خطب ومحاضرات
من أسباب عذاب القبر
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أيها الإخوة في الله! حياكم الله في روضة من رياض الجنة، وفي حلقة من حلقات العلم والإيمان، التي تزكو بها الأرواح وتعلو بها الأنفس، ويشرف بها الإنسان حينما يقف بين يدي الله عز وجل، فيحاسب على كل دقيقٍ وجليلٍ من عمله في هذه الدار فيرى في صحائف عمله وفي سجلات سلوكه هذا الساعات التي اغتنمها من حياته وأمضاها في رياض الجنة وفي حلق الذكر، فإنه لا يبقى للإنسان بعد موته إلا ما كان لله عز وجل، أما ما كان من حظ النفس أو من حظوظ الدنيا فإنه يذهب ويفنى بفناء النفس والدنيا، وما أريد به وجه الله فهو الباقي في الدنيا وفي الآخرة -نسأل الله وإياكم من فضل الله عز وجل-.
كان الكلام في الماضي عن عذاب القبر، وعن نعيمه -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل النعيم- ولكن قد يبدو أو يبدر سؤال عن الأسباب التي توجب عذاب القبر؟ وعن الأسباب التي تنجي من عذاب القبر؟ وقد بوب العلماء في كتبهم وفي مصنفاتهم أبواباً لهذه المسألة، وخصوها بكثير الاهتمام؛ لأنها تضع المسلم على الأمور التي ينبغي له أن يهتم في اجتنابها حتى لا يقع في الأسباب الموجبة لعذاب القبر؛ ولأن منهج الإسلام في تربية أتباعه وأبنائه أن يضعهم دائماً على النقاط وعلى الحروف، ويضع أيديهم على المواطن التي يلمسونها ويعلمون بها، لا يتركهم في متاهات، ولا يضعهم في مجاهيل، وإنما يوضح لهم الأمور ويبين لهم الحقائق حتى يستطيعوا أن يعملوا على مستوياتهم المتباينة في الفهم والإدراك، لكن كل مسلم لابد أن يخرج بخيرٍ من هذا المعين العظيم الذي هو معين النبوة وهدي الرسالة صلوات الله وسلامه على صاحبها.
الأسباب التي توجب العذاب في القبر على قسمين:
قسمٌ مجمل، وقسم مفصل وموضح ومبين.
فأما المجمل فإن الناس يعذبون في قبورهم بأسباب جهلهم بالله، وبدينه وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبأسباب إضاعتهم لأوامر الله، وارتكابهم لمعاصيه، هذه بالإجمال تسبب لصاحبها العذاب في القبر، كلما كان الإنسان جاهلاً بهذا الدين وجاهلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالله عز وجل، وأيضاً ارتكب ما نهى الله عنه وضيع ما فرض الله وأمره به كان مستوجباً لعذاب القبر.
وهناك أسباب مفصلة -يعني: معينة- ومبينة وموضحة من يقع فيها يناله عذاب القبر إلا أن يشاء الله، وقد وردت بها النصوص الصحيحة الصريحة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي سبعة أشياء.
الأول من الأسباب: النميمة: وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، بنية إفساد ذات البين، والثاني: الاستنزاه من البول، هذان السببان موجبان لعذاب القبر، فقد ورد في الصحيحين في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) يعني: سبب عذابهم ليس بسبب كبير في نظرهم، وإلا فهو عند الله كبير وعظيم، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث: (أما إنه كبير) يعني: عند الله، لكن ليس كبير، في أنظار الناس، يعني: الناس الآن يستعظمون الزنا، ويستعظمون الربا، ويستعظمون قتل النفس ويستعظمون الخمور، لكن هذه معاصي كبيرة ويتساهلون في هذه البسيطة وهي سبب عظيم من أسباب العذاب في القبر (وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة -كان يسعى بالنميمة- وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، فأخذ عوداً رطباً فشقه -جريدة من نخل شقها نصفين- وغرز على كل قبر واحدةٍ منهما ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا) الحديث من رواية طاوس اليماني رحمه الله، فقيه اليمن ، وعالمها اليمن، تابعي جليل سمع من زيد بن ثابت ومن ابن عباس ومن عائشة ومن أبي هريرة رضي الله عنه ولازمهم ملازمة كبيرة، وكان من سادات التابعين وكبرائهم، ومن عباد اليمن ، كان من العباد الكبار، وحج أربعين حجة، لكن يجب أن نسأل على ماذا حج أربعين حجة على طائرة أو على سيارة على حماره؟ حج أربعين حجة وكان يقول: ما من كلمة يتكلم بها ابن آدم إلا أحصيت عليه. حتى أنه في مرضه إذا كان مريضاً يقول وهو يئن: آه آه هذا الأنين مسجل ومحسوب؛ لأنك تظهر التبرم والسخط وعدم الرضا؛ لأن مقتضى الصبر أن تصبر، ولذا كان السلف لا يئنون من أمراضهم مهما تعبوا فإنهم يصبرون، ولا يتضجرون من قضاء الله عز وجل، وطاوس اليماني مشهور بـطاوس بن كيسان كان كثير الصمت، فما من كلمة يتكلم بها إلا وهي مسجلة عليه، وأكثر ما يجر الناس إلى النار هو اللسان؛ لأن الكلام لا يزال في ملكك حتى يخرج من فمك، فتكون أنت ملكاً له إما بالخير أو بالشر، إما بالسلب أو بالإيجاب.
لما حج سليمان بن عبد الملك ، ووصل إلى مكة قال: هل بقي أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: لا.
قال: هل بقي أحدٌ من التابعين الذين أدركوا بعض الصحابة؟
قالوا: نعم. بقي طاوس، فأرسل إليه فجاءه، فلما سلم، سلم عليه ولم يقل له: يا أمير المؤمنين! وجلس على بساطه بنعليه، وبعد ذلك قال له: ما هذا الجفاء يا طاوس؟ قال: دخلت ولم تكنيني بإمرة المسلمين، ووضعت نعليك على طرف بساطي، ودعوتني باسمي؛ لأنه قال: السلام عليك يا سليمان!
قال: أما أني دعوتك باسمك فإن الله عز وجل خاطب أنبياءه بأسمائهم، قال: يا نوح ويا لوط ويا إبراهيم ويا موسى، يقول: فأنا لم أخطئ فدعوتك باسمك الذي سمتك أمك وأبوك به، قال: وأما أني لم أسمك بإمرة المؤمنين، فإني لا أدري أكل المؤمنين راضين عن إمارتك أو لا؟ فخشيت أن أكذب، أقول: أمير المؤمنين وهم لا يريدونك أميراً لهم، وكان رجلاً حساساً عند الكلام.
قال: وأما عدم خلعي لنعلي على بساطك، فإني أصلي بين يدي ربي بنعلي خمس صلوات ولا يغضب علي.
قال له: يا طاوس ما لنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟
قال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، والإنسان بطبعه لا يحب الانتقال من دار العمران إلى دار الخراب، إذا عندك كوخ مهدم وعندك فلة مبنية تريد أن تنتقل من الفلة إلى الكوخ تجلس فيه؟ لا. فالإنسان يكره الآخرة إذا كان ليس عنده فيها عمل ولا دار، أما السلف الأوُل فكانوا يحبون الآخرة ويكرهون الدنيا؛ لأنهم دمروا الدنيا وعمروا الآخرة.
قال: كيف القدوم على الله يا طاوس؟
قال: أما المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله، وأما الفاجر فكالعبد الآبق يقبض عليه مولاه وسيده، والقدوم على الله على حالتين: إما غائب عن أهله مسافر سنين طوال ثم جاء إليهم بعد سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات كيف ظنكم بتلك الليلة؟ لاشك أنها ليلة عيد عندهم، إذا كان بعد غيبة طويلة وأيضاً جاء ومعه أموال كثيرة ومصاريف وهدايا، ويقسم الهدايا على الناس، كل القرية والمدينة تفرح وتسعد بمجيء هذا، أبوه يفرح به وأمه وزوجته وأولاده وأقاربه يسعدون به، فهو في ليلة من الأنس والسعادة مع أهله.
وأما الفاجر فكالعبد الآبق يعني: الهارب من سيده يقبض عليه مولاه، يعني: عبد مملوك شرد من سيده وبعد فترة وجده فأمسك به، أين يمسيه تلك الليلة؟ يمسيه في الإصطبل، وهو مكان إنزال وإسكان الحيوانات كان في البيوت في الماضي نضع فيها الحمير والبقر، وإذا أخطأ أحد العبيد المماليك جعلوه يبيت في هذا المكان حتى بعض الآباء إذا أراد أن يربي ولده يربطه مع الحمار؛ لأنه لم يكن هناك فنادق ولا قهوة يذهب ينام فيها، ليس هناك إلا بيت أبيه فهذا قادم على الله وهو آبق فاجر يقبض عليه الله عز وجل فلا يمسيه إلا في النار. لا حول ولا قوة إلا بالله!
يقول طاوس اليماني : عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وابن عباس هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبر الأمة وترجمان القرآن وقمطر العلم، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث عشرة سنة، أدرك من العلم ما لا يدركه كبار الصحابة، كان فقيهاً ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان يعرف من أسرار القرآن ما لا يعرفه غيره، وكان يقول: [أنا من القليل الذين يعرفون عدد أصحاب الكهف] قال تعالى: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]، من علم الله الذي أعطاه.
يحدث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين) والمرور على المقابر سنة، ينبغي للمسلم أن يمر باستمرار على المقابر وأن يدعو وأن يسلم، فإن السلام والدعاء ينفع والاعتبار يحصل، لكن إذا لم تمر على المقابر فإن قلبك سيقسو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى في أول الأمر عن زيارة المقابر ثم أمر بزيارتها قال: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة) ولا يحصل للإنسان الاتعاظ القوي إلا إذا وقف على المقابر هكذا ونظر في ظهور القبور وتأمل بجزءٍ من التفكير العميق في بواطنها وكيف كان أصحاب هذه القبور يعيشون بين الناس؟ كانوا أقوياء وأثرياء وأغنياء، وعظماء وعلماء وكانوا حكماء وشجعان، ثم بعد ذلك كيف دسوا في التراب، وكيف وضعوا تحت اللحود، وكيف أن الزمان سيدور دورته وأن السرة سوف تصل إلي وسوف أسكن أنا فيها.
أيها الناظر إلى القبر! في تلك الحفرة المظلمة سوف توسد ويغطى وجهك بالتراب وتحت ظهرك ورأسك تراب، وفوق رأسك صلايا ولحود، وبعد ذلك ليس معك هناك أحد، هذه تأملات تزرع في الإنسان القوة في العمل، فيعود من القبر معتبراً، ولذا كان ميمون بن مهران رحمه الله من السلف قد حفر في بيته قبراً، فإذا قسا قلبه دخل القبر وقال لأولاده: غطوا علي، فإذا ذهبوا قال: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [المؤمنون:99-100] فيأتي أولاده ويفتحون القبر عليه ويقولون: يا ميمون ! قم واعمل صالحاً قبل أن تدعو هذه الدعوة فلا تجاب، يقولون: يا ميمون يـا ابن مهران قم اعمل صالحات قبل أن تقول: رب ارجعون، فيقول: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] يعني: لا تنفع هذه الكلمة، فكان أشد عبادة. هذه دروس عملية اسمها تجارب ووسائل إيضاح قوية؛ لأن الناس مغرورون، الليل ضوء والنهار شموس وسيارات وطائرات ومباني وغرف واسعة، فلا يذكرون عذاب القبر، ولا ظلمة القبر، هل أحد يعيش في الظلام الآن؟ ليس هناك أحد يعيش في الظلام، النهار والليل سواء، بل يمكن في بعض الأوقات أن الليل يكون أشد إضاءة من النهار، فما نذكر القبور ولا ظلمتها ولا شدتها ولا عذابها.
هذا صلى الله عليه وسلم لما مر على القبرين قال: (إنهما ليعذبان) وهذا من علم الله الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم فهو لا يعلم الغيب، ولكن يوحى إليه بما يعلم الله عز وجل، فأوحي إليه بأن في القبور وفي القبرين هاذين رجلان يعذبان وسبب عذابهما معروف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يعذبان وما يعذبان في كبير) يعني: في عظيم مما يتعاظمه الناس، ولكنه سهل عندهم ويتساهلون به وهو عند الله عظيم.
(أما الأول فكان يمشي بالنميمة، وأما الثاني فكان لا يستتر من البول) يعني: لا يتنظف ولا يستبرئ من البول (ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة نخلٍ فشقها نصفين وغرس على كل واحدٍ من القبرين واحدة ثم قال: إنهما ليخففا عنهما من العذاب ما لم ييبسا) يعني: حتى تيبس هذه الجريدة الخضراء يعود العذاب كما كان، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمٌ بهذه الأمة وشفاعته حق في الدنيا والآخرة، فشفع لهما بهذه اللحظة لعله أن يخفف عنهما، وهذه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، لا كما يصنع بعض الناس، وقد سمعت أن رجلاً مر على قبر فأخذ جريدة وغرسها، لماذا؟ قال: الرسول فعل هذا فنقول: وما يدريك أن هذا يعذب حتى تفعل رجلاً؟ يمكن أنه ينعم وأنت تغرس فوق ظهره الغرائز هذه، أعندك وحي أن هذا يعذب، ثم حتى لو جاءك علم أو علمت أنه كان لا يستتر من البول في الدنيا كأن تعرف أنه كان نمام ومات وما يدريك لعل الله غفر له، وما يدريك لعله تاب قبل أن يموت وقبل الله توبته، هذه من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لأحدٍ من البشر أن يأخذ هذا ويعلمه؛ لأنه لا علم له بما في القبور ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل أو من اطلع من رسله إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجـن:27-28].
النميمة وضررها على الفرد والمجتمع
أما أن يدخل مباشرة إلى الجنة؟ فلا. لأنه لا يدخل الجنة نمام؛ لأن النميمة من أعظم الكبائر ومن الموبقات -والعياذ بالله- ومن الذنوب التي يتعدى ضررها إلى الغير، يقول عليه الصلاة والسلام: (دب إليكم داء الأمم قبلكم ألا إنها الحالقة -تحلق الدين وتجعله أصلع- لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).. و(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال، وعن إضاعة المال وعن كثرة السؤال) القيل والقال مأخوذة من القلقلة يعني: تسمع قولاً فتذهب تنقله، وأنت بهذه الطريقة تفتن بين المسلمين وتزرع المشاكل وتسبب الإحن وتنزع الثقة من الناس، وتجعل المسلم يكره المسلم، وإذا وجدت الكراهية والبغضاء والشحناء والاضطرابات النفسية في النفوس فإن الدين يرحل، ولا يحل الدين إلا في أرض الحب والمودة، ولهذا الله عز وجل جعل الود بين الصحابة والولاء أرضية لقيام الدين الإسلامي في المدينة ، وأول عمل فعله صلى الله عليه وسلم أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، قال الله عز وجل: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63] فتأليف القلوب هدف من أهداف الدين، وتشتيتها هدف من أهداف الشيطان والشرك، فلا ينبغي أن يزرع في المجتمع المسلم إلا الود، والنميمة ضده؛ لأن الإنسان ليس معصوماً، قد يقول الإنسان كلمة وهو لا يلقي لها بالاً في مجلس من المجالس يخطئ، تزل به القدم أو يعثر به اللسان؛ لأنه بشر فيذكر أحد الناس -مثلاً- في المجلس، فهو يقول: من هو فلان؟ فلان ليس فيه خير، فأحد الجلوس لقطها وذهب إليه، قال: ما الذي بينك وبين فلان؟ قال: بالأمس كنا جلوساً ولم يذكرك أحد إلا فلان قال: ليس فيك خير وأنك لعاب وإنسان شيئ.
قال: هل هذا صحيح؟
قال: نعم. ألا تعرفه؟ هو خبيث ولكنه يتظاهر لكم أحياناً والله لو تعلم ماذا فيه، قال: ماذا فيه؟ قال: فيه وفيه وفيه.
قال: الله أكبر عليه، والله كنت أظن أن فيه خيراً.
وخرج مباشرة إلى الآخر، وقال: السلام عليكم، كيف الحال إن شاء طيب أنت بخير، ماذا بينك أنت وفلان؟ والله أنا أعلم أنكم أصدقاء.
قال: ماذا هناك؟
قال: كنت عنده بالأمس وقد تكلم عليك وقال فيك: كذا وكذا.
ما ظنكم بعد أن يتقابلا، ماذا يحدث بينهما؟ أول ما ينظر إليه من أول الطريق يهرب منه، وإذا سمع عنه أي خير يقلب الحقائق عنه، وإذا سمع عنه أي شر يثير البغضاء والفاحشة عنه، وبعد ذلك يكرهه ويكره أولاده وجيرانه وأقاربه وتشيع وتصدر المفاسد العظيمة بأسباب نقل الكلام، ليس لك مصلحة من نقل الكلام.
ولذا يذكر أهل العلم قصة وهي أن رجلاً كان له عبد مملوك، وكان هذا العبد من صفاته -والعياذ بالله- أنه نمام؛ والنميمة مرض، بعضهم إذا ما نم لا يأتيه النوم، عنده النميمة أكلة ووجبة، يضل جائعاً حتى يقول نميمة، فهذا مريض بهذا المرض فعلم سيده وعرف طريقته وأراد أن يتخلص منه فذهب إلى السوق وباعه في سوق النخاسين -مكان بيع العبيد- ونادى عليه قال: هذا العبد خدوم فيه كل خصلة إلا خصلة ليست طيبة، قالوا: ما هي؟ قال: نمام، قال الذي يريد أن يشتريه: لا نصدقه، فاشتراه ولم يصدقه أول الأمر، ومشت الأيام والليالي وجلس العبد المنحوس هذا ينصب له كذبة ونميمة لا أعظم منها، وجاء يومٌ من الأيام إلى سيدته، وكانت امرأة دينة طيبة وكانت على علاقة طيبة بزوجها بينها وبينه عشرة ومودة ورحمة وألفة وحياة كريمة، فصعب عليه هذا الجو الآمن وهذا العش الهادئ، فأراد أن يحطمه وأن يقضي عليه بهذا الأسلوب الشيطاني الذي عمله، فجاء إلى عمته وقال لها: يا عمة! قالت: نعم. ماذا تريد؟ قال: سيدي يريد أن يتزوج، الحقيقة أنه مخطئ وأنت طيبة، ومخلصة، وأنا سمعت أنه يبحث عن زوجة، قالت: هل هذا صحيح؟ قال: نعم. أنا معه دائماً أشاهده يتكلم مع الناس ويسأل ويرسل، وأظنه عازم على الزواج، وتعرفون أن بعض النساء لا تحب أن يتزوج عليها زوجها، هي تريد زوجها لها، فإذا جاءها مشارك فيه تقوم قائمتها، ولذا صعب عليها الأمر فأراد أن يحل إشكالها، قال: يا عمة! قالت: نعم. قال: تريدين أن أحل المشكلة وأجعله لا يعرف النساء أبداً ولا يتزوج عليك مدى الحياة، قالت: بارك الله فيك، قال: أنا عندي فكرة، فقط أريد شيئاً مهماً جداً تحرصين عليه وتأتين به، قالت: ماذا تريد؟ قال: فقط أريد شعرات من لحيته، قالت: كيف آخذها؟ قال: إذا نام في الليل فخذي سكيناً وخذي منه شعرات واقطعيها وأتي بها إلي.
وقام من نفس اللحظة وتلك في البيت مسكينة وذهب لدكان عمه وهو تاجر وقال: يا عم يا عم! قال: ماذا بك؟ قال: أتيتك بخبر؛ قال: عمتي تحب شخصاً وقد عزمت هذه الليلة هي وإياه على قتلك! قال: عمتك تحب رجلاً وتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: ما عهدت عليها هذا الأمر، قال: أنا نذير لك، وأنا أقول لك: إن كان الخبر صحيحاً تعرف أني مخلص لك، وإن كان الخبر ليس صحيحاً فاقتلني، قال: كيف أعلم أنه صحيح؟ قال: تذهب هذه الليلة وتستلقي على فراشك وتتناوم لكن لا تنام، انتبه حذاري أن تنام.
أنا براء منك وأنت ستراها تأتي إليك وفي يدها سكين حادة تريد أن تقطع رقبتك ثم تذهب هي مع هذا الرجل.
ذهب هذا الرجل إلى البيت ولم يتغد، وهي أيضاً ما استقبلته استقبالاً حسناً؛ لأن في قلبها شيء، قد أخبرها ذاك أنه سيتزوج عليها، فلما دخل جاء الشيطان إليه وقال: إن العبد كان صادقاً، انظر إليها ليست بطبيعتها الأولى حيث كانت تستقبلك وتقول: كيف حالك؟ كيف السوق؟ انظر إليها اليوم معبسة ماذا بها؟ ولما ذهب الرجل إلى فراشه استلقى على ظهره وجعل يفتح عيونه من بعيد، وجاءت المسكينة تريد أن تأخذ شعرات من تحت لحيته من أجل أن يبقى لها، ومن أجل أن تعيش معه حياةً كريمة فأخذت السكينة ولما أهوت بيدها إلى حلقه تمسك الشعرات وصبر ولما اقتربت السكينة من رقبته قام الرجل وأخذ السكين من يدها ووضعها على الأرض وذبحها، وكان الخبيث عند الباب يراقب، ويوم سمع الصياح خرج وذهب إلى أهل المرأة وصاح عليهم قال: فلان ذبح ابنتكم، فجاءوا كلهم بسلاحهم ودخلوا على الرجل وإذا ابنتهم مذبوحة، فخرج من بينهم وذهب لقرية الرجل قال: آل فلان هجموا على ولدكم وذبحوه وذبحوا امرأته، المهم اقتتلت القبيلتان حتى فنيت بسبب هذا العبد المنحوس.
جاء في بعض الآثار: أن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، النمام يفسد في لحظة وفي دقيقة وفي ربع ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، النمام يزعزع كيان الأمم والشعوب والمجتمعات والأسر يجعل الأخوين عدوين، والصديقين متباعدين، والزوج عدو لزوجته، والولد عدو لأبيه، حتى بين الولد وأبيه, فبعض الناس يجلس مع أحد الأبناء فيقول له: هل يعاملك هكذا دائماً؟ والله لو كان أبي هذا ما نظرت لوجهه، لماذا لا يأخذك باللطف؟ والإحسان؟ ولماذا لا يترضى لك ويعاملك معاملة حسنة؟ فإذا ذهب الولد إلى أبيه لا يرد عليه، يقول الأب: ماذا بك لا ترد ولا تتكلم؟ قال: أنت تعاملني هكذا، أشاهد الناس يعطون لأولادهم ويعاملونهم معاملة طيبة ويعملون لأولادهم .. لكن لو كان فيه خير ذلك الذي جاء إليه الابن يشتكي أباه لقال له: لا. هذا أبوك، وهو سبب وجودك، وسر وجودك في هذه الحياة وهو جنتك ونارك، كيف لك أن تبدل أباك؟ ما عليك إلا أن تصبر على قسمتك، ليس هناك أب غيره لك.
وبعض الناس إذا سمعك تتكلم عن أولادك تقول: والله أنا فلان زعلان منه أو فلانة -الزوجة- أنا زعلان منها، قال مباشرة: هذا جيد، بدل أن يقول: لا والله أبداً ولدك فيه خير، ولدك جيد، يجعل لك أملاً في ولدك، لكن من حين أن تقول له: والله فلان.. قال: أي والله إنه خبيث -أعوذ بالله- وبدأ يعلمك حتى يجعلك عدواً لولدك، أنت لا تريد أن تكون عدواً لولدك ولا تريد أن أحداً يبلغك عن أهلك ولا عن زوجتك ولا عن أولادك سوءاً، فإذا أحد شكى عليك لا تزد الطين بلة، هو يبث لك من أجل أن تعزيه ومن أجل أن تفرحه، لا من أجل أن تحزنه وتقتله. لا حول ولا قوة إلا بالله!
من صفات أهل الضلال والفسق
فالله تبارك وتعالى يقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:10-11] يعني: ينقل الكلام بين الناس باستمرار يعني: ليس لديه عمل إلا النميمة: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:11-12] ليس عنده خير أبداً، الخير عنده غير مأمون مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:12] وأيضاً يعتدي بلسانه وبعينه وبأذنه وبيده وبفرجه وبرجله وبكل وسيلة على الناس لا يترك أحداً، وأيضاً أثيم؛ واقع في الجرائم والآثام، آثم يواري توحيد الله، معتدٍ أثيم، بعد ذلك عتل: متكبر متعجرف قلبه أقسى من الحجر لا يلين لكلام الله ولا يستمع موعظة ولا يحضر مسجداً ولا يسمع عالماً، عتل وبعد هذا، أي: فوق ذلك كله قال: زنيم، أي: ابن زنا لا أب له، لما نزلت هذه الآية وسمعها الوليد بن المغيرة جاء إلى أمه، وسل سيفه وقال: قد وصفني محمد بتسع صفات أما ثمان فوالله إني أعلمها أنه صادق أنها فيني -انظروا كافر لكن يعرف أن الوصف هذا كله فيه- قال: أما ثمان فوالله إني أعرف أنها فيني، وواحدة بقيت لا أدري والله إما أن تصدقيني أو لأذبحنك بهذا السيف، قالـت: لا تذبحني إن أباك كان رجلاً عنيناً أي: لا ينتصب عضوه تقول: وخشيت أن ينقطع ذكره فذهبت يوماً مع الغنم إلى الراعي، وحملت بك، فأنت لست ابن أبيك ولكنك ابن الراعي، ونسبتك إلى أبيك، وبالرغم من هذا ما آمن لماذا؟ لأنه زنيم دعي -والعياذ بالله- عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ [القلم:13-14] لا تطعه ولو كان صاحب مالٍ وبنين؛ لأنه كان صاحب أموال طائلة وصاحب أبناء كثيرين وهو الذي قال: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سـبأ:37].. أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم:14-15] هو الذي قال هذه الكلمة عليه من الله ما يستحق وعليه لعائن الله المتتابعة في الدنيا والآخرة، كان كلما سمع شيئاً يقول: هذه أساطير، أي: خرافات الأولين، قال الله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] الخرطوم هو: الأنف، ولا يعبر به على الإنسان إلا على سبيل الذم، لا يقال: خرطوم الرجل، أما إذا أردت أن تمدحه فتقول: صاحب الأنف؛ لأن الأنف مشتق من الأنفة ولذا فإنه أعز شيء في الإنسان، ولا يرضى الإنسان أن يضرب على أنفه، يود كل شخص أن يضرب في أي منطقة في جسده إلا في أنفه، ولا يمكن أن تهينها إلا لله عز وجل تسجد لله عز وجل على أنفك وعلى جبهتك تذللاً وخشوعاً وخضوعاً، فالله عز وجل عبر عن هذا الرجل بالخرطوم، وكانت المعارك زماناً بالسيوف وكان يقول بعضهم: خَرْطَمه، يعني: ضربه على أنفه بالسيف أو بالجنبية وهذه أعظم مسبة عند العرب، أن يضرب الأنف، يقول الله قال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] أي: سنجعل لهذا الرجل علامة على خرطومه، وفعلاً كانت له علامة أوقعه أحد الصحابة في يوم بدرٍ أصابه وقطع أنفه -قطع خرطومه- فبقي أفلس ليس معه أنف، بوعد الله عز وجل سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: مجنون، والله يقول: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ [القلم:2-5] يعني: في الآخرة بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:6-8] أي: الكفرة وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10] إلى آخر الآيات كما أسلفنا.
حالات الكذب الجائزة
فالشاهد في الموضوع أن هذا ليس من الكذب وليس مما لا يجوز وإنما مما يجوز أن توحد الصفوف وأن تلم الشعث وأن تقرب القلوب عن طريق هذا.
تقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص بشيء من الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل على زوجته، وكذبه على الحرب، وكذبه في الإصلاح) كذبه على زوجته ليس يعني ذلك أن يأخذ حقوقها ويكذب عليها، يكذب على الزوجة يعني: يقول لها: إن طعامك جيد، ولو كان لا يساوي شيئاً. وإن الثوب هذا لم أر مثله في حياتي ولو كان لا يساوي شيئاً، وإن الفراش نظيف والرائحة جميلة هذا مما يقرب قلبها لك؛ لأنه يبعث فيها عامل التنافس لتقديم أفضل خدمة؛ لأنك تزكيها، والإنسان دائماً يحب المدح، أنت عندما تدخل على الطلاب في المدرسة وتأتي إلى طالب بليد وتمدحه وتقول: ما هذا الخط الجميل! ما شاء الله! عجيب! أنت اليوم يظهر عليك أنك ذاكرت بالأمس، فيذهب الطالب يذاكر طوال الليل، لكن عندما يأتيك وهو مذاكر طوال الليل ويضبط الخط ويفعل الواجبات وتشاهده فنقول له: ما هذا الخط؟ فيقول الطالب: الله أكبر على هذا الأستاذ! كنت طوال ليلي أسهر عليها وآخر شيء يقول لي هكذا والله لا أفعل واجباً فالشاهد في الموضوع أن كذب الرجل على امرأته ليس كذباً في حقوقها، كأن يأخذ مالها أو يشرد عليها ويقول: ليس عندي شيء؛ لأنه يجوز كذب الرجل على المرأة، لا. الكذب الذي هدفه الإصلاح وهدفه تقريب القلوب، أما أخذ الحقوق وانتهاك الحرمة والاعتداء فلا يجوز، فالمسلمة هذه لها حق عظيم عند الله؛ لأنك استحللت فرجها بكلمة الله، وهي عارية عندك أسيرة بين يديك، وأمانة وضعها أبوها وأهلها عندك، فاتق الله فيها، وأنت مسئول عنها يوم القيامة أحسنت أو ضيعت.
وكذب الحرب؛ يجوز في الشرع أن الإمام أو الحاكم أو القائد يوري ويموه على الأعداء فإذا كان -مثلاً- يريد الاتجاه إلى الخميس يذهب إلى تهامة ، فالعدو الذي في الجهة هذه يقول: والله المعركة ذهبت هناك، لكن يجوز أنه يتجه كذا وبعد ذلك يدور، ويأتيهم من طريق آخر، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل؛ لأن الحرب خدعة، هذا هو الأمر الأول من أسباب عذاب القبر: النميمة.
موقف المسلم تجاه النمام
أولاً: الله عز وجل سمى النمام فاسقاً ولو كان صادقاً، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] فالله سماه فاسقاً ولو كان صادقاً؛ لأنه بمجرد نقله للكلام إليك اتسم بسمة الفسق، والفسق هو: الخروج على طاعة الله والوقوع في معصية الله، فأولاً يلزمك إذا جاءك إنسان بنميمة أن تقول له: أنت فاسق، تعلمه أنه فاسق، ثانياً: أن ترد عليه إذا أتاك وقال لك: فلان يقول ويقول، ماذا تقول؟ تقول له: لا جزاك الله خيراً، ولا كثر الله خيرك، والله لا يسامحك ولا يعفو عنك، ويجعلها في وجهك، وينصرني عليك يا عد
النميمة التي هي سبب من أسباب عذاب القبر هي من أعظم الذنوب، وقد ذكرنا في ليلة من الليالي الماضية الحديث، وهو في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) قد يسأل أحدهم: كيف لا يدخل الجنة نمام؟ فقلنا: إن هذه الأحاديث -أحاديث الترهيب والوعيد- لا تؤخذ بمفردها، وإنما تؤخذ بمجموعها، ومع إجمال ما ورد فيها، وهذا الحديث إذا كان صاحبه النمام موحداً فإنه لا يدخل الجنة ابتداءً وإنما نهايته في النهاية إلى الجنة بعد أن يمكث في النار ما شاء الله عز وجل أن يمكث.
أما أن يدخل مباشرة إلى الجنة؟ فلا. لأنه لا يدخل الجنة نمام؛ لأن النميمة من أعظم الكبائر ومن الموبقات -والعياذ بالله- ومن الذنوب التي يتعدى ضررها إلى الغير، يقول عليه الصلاة والسلام: (دب إليكم داء الأمم قبلكم ألا إنها الحالقة -تحلق الدين وتجعله أصلع- لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).. و(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال، وعن إضاعة المال وعن كثرة السؤال) القيل والقال مأخوذة من القلقلة يعني: تسمع قولاً فتذهب تنقله، وأنت بهذه الطريقة تفتن بين المسلمين وتزرع المشاكل وتسبب الإحن وتنزع الثقة من الناس، وتجعل المسلم يكره المسلم، وإذا وجدت الكراهية والبغضاء والشحناء والاضطرابات النفسية في النفوس فإن الدين يرحل، ولا يحل الدين إلا في أرض الحب والمودة، ولهذا الله عز وجل جعل الود بين الصحابة والولاء أرضية لقيام الدين الإسلامي في المدينة ، وأول عمل فعله صلى الله عليه وسلم أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، قال الله عز وجل: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63] فتأليف القلوب هدف من أهداف الدين، وتشتيتها هدف من أهداف الشيطان والشرك، فلا ينبغي أن يزرع في المجتمع المسلم إلا الود، والنميمة ضده؛ لأن الإنسان ليس معصوماً، قد يقول الإنسان كلمة وهو لا يلقي لها بالاً في مجلس من المجالس يخطئ، تزل به القدم أو يعثر به اللسان؛ لأنه بشر فيذكر أحد الناس -مثلاً- في المجلس، فهو يقول: من هو فلان؟ فلان ليس فيه خير، فأحد الجلوس لقطها وذهب إليه، قال: ما الذي بينك وبين فلان؟ قال: بالأمس كنا جلوساً ولم يذكرك أحد إلا فلان قال: ليس فيك خير وأنك لعاب وإنسان شيئ.
قال: هل هذا صحيح؟
قال: نعم. ألا تعرفه؟ هو خبيث ولكنه يتظاهر لكم أحياناً والله لو تعلم ماذا فيه، قال: ماذا فيه؟ قال: فيه وفيه وفيه.
قال: الله أكبر عليه، والله كنت أظن أن فيه خيراً.
وخرج مباشرة إلى الآخر، وقال: السلام عليكم، كيف الحال إن شاء طيب أنت بخير، ماذا بينك أنت وفلان؟ والله أنا أعلم أنكم أصدقاء.
قال: ماذا هناك؟
قال: كنت عنده بالأمس وقد تكلم عليك وقال فيك: كذا وكذا.
ما ظنكم بعد أن يتقابلا، ماذا يحدث بينهما؟ أول ما ينظر إليه من أول الطريق يهرب منه، وإذا سمع عنه أي خير يقلب الحقائق عنه، وإذا سمع عنه أي شر يثير البغضاء والفاحشة عنه، وبعد ذلك يكرهه ويكره أولاده وجيرانه وأقاربه وتشيع وتصدر المفاسد العظيمة بأسباب نقل الكلام، ليس لك مصلحة من نقل الكلام.
ولذا يذكر أهل العلم قصة وهي أن رجلاً كان له عبد مملوك، وكان هذا العبد من صفاته -والعياذ بالله- أنه نمام؛ والنميمة مرض، بعضهم إذا ما نم لا يأتيه النوم، عنده النميمة أكلة ووجبة، يضل جائعاً حتى يقول نميمة، فهذا مريض بهذا المرض فعلم سيده وعرف طريقته وأراد أن يتخلص منه فذهب إلى السوق وباعه في سوق النخاسين -مكان بيع العبيد- ونادى عليه قال: هذا العبد خدوم فيه كل خصلة إلا خصلة ليست طيبة، قالوا: ما هي؟ قال: نمام، قال الذي يريد أن يشتريه: لا نصدقه، فاشتراه ولم يصدقه أول الأمر، ومشت الأيام والليالي وجلس العبد المنحوس هذا ينصب له كذبة ونميمة لا أعظم منها، وجاء يومٌ من الأيام إلى سيدته، وكانت امرأة دينة طيبة وكانت على علاقة طيبة بزوجها بينها وبينه عشرة ومودة ورحمة وألفة وحياة كريمة، فصعب عليه هذا الجو الآمن وهذا العش الهادئ، فأراد أن يحطمه وأن يقضي عليه بهذا الأسلوب الشيطاني الذي عمله، فجاء إلى عمته وقال لها: يا عمة! قالت: نعم. ماذا تريد؟ قال: سيدي يريد أن يتزوج، الحقيقة أنه مخطئ وأنت طيبة، ومخلصة، وأنا سمعت أنه يبحث عن زوجة، قالت: هل هذا صحيح؟ قال: نعم. أنا معه دائماً أشاهده يتكلم مع الناس ويسأل ويرسل، وأظنه عازم على الزواج، وتعرفون أن بعض النساء لا تحب أن يتزوج عليها زوجها، هي تريد زوجها لها، فإذا جاءها مشارك فيه تقوم قائمتها، ولذا صعب عليها الأمر فأراد أن يحل إشكالها، قال: يا عمة! قالت: نعم. قال: تريدين أن أحل المشكلة وأجعله لا يعرف النساء أبداً ولا يتزوج عليك مدى الحياة، قالت: بارك الله فيك، قال: أنا عندي فكرة، فقط أريد شيئاً مهماً جداً تحرصين عليه وتأتين به، قالت: ماذا تريد؟ قال: فقط أريد شعرات من لحيته، قالت: كيف آخذها؟ قال: إذا نام في الليل فخذي سكيناً وخذي منه شعرات واقطعيها وأتي بها إلي.
وقام من نفس اللحظة وتلك في البيت مسكينة وذهب لدكان عمه وهو تاجر وقال: يا عم يا عم! قال: ماذا بك؟ قال: أتيتك بخبر؛ قال: عمتي تحب شخصاً وقد عزمت هذه الليلة هي وإياه على قتلك! قال: عمتك تحب رجلاً وتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: ما عهدت عليها هذا الأمر، قال: أنا نذير لك، وأنا أقول لك: إن كان الخبر صحيحاً تعرف أني مخلص لك، وإن كان الخبر ليس صحيحاً فاقتلني، قال: كيف أعلم أنه صحيح؟ قال: تذهب هذه الليلة وتستلقي على فراشك وتتناوم لكن لا تنام، انتبه حذاري أن تنام.
أنا براء منك وأنت ستراها تأتي إليك وفي يدها سكين حادة تريد أن تقطع رقبتك ثم تذهب هي مع هذا الرجل.
ذهب هذا الرجل إلى البيت ولم يتغد، وهي أيضاً ما استقبلته استقبالاً حسناً؛ لأن في قلبها شيء، قد أخبرها ذاك أنه سيتزوج عليها، فلما دخل جاء الشيطان إليه وقال: إن العبد كان صادقاً، انظر إليها ليست بطبيعتها الأولى حيث كانت تستقبلك وتقول: كيف حالك؟ كيف السوق؟ انظر إليها اليوم معبسة ماذا بها؟ ولما ذهب الرجل إلى فراشه استلقى على ظهره وجعل يفتح عيونه من بعيد، وجاءت المسكينة تريد أن تأخذ شعرات من تحت لحيته من أجل أن يبقى لها، ومن أجل أن تعيش معه حياةً كريمة فأخذت السكينة ولما أهوت بيدها إلى حلقه تمسك الشعرات وصبر ولما اقتربت السكينة من رقبته قام الرجل وأخذ السكين من يدها ووضعها على الأرض وذبحها، وكان الخبيث عند الباب يراقب، ويوم سمع الصياح خرج وذهب إلى أهل المرأة وصاح عليهم قال: فلان ذبح ابنتكم، فجاءوا كلهم بسلاحهم ودخلوا على الرجل وإذا ابنتهم مذبوحة، فخرج من بينهم وذهب لقرية الرجل قال: آل فلان هجموا على ولدكم وذبحوه وذبحوا امرأته، المهم اقتتلت القبيلتان حتى فنيت بسبب هذا العبد المنحوس.
جاء في بعض الآثار: أن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، النمام يفسد في لحظة وفي دقيقة وفي ربع ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، النمام يزعزع كيان الأمم والشعوب والمجتمعات والأسر يجعل الأخوين عدوين، والصديقين متباعدين، والزوج عدو لزوجته، والولد عدو لأبيه، حتى بين الولد وأبيه, فبعض الناس يجلس مع أحد الأبناء فيقول له: هل يعاملك هكذا دائماً؟ والله لو كان أبي هذا ما نظرت لوجهه، لماذا لا يأخذك باللطف؟ والإحسان؟ ولماذا لا يترضى لك ويعاملك معاملة حسنة؟ فإذا ذهب الولد إلى أبيه لا يرد عليه، يقول الأب: ماذا بك لا ترد ولا تتكلم؟ قال: أنت تعاملني هكذا، أشاهد الناس يعطون لأولادهم ويعاملونهم معاملة طيبة ويعملون لأولادهم .. لكن لو كان فيه خير ذلك الذي جاء إليه الابن يشتكي أباه لقال له: لا. هذا أبوك، وهو سبب وجودك، وسر وجودك في هذه الحياة وهو جنتك ونارك، كيف لك أن تبدل أباك؟ ما عليك إلا أن تصبر على قسمتك، ليس هناك أب غيره لك.
وبعض الناس إذا سمعك تتكلم عن أولادك تقول: والله أنا فلان زعلان منه أو فلانة -الزوجة- أنا زعلان منها، قال مباشرة: هذا جيد، بدل أن يقول: لا والله أبداً ولدك فيه خير، ولدك جيد، يجعل لك أملاً في ولدك، لكن من حين أن تقول له: والله فلان.. قال: أي والله إنه خبيث -أعوذ بالله- وبدأ يعلمك حتى يجعلك عدواً لولدك، أنت لا تريد أن تكون عدواً لولدك ولا تريد أن أحداً يبلغك عن أهلك ولا عن زوجتك ولا عن أولادك سوءاً، فإذا أحد شكى عليك لا تزد الطين بلة، هو يبث لك من أجل أن تعزيه ومن أجل أن تفرحه، لا من أجل أن تحزنه وتقتله. لا حول ولا قوة إلا بالله!
النميمة مصيبة من أعظم المصائب على المجتمعات الإسلامية، ولا يمكن أبداً أن يحملها إلا رجلٌ لا خير فيه في الدنيا والآخرة، وقد بين الله عز وجل في كتابه العزيز أن هذه صفة من صفات الضلال والإضلال مع غيرها من المرادفات تجمعت في رجلٍ من كفار قريش اسمه: الوليد بن المغيرة ، وهو من كفار قريش ومن زعمائهم ومن العتاة والصناديد الذين كانوا يردون ويصدون عن دين الله عز وجل، سماه الله عز وجل: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] وبين الله فيه أيضاً من بعض صفاته أنه دعي، وأنه ابن زنا ولا أب له، قال عز وجل: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10] حلاف: يعني كثير الأيمان، يحلف على كل شيء: بلى والله، ولا والله، وإلا والله -أعوذ بالله- أين الله، ما بك تلعب بالأيمان وتتساهل بها، احفظوا أيمانكم، لا يجوز -يا أخي- أن تقسم بالله إلا إذا احتجت وفي ظرفٍ قاهر ونادر أما أن تحلف على كل شيء، خذ والله تشرب، عليك وجه الله أن تأخذه، عليك وجه الله أن تقوم -أعوذ بالله- بعضهم تجده -والعياذ بالله- واقع في هذه ولا يقيم لله وزناً حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10] مهين: يعني: لا قيمة له، هين دنيء وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] الهماز هو: الذي يغمز في الناس، إذا مر شخص وأنت جالس معه، قلت: من هذا؟ قال: هذا خبيث، ماذا فيه؟ قال: لو تعرف أهله وطبعهم. هماز يعني: يبحث عن نقطة ضعف في كل مسلم ويغمز فيها، ولهذا قال الله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1] يلمز ويهمز، يلمز: ينقل، ويهمز: يطعن في الناس، يشكك من قدرات الناس ويضعف من قيمة الناس، ويزعزع ذكر الناس في الآخرين، لا يريد أن يكون أحد حسناً إلا هو، الناس كلهم غير طيبين ما عدا هو فهو طيب، وكل ما ذكر شخص فيه عيب قال: فلان الأعور، فلان الطويل، فلان القصير ذاك فلان المتين، فلان النحيف، فلان الأشدق، فلان الألتق فلان.. يذكر كل شخص بما فيه من عيب لا يستطيع أن يذكر الشيء الطيب فيه، لماذا؟ لأن منظاره أسود، وعينه قذرة لا تقع إلا على القذر، مثل الذباب؛ الذباب الآن أين يقع؟ لا يقع إلا على النجاسة، فالفاسق مثل الذباب إذا جلس يجلس على نجاسة، وإن أخذ أخذ نجاسة، وينقل عدوى، وإن جاء على مكان يؤذيه، بينما المؤمن كالنحلة، إن أكلت أكلت طيباً وإن حملت حملت طيباً ، وإن وقعت على شيء أو عودٍ لم تكسره أو تخدشه، فالمؤمن كالنحلة والمنافق كالذباب.
فالله تبارك وتعالى يقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:10-11] يعني: ينقل الكلام بين الناس باستمرار يعني: ليس لديه عمل إلا النميمة: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:11-12] ليس عنده خير أبداً، الخير عنده غير مأمون مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:12] وأيضاً يعتدي بلسانه وبعينه وبأذنه وبيده وبفرجه وبرجله وبكل وسيلة على الناس لا يترك أحداً، وأيضاً أثيم؛ واقع في الجرائم والآثام، آثم يواري توحيد الله، معتدٍ أثيم، بعد ذلك عتل: متكبر متعجرف قلبه أقسى من الحجر لا يلين لكلام الله ولا يستمع موعظة ولا يحضر مسجداً ولا يسمع عالماً، عتل وبعد هذا، أي: فوق ذلك كله قال: زنيم، أي: ابن زنا لا أب له، لما نزلت هذه الآية وسمعها الوليد بن المغيرة جاء إلى أمه، وسل سيفه وقال: قد وصفني محمد بتسع صفات أما ثمان فوالله إني أعلمها أنه صادق أنها فيني -انظروا كافر لكن يعرف أن الوصف هذا كله فيه- قال: أما ثمان فوالله إني أعرف أنها فيني، وواحدة بقيت لا أدري والله إما أن تصدقيني أو لأذبحنك بهذا السيف، قالـت: لا تذبحني إن أباك كان رجلاً عنيناً أي: لا ينتصب عضوه تقول: وخشيت أن ينقطع ذكره فذهبت يوماً مع الغنم إلى الراعي، وحملت بك، فأنت لست ابن أبيك ولكنك ابن الراعي، ونسبتك إلى أبيك، وبالرغم من هذا ما آمن لماذا؟ لأنه زنيم دعي -والعياذ بالله- عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ [القلم:13-14] لا تطعه ولو كان صاحب مالٍ وبنين؛ لأنه كان صاحب أموال طائلة وصاحب أبناء كثيرين وهو الذي قال: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سـبأ:37].. أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم:14-15] هو الذي قال هذه الكلمة عليه من الله ما يستحق وعليه لعائن الله المتتابعة في الدنيا والآخرة، كان كلما سمع شيئاً يقول: هذه أساطير، أي: خرافات الأولين، قال الله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] الخرطوم هو: الأنف، ولا يعبر به على الإنسان إلا على سبيل الذم، لا يقال: خرطوم الرجل، أما إذا أردت أن تمدحه فتقول: صاحب الأنف؛ لأن الأنف مشتق من الأنفة ولذا فإنه أعز شيء في الإنسان، ولا يرضى الإنسان أن يضرب على أنفه، يود كل شخص أن يضرب في أي منطقة في جسده إلا في أنفه، ولا يمكن أن تهينها إلا لله عز وجل تسجد لله عز وجل على أنفك وعلى جبهتك تذللاً وخشوعاً وخضوعاً، فالله عز وجل عبر عن هذا الرجل بالخرطوم، وكانت المعارك زماناً بالسيوف وكان يقول بعضهم: خَرْطَمه، يعني: ضربه على أنفه بالسيف أو بالجنبية وهذه أعظم مسبة عند العرب، أن يضرب الأنف، يقول الله قال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] أي: سنجعل لهذا الرجل علامة على خرطومه، وفعلاً كانت له علامة أوقعه أحد الصحابة في يوم بدرٍ أصابه وقطع أنفه -قطع خرطومه- فبقي أفلس ليس معه أنف، بوعد الله عز وجل سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: مجنون، والله يقول: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ [القلم:2-5] يعني: في الآخرة بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:6-8] أي: الكفرة وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10] إلى آخر الآيات كما أسلفنا.
صفة النميمة ليست من صفات أهل الإيمان، ولا ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، ولكن يجوز الكذب في ناحية واحدة؛ لأن الناس قيدوها قالوا: هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، أما على جهة الإصلاح فلا بأس، إذا سمعت أن رجلين متخاصمين وأردت أن تسعى بالإصلاح بينهما، فإنه يجوز لك أن تذهب إلى الأول فتقول له: إن فلاناً يثني عليك ويذكرك بالخير ويتأسف على ما بدر منه نحوك، ويتمنى اللحظة التي يلقاك فيها فيعتذر إليك ويبتسم في وجهك ويحييك، ويريد أن يزورك، فيقول الثاني: هل هذا صحيح؟ إذا قال لك: احلف بالله ماذا تعمل؟ اتصلت أنا تلفونياً بالشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ؛ لأني وقعت في موقف محرج جداً والرجل يثق بي ثقة كبيرة، لكن يستغرب الكلام الذي قلته عن ذاك، يتصور أنه كلام غير صحيح رغم ثقته فيه، فأراد أن يحرجني قال: احلف بالله أنه قال هذا الكلام؟ فوقعت في موقفٍ عجيب، ليس لدي خيار إلا أن أحلف بالله، ماذا أعمل وأمري إلى الله فحلفت بالله قلت: والله إنه قال، ولكن بقيت هذه اليمين في قلبي مثل الجمرة، أردت خيراً فوقعت في يمينٍ غموس، ماذا أصنع يا ربِ! وجلست أستغفر الله طوال يومي، ماذا أفعل أقول: لا. لو أني ما حلفت سيعرف أني كذاب، وبعد ذلك لا يثق بي مطلقاً ويستمر الأمر الذي أنا أردت أني أقضي عليه وهو قضية الفساد الذي حصل بين الرجلين خيارات صعبة لابد لي أني آخذ أقل واحد منها، فتحملت وحلفت، ولما جئت في الليل اتصلت بالشيخ عبد العزيز بن باز وأخبرته فقال: يمينك بارة وأجرك على الله وإن عادوا فعد، -أي والله يا إخواني- قال: ليس هذا من اليمين التي يعذب عليها الله عز وجل، هذه يمين أريد بها وجه الله، أريد بها لمّ شعث المسلمين؛ لأن الحقيقة كانت القضية بين الرجلين قد بلغت أوجها لدرجة أنه ما بقي إلا أن يتقاتلا، ثم افترقا، وكان بعضهم يتصور أنه وهو يفترق بالآخر أنه لن يلتقي به أبداً في حالٍ من الأحوال، لكن من فضل الله لما ذهبت لهذا الرجل الذي كان لا يصدق أن ذاك يقول فيه هذا الكلام قلت: فلان آسف ومتندم ويريد أن يراضيك بأي وسيلة ويعتذر عما حصل ويقول: أنك أنت الذي بدأت لكن هو يقول: إن الشر منه وهو يريد أن يلقاك ويريد أن يزورك وهو مستعد أن يأتي معي إليك فقط يخشى أنك ترده من الباب، قال: صحيح؟! قلت: نعم. قال: احلف بالله أنه قاله؟ فما قدرت إلا أن أحلف وأمري إلى الله وبعد ذلك انتقلت من هذا ذهبت لذاك، ذاك لم يطلب مني يميناً، ووافق، ومن فضل الله قَبِل أن نزوره فذهبت أنا والرجل هذا إلى بيته وأصلحت بينهما وتعشينا عند هذا، وفي اليوم الثاني تعشينا عند الآخر والآن الإخوة من أحسن الناس، من فضل الله.
فالشاهد في الموضوع أن هذا ليس من الكذب وليس مما لا يجوز وإنما مما يجوز أن توحد الصفوف وأن تلم الشعث وأن تقرب القلوب عن طريق هذا.
تقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص بشيء من الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل على زوجته، وكذبه على الحرب، وكذبه في الإصلاح) كذبه على زوجته ليس يعني ذلك أن يأخذ حقوقها ويكذب عليها، يكذب على الزوجة يعني: يقول لها: إن طعامك جيد، ولو كان لا يساوي شيئاً. وإن الثوب هذا لم أر مثله في حياتي ولو كان لا يساوي شيئاً، وإن الفراش نظيف والرائحة جميلة هذا مما يقرب قلبها لك؛ لأنه يبعث فيها عامل التنافس لتقديم أفضل خدمة؛ لأنك تزكيها، والإنسان دائماً يحب المدح، أنت عندما تدخل على الطلاب في المدرسة وتأتي إلى طالب بليد وتمدحه وتقول: ما هذا الخط الجميل! ما شاء الله! عجيب! أنت اليوم يظهر عليك أنك ذاكرت بالأمس، فيذهب الطالب يذاكر طوال الليل، لكن عندما يأتيك وهو مذاكر طوال الليل ويضبط الخط ويفعل الواجبات وتشاهده فنقول له: ما هذا الخط؟ فيقول الطالب: الله أكبر على هذا الأستاذ! كنت طوال ليلي أسهر عليها وآخر شيء يقول لي هكذا والله لا أفعل واجباً فالشاهد في الموضوع أن كذب الرجل على امرأته ليس كذباً في حقوقها، كأن يأخذ مالها أو يشرد عليها ويقول: ليس عندي شيء؛ لأنه يجوز كذب الرجل على المرأة، لا. الكذب الذي هدفه الإصلاح وهدفه تقريب القلوب، أما أخذ الحقوق وانتهاك الحرمة والاعتداء فلا يجوز، فالمسلمة هذه لها حق عظيم عند الله؛ لأنك استحللت فرجها بكلمة الله، وهي عارية عندك أسيرة بين يديك، وأمانة وضعها أبوها وأهلها عندك، فاتق الله فيها، وأنت مسئول عنها يوم القيامة أحسنت أو ضيعت.
وكذب الحرب؛ يجوز في الشرع أن الإمام أو الحاكم أو القائد يوري ويموه على الأعداء فإذا كان -مثلاً- يريد الاتجاه إلى الخميس يذهب إلى تهامة ، فالعدو الذي في الجهة هذه يقول: والله المعركة ذهبت هناك، لكن يجوز أنه يتجه كذا وبعد ذلك يدور، ويأتيهم من طريق آخر، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل؛ لأن الحرب خدعة، هذا هو الأمر الأول من أسباب عذاب القبر: النميمة.
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
من أسباب عذاب القبر الحلقة [7] 1،2 | 2791 استماع |
من أسباب عذاب القبر .. الديون والنياحة [11] | 2591 استماع |
من أسباب عذاب القبر [3] | 2055 استماع |
من أسباب عذاب القبر .. أكل الربا [10] | 1937 استماع |
من أسباب عذاب القبر الحلقة [2] | 1782 استماع |
من أسباب عذاب القبر الحلقة [6] 1،2 | 1027 استماع |