من أسباب عذاب القبر الحلقة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن هناك ظاهرة تدل على كمال الصحة إن شاء الله، وهي: ظاهرة تدافع الشباب، وتسابقهم في الحضور إلى مجالس الذكر وحلق العلم، وهذه تبشر بخير، وتدل على أن الصحة والعافية الإيمانية بدأت تدب في أجساد الأمة، وفي جسد أهم عنصر من عناصر الأمة ألا وهم الشباب، فإن الشباب هم الذين على أكتافهم تتحقق إن شاء الله أماني الأمة، وهم الذين دخلوا في دين الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيروا وجه التاريخ ومساره حينما استقرت حقائق ومفاهيم الإيمان في قلوبهم.

أما الشيوخ والذين قد تحجرت رءوسهم على الكفر فإنهم رفضوا دعوة الإسلام، فقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم سنوات طوال فما استجابوا، ولكن الذين استجاب هم الشباب، وقامت دولة الإسلام وحضارة الإسلام على جهود وأكتاف الشباب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا تاريخ الأمة المقروء يشهد بأن الشباب إذا التزموا بالدين واهتدوا بهديه؛ حقق الله على أيديهم نصرة الإسلام، ولكن يشترط لهذا التوجه ولهذه الصحوة الطيبة المباركة أن تكون في الطريق الصحيح، أي: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيطان كما يجتهد ويحرص كل الحرص على تثبيطهم والوقوف بهم دون الوصول إلى الدين، فهو أيضاً حريص إذا رأى عندهم الحماس والغيرة على أن يقفز بهم خارج الدين، وهو ما يسمى في الدين بالغلو.

والغلو هو: تجاوز الشيء أي: تجاوز الحد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين عميق، فأوغلوا فيه برفق) وقال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) والاعتدال المطلوب هو: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته، وهديه صلى الله عليه وسلم واضح كما قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) أي: لا غبش فيها، بل هي واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن هناك من يَخفى عليه هذا الوضوح؛ لغبش في نظرته أو في تصوره أو في طريقة تلقيه، والذي يجدر بالشباب ألا يتلقوا علومهم هكذا بمجرد الاجتهاد، واقتباس الأحكام من النصوص، بل يجب أن يكون لهم قدوة في استخراج النص؛ لأن رؤية العالم تختلف عن رؤية طالب العلم، فرؤية طالب العلم رؤية محدودة من زاوية ضيقة، فهو لا ينظر إلا إلى هذا النص، ولكن رؤية العالم من المحيط أوسع؛ لأنه يعرف أغلب نصوص الشرع، فيعرف المطلق والمقيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ، والصحيح، والحسن، والضعيف، فيقدم ويؤخر، ويحقق حتى يوازن بين الأحكام.

فالآن إذا كان هناك شخص أمامك، وتريد أن تنظر إليه من زاوية أو مجال أو مسار ضيق، فإنك تضع مثلاً بينك وبينه أنبوبة نصف بوصة، ثم تنظر إليه بعين فلا ترى سواه، لكن لو أبعدت هذه الأنبوبة، ووسعت مجال الرؤية لرأيته ورأيت أشياء تحيط به، فأنا الآن أنظر إلى واحد منكم، ورغم أن نظري إليه وتحقيق عيني في عينيه إلا أني أرى البقية كلهم، فأرى الأعمدة والمروحة؛ رغم أن تحقيق عيني فيه فقط، لكن لما كان مجال الرؤية عندي أوسع فإني أرى كذلك كل إنسان منكم.

فالعالم إذا نظر إلى الشرع وإلى مقاصد الدين وأهداف الإسلام من منظورٍ واسع، فإن هذا النظر أو هذه الرؤية أو النظرة غير المحدودة سوف تعطيه أحكاماً واسعة، بينما النظرة الضيقة لن تخرج لنا سوى الحكم ضيقاً.

ولذا ينبغي على الشباب إذا وجد آية من كتاب الله، أو نصاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفهمه مباشرةً على مراده، بل يرجع فيه إلى كتب السنة، ويعرف ماذا قال العلماء في هذا النص؟ فإنك مثلاً لو قرأت كتاب سبل السلام فإنك سوف تجد الحديث، وتجد بعده حديثاً يناقضه، أي: ضده (مائة بالمائة) فإما أن يكون ناسخاً له، أو يكون مقيداً، أو يكون عاماً، أو يكون مطلقاً، أو يكون له وجهة نظر، فتجد العلماء يأتون إلى هذه الأحاديث بعقل كبير وبرؤية واسعة، فيضعون لها جواباً، لكن لو بقيتَ فقط على هذا الفهم عند هذه الأدلة لصارت مصيبة.

فهناك من الناس من اطلع على حديث في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين في المصلى) يعني: في صلاة العيد، فهذا المسكين ذهب إلى بيته وأخرج النساء كلهن وجعلهن يصلين كلهن، حتى الحُيَّض اللاتي هن ممنوعات من الصلاة جعلهن يصلين؛ لأنه فهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المراد، فالحديث صحيح في أن الحيض يخرجن من أجل الصلاة، فقد قال العلماء في هذا الحديث قولان: القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرج ولكن تعتزل الصلاة بل في بعض طرق الحديث: (أما الحُيَّض فيعتزلن المصلى، ولكن يشهدن الخير ودعوة المسلمين) وقال بعض أهل العلم: لا. أمر الحُيَّض أي: البوالغ، وهن اللاتي بلغن سن المحيض، واللاتي هن دون سن المحيض ببالغات فلا يخرجن.

فهذا الأخ فهم من النص أن الحائض تخرج إلى المسجد وتصلي، وهذا فهم من النص ولكنه من ظاهره، فلو أنه رجع إلى كتب أهل العلم، لعلم أكثر مما توصل إليه علمه، فهديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي، وهناك كتاب عظيم جداً اسمه (زاد المعاد في هدي خير العباد ) صلوات الله وسلامه عليه ألفه العلامة الإمام ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتعرض فيه لما ورد في السنة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين في مقدمة الكتاب فقال: إننا لن نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز وما لا يجوز، ولكننا تعرضنا لهديه الذي كان يداوم عليه، فإن هديه أكمل الهدي وخير الهدي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أردت أن تعرف هديه؛ فارجع إلى هذا الكتاب وإلى غيره من كتب العلماء المحققة، مثل: (صحيح البخاري )، وشرحه: (فتح الباري )، ومثل: (عون المعبود شرح سنن أبي داوُد )، ومثل: (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي )، ومثل: (سنن النسائي ) وشرحها ، ومثل: (شرح صحيح مسلم ) للإمام النووي ، كل هذه الكتب تجد الشروح فيها واضحة جداً، بحيث تخرج بعلم عن الحديث الواحد.

وهذه المقدمة أردتُ بها تصحيح بعض المفاهيم والإشارة إلى سؤال سأله أحد الإخوة يقول فيه: إنك قلت: إنه لا يجوز حجز الأماكن في المسجد؛ لأن المسجد مناخ من سبق مثل منى ، ولأن الأولوية للأول، و(خير صفوف الرجال أولها)، والغرض حث الرجال على المبادرة: (ولو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) يقول: ففهمنا هذا، ولكن بعض الإخوة فهم أيضاً أكثر من ذلك، فبعض الإخوة دخل وصلى وجلس يقرأ القرآن حتى إذا ما قرب وقت المغرب أحس بحاجةٍ إلى الخروج وتجديد الوضوء، فترك غترته في الصف وخرج، فجاء أحد من الناس وأخذ غترته، ورماها وصلى مكانه، وقال: لا يجوز!

والجواب: إن هذا فهم غير ما نقول، فهذا المكان مكان هذا الأخ في الأصل، فلم يحجزه له أحد، بل حجزه لنفسه، فهو جاء وصلى وجلس وذكر الله، ولكن انتابه عارض ألزمه بالخروج ليتوضأ، فمادام أنه خرج لغرض يخدم الصلاة ومتعلق الصلاة، فإن له أحقية في هذا المكان، أما أن يرسل من يحجز له، أو يوصي من يحجز له، فلا، أردت من هذا توضيح أنه من الممكن أنك إذا كنت في المسجد، وأردت أن تخرج لغرض يخدم الصلاة فقط فإنه يجوز لك أن تحجز المكان، وليس لقضاء أي حاجة أخرى، فلو خرجت لغرض خاص بالصلاة، كأن تتوضأ مثلاً ثم ترجع فليس هناك مانع، والأولى أن يكون الإنسان مستعداً للصلاة قبل الدخول إلى المسجد، حتى لا يؤدي خروجه من المسجد إلى إذهاب مكانه، أو ربما إذا دخل وجلس في المكان يتصور الناس أنه حجز هذا المكان فيسيئون الظن به، فلهذا أوردت هذه المقدمة قبل الكلام.

كان الكلام في الماضي عن أسباب عذاب القبر، ولكن لما تكلمنا في الندوة الماضية على بعض الأسئلة فإذا بها تزداد كل يوم، وعليه فلن نستطيع أن نتقدم في الدرس الرئيسي لنا، فلابد الآن من أخذ جزء كبير من وقت الدرس في الموضوع، ثم نجيب إن شاء الله على ما نعرف منها في نهاية كل حلقة.

كنا قلنا في الماضي: أن هناك أسباباً كثيرة لعذاب القبر، وهي سبعة أسباب وردت بها السنة، وهناك على العموم أسباب كثيرة يستوجب بها الإنسان عذاب القبر، منها أو من أعظمها: الجهل بالله، والإعراض عن دين الله، والتصدي لأولياء الله.. هذه كلها أسباب تهلك الإنسان في الدنيا والآخرة، وهناك أسباب خاصة وردت بها السنة تبين أن ارتكابها سببٌ موجبٌ لعذاب القبر، وذكرنا منها سببين:

السبب الأول: المشي بالنميمة بين الناس.

السبب الثاني: عدم الاستنزاه والاستبراء من البول، ودليلها واضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين : أنه مر على قبرين، فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس، فأخذ جريدة رطبة وشقها نصفين، ثم غرز على كل قبر نصفاً، وقال: إنه ليخفف عنهما ما لم ييبسا) وقلنا: إن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه قد أوحي إليه عما يتعذب به هذان الرجلان، وأوحى الله إليه أن ذلك يمكن أن يُخفف به عنهما، أما غيره فلا يعرف لأن الوحي قد انقطع، ولا سبيل إلى معرفة ما يجري في القبور.

تعريف الغلول

السبب الثالث من أسباب عذاب القبر هو: الغلول، والغلول: هو أخذ شيءٍ من الأموال العامة للمسلمين، ويطلق على الخصوص على أموال الغنائم، فإذا قامت معركة بين المسلمين والكفار، فإن الغنائم التي يُحصل عليها من أيدي الكفار لا يجوز لمسلمٍ أن يتصرف فيها، سواءٌ كانت هذه الغنيمة قلماً أو سواكاً أو شراكاً أو أي شيء من هذه، ولو حتى دبوساً، بل مرد هذه الغنائم الفيء وهذه الأنفال إلى الله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] وقد أنزل الله تقسيمها في القرآن الكريم: فتخمس وتقسم على المقاتلين أربعة أخماس، والخمس الأخير يقسم على الفقراء والمساكين.

فهذه الأموال لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يأخذ المقاتل منها شيئاً، وإنما أمرها إلى ولي الأمر، وهو الذي يقسمها بحسب تقسيم الله لها.

وقاس العلماء على هذه الأموال الأموال العامة، مثل: الخراج، والزكاة، وأموال بيت المسلمين.

حكم الغلول

الأموال عامة يحرم على المسلم أن يأخذ منها شيئاً بغير حق، ومن أخذ منها سمي غالاً، وقد صح في ذلك عدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل الأحاديث قول الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] يعني: من يأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين يكلف يوم القيامة أن يأتي به، وأنّى له أن يأتي به وقد ذهبت الدنيا وانتهت، وليس هناك (ريالات) في الآخرة؟ إلا أن يأتي به من النار، والنار لا يخرج شيء منها.

وجاء أيضاً في الأحاديث: (أن صاحب الغدر أو الخيانة أو الغلول تمثل له غدرته أو خيانته في النار، يقال له: أتراها؟ فيقول: نعم. فيقال: ائتِ بها من النار، فينزل من أجل أن يأتي بها لينجو، فإذا أخذها من وسط الناس -وهو يعذب طبعاً- وحملها، خرج بها، فإذا شارف على الخروج وقعت منه، فينزل وراءها ويبقى في عذاب هكذا ما يشاء الله).

يقول عز وجل: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] ولكن من أن يأتي به؟ لا يأتي به إلا من النار، بمعنى: أنه سيرد النار، والعياذ بالله! ثم قال عز وجل: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]

وأخرج البخاري في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: (كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم....) فهذه الكلمة وردت بلفظين: ثِقَل ونَفل، فالثقل أي: المتاع الثقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، والنفل أي: الشيء الزائد عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان صلى الله عليه وسلم معه شيء من المتاع زائد عن حاجته، فكان يوكل أمره إلى بعض أصحابه رضي الله عنهم. (كان على نفله أو ثقله -في إحدى الروايتين، وقيل: على غنيمته أي: قسمته مما حصل له- رجلٌ يقال له: كَركرة ، -وورد بكسر الكاف: كِركِرة) وردت كلها، وذكرها البخاري في الصحيح ، هذا الرجل مات، فلما مات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو في النار) وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا في متاعه عباءةً غلها، عباءة أي: (بشت) أو (كوت)، غلها أي: أخذها قبل أن تقسم، فكانت سبباً لوروده في النار، والعياذ بالله.

قبس من سيرة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه

راوي هذا الحديث هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ويحسن بنا أن نأخذ نبذةً من سيرته رضي الله عنه وأرضاه: فهو إمام، حبر، عابد، علامة، صحابي ابن صحابي، وميزته أنه أسلم قبل أبيه، فـعبد الله بن عمرو أسلم قبل عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان اسمه (العاص ) على اسم جده: العاص بن عمرو بن العاص ، فلما أسلم قبل أبيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه إلى عبد الله ، وهو أحد العبادلة الأربعة: عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، فلقد اشتهر ممن اشتهر من الصحابة بكثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عن نفسه: [قرأت القرآن كله في ليلة واحدة]، وهذا ممكن ومجرب أن تقرأ القرآن كله في ليلة واحدة، فلو أنك بدأت من بعد العشاء إلى الفجر -خصوصاً في الليالي الطوال ليالي الشتاء - فلربما أكملته.

فيقول رضي الله عنه: (قرأت القرآن كله في ليلة واحدة، فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر..) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتدلاً، حتى في جوانب الإيمان والدين لا يريد الغلو، لأنه يعرف أن الواحد إذا شد في أمر ديني وهو أكثر من طاقته؛ فإنه سوف يأتي عليه يوم يرجع فيه إلى طبيعته ويكسل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن عمرو أن يأخذ المتوسط أي: الحد الذي يستطيعه حتى إذا كبر، لكن بحكم قوة إيمان عبد الله بن عمرو بن العاص وقوة يقينه، وأيضاً قوة فتوته وشبابه، قال: أريد أكثر. قال: (اختمه في شهر، فقلت يا رسول الله! دعني أغتنم قوتي وشبابي).

اغتنام وقت الشباب قبل الشيخوخة

الله أكبر! ليس كأكثر شباب هذا الزمان، الذي إن قلت له: يا أخي! اتق الله، قال: يا شيخ.. إذا صرت كبيراً! فهو يريد أن يستغل شبابه مع الشيطان.

فيقول : دعني أغتنم شبابي الآن، وهذا هو مفهوم الشباب هذه الأيام، يقول قائلهم: دعني أستغل شبابي بالشهوات، والملذات، والسهرات، واللعب، والكرة، يقول: دعني أشبع من الشهوات، وإذا شبعت وصرت شيبة في تلك الساعة سأرجع إلى الله! لكن الذي لا ينفع في هذا اليوم لن ينفع فيما بعد.

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت      ولا تلين إذا صارت من الخشب

فالغصن عندما يكون في الشجرة وهو أخضر تستطيع أن تعدله كيفما تشاء، لكن إذا صار عوداً، فيظل كما هو إلا أن تكسره، فقد رأينا كثيراً ممن شب على الضلال، لما شاب ما اهتدى، لماذا؟ لأن الكلام على المنبت وعلى البدايات، وعلى ضوء حسن البدايات تكون حسن النهايات.

وأذكر مرة من المرات أنني كنت آتياً من العمرة ووقفت في الطائف عند صاحب بنشر من أجل أن يتفقد لي هواء الإطارات، وكنت على سفر وأهلي معي في السيارة، ومتاعي فوقها وأنا آتٍ من العمرة، فوجدت هناك رجلاً كبير السن ربما في السبعين أو الثمانين من عمره، ولكن لا لحية له ولا شارب، أي: محلوق اللحية والشارب، واللحية زينة للرجل سواء في شبابه أو في شيبته، ففي شبابه وقار وهيبة، وفي شيخوخته ستر وهيبة ونور؛ لأنه ينبت فيها الشيب، والشيب نور: (ما من مسلم يشيب شيبةً في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة).

فهذا الرجل لما صار شيخاً كبيراً في السن وليس عنده ولا شعرة في وجهه، وأيضاً قد تجعد وجهه مع السنين، فظهر وجهه مثل وجه المرأة العجوز الكبيرة في السن، وكان يدخن بإسراف فيشعل الواحدة تلو الأخرى، فأشفقت عليه ورحمته من هذا الوضع الذي هو فيه، فجئت إليه وقلت: لابد أن أنصحه، وتساءلت كيف أنصح من مثل هذا الرجل في هذا السن؟ لابد أن أختار أفضل أسلوب وأحسن عبارة، فجئت وسلمت عليه، وتبسمت في وجهه، وأنا أقول في نفسي: لو أن الشيطان الرجيم لقيته ونصحته بهذا الأسلوب ربما يقول: جزاك الله خيراً، وهو الشيطان الملعون، لكن انظروا كيف كان رد هذا الرجل، قلت: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام. قلت: كيف حالك يا والد بارك الله فيك، الحقيقة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) فأنت الحمد لله الذي مد في أجلك وطول في عمرك حتى بلغت هذا السن، والآن ذهب الشباب وشرته وحدته وطيشه وجهله، والآن أتى المشيب وحلمه ووقاره، فالحمد لله الذي مد في عمرك، وآن لك أن تقضي ثمرة حياتك في الذكر والعبادة، وانظر! أنا رأيت في السوق كثيراً من المدخنين، ولكني ما استطعتُ أن أنصح واحداً منهم إلا أنت؛ لأني رأيت علامات الدين والإيمان والنور في وجهك -ووالله لا أثر للإيمان في وجهه، لكن قلت: لعل الله أن ينفعه بهذه الكلمة- فما أردت أنصح إلا أنت، فحبذا! يا والدي جزاك الله خيراً أن تترك هذا التدخين، فأنت تعرف أن هذه الحياة فانية، وأنك ستموت وتدخل القبر وتسأل عن عملك -ثم استرسلت في الأسلوب والبيان والفصاحة والبلاغة، إلى أن قلت-: لا يسعه إلا أن يكون أحد رجلين: إما مهتدٍ مؤمن يقول: بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً كما يقول كثير من الناس ويتوب، أو ضال -والعياذ بالله- ومعاند، لكن أمام الأسلوب وأمام الإطراء والثناء ما يسعه إلا أن يقول لي: جزاك الله خيراً.

ولكن أتدرون ماذا قال لي بعد أن انتهيت من هذه المقدمة والخطبة الطويلة العريضة؟

نظر إليَّ وهز رأسه ساخراً مستهتراً ثم قال لي: عجيب أنت مُطوع! الحقيقة لما قال هذا الكلام تغير الأمر، وانقلب الحال، فأنا قد أتعبت نفسي، وأريد أن يهديه الله، فما رفض إلا هذا الأسلوب، طبعاً هو كبير في السن لا يستطيع أن يضربني، وأنا لست شجاعاً، لكن قلت: سأقدر عليه، لكن المشكلة أن أولادي في السيارة وأنا على سفر، وما أريده أن يعطلني، وإذا صاح سوف تأتي الشرطة وتمسك بي وتصبح مشكلة، وإلا فإن يدي على وشك ضربه؛ لأنه ليس هناك لهذا الإنسان الذي يرفض هذا الأسلوب إلا أن يعطى درساً يُؤَدَّبُ به حتى يبعد ما في رأسه من خبال، لكن ليس بإمكاني شيء.

فتذكرت حلم النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يتعرض له من الإهانات، وذكرت حلم إبراهيم بن أدهم الذي يحكى عنه أنه كان يسير في طريق ، فمر عليه يهودي ومع اليهودي كلب يسحبه بحبل، فقال له: يا إبراهيم ! ذنب كلبي أطهر أو لحيتك؟ -لو قيلت هذه الكلمة لواحد منا؛ فلا يرده إلا أن يذبحه مباشرةً!- قال: إن كنتُ من أهل الجنة فلحيتي أطهر من ذنب كلبك، وإن كنتُ من أهل النار فذنب كلبك أطهر من لحيتي.

فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، يقول: هذا الخلق لم يأتك من السوق، لابد أنه من أخلاق النبوة، ودخل في دين الله عز وجل. فلما تذكرت هذا الكلام أمسكت نفسي، ولكني ما صرت مثل إبراهيم بن أدهم ، بل قلت له: انظر أنا دعوتك إلى الله وأَبَيت، وبإمكاني أن أجيب عليك، ولكن أَكَلُكَ إلى من يقتص منك ويجازيك، أحيلك على الله الذي لا إله إلا هو، ثم تركته ومشيت.

فالشاهد في الموضوع أن من شب على شيء شاب عليه، فلا تضيع شبابك وحياتك على أمل أنك إذا صرت كبيراً تتوب، لا؛ فالذي لا خير فيه في شبته، لن يكون فيه خير في شيخوخته.

على حسب البدايات تكون النهايات

فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (دعني يا رسول الله! أغتنم قوتي وشبابي، قال: اقرأه في عشرين..) وهذا أكمل الهدي أن تقرأ القرآن في شهر، لكن كيف يكون هذا؟

إن من قرأ القرآن في أكثر من شهر يعد هاجراً للقرآن، انظروا إلى هذا الكلام! لأن الله يقول: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30] والهجر طبعاً يتفاوت من رجل إلى رجل، فمن الناس من يهجره فلا يقرأه في العام ولا مرة، ومنهم من لا يقرأه في السنين كلها إلا مرة، ومنهم من لا يقرأه إلا في أكثر من الشهر، ولكن الاعتدال أن تقرأ في كل شهر مرة، يقول العلماء: الهجر ينقسم إلى خمسة أقسام:

أولاً: هجر القرآن تلاوةً.

ثانياً: هجر القرآن تدبراً.

ثالثاً: هجر القرآن عملاً.

رابعاً: هجر القرآن احتكاماً.

خامساً: هجر القرآن استشفاءً.

فإذا مرضت فاستشفِ بالقرآن، واحتكم إليه، واعمل به، وتدبره، واتله، فإذا توفرت فيك هذه الخمس، فأنت من أهل القرآن، فإذا أهملت خصلة من هذه الخصال فأنت هاجرٌ لكتاب الله.

وأحد الإخوة! يقول: هناك أسلوبٌ من أعظم الأساليب إذا اتبعه المسلم؛ استطاع أن يختم القرآن في كل شهرٍ مرة؛ لأن بعض الناس يريد أن يختم، ولكن يضيع عليه مصحفه الذي في البيت أو الذي في المكتب أو الذي في جيبه، أو بعضهم ما يتمكن من حمل المصحف في جيبه؛ لأنه يخشى أن يدخل به دورة المياه، أو يعرضه لإهانة، وفي المسجد لا يستطيع أيضاً أن يمسك مصحفاً خاصاً، فإن المصاحف في المسجد مشتركة لكل واحد، فابتكر طريقة جديدة وأسلوباً عظيماً وموفقاً أدلكم عليه، وقد جُرِّب فكان ناجحاً، وهو أن يختم القرآن في كل شهر مرة بدون أي كلفة، فما هو هذا الأسلوب؟

الأسلوب هو: أن تبدأ في ختم القرآن في اليوم الذي أنت فيه، فمثلاً لو أن اليوم [20/4] فإنك من يوم غدٍ ستبدأ في الجزء الحادي والعشرين من القرآن الكريم؛ لأن غداً يوافق في الشهر [21] فتقرأ في الصباح ما شاء الله لك من الجزء الحادي والعشرين، ربع حزب.. ربعين.. نصف جزء.. وبعد ذلك أَغلق المصحف واعرف عند أي آية انتهيت؛ لأنك في الجزء الحادي والعشرين ما عندك فيه اختلاف ولا لبس، فإذا جاء وقت الظهر فمن المفترض أنك بمجرد أن يؤذِّن أن تنزل وتصلي أربع ركعات، راتبة الظهر كما جاءت في السنة، ثم تجلس وتقرأ، وبعد الصلاة تكمل، أو تكمل هذا في العصر، أو تكمله في المغرب فتواصل القراءة إلى العشاء، المهم إذا جاءت صلاة العشاء وما أكملت الجزء كله، فاعرف كم بقي عليك، وإذا جئت البيت قبل أن تنام فاقرأ بقية الجزء ثم صلِّ الوتر ونم.

وبهذا الأسلوب تتمكن في يوم واحد من أن تكمل جزءاً، وفي اليوم (22) تقرأ الجزء (22)، إلى آخر الشهر، ثم تبدأ من أول الشهر من الجزء الأول، فإذا كان الشهر ثلاثين يوماً فالحمد لله، وإذا كان الشهر تسعة وعشرين تضاعف القراءة في اليوم الأخير فتجعله جزأين، وبهذا تعد تالياً لكتاب الله، عاملاً بسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل في هذا صعوبة؟! لا والله ما فيه صعوبة؛ لأننا لو أجرينا الآن استفتاءً في الموجودين وهم صفوة الشباب، وقلنا: هل تقرءون القرآن في كل شهرٍ مرة؟ ربما النسبة التي تقرأ القرآن في كل شهر مرة تبدو قليلة وأنا أولهم، ولكن بالأسلوب هذا إن شاء الله نستطيع أن نعمل.

القصد في العبادة

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ في كل شهر مرة، قال: دعني أغتنم قوتي وشبابي يا رسول الله! قال: اقرأه في عشرين، قال: دعني أغتنم شبابي يا رسول الله، قال: اقرأه في عشر، قال: يا رسول الله! إنني أطيق أكثر، قال: اقرأه في ثلاث) فهذا أقل شيء، لم يعد يمكن أقل من هذا. لأن من قرأ القرآن وختمه في أقل من ثلاث لم يفقهه.

فقال رضي الله عنه: [ولما شبت وكبر سني ودق عظمي؛ قلت: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنه في هذه الحالة ألزم نفسه، والرجل صادق لا يعرف الكذب، فمادام أنه استعد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ما كان له أن ينقض عهده الذي أبرمه مع الرسول يوم أن ذهب صلى الله عليه وسلم، بل بقي عليه حتى مات، ولكن حصلت له بعد كبر سنه مشقة في ممارسة مثل هذا من كثرة الصيام والقيام، فقال: [ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم] ولقد خفف عنه عليه الصلاة والسلام النافلة حتى قال له: (صم يوماً وأفطر يوما، قال: أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، هذا صيام داوُد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وهكذا يقول الشارح لهذا الحديث: كل من ألزم نفسه في تعبدٍ أو أورادٍ أو قيامٍ بأكثر من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيندم فيما بعد؛ لأن قيام جزء من الليل ولو كان يسيراً؛ حتى ولو ركعتين مع المحافظة على الرواتب التي هي اثنا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، واثنتان بعده، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء، واثنتان قبل الفجر، والمحافظة على النوافل كالضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار طرفي النهار -أي: في أول النهار، وأول الليل- مع الاشتغال بطلب العلم ومتابعة حلق العلماء، وقراءة كتب العلم في البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأى الإنسان معروفاً يأمر به، وإذا رأى منكراً نهى عنه، وتعليم الجاهل، وزجر الناس عن الفساد، وقبل ذلك أداء الفرائض في جماعة المسلمين مع الخشوع والطمأنينة وحضور القلب وانكساره، والصدقة من المال بما تيسر، والتواضع للمسلمين، والإخلاص لله في جميع ذلك بشكلٍ منتظم، يعتبر مقاماً عظيماً ومنزلاً جسيماً، وهو مقام أولياء الرحمن.

هذا المقام إذا أصبحت فيه، فليس أفضل منك، لكن من عدم الاعتدال أن تزيد في شيء ثم تندم عليه بعد ذلك، وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كثير القيام والبكاء، وقد بكى رضي الله عنه وأرضاه حتى فسدت عيناه.

فلقد كانوا يبكون رضي الله عنهم بكاءً حاراً، بكاء يُنزل الدمع مثل الجمر من حرارة الإيمان في قلوبهم، فكان بكاؤه كثيراً حتى أفسد عينيه، وقد زوجه أبوه رضي الله عنهما بزوجة من فتيات قريش من أجمل النساء، ومكثت فترةً عنده ما كشف لها ثوباً، كلما دخل عليها وقف في بيته واستقبل قبلته وقام طوال الليل حتى يصلي الفجر، فلا يعرف إلا الله والصلاة.

لقد كان عبد الله بن عمرو شاباً فريداً عابداً زاهداً من خيرة عباد الله، فلما زاره أبوه عمرو بن العاص -وهو مشتغلٌ عنها بالعبادة- قال لها: كيف بعلك؟ يعني: كيف أخلاقه؟ وهل هو حسن أم لا؟ قالت: والله إنه خير رجل، فلم يقرب لي فراشاً منذ أتيته، أي: منذ أتيت إليه، والله ما يمس لي فراشاً، قالت: فأقبل عليه يعاتبه، فعاتبه أبوه، ثم شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: (أتصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم. قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر... الحديث) وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين سألوا عن عبادته فقال أحدهم: أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) لأن أكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

السبب الثالث من أسباب عذاب القبر هو: الغلول، والغلول: هو أخذ شيءٍ من الأموال العامة للمسلمين، ويطلق على الخصوص على أموال الغنائم، فإذا قامت معركة بين المسلمين والكفار، فإن الغنائم التي يُحصل عليها من أيدي الكفار لا يجوز لمسلمٍ أن يتصرف فيها، سواءٌ كانت هذه الغنيمة قلماً أو سواكاً أو شراكاً أو أي شيء من هذه، ولو حتى دبوساً، بل مرد هذه الغنائم الفيء وهذه الأنفال إلى الله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] وقد أنزل الله تقسيمها في القرآن الكريم: فتخمس وتقسم على المقاتلين أربعة أخماس، والخمس الأخير يقسم على الفقراء والمساكين.

فهذه الأموال لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يأخذ المقاتل منها شيئاً، وإنما أمرها إلى ولي الأمر، وهو الذي يقسمها بحسب تقسيم الله لها.

وقاس العلماء على هذه الأموال الأموال العامة، مثل: الخراج، والزكاة، وأموال بيت المسلمين.

الأموال عامة يحرم على المسلم أن يأخذ منها شيئاً بغير حق، ومن أخذ منها سمي غالاً، وقد صح في ذلك عدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل الأحاديث قول الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] يعني: من يأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين يكلف يوم القيامة أن يأتي به، وأنّى له أن يأتي به وقد ذهبت الدنيا وانتهت، وليس هناك (ريالات) في الآخرة؟ إلا أن يأتي به من النار، والنار لا يخرج شيء منها.

وجاء أيضاً في الأحاديث: (أن صاحب الغدر أو الخيانة أو الغلول تمثل له غدرته أو خيانته في النار، يقال له: أتراها؟ فيقول: نعم. فيقال: ائتِ بها من النار، فينزل من أجل أن يأتي بها لينجو، فإذا أخذها من وسط الناس -وهو يعذب طبعاً- وحملها، خرج بها، فإذا شارف على الخروج وقعت منه، فينزل وراءها ويبقى في عذاب هكذا ما يشاء الله).

يقول عز وجل: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] ولكن من أن يأتي به؟ لا يأتي به إلا من النار، بمعنى: أنه سيرد النار، والعياذ بالله! ثم قال عز وجل: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]

وأخرج البخاري في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: (كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم....) فهذه الكلمة وردت بلفظين: ثِقَل ونَفل، فالثقل أي: المتاع الثقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، والنفل أي: الشيء الزائد عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان صلى الله عليه وسلم معه شيء من المتاع زائد عن حاجته، فكان يوكل أمره إلى بعض أصحابه رضي الله عنهم. (كان على نفله أو ثقله -في إحدى الروايتين، وقيل: على غنيمته أي: قسمته مما حصل له- رجلٌ يقال له: كَركرة ، -وورد بكسر الكاف: كِركِرة) وردت كلها، وذكرها البخاري في الصحيح ، هذا الرجل مات، فلما مات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو في النار) وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا في متاعه عباءةً غلها، عباءة أي: (بشت) أو (كوت)، غلها أي: أخذها قبل أن تقسم، فكانت سبباً لوروده في النار، والعياذ بالله.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [7] 1،2 2793 استماع
من أسباب عذاب القبر .. الديون والنياحة [11] 2591 استماع
من أسباب عذاب القبر 2060 استماع
من أسباب عذاب القبر [3] 2055 استماع
من أسباب عذاب القبر .. أكل الربا [10] 1940 استماع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [6] 1،2 1030 استماع