفعل هذا الأمر، أو يقول له باللغة الدارجة: عيب عليك تفعل هذا الكلام! وكل إنسان قادر أن يقول هذه الكلمة، ولا تحتاج إلى علم، ولا إلى فصاحة ولا إلى بلاغة.

وإذا لم ينفع هذا الأسلوب فإنك ترتفع إلى لغة التهديد، فتقول له: إذا لم ترتدع فأنا سأخبر الإدارة، أو سأخبر الأستاذ فلاناً، فهنا قد يرتدع، فيرتدع جزء منهم عندما ينصح، ويرتدع جزء عندما يهدد، فإذا لم ينفع التهديد فإنك تخبر الإدارة فعلاً، وهذا من وسائل إنكار المنكر فيقضى على هذا المنكر.

فإذا كانت هذه الصورة سائدة عند كل الشباب الذين يمقتون هذا المنكر، وكان كل واحد منهم يقوم بهذا الواجب الذي أجزم أن كل الشباب قادرون عليه، فما النتيجة؟

النتيجة أن الذي يريد أن يهم بمثل هذا الأمر سيتلفت يميناً وشمالاً، فإذا رأى واحد فقط من هؤلاء الأخيار كف عن هذه المعصية.

فبتعاون هؤلاء الشباب نستطيع أن نقضي على المنكرات الظاهرة في المدارس، مع العلم أن هناك عدداً كبيراً من الطلاب لا يتعلم هذه الأمور إلا في جو المدرسة، لأن والده محافظ عليه حتى لا يحتك بالآخرين، وقد يكون بعضهم لا يتصل بالعالم الخارجي إلا من خلال جو الدراسة، فلا يتعلم هذه الأمور إلا في المدرسة، فعندما نقضي عليها في المدرسة ونقضي عليها في الشارع، ونقضي عليها في المناسبات العامة، وتنتهي عن إعلانها أمام الناس سنجد أن فئة كبيرة من الشباب لن يقع في مثل هذه الممارسات.

الصورة الثانية: يأتي شاب محافظ، شاب مستقيم، شاب خيّر، فيتعرف على صحبة سيئة وخلال أيام أو أسابيع سرعان ما يهوي، ويكون بغير الوجه الذي كنت تعرفه عليه، صورة متكررة يراها الأساتذة ويراها الطلاب جميعاً، فلو أن الطلاب عرفوا مسئوليتهم، فإنهم إذا عرفوا أنه يسير مع الناس السيئين أتاه الأول ونصحه، وأتاه الثاني ونصحه، وأتاه الثالث ونصحه، وبهذا سيرتدع، وإذا لم يرتدع ذهب أحدهم مثلاً إلى أحد الأساتذة وقال: والله إني أرى فلاناً من الناس يسير مع أولئك وأريد أن تنصحه وأن توجهه.

أحياناً نستعمل النصيحة بأسلوب آخر، ونعالج القضية بأسلوب آخر، فبدلاً من أن يذهب مع فلان وفلان من الناس آخذه ليذهب معنا، فأدعوه مثلاً إلى الجمعية المدرسية التي أشارك فيها، والحمد لله أن عامة هذه الجمعيات تعتبر معاقل لتربية الشباب وحمايتهم.

ألا يستطيع الواحد أن يقول لفلان: نريد أن تشاركنا في الجمعية؟ نريد أن تشاركنا في رحلة؟ إنها كلمة يطيقها الجميع.

وقد أكون أطلت في هذه النقطة لكني أريد أن أحطّم هذا الحاجز الموجود عندنا، وهو أننا لا نستطيع ولا نقدر، فأقول: الجميع قادر على أن يخدم هذا الدين، وقادر أن يقدم خدمات لهذه الأمة، وليس فقط لفلان من الناس لكن عندما يشعر أنه قادر ويدرك المسئولية.

تحميل المسئولية على طبقة معينة

الأسلوب السابع: تحمل المسئولية على طبقة معينة، كطبقة الحكام أو المسئولين.

حين تحصل مخالفات يقول: والله المسئول عنها هم الحكام أو المسئول عنها المسئول الفلاني.

تحصل مخالفات مثلاً داخل الحي، فيقول: هيئة الأمر المعروف والنهي عن المنكر هي المسئولة عنها، والمفروض أن تقوم بهذا، أو المسئول إمام المسجد، أو المسئول فلان وفلان من الناس، ونوزع هذه المسئوليات على الناس.

وهناك كلمة تسمعها كثيراً في المجالس عندما يثار الكلام عن أي مشكلة موجودة في الواقع، خذ مثلاً قضية البث المباشر والصحون التي أصبحنا نراها في كل مكان، فعندما تثار القضية في أي مجلس يكون السؤال: ما دور العلماء؟ ويبدأ الجميع ينتظرون العلماء أن يقوموا بواجبهم، وكأن الكتاب والسنة إنما هو خطاب للعلماء وحدهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته) أعلى طبقة في المجتمع الإمام الأعظم، ثم حتى آخر فئة (والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) العبد الذي لا تجب عليه الجمعة ولا تجب عليه كثير من التكاليف التي تجب على الحر هو راع أيضاً ومسئول عن رعيته، فكل الأمة مسئولة، وكل الناس مخاطبون بالنصوص الشرعية لا يستثنى منها أحد.

نعم أيها الأخوة المسئوليات تختلف، والأمانة تختلف تبعاً لموقع الإنسان، فالمسئولية التي على الطالب ليست كالتي على الأستاذ، والمسئولية التي على العامي ليست كالتي على طالب العلم، والمسئولية التي طالب العلم ليست مثل المسئولية التي تجب على العالِم، ولكن المسئولية في الجملة مشتركة في حق الجميع.

نقد الجهود الدعوية

الأسلوب الثامن: نقد الجهود الدعوية:

كثيراً ما نسمع نقد الجماعات الإسلامية، والأعمال الموجودة في العالم الإسلامي.

الآن هناك جهود ولله الحمد نراها في كل مكان.. مراكز إسلامية، جمعيات إسلامية، تجمعات تقوم بخدمة هذا الدين والدعوة إليه، وقد يحصل منها مخالفات فعلاً، فنجد أحياناً بعض الناس حتى يدافع عن نفسه بصورة غير مباشرة يمارس النقد لمثل هذه التجمعات، فالجماعة الفلانية لا تعتني بالعلم الشرعي، والجماعة الفلانية عندها مخالفات، والجماعة الفلانية عندها بدع، والجماعة الفلانية عندها كذا وكذا حتى نقضي على كل تلك الجهود.

يأتي هنا يقول لك: والله هؤلاء الشباب يجمعون الشباب على قضايا فارغة .. لعب كرة، وإضاعة وقت، وقضايا ليس فيها فائدة، أولئك يقصرون في العلم، أولئك يقصرون في العبادة، وأولئك.. ويعطيك قائمة من الانتقادات..

الشباب أصحاب الهيئات يقومون بجهد لكنهم ما عندهم عناية بالعلم الشرعي ولا يفقهون...

هؤلاء أصحاب المراكز الصيفية عندهم كذا وكذا.. هؤلاء عندهم كذا وكذا.. ويعطيك قائمة من الانتقادات لكل من يقوم بجهد دعوي، فلماذا ينتقد الجهود الدعوية؟

لأنه عندما يشيد الجهود الدعوية سيقال له: أين دورك أنت؟ وأين موقعك في الساحة؟ لكنه عندما ينتقد يبقى هو على الأقل سالماً من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون.

وللأسف أنه أصبح الآن يكفي لتسقط فلاناً من الناس أنك تنجح في إثبات أنه ينتمي إلى جماعة معينة أو أنه له علاقة بجماعة معينة حتى تقضي عليه في أعين الناس، ومتى كانت هذه تهمة؟

نقول: نعم، هناك خلل موجود ولا شك.. سواء في الأنشطة الإسلامية، أو الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة، ولا زلنا ندعو إلى تصحيح الخلل، لكن هذا شيء والأسلوب الذي نمارسه للتهرب من المسئولية شيء آخر، أن نقضي على هذه الجهود ونلغيها كلها، وهي جهود لا تساوي شيئاً عند الكثير من الناس، وهو لا يصنع شيئاً، ماذا يصنع هو؟ يجتمع في المجالس مع فلان وفلان من الناس، طيب ماذا قدّمت؟ لنفترض أن كلامك سليم مائة بالمائة، وهؤلاء يضيعون أوقاتهم، وهؤلاء لا يقدمون شيئاً، وأنت ماذا قدّمت للأمة؟ لا يعرف إلا ترداد مثل هذه الكلمات، فيجب أن نحذر ونعرف أنه ليس من الفقه ولا من العلم، وليس من علو قدرة الإنسان أن يستطيع أن ينقد الأوضاع فالنقد سهل فهذا المكان لو طلبنا من كل واحد منا أن ينقد، فإنه يستطيع أن يجد فيه أخطاء فنية في تصميمه، كل إنسان يستطيع أن يكتشف لنا أكثر من خطأ، لكن لو يقوم هو بالعمل لم يستطع.

لو طلبنا الآن من أحد الشباب أن يقوم فيلقي كلمة، فكل واحد منا يستطيع أن يجد عليه خطأ في اللغة، أو يجد أنه استشهد بحديث ضعيف، أو ترك هذه النقطة ما بيّنها..، فكل إنسان يستطيع أن يجد عليه أكثر من ملاحظة، لكن لو يقوم قد لا يستطيع أن يأتي بنصف ما أتى به.

فالنقد أمر يجيده الجميع لكن العمل شيء آخر، ونحن لا نمانع من النقد بل نطالب بالنقد والتصحيح، وبيان الأخطاء بالأسلوب الشرعي، لكن هذا شيء كما قلت وأن يكون هذا وسيلة غير مباشرة للتهرب من المسئولية كما يمارس الكثير شيء آخر.

دعوى التفرغ لتحصيل العلم

الأسلوب التاسع: دعوى التفرغ لتحصيل العلم.

نقول ابتداءً: العلم الشرعي مطلوب، ويجب أن تقوم الصحوة على العلم، ويجب أن نعتني جميعاً بالعلم الشرعي، وليس أن نصرف جزءاً من أوقات الفراغ، بل أن نفرغ جزءاً من أوقاتنا لتعلم العلم الشرعي والعناية به، ويجب أن نوجه الشباب لهذا العلم والعناية به وتعليمه، لكن هنا منطق آخر، وهو أن بعض الناس يقول: أنا أريد أن أتفرغ لتحصيل العلم، فنقول: هب أن كل إنسان عنده رغبة في العلم، وأظن الناس الأخيار جميعاً يشتركون في وجود قدر من الرغبة في التفرغ للعم وإن كانت متفاوتة، لكن ما النتيجة؟ لن يبقى بعد ذلك عندنا من يقوم برعاية هؤلاء الشباب.

أضرب لكم مثالاً واقعياً: الآن من أكثر الناس الذين لا يُتاح لهم فرصة لطلب العلم الشباب العاملون في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يسهر طويلاً ثم ينام في الصباح ثم يرتاح قليلاً، ويقابل أهله، ثم يعود بعد ذلك ليعيد الدوام مرة أخرى، الآن هذا المركز مثلاً عندنا فيه عشرة من الشباب لو قالوا: نريد أن نتفرغ للعلم فسيتعطل هذا العمل، فمن سيقوم به؟ سيقوم به إنسان يريد مجرد الوظيفة، وتخيل المنكرات التي ستوجد عندما يزول أمثال هؤلاء، فهؤلاء مجرد وجودهم يحجز كثيراً من المنكرات.

وهكذا كل العاملين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يرعون الشباب ويفرغون جزءاً من أوقاتهم مع هؤلاء الشباب، عندما يتفرغون للعلم ستكون النتيجة أنه يتوجه الشباب للشوارع، أن يتوجهوا إلى تلك التجمعات التي لا تصدهم عن العلم وعن الطاعة فحسب، بل توقعهم في مساوئ الانحراف.

أيضاً: جزء من هذا قد يكون مقبولاً عندما تأتينا شخصيات على مستوى من النبوغ وعندها قدرات فذة فيمكن فعلاً أن يُفرغ هؤلاء، بل يجب أن يُفرغ قدر من هؤلاء الشباب الذين عندهم نبوغ وقدرات علمية جيدة، فيجب أن يُفرغ هؤلاء ولو حتى من كثير من أمور الدعوة، حتى ينفعوا الأمة ويخدموا الأمة، والبقية يشتركون في العلم والعناية به وطلبه وإنفاق نفيس أوقاتهم فيه؛ لكن هذا شيء وأن يكون عائقاً عن أداء الواجب الشرعي شيء آخر، أرجو أن يفهم ما أقوله، ولا يُساء الفهم.

الاعتذار بالوقوع في المعاصي

الأسلوب العاشر: وهو من جنس ما أشرت إليه في المقدمة وهو مما يُساء فهمه، وهو الاعتذار بالوقوع في المعاصي.

البعض من الناس يعتذر بأنه يقع في معاص، إما أنه مثلاً يقع في معاص معينة، أو أن مظهره لا يؤهله، حيث إن مظهره تظهر فيه المخالفات الشرعية فهذا لا يؤهله لأن يقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قضية قديمة وليست قضية جديدة، ولذلك يقول سعيد بن جبير رضي الله عنه: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر) فقال الإمام مالك رحمه الله تعليقاً على هذه العبارة قال: (وصدق! من ذا الذي ليس فيه شيء).

والحسن وهو معروف بأنه من أشد السلف ورعاً في قضية العمل بما يقول، كان يقول لـمطرف بن عبد الله : (عظ أصحابك، قال: أخاف أن أقول مالا أفعل، فقال له: يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر).

فهذه قضية كما قلت يعتذر بها الكثير، وهو يرى فعلاً أن هذا عذر شرعي، يرى أنه يقع في معصية من المعاصي وهذا بالتالي لا يجيز له أن يتحدث أمام الناس، وأن يعظ الناس؛ لأنه عندما يعظ الناس ويذكرهم ويدعوهم كأنه يظهر أمام الناس بغير مظهره الحقيقي وكأن هذا نفاق، وكأنه داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) فلا يمكن أبداً أن يوجد أحد يسلم من الذنوب حتى العلماء، وحتى الدعاة، فأي إنسان لا بد أن يقع في الذنب ولا بد أن يقع في التقصير، وهل تتخيل أن الذين يتصدرون للدعوة أو لتربية الشباب، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لتعليم العلم، أو غيرها من أبواب الدعوة، هل تتصور أن هؤلاء مقتنعون بما هم عليه وراضون عن حالهم مع الله سبحانه وتعالى؟

الكثير منهم ترى ذلك في مقاله وتراه في لسانه حاله، حيث يعترف بالتقصير والخطأ لكن تقصيرك في هذا الواجب لا يعني أن تقصر في الواجب الآخر، وهي قضية كثيراً ما ترد عند الشباب ويرد عنها التساؤل، ومن قبيل المصادفة اليوم أنه وصلتني رسالة من أحد الشباب من منطقة بعيدة وقد ذكر فيها أنه يقع في معصية ثم يقول: إنني كنت أنصح الناس ولكني لم أعد أتكلم مع بعض الشباب؛ لأني أخاف من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ومن يوم يعظ الظالم على يديه، وأحفظ قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

يقول: كنت أعظ الناس وأوجه الشباب لكني أخشى من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، لاحظ كيف يصنع الشيطان فعلاً فيوقعنا في مثل هذا الفهم الخاطئ، يعني يترك هذا الأمر خوفاً من الله عز وجل!

يا أخي.. خوفك من الله وورعك يجب أن يدفعك إلى العكس، الخوف من الله والورع يجب أن يدفعك إلى الأمر والنهي، وموعظة الناس ولو كنت حتى مقصراً في هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، والسلف أورع منا، وأكثر منا إدراكاً لنصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تركوا هذه الأمور خوفاً مما نحتج به.

انتظار مجيء القادة

الأسلوب الحادي عشر: انتظار لبعض الأوقات.

مشكلة الأمة أنها تتعلق بالأشخاص فينتظر كثير من الناس أن يأتي خليفة راشد مثل عمر بن عبد العزيز أو قائد مثل صلاح الدين أو أحد مثل ابن تيمية أو غيره من المجددين فيقلب الأمور رأساً على عقب.

وبين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال

وهذا الوهم لا يزال يسيطر علينا، نحن نقول: حتى لو وجد هذا القائد فنحن لا ندري هل يبقى سليماً أو لا؟ فما موقف الذين يحاربون الدعاة إلى الله عز وجل، يجابهونهم بألوان السجن والاضطهاد بل والقتل أحياناً، وحتى لو سلم من هؤلاء فلن يسلم وللأسف من بعض الصالحين، سيتهم بأنه إنسان مقصر بالعلم، أو أنه وقع في بدعة، أو أنه من دعاة التهييج، أو غيرها من العبارات التي تُمارس ضد هؤلاء، فحتى لو وجد المؤهل فأجزم أنه لن تسير الأمة كلها وراءه، بل هناك من سيواجهه ويقف وراءه، والمؤهل والقائد لا يمكن أن يسير وحده إذا لم تسر الأمة وراءه.

ولذلك بعض الناس يحلو له أن يقرأ مثلاً نصوص المهدي المنتظر أو غيرها من النصوص، أو ينتظر أن يأتي رجل آخر غيره، ولم لا يكون واحداً من بيننا؟ لا يكون ابني أو ابنك مثلاً هو هذا الرجل؟ وما الذي يمنع؟ صلاح الدين وفلان وفلان أليسوا بشراً؟ ليسوا أناساً يحملون مواصفات خاصة أبداً، ولا جاءوا من السماء.

الفهم الخاطئ لبعض النصوص

الأسلوب الثاني عشر: الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية.

وقد أشرنا إلى جزء منه؛ لكن هناك نصوص أخرى مثل قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متّبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة).

وهذه قضية أظن أنها معروفة لدى الجميع، وأن مثل هذه النصوص يقابلها نصوص أخرى متضافرة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فلم نحتج بهذه النصوص ونترك غيرها؟

الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير

كذلك من الأساليب الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير.

بعض الناس عندما تخاطبه يقول لك: أنا مقصر والله المستعان، ونسأل الله أن يتوب علينا، وتنتهي القضية هنا! وهذا لا يكفي.

نعم الاعتراف بالتقصير عندما أناقشك في أمر سابق، أو أناقشك عن فترة سابقة وأقول لك: كنت مقصراً، كنت تفعل كذا وكذا؟ فيحق لك أن تقول: نعم أنا كنت مقصّراً، وأسأل الله أن يتوب عليّ، لكن لا يصح أن تكون قاعدة!

يا أخي! إذا عرفت أنك مقصّر، فما الواجب عليك؟

وللأسف أن هذا المنطق أحياناً يستعمله بعض الأخيار، وبعض الناس من طلاب العلم، ألا تدري يا أخي أن تقصيرك هذا يُعتبر معصية لله؟ فلم أنت تتورع عندما تفوتك صلاة الجماعة؟ وتتورع أن تقع في أي معصية من المعاصي ولا تتورع عن إخلالك بهذا الواجب الشرعي، ما الفرق بينهما؟ أليست واجبات شرعية؟ قد يتفاوت مثلاً قدر وجوبها لكنها تشترك بأنها واجبات شرعية، فالذي أوجب عليك صلاة الجماعة أوجب عليك هذا الواجب، والذي أوجب عليك بر الوالدين وأوجب عليك كل التكاليف الشرعية أوجب عليك ذلك، فلم نراك تعتني بالنوافل أحياناً وتحاسب نفسك عليها حساباً عسيراً وعندما نخاطبك بأمور الدعوة وأمور خدمة الدين لا تزيد على أن تقول: إنني مقصر وأسأل الله أن يتوب عليّ؟

إذا كنت مقصّر فهذا يعني أنه تقصير ستحاسب عليه أمام الله عز وجل كما تُحاسب على غيره من الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليسأل العبد المؤمن حتى ليسأله يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فيقول: يا ربي خشية الناس فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى).

انتظار فتح المجال

أسلوب آخر: انتظار فتح المجال.

بعض الناس يريد أن يُفتح له مجال رسمي، أو أنه مثلاً يُعطى توجيهاً معيناً أو تكليفاً معيناً، وليس عنده استعداد بعد ذلك أن يعمل ولا أن يقدم خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، والإجابة نقرأها في قصة لـعبد الحميد بن باديس رحمه الله حين قال له الحاكم الفرنسي: إما أن تقلع عن تعليم تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت لك الجنود ليغلقوا المسجد، فقال عبد الحميد بن باديس : لا تستطيع ذلك، قال: كيف؟ قال: إذا أتيت إلى عرس ذكّرت الناس المحتفلين، وإذا أتيت إلى مجلس عزاء وعظتهم، وإذا ركبت في حافلة ذكّرت المسافرين، وإذا سجنتموني وعظت المسجونين، وإذا قتلتموني التهبت مشاعر المواطنين، وخير لك أيها الحاكم أن لا تواجه الأمة في دينها.

أي: فافعل بي ما تشاء فأنا لا زلت أحمل هذه الدعوة معي إلى أي مكان وأنقل هذه الدعوة حتى تقتلني، وحينئذ ستلتهب مشاعر الناس وسيكون قتلي شهادة، وبعد ذلك يعرف الناس أنك رجل مواجه للأمة في دينها وهذا يدعوهم إلى أن يتمسكوا بدينهم.. فنريد مثل هذا المنطق، نريد أن يكون عندنا مثل هذه الروح التي كانت موجودة عند عبد الحميد رحمه الله أنه لا ينتظر فتح المجال، بل هو نفسه يستغل هذه المجالات ويسعى لفتح المجالات، ثم هبوا أنها أُغلقت أمامنا الأبواب، هل يعني هذا أن نتخلى عن الدعوة؟ هل يعني هذا أن نتخلى عن تبليغ دين الله سبحانه وتعالى، وعن إعداد الأمة؟ لا يمكن أبداً.

كذلك انتظار التكليف والتوجيه، فبعض الناس ينتظر تكليفاً مباشراً وعنده استعداد لما يُكلف به من جهة رسمية أو من أستاذ له أو من شخص يثق به فعندما يحدد له واجباً يقوم به خير قيام، لكن ليس عنده مبادرة فردية.

يا أخي عندك تكليف قبل هذا كله من الله سبحانه وتعالى وتكليف من الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كلّف من يكلّفك هو الله سبحانه وتعالى وقد أمرك بالأمر والنهي، أمرك بالدعوة، هذا تكليف فوق تكليف البشر.

عدم وجود الثمرة

كذلك أحياناً من الأساليب عدم وجود الثمرة:

بعض الناس يرى أنه لم يثمر، يرى أنه عمل ولم ينتج، أو يرى أن هذا العمل أصلاً غير منتج، إما أنه يفترض أنه غير منتج وهو ما دخل فيه إلى الآن، أو أنه قد عمل عملاً ولم ير له نتيجة، فنقول: أولاً: هذا ليس صحيحاً أبداً وهي قضية يدركها الجميع، فإن كل مجال من مجالات الدعوة نتائجه -ولله الحمد- ظاهرة وبارزة، يدركها الجميع.

ثانياً: هب أنك لم تنتج، هب أنه لم يحصل ثمرة، هل أنت مكلف بهذه النتيجة؟ هل أنت مكلف بهداية الناس، ومحاسب عند الله كم يهتدي على يديك من إنسان، وكم يترك المعصية لأجلك من إنسان؟ أم أنك محاسب على القيام بهذا الواجب؟ فالتكليف ليس عائداً على أن يهتدي على يديك فلان أو فلان من الناس؟ وهل أنقذت فلاناً أو فلاناً من الناس؟ بل التكليف عائد على: هل قمت بهذا الواجب أم لا فقط؟ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي يوم القيامة النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل والرجلان).

إذاً هذا النبي لم يكن لدعوته ثمرة ظاهرة أمامه في الدنيا، ولكن هل يعني هذا نقصاً من حقه؟ بل هذا النبي أفضل من الدعاة الذين يهتدي على يديهم الآلاف؛ لأن هذا نبي رسول وأولئك من عامة الناس، فليست العبرة فيما أنتجت، وكم اهتدى على يديك؟ بل العبرة: هل قمت بالواجب الشرعي أم لا؟ مع أنه لا يوجد عمل يقوم به أي إنسان إلا ويرى ثمرته ظاهرة، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، ومن رحمة الله بنا أن نرى الثمرة أمامنا عاجلة، وإلا فإن الثمرة الحقة هي ما نراه عند الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نقول لأي إنسان: طهّر المجتمع من المنكرات، أو اهد فلاناً أو فلاناً.. نقول فقط لكل إنسان: قم بواجبك فقط، ولا يهمك بعد ذلك أن تنجح الدعوة أو لا تنجح، أو أن يزول المنكر أو لا يزول، هذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك أنت إذا رأيت نتيجة عملك محدودة فبإمكانك أن تعيد النظر، قد يكون أسلوبك خاطئاً، قد يكون عملك غير دقيق، قد يكون هناك طريقة أخرى أفضل من تلك الطريقة التي سلكتها.

المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة

وأخيراً من الأساليب: المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة:

لا شك أن الصحوة الآن ولله الحمد موجودة وظاهرة وعامة يدركها الجميع، لكن نحن أحياناً نتعامل مع مثل هذا الواقع، يعني أنت مثلاً تحضر في المركز

أول أسلوب نمارسه للتخلص من المسئولية هو الدفاع عن واقع المجتمع.

نحن عندما نطالب الناس بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يتحملوا المسئولية تجاه هذا المجتمع فإن هذا فرع عن مقدمة أخرى اتفقنا عليها قبل، وهي أن واقع المجتمع واقع مخالف، فكيف تطالب الناس بالدعوة وواقع المجتمع واقع سليم؟

فالبعض يبدأ يناقشك في المقدمة أصلاً، يقول لك: يا أخي! واقع مجتمعنا واقع سليم، فلا داعي لهذا الحديث والمبالغة عن المشاكل التي يواجهها المجتمع، ولا داعي للمبالغة في الحديث عن الانحراف الموجود في صفوف المجتمع، وهي قضايا إما أنها قضايا تبالغون فيها أنتم أصلاً، أو أنها قضايا يمكن أن تحصل في أي مجتمع وقد وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- من وقع في الزنا؟! أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر؟ وهكذا يعطيك قائمة من تلك الحوادث التي كانت حوادث فردية وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أو في مجتمع الخلفاء الراشدين، حتى يقول لك: إنها الصورة نفسها، قد يكون حجم هذه الحوادث وحجم هذه المخالفات في مجتمعنا أكثر، لكن هذا لا يُخرج مجتمعاً عن كونه مجتمعاً واقعاً في وضع سليم.

قضية لا يمكن أن نتفق عليها، يعني أنت تقول: إن واقع المجتمع واقع سليم، وأنا أقول: واقع غير سليم! لا يمكن أن نصل إلى نتيجة بمثل هذا الأسلوب، لكن نريد أن نطرح السؤال، نتأمل في واقع المجتمع قليلاً.

أولاً: قد أكون أنا أتحدث عن هذا الجانب باعتبار أنني أتعامل معه من خلال عملي في ميدان التعليم، أو من خلال عنايتي نوعاً ما بهذا الموضوع.

جانب الفساد الأخلاقي في أوساط الشباب، وانتشار الشذوذ والفساد.. قضية مزعجة، وأظن أن هذه وحدها كافية أن تعطينا صورة عن مدى الانحراف الموجود في المجتمع.

صورة عن بعد المجتمع عن الواقع الشرعي، وفي الواقع أنني أملك معلومات وقضايا موثقة لكنني أتردد كثيراً في عرضها؛ لأنني أعرف أنها مزعجة، وأعرف أن أثرها قد يكون على الكثير هو ردة الفعل، فالكثير عندما يُصدم بمثل هذه المعلومات، ييأس ويتصور أن القضية انتهت.

ونحن لا نتحدث من فراغ، ولا نتحدث من مبالغة، ولكني قادر أن أذكر لكم صورة واحدة من النماذج المتكررة والمزعجة من هذا الواقع إلا أنني لا أرى أن أذكر مثل هذه المعلومات التي قد يكون لها آثار سلبية، لكن يكفي أن أقول: إن هذا الواقع سيئ وواقع مؤلم، والذي لا يعلم ذلك فهو قد يكون بعيداً عنه، لكن الذي يعمل في قطاعات أمنية، يعمل في قطاعات لها علاقة بمخالفات الشباب وما يتعلق بها يدرك مصداق ما أقول.

الجانب الاقتصادي في حياتنا: والجانب الاقتصادي جزء أساسي من كيان الأمة، من كيان مجتمعنا، نحن نتحدث عن مجتمعنا الذي نجد الناس يدافعون عنه، أليست حياتنا الاقتصادية قائمة على الربا من أولها إلى آخرها على المستوى الفردي، وعلى المستوى الرسمي، وعلى المستوى العام في كافة الأمور، وأصدق دليل على ذلك أنك تذهب إلى أي قرية من القرى لا تجدها تخلو من بنك ربوي.

وليست المشكلة وجود بنك ربوي، أو بنوك تمارس الربا أو أن الربا أصبح أمراً له شرعية، لكن المشكلة أن الربا دخل في الحياة الاقتصادية فحياتنا الاقتصادية بكافة جوانبها قل أن تخلو من الربا، وحتى تعرف مصداق ذلك يمكن أن تتحدث مع كبار التجار لترى ذلك، فإنك عندما تذهب إلى أي محل تجاري لتشتري علبة ألبان، أو علبة مياه صحية..، أو أي منتج صناعي، تشتريه وأنت لا يدور في بالك شيء، لكن هذا غالباً يكون قد دخله الربا، أما شركة الألبان مثلاً أو شركة المياه الصحية أو غيرها، فسيكون عندها فائض أموال ستودعه في البنك بفائدة.

وعندما تحتاج أحياناً سيولة ستقترض بفائدة.

وإذا سلمت مثلاً شركة الألبان من التعامل بالربا فشركة التغليف الذي تصنع العلب كذلك، وإذا سلمت هذه فالموزع..، وهكذا قل ما تجد منتجاً أو سلعة إلا وقد دخلها الربا بصورة أو بأخرى.

أظن أنكم جميعاً تعرفون أن هذا لا يعني أننا نحرم مثل هذه الأمور، ولا أن الإنسان الذي يتعامل مع مثل هذه السلعة أو مع مثل هذه الشركة يتعامل بالربا، لكن حتى أصور لك أنه ليست القضية قضية وجود الربا! بل إن الربا أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الاقتصادية، بل أصبحت وللأسف مجتمعاتنا تعتبر منافسة في القضايا الربوية، ولعل الفضائح الذي تخرج وما يتعلق بالبنوك العالمية، وتقرءون عنها كثيراً وتسمعون عنها.

خذ جانباً آخر كجانب المرأة وما فيه، وعلى كل حال فنحن لا نريد أن نسهب في الحديث عن الصور المؤلمة في مجتمعنا والتي يكفي جانب واحد منها ليعطينا قناعة أن مجتمعنا بحاجة إلى أن تتضافر الجهود لإعادته إلى الواقع الشرعي.

مرة أخرى نطرح هذا السؤال المحدد الذي نريد من كل رجل يدافع عن المجتمع أن يجيب عليه إجابة سيسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى:

هل واقع المجتمع الآن يرضي الله أم لا؟ هل هذا هو الواقع الشرعي أم لا؟

ونحن لا نبالغ فنقول: نعم مجتمعنا مسلم، وفيه جوانب خيّرة، ولكن أيضاً يجب أن توضع الأمور في نصابها.

ننتقل إلى الأسلوب الآخر وهو أسلوب قريب من هذا الأسلوب.

أن يعترف لك بأن المجتمع فيه مخالفات، وأن المجتمع فيه خلل، ولكن يقول لك: مجتمعنا أحسن المجتمعات..

يا أخي نحن أحسن دولة في العالم، عندنا أجهزة رسمية غير موجودة في العالم، كجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وعندنا رئاسة تعليم البنات، وعندنا تقام الحدود، والأمور الشرعية ظاهرة..، وهكذا يُعطيك قائمة من المزايا التي يمتاز به هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، وهي قضية نسلّم بها ابتداء.. فنسلّم نحن أن مجتمعنا خير المجتمعات الموجودة في الجملة، ولكن إذا استعملنا هذا المنطق مثلاً ورتبنا المجتمعات الإسلامية الآن وحصل مجتمعنا على ترتيب رقم واحد مثلاً، فسنجد مجتمعاً بترتيب رقم اثنين، ولا بد أن فيه خللاً ومخالفات جعلته يتأخر فيحصل على المرتبة الثانية، فسيقول المجتمع رقم اثنين: أنا أفضل من سائر المجتمعات، وأيضاً سيأتينا مجتمع رقم ثلاثة ويقول: أنا أفضل أيضاً من سائر المجتمعات، حتى يأتينا آخر مجتمع في القائمة فيقول: أنا على الأقل موجود في دستور الدولة أن دين الدولة الرسمي الإسلام، فهو أفضل على الأقل من دولة دينها الإلحاد.

فلماذا نحتج نحن بأننا خير من غيرنا، ولا يحتج الآخرون بأنهم خير من غيرهم، سيقول الآخرون: نعم نحن يفوقنا مثلاً أربعة مجتمعات أو خمسة مجتمعات لكننا على الأقل أفضل من غيرنا، فلماذا لا تذهب إلى الدول الأخرى التي ينص دستور الدولة على أنها علمانية وعلى أنها دولة إلحادية، فهذا هو المنطق نفسه وإن اختلفت الصورة، أو اختلف حجم المقارنة لكن النتيجة التي يؤدينا إليها استخدام هذا المنطق هي النتيجة.

ثم مرة أخرى نطرح السؤال نفسه: هل واقع المجتمع واقع يرضي الله ورسوله أم لا؟

هل هذا الواقع هو الذي اختار الله هذه الأمة لتكون عليه أم لا؟

هب أننا اتفقنا على أن مجتمعنا من أفضل المجتمعات، وأن الظواهر السرية في المجتمع لا تستبعد إثارة الناس وحثهم على الدعوة والمشاركة وأن يتحمل كل منهم مسئوليته، فما مدى تحمل مجتمعنا لمسئوليته في هذا الدين ما دمنا الآن خير المجتمعات، وما دمنا وصلنا إلى المستوى فعلاً المطلوب؟ فالدين ليس خاص بجزيرة العرب، وليس خاصاً بهذه البلاد، بل هذا الدين للبشرية جمعاء، فما مدى قيام مجتمعنا بهذا الدور؟ فالواجب أن تكون سفاراتنا كلها مراكز دعوة لهذا الدين، وتحمل هذا الدين وتمثل هذا الدين، وبعوثنا الرسمية كلها تمثل هذا الدين، ومنتخباتنا الرياضية تمثل هذا الدين؛ لأنها تمثل هذا المجتمع، وكل إنسان يخرج من مجتمعنا يدعو إلى هذا الدين.

نترك هذه القضية.. ونقول: الآن يتوافد إلى مجتمعنا آلاف الناس من أقطار العالم، سواء من غير المسلمين أو من المسلمين.

فما مدى قيامنا بالواجب الدعوي تجاه هؤلاء؟

يأتينا غير المسلمين، فهل ندعوهم للإسلام؟ وما هي البرامج المنظمة لدعوة هؤلاء للإسلام؟

إنها جهود محدودة قائمة على جهود أفراد، ومهما كانت فهي لا تساوي حجم هذا العدد الهائل من العمالات الوافدة علينا من كافة أنحاء العالم، فهل نحن ننظم برامج لدعوة هؤلاء للإسلام؟

كذلك العمالة المسلمة التي تفد إلى هذه البلاد، نحن كثيراً ما نقول للناس: إننا أهل التوحيد وبلد التوحيد، ونحن الأوصياء على التوحيد وأولئك يقعون في الشرك، وما ينبغي الصلاة خلف رجل لا تدري أهو من أهل التوحيد أم لا؟ لكن ماذا فعل أهل التوحيد لأولئك الذين يفدون.

يأتينا أناس عبّاد قبور، ويبقى في مجتمعنا عشرين سنة، خمسة وعشرين سنة ويذهب إلى بلاده لم يسمع كلمة واحدة، ولم يقدم له دعوة من التاجر الذي يعمل عنده، أو قريبه، أو الذي يصلي معه في المسجد.. فإذا كنا نوافق هذا الرجل الذي يقول إن مجتمعنا ليس فيه حاجة إلى إعادة الدعوة فيه، فنقول: يا أخي لا نريدك أن تذهب للعالم وإن كان هذا من واجبنا، لكن نريد أن تؤدي دورك تجاه الذين يفدون إلى هذا المجتمع؛ لأن هذا المجتمع ما دام خير المجتمعات وما دام هو بلد التوحيد وهو بلد الحرمين، فيجب أن يكون هو الرائد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يكون المجتمع بكل ما يمثّله داعياً إلى الله سبحانه وتعالى.