من أسباب عذاب القبر الحلقة [7] 1،2


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أرجو الله الذي لا إله إلا هو أن يسعد أوقاتنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يسعد حياتنا وإجازاتنا وجميع أوقاتنا في الدنيا بطاعته لنسعد برضاه في دار كرامته، إنه على كل شيءٍ قدير، كما أرجوه تبارك وتعالى أن تكونوا قد وفقتم في استغلال هذه الفرصة الطيبة، وهذه الإجازة التي منحت لكم فعمرتموها بطاعة الله؛ لأن الإجازة فرصة من الفرص التي توهب للإنسان، ويمكنه أن يستغلها أحسن الاستغلال، كما يمكنه بحكم الفراغ والجدة وبحكم الشباب أن ينحرف فيها، وأن يملأها بمعاصي لا أول لها ولا آخر، ولكن المحصلة والنتيجة تختلف من شخصٍ لآخر بحسب استغلاله لهذه الفرصة.

وهاقد عدنا إلى النصف الثاني من العام الدراسي وعدنا إلى مقاعد الدراسة والمحاضرات، أو إلى المكاتب إن كنا في عملٍ، أو إلى المتاجر إن كنا في أعمالٍ خاصة، عدنا ونسينا ما ذهب منا في هذه العطلة، مَنْ عَمِلَ صالحاً وخيراً فقد اختزن أجر هذا الخير عند الله عز وجل، ومن عمل سيئاً فقد سجل عليه هذا السوء، وسوف يجد ما قدمت يداه يوم القيامة.

والناس كلهم في هذه الإجازة قد عملوا، ولا يوجد أحد ما تمكن من الإجازة، كلهم استغلوها وعملوا فيها، وملئوها وكدحوا فيها، ولكنهم يختلفون من رجلٍ لآخر، وسوف يلقون أعمالهم كما قال الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].

لا تتصور أنك تجد شيئاً ما عملته، الله لا يظلم مثقال ذرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40] إِنَّكَ كَادِحٌ [الانشقاق:6] أي: عامل إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] هل تتصور أنك إذا عملت ذهباً أن تجني حطباً؟ لا. اعمل ذهباً تجد قطعاً من الذهب، وهل تتصور أن البعير إذا عمل بعراً وعمل -والعياذ بالله- سيئات أن يجني من هذا البعر وهذا الشر ذهباً؟ لا أبداً، سنن الله لا تتغير من أجل هوى أحد، سوف تجد ما عملت أمامك في هذه الإجازة وفي كل عمرك، ولكننا نستشهد فقط بالإجازة كفترة زمنية محدودة من أعمارنا، من أجل أن نقيس عليها بقية حياتنا.

الناس في هذه الإجازة قضوا أوقاتهم في أمرين؛ منهم قومٌ استغلوها وقطعوها في طاعة الله.

قصة رجل استغل الإجازة في طاعة الله

يحدثني أحد الإخوة وقد التقيت في مكة المكرمة بعد صلاة المغرب وكنت جالساً في الحرم، فمر فسلمت عليه وجلس معي، قلت: كيف حالك؟

قال: الحمد لله في نعمة.

ما الذي معك؟

قال: جئت أنا وأهلي من أول الإجازة وجلسنا في الحرم طوال الإجازة.

قلت: كم جلست؟

قال: لي إلى الآن أربعة عشر يوماً.

يقول: من يوم الأربعاء إلى الآن أربعة عشر يوماً، أين سكنت؟ كيف عملت؟

قال: استأجرت شقة في عمارة بجوار الحرم لا يبعدني عن الحرم إلا ممر أرضي تحت الخط، يقول: مجرد ما يؤذن أنزل أنا وأهلي فنقطع الممر الصغير ونصل باب الحرم، وأجرتها يومياً مائتا ريال.. وفي أربعة عشر يوماً في مائة تكون ألفين وثمانمائة ريال.

يقول لي: عندي أربعة أطفال، وأمه موجودة معه وأخته، يقول: المائتين الريال هذه لا أتصور أنها قيمة للماء الذي نذهبه للأكل والغسل والتنظف فضلاً عن الكهرباء والأجهزة الموجودة عندهم من ثلاجة وبوتجاز ومفروشة، وثمانية أفراد عدد الأسرة وبمائتين ريال يومياً، يقول: والحمد لله ما أعلم أنها فاتتنا صلاة في الحرم خلال أربعة عشر يوماً، هل عملت لها عملية حسابية أو على الله الحساب؟

قلت: في كل يوم خمس صلوات، اضرب خمس صلوات في أربعة عشر يوماً كم صارت؟ سبعين صلاة، كل صلاة في الحرم كما جاء في الحديث الصحيح بمائة ألف صلاة، اضرب سبعين في مائة ألف كم صارت؟ سبعة ملايين صلاة، حسناً هب أنك سهوت، هب أنك غفلت، لنفرض أن الله قبل منك صلاة واحدة، والله لا يضيع شيئاً، الله يقول: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] بل من فضله إن تك حسنة ما يعطيك عليها حسنة قال: يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].

قلت: يا أخي! هب أنه قُبلت منك إن شاء الله كل الصلوات، ولكن على أقل الاحتمالات قبلت منك صلاة واحدة بكم؟ بمائة ألف صلاة، اقسم مائة ألف على خمسة أوقات كم تصير له أياماً؟ عشرين ألف يوماً، اقسمها على ثلاثمائة؟ صارت ثلاثة وثمانين سنة، يعني: عبادة ثلاثة وثمانين سنة تأتي في متى؟ في فريضة واحدة فكيف بمن وفقه الله وقبل منه كل الفرائض؟ هذا توفيقٌ عظيم لا يعلمه إلا الله، قلت له: ما هو برنامجك؟

قال: من فضل الله نستيقظ للفجر مع الأذان الأول؛ لأن في مكة أذانين، الأول يسبق الثاني بساعة، يقول: فنستيقظ على الأذان الأول؛ لأن مكبرات الصوت الموجودة في مآذن الحرم الشريف تزعزع كل العمارات التي في جوارنا، ما يؤذن إلا وكل واحد يصيح ونذهب فننزل بإذن الله إلى الحرم ونطوف، يقول: أول شيء أطوف ثم بعد ذلك أصلي ما شاء الله لي أن أصلي، ثم أجلس أقرأ القرآن حتى يؤذن الفجر، ثم نصلي ركعتي الفجر وبعدها نصلي الفجر مع الإمام، ثم بعد ذلك نجلس في المسجد نقرأ إلى أن تشرق الشمس ونصلي ركعتي الإشراق ونعود إلى البيت لنجد الطعام جاهزاً أمامنا فنفطر ثم بعدها ننام إلى قبل الظهر.

ما شاء الله راحة! لأنه يقول: ليس لي عمل إلا عبادةً وأكلاً وشرباً وشكر لله عز وجل، يقول: وقبل الظهر في الساعة الحادية عشرة نستيقظ وننزل إلى الحرم ونقرأ إلى الظهر، ثم نصلي ونجلس في الحرم تقريباً إلى ما بعد الساعة الواحدة والنصف أو الثانية حتى يجهزوا الغداء وأعود أتغدى وأنام قليلاً. يقول: وبعد العصر أنزل في الحرم أطوف وأجلس. المهم عمل برنامجاً غبطته عليه كثيراً.

والله -أيها الإخوة- ما أعظم من هذا البرنامج! قلت: بارك الله لك في وقتك وفي مالك، قلت: كم دخلك في الشهر؟

قال: كلها لا تصل الألفين والثمانمائة ريال، أضف إليها في الأربعة عشر يوماً ألف وأربعمائة ريال، أي: ثلاثة آلاف ومائتين بالكثير وهو يقول: يومياً لا نصرف مائة ريال في الأكل، بل أقل من ذلك بكثير.

هذا برنامج إيماني ما أعظم منه! يقول: أولادي أحبوا المسجد وعشقوا الصلاة، وألفوا المسجد الحرام وأحبوا العلماء، يقول: نتنقل ونرى هذا عنده درس، وهذا عنده درس، نأخذ من كل واحد مثل النحلة في البستان تجني من كل زهرةٍ شيئاً من العسل، يقول: سعدنا أياماً ما بعدها سعادة، قلت: بارك الله لك.

قصة رجل استغل الإجازة في معصية الله

وتمر الأيام ونأتي إلى هنا ونجلس في العمل ونسأل واحداً من الناس من الزملاء في العمل، ليس من الزملاء في الله، قلت: أين قضيت الإجازة؟ عساك إن شاء الله استغليتها؟

قال: والله إنهاراحة لم أرها في حياتي.

قلت: خيراً إن شاء الله! أين ذهبت؟

قال: ذهبنا إلى جدة.

قلت: وأين سكنت؟

قال: سكنت في شقة في عمارة.

قلت: بكم؟

قال: أخذناها عشرة أيام بأربعة آلاف ريال من أربعمائة ريال.

قلت: إن شاء الله أخذت عمرة؟

قال: يا شيخ! والله ما أخذت عمرة.

قلت: هل جدة أقرب أم مكة ؟

قال: والله مكة أقرب طبعاً من جدة لكن ما وجدت فرصة.

قلت: وكيف وجدتها إلى جدة ؟! وهل عندكم مسجد؟

قال: والله -يا أخي- إن المكان الذي كنا نحن فيه ما سمعنا فيه الله أكبر.

قلت: معروف أن جدة مدينة فيها مساجد ممتازة؟

قال: لا أدري، العمارة تلك -والعياذ بالله- مغضوب عليها وعلى أهلها، يقول: والله ما سمعنا الله أكبر.

قلت: هل صليت؟

قال: ولا صليت من يوم أن ذهبت حتى رجعت في مسجد بل صليت في البيت.

لا إله إلا الله، وأربعة آلاف فوقها معها ضريبتها!! لا يدخل الواحد النار إلا بإيجاره، انظر الذي يذهب الجنة بأقل، وهذا بإيجار أكثر من أجل يُعشق، لا حول ولا قوة إلا بالله! قلت: وأين تذهبون خلال اليوم؟

قال: نرقد من الصباح إلى العصر ونقوم في العصر نذهب إلى البحر نقعد فيه إلى نصف الليل، ونعود نرقد إلى العصر في اليوم الثاني، فضحكت قليلاً، قال: ماذا بك؟

قلت: شيء في نفسي من أجله أضحك.

قال: لا، كلمني لماذا تضحك؟

قلت: يا أخي وازنت بين برنامجك وبين برنامج رجلٍ موفق من عباد الله الصالحين، وأعلمته بالخبر خبر ذاك الذي في مكة ، فلما أعلمته تقطع قلبه حسرات، قلت: هل تحسرت؟

قال: إي والله.

قلت: سبحان الله يا أخي! الآن ذهبت الأربعة عشر يوماً عليك وعليه، هل بقي معك شيء من لذات نومك، ومن لذات البحر، ومن لذات السمك، ومن لذات الأكلات والنوم؟

قال: لا.

قلت: وذاك ما بقي معه شيء من آلام، إنه ينزل ولا يجد آلاماً، والله لا يوجد الألم إنه ينزل في المسجد الحرام، بل والله إن أسعد اللحظات لدى المؤمن إذا دخل من بابٍ من بيوت الله، ثم رأى بيت الله الحرام، إذا رأيت الكعبة تنفتح نفسك، وتشرق أساريرك، ترى أنه لا يوجد في الدنيا أسعد منك، لكن لو أذهب البحر فماذا أرى؟ أرى العراة والمدخنين والمطبلين وأرى قليلي الدين! معاصي وذنوب حمى الله عنها جسدي، فأوقع فيها بصري، المهم ما زلت أقول له: هذه كلها مسجلة في الديوان الثاني حقك، في ديوان السيئات ولكن استغفر الله وتب إليه وستأتيك فرص أخرى، وإذا جاءت فلا تكررها.

يا أخي! أنت ما خلقك ربي لشواطئ البحر، ولم يخلقك للنوم ولا لأكل السمك، إنما خلقك الله لعبادته وسوف تأكل سمكاً في مكة ، وسوف تنام في مكة ، لا يفوت المؤمنين شيء إذا ذهبوا إلى بيت الله أو ذهبوا في المدينة المنورة، بل والله يجدون ثواباً وكباباً. أحد الإخوة يقول: إنه خرج في سبيل الله يدعو إلى الله وكان مولعاً بحب الكباب، فخرج من بلده إلى بلدة أخرى فمر عليه يوم ويومان وثلاثة وأربعة ما طعم الكباب ولا شم رائحته، فتقطع قلبه شوقاً إليه، ولكن صبر على هذا السفر، ويوماً من الأيام خرج من المسجد الذي فيه الدعوة وإذ هو يجد رجلاً أمام المسجد يبيع الكباب، والكباب يقلى على النار، فالرجل من فرحته قال: الله ثواب وكباب! يعني ثواب في المسجد وكباب هنا الحمد لله! وذهب واشترى له أربعة أو خمسة أسياخ وأكلها كلها وقال: الحمد لله، ثوابٌ وكباب! فهذه نعمة أهل الإيمان يجدون الثواب، ويجدون الكباب.

وأما أهل الغفلة فيجدون العقاب ويجدون العذاب، ولو وجد الكباب فإنه منغص وملغم بالمعصية، والمعصية إذا حلت في نعمةٍ أفسدتها، ما الذي يسعدك في الحياة؟ ما الذي يزين لك هذه الدنيا؟ ما الذي يعطي لك مالاً ووجوداً في حياتك؟ إنه الدين.. إنه الإيمان.. إنه الاتصال بالرحمن، لكن إذا عاش الإنسان حياةً مقطوعةً عن الله، لا يسمع كلام لله، ولا يألف الله، ولا يحب الله، هذا -والعياذ بالله- يأكل ويتمتع كما يأكل الحيوان: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] .

فهذه الحياة كلها لنجعلها في منزلة الإجازة، كأنها إجازة ونقول لأنفسنا: لنقضي هذه الحياة في طاعة الله، ولنصبر على الآلام والمعاناة إن كان هناك شيء منها، اصبر على طاعة الله، واصبر عن معصية الله، واصبر على أقدار الله المؤلمة، وما هي إلا يومٌ وليلة وشهرٌ وأيامٌ وسنون تمر وبعد ذلك تنتهي إجازتك وترجع إلى الآخرة: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:6-7] هؤلاء الذين عملوا حقيقةً: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:8-9] لماذا ينقلب مسروراً؟ لأنه يجد السرور، ينقلب إلى أهله في الجنة وإلى زوجات وإلى نعيم مسروراً فرحاً لا يشعر بحزن؛ لأنه يشعر بلذة وسعادة: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:9]أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم وآباءنا وأمهاتنا وجميع إخواننا المسلمين.

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق:10] ذهب يبحر! قعد يلهو ويلعب! قال: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً [الانشقاق:11] يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، أي: المصائب يدعو على نفسه بالويل، ويدعو على نفسه بالهلاك والدمار؛ لأنه يقول: أهلكت نفسي، دمرت نفسي ثم قال: وَيَصْلَى سَعِيراً [الانشقاق:12] يصلى النار، لِمَ يا رب؟ قال: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:13-14] اعتقد ألا يرجع إلى الله، الحور: هو الرجوع. بَلَى كلمة (بلى) هنا للإضراب، بلى سيعود: بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:15] إن الله لا يخفى عليه شيء من أمرك سرك وجهرك، ليلك ونهارك، كل أوقاتك مسجلة عليك، والله عز وجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في هذا الكتاب ويوم القيامة: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14] فمن عمل، يقول يوم القيامة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] أما من لم يعمل وفرط وسوَّف وأهمل فيقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32].

فمضت الإجازة وانتهت، وما معك إلا الذي معك، إن عملت خيراً فيها فهو مكتوب، وإن عملت شراً فيها فهو مكتوب، ولكن بإمكانك أن تصحح الخطأ؛ لأن الله مكنك، وإن أناساً ذهبوا إلى جدة في الإجازات وما وصلوا بيوتهم، وقد سمعتم أنتم بحوادث السير، يقول لي مسئول في كهرباء منطقة تهامة في القنفذة : إنه في خلال الأسبوع الأول من أسبوع الإجازة أربعة وعشرون حالة وفاة من حوادث المرور، فقط هذا الذي بجوارهم في القنفذة، يقول: الذي علمته من طريق المستشفى المرور، أما الذي بعيد عني فكثير. فأنت يا أخي ذهبت ورجعت، فمكنك الله وأعطاك فرصة، فإن كنت أحسنت فزد في الإحسان، وإن كنت قد أسأت فعد إلى الله وصحح الخطأ مع الله تبارك وتعالى ما دام في العمر متسع وفيه إمكانية قبل أن يحال بينك وبين التوبة وتقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فيقال لك: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

يحدثني أحد الإخوة وقد التقيت في مكة المكرمة بعد صلاة المغرب وكنت جالساً في الحرم، فمر فسلمت عليه وجلس معي، قلت: كيف حالك؟

قال: الحمد لله في نعمة.

ما الذي معك؟

قال: جئت أنا وأهلي من أول الإجازة وجلسنا في الحرم طوال الإجازة.

قلت: كم جلست؟

قال: لي إلى الآن أربعة عشر يوماً.

يقول: من يوم الأربعاء إلى الآن أربعة عشر يوماً، أين سكنت؟ كيف عملت؟

قال: استأجرت شقة في عمارة بجوار الحرم لا يبعدني عن الحرم إلا ممر أرضي تحت الخط، يقول: مجرد ما يؤذن أنزل أنا وأهلي فنقطع الممر الصغير ونصل باب الحرم، وأجرتها يومياً مائتا ريال.. وفي أربعة عشر يوماً في مائة تكون ألفين وثمانمائة ريال.

يقول لي: عندي أربعة أطفال، وأمه موجودة معه وأخته، يقول: المائتين الريال هذه لا أتصور أنها قيمة للماء الذي نذهبه للأكل والغسل والتنظف فضلاً عن الكهرباء والأجهزة الموجودة عندهم من ثلاجة وبوتجاز ومفروشة، وثمانية أفراد عدد الأسرة وبمائتين ريال يومياً، يقول: والحمد لله ما أعلم أنها فاتتنا صلاة في الحرم خلال أربعة عشر يوماً، هل عملت لها عملية حسابية أو على الله الحساب؟

قلت: في كل يوم خمس صلوات، اضرب خمس صلوات في أربعة عشر يوماً كم صارت؟ سبعين صلاة، كل صلاة في الحرم كما جاء في الحديث الصحيح بمائة ألف صلاة، اضرب سبعين في مائة ألف كم صارت؟ سبعة ملايين صلاة، حسناً هب أنك سهوت، هب أنك غفلت، لنفرض أن الله قبل منك صلاة واحدة، والله لا يضيع شيئاً، الله يقول: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] بل من فضله إن تك حسنة ما يعطيك عليها حسنة قال: يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].

قلت: يا أخي! هب أنه قُبلت منك إن شاء الله كل الصلوات، ولكن على أقل الاحتمالات قبلت منك صلاة واحدة بكم؟ بمائة ألف صلاة، اقسم مائة ألف على خمسة أوقات كم تصير له أياماً؟ عشرين ألف يوماً، اقسمها على ثلاثمائة؟ صارت ثلاثة وثمانين سنة، يعني: عبادة ثلاثة وثمانين سنة تأتي في متى؟ في فريضة واحدة فكيف بمن وفقه الله وقبل منه كل الفرائض؟ هذا توفيقٌ عظيم لا يعلمه إلا الله، قلت له: ما هو برنامجك؟

قال: من فضل الله نستيقظ للفجر مع الأذان الأول؛ لأن في مكة أذانين، الأول يسبق الثاني بساعة، يقول: فنستيقظ على الأذان الأول؛ لأن مكبرات الصوت الموجودة في مآذن الحرم الشريف تزعزع كل العمارات التي في جوارنا، ما يؤذن إلا وكل واحد يصيح ونذهب فننزل بإذن الله إلى الحرم ونطوف، يقول: أول شيء أطوف ثم بعد ذلك أصلي ما شاء الله لي أن أصلي، ثم أجلس أقرأ القرآن حتى يؤذن الفجر، ثم نصلي ركعتي الفجر وبعدها نصلي الفجر مع الإمام، ثم بعد ذلك نجلس في المسجد نقرأ إلى أن تشرق الشمس ونصلي ركعتي الإشراق ونعود إلى البيت لنجد الطعام جاهزاً أمامنا فنفطر ثم بعدها ننام إلى قبل الظهر.

ما شاء الله راحة! لأنه يقول: ليس لي عمل إلا عبادةً وأكلاً وشرباً وشكر لله عز وجل، يقول: وقبل الظهر في الساعة الحادية عشرة نستيقظ وننزل إلى الحرم ونقرأ إلى الظهر، ثم نصلي ونجلس في الحرم تقريباً إلى ما بعد الساعة الواحدة والنصف أو الثانية حتى يجهزوا الغداء وأعود أتغدى وأنام قليلاً. يقول: وبعد العصر أنزل في الحرم أطوف وأجلس. المهم عمل برنامجاً غبطته عليه كثيراً.

والله -أيها الإخوة- ما أعظم من هذا البرنامج! قلت: بارك الله لك في وقتك وفي مالك، قلت: كم دخلك في الشهر؟

قال: كلها لا تصل الألفين والثمانمائة ريال، أضف إليها في الأربعة عشر يوماً ألف وأربعمائة ريال، أي: ثلاثة آلاف ومائتين بالكثير وهو يقول: يومياً لا نصرف مائة ريال في الأكل، بل أقل من ذلك بكثير.

هذا برنامج إيماني ما أعظم منه! يقول: أولادي أحبوا المسجد وعشقوا الصلاة، وألفوا المسجد الحرام وأحبوا العلماء، يقول: نتنقل ونرى هذا عنده درس، وهذا عنده درس، نأخذ من كل واحد مثل النحلة في البستان تجني من كل زهرةٍ شيئاً من العسل، يقول: سعدنا أياماً ما بعدها سعادة، قلت: بارك الله لك.

وتمر الأيام ونأتي إلى هنا ونجلس في العمل ونسأل واحداً من الناس من الزملاء في العمل، ليس من الزملاء في الله، قلت: أين قضيت الإجازة؟ عساك إن شاء الله استغليتها؟

قال: والله إنهاراحة لم أرها في حياتي.

قلت: خيراً إن شاء الله! أين ذهبت؟

قال: ذهبنا إلى جدة.

قلت: وأين سكنت؟

قال: سكنت في شقة في عمارة.

قلت: بكم؟

قال: أخذناها عشرة أيام بأربعة آلاف ريال من أربعمائة ريال.

قلت: إن شاء الله أخذت عمرة؟

قال: يا شيخ! والله ما أخذت عمرة.

قلت: هل جدة أقرب أم مكة ؟

قال: والله مكة أقرب طبعاً من جدة لكن ما وجدت فرصة.

قلت: وكيف وجدتها إلى جدة ؟! وهل عندكم مسجد؟

قال: والله -يا أخي- إن المكان الذي كنا نحن فيه ما سمعنا فيه الله أكبر.

قلت: معروف أن جدة مدينة فيها مساجد ممتازة؟

قال: لا أدري، العمارة تلك -والعياذ بالله- مغضوب عليها وعلى أهلها، يقول: والله ما سمعنا الله أكبر.

قلت: هل صليت؟

قال: ولا صليت من يوم أن ذهبت حتى رجعت في مسجد بل صليت في البيت.

لا إله إلا الله، وأربعة آلاف فوقها معها ضريبتها!! لا يدخل الواحد النار إلا بإيجاره، انظر الذي يذهب الجنة بأقل، وهذا بإيجار أكثر من أجل يُعشق، لا حول ولا قوة إلا بالله! قلت: وأين تذهبون خلال اليوم؟

قال: نرقد من الصباح إلى العصر ونقوم في العصر نذهب إلى البحر نقعد فيه إلى نصف الليل، ونعود نرقد إلى العصر في اليوم الثاني، فضحكت قليلاً، قال: ماذا بك؟

قلت: شيء في نفسي من أجله أضحك.

قال: لا، كلمني لماذا تضحك؟

قلت: يا أخي وازنت بين برنامجك وبين برنامج رجلٍ موفق من عباد الله الصالحين، وأعلمته بالخبر خبر ذاك الذي في مكة ، فلما أعلمته تقطع قلبه حسرات، قلت: هل تحسرت؟

قال: إي والله.

قلت: سبحان الله يا أخي! الآن ذهبت الأربعة عشر يوماً عليك وعليه، هل بقي معك شيء من لذات نومك، ومن لذات البحر، ومن لذات السمك، ومن لذات الأكلات والنوم؟

قال: لا.

قلت: وذاك ما بقي معه شيء من آلام، إنه ينزل ولا يجد آلاماً، والله لا يوجد الألم إنه ينزل في المسجد الحرام، بل والله إن أسعد اللحظات لدى المؤمن إذا دخل من بابٍ من بيوت الله، ثم رأى بيت الله الحرام، إذا رأيت الكعبة تنفتح نفسك، وتشرق أساريرك، ترى أنه لا يوجد في الدنيا أسعد منك، لكن لو أذهب البحر فماذا أرى؟ أرى العراة والمدخنين والمطبلين وأرى قليلي الدين! معاصي وذنوب حمى الله عنها جسدي، فأوقع فيها بصري، المهم ما زلت أقول له: هذه كلها مسجلة في الديوان الثاني حقك، في ديوان السيئات ولكن استغفر الله وتب إليه وستأتيك فرص أخرى، وإذا جاءت فلا تكررها.

يا أخي! أنت ما خلقك ربي لشواطئ البحر، ولم يخلقك للنوم ولا لأكل السمك، إنما خلقك الله لعبادته وسوف تأكل سمكاً في مكة ، وسوف تنام في مكة ، لا يفوت المؤمنين شيء إذا ذهبوا إلى بيت الله أو ذهبوا في المدينة المنورة، بل والله يجدون ثواباً وكباباً. أحد الإخوة يقول: إنه خرج في سبيل الله يدعو إلى الله وكان مولعاً بحب الكباب، فخرج من بلده إلى بلدة أخرى فمر عليه يوم ويومان وثلاثة وأربعة ما طعم الكباب ولا شم رائحته، فتقطع قلبه شوقاً إليه، ولكن صبر على هذا السفر، ويوماً من الأيام خرج من المسجد الذي فيه الدعوة وإذ هو يجد رجلاً أمام المسجد يبيع الكباب، والكباب يقلى على النار، فالرجل من فرحته قال: الله ثواب وكباب! يعني ثواب في المسجد وكباب هنا الحمد لله! وذهب واشترى له أربعة أو خمسة أسياخ وأكلها كلها وقال: الحمد لله، ثوابٌ وكباب! فهذه نعمة أهل الإيمان يجدون الثواب، ويجدون الكباب.

وأما أهل الغفلة فيجدون العقاب ويجدون العذاب، ولو وجد الكباب فإنه منغص وملغم بالمعصية، والمعصية إذا حلت في نعمةٍ أفسدتها، ما الذي يسعدك في الحياة؟ ما الذي يزين لك هذه الدنيا؟ ما الذي يعطي لك مالاً ووجوداً في حياتك؟ إنه الدين.. إنه الإيمان.. إنه الاتصال بالرحمن، لكن إذا عاش الإنسان حياةً مقطوعةً عن الله، لا يسمع كلام لله، ولا يألف الله، ولا يحب الله، هذا -والعياذ بالله- يأكل ويتمتع كما يأكل الحيوان: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] .

فهذه الحياة كلها لنجعلها في منزلة الإجازة، كأنها إجازة ونقول لأنفسنا: لنقضي هذه الحياة في طاعة الله، ولنصبر على الآلام والمعاناة إن كان هناك شيء منها، اصبر على طاعة الله، واصبر عن معصية الله، واصبر على أقدار الله المؤلمة، وما هي إلا يومٌ وليلة وشهرٌ وأيامٌ وسنون تمر وبعد ذلك تنتهي إجازتك وترجع إلى الآخرة: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:6-7] هؤلاء الذين عملوا حقيقةً: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:8-9] لماذا ينقلب مسروراً؟ لأنه يجد السرور، ينقلب إلى أهله في الجنة وإلى زوجات وإلى نعيم مسروراً فرحاً لا يشعر بحزن؛ لأنه يشعر بلذة وسعادة: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:9]أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم وآباءنا وأمهاتنا وجميع إخواننا المسلمين.

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق:10] ذهب يبحر! قعد يلهو ويلعب! قال: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً [الانشقاق:11] يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، أي: المصائب يدعو على نفسه بالويل، ويدعو على نفسه بالهلاك والدمار؛ لأنه يقول: أهلكت نفسي، دمرت نفسي ثم قال: وَيَصْلَى سَعِيراً [الانشقاق:12] يصلى النار، لِمَ يا رب؟ قال: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:13-14] اعتقد ألا يرجع إلى الله، الحور: هو الرجوع. بَلَى كلمة (بلى) هنا للإضراب، بلى سيعود: بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:15] إن الله لا يخفى عليه شيء من أمرك سرك وجهرك، ليلك ونهارك، كل أوقاتك مسجلة عليك، والله عز وجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في هذا الكتاب ويوم القيامة: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14] فمن عمل، يقول يوم القيامة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] أما من لم يعمل وفرط وسوَّف وأهمل فيقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32].

فمضت الإجازة وانتهت، وما معك إلا الذي معك، إن عملت خيراً فيها فهو مكتوب، وإن عملت شراً فيها فهو مكتوب، ولكن بإمكانك أن تصحح الخطأ؛ لأن الله مكنك، وإن أناساً ذهبوا إلى جدة في الإجازات وما وصلوا بيوتهم، وقد سمعتم أنتم بحوادث السير، يقول لي مسئول في كهرباء منطقة تهامة في القنفذة : إنه في خلال الأسبوع الأول من أسبوع الإجازة أربعة وعشرون حالة وفاة من حوادث المرور، فقط هذا الذي بجوارهم في القنفذة، يقول: الذي علمته من طريق المستشفى المرور، أما الذي بعيد عني فكثير. فأنت يا أخي ذهبت ورجعت، فمكنك الله وأعطاك فرصة، فإن كنت أحسنت فزد في الإحسان، وإن كنت قد أسأت فعد إلى الله وصحح الخطأ مع الله تبارك وتعالى ما دام في العمر متسع وفيه إمكانية قبل أن يحال بينك وبين التوبة وتقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فيقال لك: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

أيها الإخوة في الله! مدار سعادة الإنسان ونجاته وفوزه وفلاحه في الدنيا والآخرة على حفظ أمرين: على حفظ لسانه وعلى حفظ فرجه، يشهد لهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) سبحان الله! تحفظ هذين المحلين اللذين إذا أطلقتهما أورداك النار، وإذا حفظتهما أورداك الجنة، ويضمن لك النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، وفي الحديث الآخر الذي ذكره السيوطي في الجامع وصححه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تزوج فقد استكمل نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر) ما معنى الزواج نصف الدين؟ يفسر ذلك المحققون والذين يغوصون في أعماق النصوص، ويعرفون جواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إن معنى هذا الحديث أن نصف الدين يحفظ بالزواج يعني: يحفظ الفرج (فليتقِ الله في النصف الآخر) أي: في اللسان، من تزوج حفظ نصف دينه، هذا إذا كان موفقاً، أما إذا كان مخذولاً -والعياذ بالله- فما يكفيه الحلال، بل هناك أناس الآن متزوجون يخرجون إلى الخارج، يقطع إجازة ويسافر من أجل أن يزني ويسكر ويعربد هناك -والعياذ بالله- وهو متزوج، لكنه مخذول شيطان رجيم -والعياذ بالله- وهناك شباب ليسوا متزوجين ولكن عندهم عصمة، وعفة، لأنهم معتصمون بالله، أبداً لا ينظرون ولا يسمعون، ولا يمكن أن يفكروا في الحرام، لماذا؟ لأن الله نوَّر قلوبهم، وشرح صدورهم، وربطهم به، فهم مع الله تعالى: (فمن تزوج فقد استكمل نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر).

حفظ اللسان وحفظ الفرج عليهما مدار السعادة في الدنيا، الآن لو تذهب في السجن وتطلب إحصائية بالقضايا الموجودة ستجد أكثر السجناء من أجل فرجه أو لسانه، إما في زنا، أو لواط، أو مضاربة بلسانه، أو شهادة زور، أو دعوة كاذبة، أو لعن، وأكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج وهي من الأعضاء الخطيرة على الإنسان والتي ما جعل الله ولا خلق منها إلا واحداً واحداً، فالأعضاء والعناصر والجوارح المفيدة خلق الله منها اثنين، والضارة واحداً، العينان مفيدتان، جعل لك ربي اثنتين تتعطل واحدة وإذا بالثانية شغالة، تضعف واحدة وإذا بالثانية شغالة، الأذنان اثنتان، اليدان اثنتان، الأنف فتحتان، الشفتان اثنتان، الرجلان كذلك، لكن الفم واحد واللسان واحد، إذا كان لسان واحد لم يخارجنا،كيف لو أنه لسانان! والفرج واحد، كيف لو أنه اثنان؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! هذه الأعضاء الخطيرة الله جعل منها واحداً وأمرنا أن نحفظ هذا الواحد وقال: احفظوا هذا واحفظوا هذا قال صلى الله عليه وسلم: (أضمن لكم الجنة).

سبعة يظلهم الله في ظله

روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس حتى تغلي أدمغة العباد، وتكون على بعد ميل، قيل: ميل المسافة، وقيل: ميل المكحلة، وتصهر الناس صهراً في عرصات القيامة حتى إنه ليسيل العرق منهم، ومنهم من يلجمهم العرق، أي: يسبح في عرقه، مهما بلغت درجة حرارة الدنيا كلها لا يمكن أن يسيل العرق في الأرض مثل الأنهار أو مثل الماء، لكن يوم القيامة ليس يسيراً فقط، بل يلجمهم العرق، وفي ذلك الوقت، وفي ذلك الكرب الشديد، وفي ذلك اليوم الهائل الطويل الذي مقدراه خمسين ألف سنة هناك سبعة أصناف من الناس يكونون في ظل عرش الله: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ إلى نفسها -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله) هذا ما أعظم منه، ترونها في الذهن سهلة، لكن عند التطبيق: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] اللهم ثبتنا يا رب في الدنيا والآخرة.

قصة الكفل من بني إسرائيل وتوبته

أخرج الترمذي وحسن الحديث وأخرجه ابن حبان في صحيحه وأخرجه الحاكم في مستدركه وصحح الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا حديثاً لم أسمعه مرة أو مرتين أو ثلاثاً ولكن سمعته أكثر من ذلك -هذا كلام ابن عمر- يقول: سمعته يحدثنا أكثر من ذلك قال: (كان الكفل من بني إسرائيل وكان لا يتورع من ذنبٍ عمله -كان رجلاً مسرفاً في الذنوب- فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها حراماً، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت -ما دفعها إلى الموافقة إلا الاحتياج، وهو استغل حاجتها وأغراها بالمال، ولكنها شريفة وعفيفة ولا تعمل هذا العمل، فلما جلس منها ارتعدت وخافت من الله وبكت- قال: ما يبكيكِ أأكرهتكِ؟ -يقول: أنا ما أجبرتكِ على هذا- قالت: لا. ولكن عملٌ ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة -تقول: هذه الشغلة ليست لي ولا لآبائي ولا لأجدادي - قال: تفعلين هذا لِمَ؟ قالت: من مخافة الله، قال: فأنا أحرى منكِ اذهبي فلكِ ما أعطيتكِ، ووالله لا أعصيه بعدها أبداً. وتاب الله عليه قال: فمات من ليلته-انظروا حسن الخاتمة- فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل وأدخله الجنة).

الله أكبر! لا إله إلا الله! هناك من أجل حفظك للفرج يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهنا من أجل حفظ الفرج يغفر الله له، ويصبح مكتوباً يقرؤه الناس على باب الكفل: إن الله قد غفر للكفل وأدخله الجنة، فعجب الناس من ذلك.

حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار

روى البخاري أيضاً ومسلم في الصحيحين حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار وقالوا: -طبعاً كانوا في سفر- وآواهم المبيت في الليل إلى هذا الغار فدخلوا فيه وناموا، وبينما هم نائمون تدحرجت صخرة ضخمة من الجبل ووقفت على باب الغار وسدته، وليس هناك وسيلة اتصال لا هاتف يتصلون بالنجدة أو الشرطة أو الدفاع المدني، ولا جماعة ينادون لهم، ولا جرافة ولا شيء يبعد الحجر عنهم، يدحرها برجله لا يستطيع مثل الجبل على الباب قالوا: (إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا الله) عرفوا أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله، فادعوا الله بصالح أعمالكم، من تعرف على الله في الرخاء تعرف الله عليه في الشدة، لو أنهم فسقة وعصاة ومغنون ومطربون ولعابون بماذا يدعون الله؟! لا ينفع في الساعات الضيقة والحرجة إلا الإيمان؛ لأن الإيمان جوهر، الإيمان ذهب، والعمل الصالح ذهب والذهب ينفعك في كل ميدان، بينما المعاصي -والعياذ بالله- بعر وفحم، والبعر والفحم لا ينفع، قد ينفع البعر في الدنيا لكن هل تشتري به شيئاً؟! لا. لو أن إنساناً منكم سافر إلى بلدٍ بعيد من أجل الاغتراب سواءً جاء من خارج المملكة إلى المملكة أو من داخل المملكة إلى بعض جهات المملكة، واغترب سنوات طوال وهو يجمع المال إلى أن جمع له مبلغاً من المال وعاد إلى أهله في قريته، أحد الرجلين: إما رجل يذهب بمبلغ من المال ضخم يشتري سيارة كبيرة (مرسديس) ويحملها أثاثاً من كل ما لذ وطاب، ويحملها هدايا للجماعة وأهل القرية كلهم، وجيبه ممتلئ نقوداً، ومن يوم وصل إلى القرية ذبح الذبائح وأقام الولائم وعزم الأهالي كلهم.

ثم قال: والله لا يذهب منكم رجل إلا وقد أخذ كسوته، أنا كنت متغرباً عنكم والآن كل واحد له عندي ثوب وغترة وبشت وعقال، والمرأة لها عندي عباية وثوب، وأعطاهم كلهم وفوق نصيب كل واحد يعطيه نقوداً، ماذا يقول الناس لهذا الرجل؟

يقولون: الله أكبر! الله يوفق هذا الرجل، فيقول: وأنا أريد أتزوج هذه المرأة ما رأيكم يا جماعة؟! الكل سيقول: ليته يخطب عندي، بل سيتسابقون كلهم ليزوجوه، يقولون هذا رجل .. هذا فحل .. هذا الذي يقرب منه يجد خيراً في الدنيا والآخرة، هؤلاء كلهم يريدونه، إن أتيت تخطب قدموك، وإن أتيت تدخل في مجلس استقبلوك، وإن أتيت تسافر بكوا عليك، وإن أتيت تضيفهم أضافوك، لماذا؟ لأنك عرفت قيمة نفسك وحفظت نفسك في الدنيا، فهؤلاء أكرموك؛ لأنك رجل في الدنيا.

وآخر تغرب عشر سنوات وكان على القهاوي والأغاني، وبعدها تذكر أهله بعد عشرات السنين، لابد أن يرجع إليهم، وجاء ويفتش والله ليس معه شيء، لكن أخذ العدة، ما هي العدة؟ معه مسجل، وكرتون أشرطة، وكرتون دخان، وحقيبة أخرى لحلق لحيته، هذا زود الغربة وحملها إنه رجع إلى أهله، ويوم دخل عليهم: مرحباً، حياكم الله، الله يبارك فيك، فرحت به أمه وفرح أبوه، ورأوا الحقائب مليئة يظنون أن فيها شيئاً، فتحها وإذا به أندر شريط وقال: ارقصوا أريدكم تغنوا.

قالوا: والنعمة! ما سافرت حتى تعود لنرقص، الرقص في كل مكان، ما نفعنا الرقص، لكن معك شيء آخر؟

قال: أعطيت لكم الدخان، الدخان هذا يجعل الواحد يرى الدنيا كلها وهو جالس.

وماذا معك؟

قال: وهذه العدة حق الحلاقة، هذا صابون اسمه كذا، وهذا حلاقة أبو تمساح. انتظر الجماعة يومين وثلاثة الوليمة! وليس هناك وليمة ولا شيء! ما رأيكم هل أحد يزوجه إذا أراد أن يتعرس؟ والله ما يزوجونه بحمارة! لو يطلب حمارة يقولون: الحمارة أفضل من هذا! الحمارة تنفعنا نضع على ظهرها الحمل وتمشي، لكن هذا الضايع ماذا نعطي له؟ ولا يضيفونه ولا يكرمونه ويصبح مسبة لأهله، إذا جاء أبوه يتكلم قالوا: اسكت يا أبا فلان، والله ولدك كله خيبة مثلك، لو فيه خير كان حفظ نفسه، هذا في مقام الدنيا، نحن الآن مسافرون مغتربون، كلنا يا من على ظهر الدنيا مغتربون.

ومن الناس من يعمل عمل ذلك الرجل، شغال في الحسنات، يتزود من العمل الصالح لا يترك لله أمراً إلا عمله، ولا ينهى عن أمر إلا انتهى عنه، ولا يُذكر لله خبرٌ إلا صدقه، ولا يترك مجالاً من مجال الخير إلا سار فيه، فهو يحول، فإذا مات رجع إلى الله عز وجل بوجهٍ أبيض وكتابٍ أبيض وعمل أبيض، فالله عز وجل يزوجه من الحور العين، ويسكنه في القصور العالية، ويجري من تحته الأنهار الجارية، ويعطيه من كل ما لذ وطاب؛ لأنه قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] وأما ذاك الذي أتى ومعه أغاني ودخان يأتي عند الله ماذا معه؟ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40] ليس معه شيء، هل يتزوج من الحور العين هذا؟ لا. ادخلوه الصالة والعياذ بالله.

فأنت يا عبد الله! لا ينبغي لك أن تضيع نفسك.

هؤلاء الرجال الثلاثة قالوا: إنه لا ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوا، أحدهم ماذا قال؟ قال: (اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إليَّ، فراودتها عن نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سَنَة من السنين -أي: نزل بها حاجة وفقر لشدة القحط والمئونة- فجاءتني فأعطيتها مائتين وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: اتقِ الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه - تقول: لا تعمل غلط! هذا المكان لا يجيء إلا بالحق والحق هو الزواج الشرعي- قال: فتركتها وانصرفتُ عنها وهي أحب الناس إليَّ، اللهم إن كنت عملت هذا من أجلك وخوفاً منك ففرج عنا ما نحن فيه) وكان هذا الثالث، الأول قال: إنه كان له أب وأم وكان يرعى ونأى به المرعى يوماً من الأيام بعيداً؛ لأنه يتتبع منابت الشجر والأمطار، وما رجع إلا في ساعة متأخرة وقد نام والداه فحلب من الإبل وجاء بالغبوق -العشاء- لأولاده ولأمه وأبيه، لكن يقول: وكنت لا أغبق قبلهما أحداً، فأولاده يتضاغون عند رجله يبكون، وزوجته تبكي من الجوع، وأمه وأبوه نائمان، قال: والله ما أوقظهم فأزعجهم ولا أعطيكم قبلهم، يقول: فجلست واقفاً على قدمي إلى أن طلع الفجر وهو لم يكن طوال يومه نائماً، كان طوال يومه شارداً وراء الإبل يرعى، وفي الليل لم ينم يقول: أخشى أن أنام فيأكلون هذا قبل أمي وأبي، وأخشى أن أوقظهم فيغضب الله عليَّ أن أيقظ أبي وأمي من النوم وأزعجهم، لا يريد أن يقول لهم حتى أف، يقول: اللهم إن كنت تعلم أني صنعت ذلك من أجلك ففرج عنا ما نحن فيه، ففرج عنهم قليلاً لكن لا يستطيعون أن يخرجوا.

الثاني ماذا عندك؟ قال: كان عندي أجراء عملوا عندي عملاً فأعطيت كل واحد منهم أجره إلا واحداً ذهب وترك أجرته، يقول: فاستثمرته ونميته حتى أصبح وادياً من الإبل، ووادياً من البقر، ووادياً من الغنم، وعبيد يخدمون، وبعد سنين جاءني هذا العامل وقال: يا سيدي! إني كنت قد عملت عندك يوماً من الأيام وبقي عندك كذا وكذا أريده. قال: أنت فلان؟

قال: نعم.

قال: ما ترى من الوديان من الغنم والإبل والبقر والعبيد كلها لك.

قال: أتهزأ بي؟!

قال: والله ما أهزأ بك ولكن كله لك، فأخذه وساقه وما ترك له شيئاً من أجل الله عز وجل، ليس مثل كثير من الناس الذين يأكلون أجور المسلمين، ويبنون البنايات من ظهور المسلمين، بعض الناس يأتي يبني عمارة وهو مفلس وما عنده شيء، ويأتي بالمقاول ويأمره أن يشتغل، وبعدها يماطل به ويذهب يشاكيه ويقعد يتوسط عليه ويذهب للحقوق فيقول: هذا أجنبي ما له شيء، وأنا ابن الوطن ويشتغل بالهاتف وبالمكالمات حتى يظلم هذا المسكين، و(المشطب) يأمره (يشطب) ولا يعطيه، السباك يسبك ولا يعطيه، المرنج لا يعطيه، يعني: كل شغلته من ظهور الناس، مساكين هؤلاء -يا أخي- ما تركوا بلادهم واغتربوا وضحوا بأموالهم وأولادهم وأهاليهم إلا من أجل طلب لقمة العيش، من أجل أن يأخذ منك مقابل عرق جبينه، ويأكله ويرسل لأهله، فأنت لماذا تأكل عرق جبين المسلم؟ بم تستحل هذا؟ (إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) .. (أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه) لا يجوز لك شرعاً بأي حال من الأحوال أن تؤخر ريالاً واحداً على عامل عندك.

كثير من الناس عنده عمال، وبعض العاملين له أربعة وخمسة أشهر وما أخذوا الراتب إلى الآن، يمارس الضغوط عليهم وإذا قالوا: هات وإلا سنشتكيك. قال: سوف أسفركم يعني: يضع عليهم شيئاً في الترحيل حتى يستغل ضعفهم وقلتهم، ولكن هؤلاء سينصرهم الله عليه في الدنيا والآخرة، والله إن دعوة المظلوم ليرفعها الله وإنها لتشق الغمام وإن الله ليقول: لأنصرنك ولو بعد حين، دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، هذا المؤمن الموفق ما كان من هذا الصنف وإنما من الصنف الذي يخاف الله، ما أخذ النقود وقال: لما يأتي، شغلها وثمرها وأعطاها كلها ففرج الله عنهم، لكنهم لا يستطيعون.

فقال الثالث الموفق هذا الذي حفظ فرجه من الحرام؛ ففرج الله عنهم، وأزال الصخرة، وخرجوا يسعون في سبيل الله عز وجل بسبب ماذا؟ بسبب العمل الصالح.

معنى حديث: (وحصنت فرجها)

أخرج ابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) وهذا الخطاب للمرأة؛ لأنها الطرف الثاني في عملية الزنا؛ ولأنه لا يمكن أن يكون زنا إلا عن طريق موافقتها؛ ولأن الرجل الفاجر الفاسق إذا أقبل على امرأةٍ ونهرته انتهر، وفي اللسان الدارج يقول: (الرجل الفاسق مثل الكلب إن كسكست له جاء، وإن رجمته هرب) نعم. أي رجل جاء عند امرأة وهي مؤمنة وتكلم معها ورجمته بكلمة أو ضربته فإنه يذهب.

وأذكر في سوق الثلاثاء أني نزلت أشتري بعض الأغراض وكانت هناك امرأة مسكينة كأنها نزلت السوق لغرض وجاء رجل خبيث وقعد وراءها تماماً، وكلما جلست في مكان جلس إلى جنبها، المهم كأنه في مكان من الأماكن ضايقها أو التصق بها أو احتك بجسمها، ولكنها موفقة من بنات الرجال حقيقةً وكان معها صندل متين والرجل ذو شخصية، على رأسه (غترة) وعقال، وإذا بها تضربه وتعميه في وجهه، والله إنها ضربته وأنا كنت في السوق -فيه مسارات- في المقابل، ورأيت الضربة في وجهه، وصارت تلعنه وتلعن جده، المهم أنه سقط عقاله و(غترته) وفر مثل القط هارباً، وإني أمشي وأقول: ماذا هناك؟ فقالت: امسكوه الخبيث هذا ابن الحرام إنه جاء يطاردني في السوق وأنا ما عندي رجل، زوجي مسافر، وأنا أولادي أمراض أتيت أشتري حاجات وهذا يضايقني، نحن ما طاردناه تركناه الله لا يرده، قد أقامت الحد عليه، والله إن تلك الضربة تساوي مائة سوط؛ لأنه كف من يد منيعة ومن حذاء ممتلئة أوساخاً كانت في الطين وضعته في وجهه والعياذ بالله.

فالمرأة إذا كانت دينة وفيها خير، وزجرت الكلب الفاسد الذي يجري وراءها فإنه لايأتي، لكن إذا كسكست له مثل الكلب جاء يشم، فنحن نقول للمرأة: انتبهي لهذا الحديث: (إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) والله أجر عظيم يا نساء! فمسئولية الحريم سهلة لكنهن رفضن -الله المستعان- ليس بمطلوب منهن جهاد، أو سعي في الأرض أو إنفاق، إن المطلوب منها ثلاثة أشياء: تحفظ وجهها وتصلي فرضها، وتطيع زوجها، وتدخل الجنة من أي الأبواب شاءت، ولكن قليلٌ من الموفقات من تسير في هذا الأمر، تحفظ فرجها، وتصلي خمسها، وتطيع بعلها، والله عز وجل يرضى عنها إن شاء الله.

هذا فضل حفظ الفرج، أنه يضمن لك الجنة، وينجيك من عرصات يوم القيامة، وتكون في مظلة الرحمن، وفي الدنيا إذا حلت بك مصيبة أو كرب وأنت حافظ لفرجك حفظك الله وفك مصيبتك وأعانك وأسعدك في ساعات الضيق؛ لأنك إذا تعرفت على الله في الرخاء فسوف يتعرف عليك في الشدة.

روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس حتى تغلي أدمغة العباد، وتكون على بعد ميل، قيل: ميل المسافة، وقيل: ميل المكحلة، وتصهر الناس صهراً في عرصات القيامة حتى إنه ليسيل العرق منهم، ومنهم من يلجمهم العرق، أي: يسبح في عرقه، مهما بلغت درجة حرارة الدنيا كلها لا يمكن أن يسيل العرق في الأرض مثل الأنهار أو مثل الماء، لكن يوم القيامة ليس يسيراً فقط، بل يلجمهم العرق، وفي ذلك الوقت، وفي ذلك الكرب الشديد، وفي ذلك اليوم الهائل الطويل الذي مقدراه خمسين ألف سنة هناك سبعة أصناف من الناس يكونون في ظل عرش الله: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ إلى نفسها -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله) هذا ما أعظم منه، ترونها في الذهن سهلة، لكن عند التطبيق: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] اللهم ثبتنا يا رب في الدنيا والآخرة.

أخرج الترمذي وحسن الحديث وأخرجه ابن حبان في صحيحه وأخرجه الحاكم في مستدركه وصحح الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا حديثاً لم أسمعه مرة أو مرتين أو ثلاثاً ولكن سمعته أكثر من ذلك -هذا كلام ابن عمر- يقول: سمعته يحدثنا أكثر من ذلك قال: (كان الكفل من بني إسرائيل وكان لا يتورع من ذنبٍ عمله -كان رجلاً مسرفاً في الذنوب- فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها حراماً، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت -ما دفعها إلى الموافقة إلا الاحتياج، وهو استغل حاجتها وأغراها بالمال، ولكنها شريفة وعفيفة ولا تعمل هذا العمل، فلما جلس منها ارتعدت وخافت من الله وبكت- قال: ما يبكيكِ أأكرهتكِ؟ -يقول: أنا ما أجبرتكِ على هذا- قالت: لا. ولكن عملٌ ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة -تقول: هذه الشغلة ليست لي ولا لآبائي ولا لأجدادي - قال: تفعلين هذا لِمَ؟ قالت: من مخافة الله، قال: فأنا أحرى منكِ اذهبي فلكِ ما أعطيتكِ، ووالله لا أعصيه بعدها أبداً. وتاب الله عليه قال: فمات من ليلته-انظروا حسن الخاتمة- فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل وأدخله الجنة).

الله أكبر! لا إله إلا الله! هناك من أجل حفظك للفرج يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهنا من أجل حفظ الفرج يغفر الله له، ويصبح مكتوباً يقرؤه الناس على باب الكفل: إن الله قد غفر للكفل وأدخله الجنة، فعجب الناس من ذلك.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
من أسباب عذاب القبر .. الديون والنياحة [11] 2593 استماع
من أسباب عذاب القبر 2063 استماع
من أسباب عذاب القبر [3] 2057 استماع
من أسباب عذاب القبر .. أكل الربا [10] 1941 استماع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [2] 1784 استماع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [6] 1،2 1030 استماع