من أسباب عذاب القبر [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

قبل البدء بالحديث في هذا اللقاء، أحب أن أُشير إلى ما سبق أن أجبت به على سؤال من أحد الإخوة سأل فيه، هل البنت التي رضعتُ معها أو رضعت معي أخت لأخواتي أم لا؟

وأجبت أنا بما ينبغي أن يكون وهو الصحيح إن شاء الله، لكن أحد الإخوة قال: إنه يُخشى أن يُفهم الموضوع بنوع من اللبس وعدم الوضوح، فلا بد من الإيضاح، وزيادة في الإيضاح وكقاعدة يعرفها طالب العلم بالنسبة للتحريم من الرضاع، أن الرضاع لا ينتشر وإنما يلزم الراضع فقط، فمثلاً لو أن رجلاً في أبها معه زوجة هناك، وزوجة أخرى في الحجاز مثلاً وثالثة في خميس مشيط ورابعة في بني الأسمر ، وله من كل زوجة أولاد، وجاء شخص من جيرانهم في أبها -معه طفل صغير ولم يجد من يرضعه- فأرضعته امرأته التي في أبها ، فإن هذا الولد الراضع أصبح أخاً لجميع الذين رضعوا من ثدي هذه الأم، وجميع الذين ولدوا من صلب هذا الرجل من جميع زوجاته، التي في أبها والحجاز وبني الأسمر وفي خميس مشيط، لأن اللبن للفحل، فهذا الولد أخ لجميع من رضع من ثدي هذه المرأة ومن خرج من صلب هذا الرجل، سواءً كانوا من هذه المرأة أو من غيرها.

لكن إخوان هذا الولد من النسب لا علاقة لهم بإخوانه من الرضاع، الحرمة تتعلق بالراضع فقط، فيجوز لأخيه من النسب أن يذهب فيتزوج ببنت هذا الرجل سواءً الموجودة في أبها أو في الحجاز أو بني الأسمر أو في الخميس.

لكن متى تكون الحرمة مشتركة؟ تكون الحرمة مشتركة إذا كان هذا الولد قد رضع من هذه المرأة، وأيضاً البنت تلك التي رضع من أمها رضعت من أمه هو أيضاً، فتصبح هذه البنت أختاً لهذا الولد، ولجميع إخوانه، لأن الرضاع أصبح متبادلاً من طرفين لا من طرف واحد، ولكن غيره ممن لم يرضع ليس له علاقة بالآخر.

فالقاعدة: أن الرضاع يلزم الراضع فقط، هذه إيضاحات أحببت أن أوردها حتى لا يكون هناك لبس إن شاء الله.

قلنا فيما مضى: إن هناك عذاباً يسلط على أصحاب القبور، أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر، وينبغي -أيها الإخوة- أن نلح في السؤال، وأن نجزم في الطلب في أن يعيذنا الله وإياكم من عذاب القبر، فإن عذاب أو نعيم القبر هو أول ما يحصل للإنسان، فإن كان نعيماً كان ما بعده أفضل، وإن كان عذاباً كان ما بعده أسوأ، نعوذ بالله من عذاب الله.

وقلنا: إن هناك أسباباً كثيرة وردت بها أدلة خاصة توضح أن من وقع في هذه الذنوب والأسباب، سُلط عليه العذاب في قبره، وذكرنا منها: النميمة، وعدم التنزه من البول، والغلول وهو: أخذ شيء من الحق العام -من أموال الدولة- وهو في الأصل أخذ شيء مما يغنمه المسلمون في قتالهم مع الكفار.

واليوم نتحدث عن الأمر الرابع من أسباب عذاب القبر وهو: الكذب، ونعني بعذاب القبر، ما يُقدم للمُعذب من عذاب عاجل قبل العذاب الكبير في النار، لأن في النار عذاباً ضخماً وكبيراً جداً، ولكن خلال الفترة البرزخية تأتي المقدمات، ومقدمات العذاب كما يعبر عنها أحد الإخوة، يقول: هذه وجبة الإفطار، والعشاء في النار، يعني هذه المقدمات اليسيرة ما هي إلا وجبة خفيفة، ولكن الوجبة الكاملة الدسمة في جهنم، أعاذنا الله وإياكم منها.

الكذب يتنافى مع الإيمان

الكذب من أقبح القبائح ومن أعظم المعائب، ومن أسوأ الأخلاق، والنفوس الأبية في الإسلام وفي الجاهلية ترفضه وتأباه، ليس هناك أحد يحب الكذب خلقاً، وجاء الدين الإسلامي ليؤصل ويقعِّد ويبني ويؤسس هذا الدين على الصدق، ولذا فالذي يكذب ليس بمؤمن حقيقةً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في موطأ الإمام مالك - (أيكون الرجل جباناً، قال: نعم) يعني: قد يجبن في لحظة من اللحظات، وإلا فالخلق الأصيل عند المؤمن الشجاعة في الحق وفي سبيل الله، لكن قد يحصل له في يوم من الأيام أن يكون جباناً (قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم) يعني: قد يحصل وإلا فصفته الأساسية اللازمة له هي الكرم، ولكن قد ينتابه شيء من البخل في لحظة من اللحظات، وفي ساعة من ساعات الضعف البشري بحكم نقص الإنسان (قالوا: أيكون المؤمن كذاباً، قال: لا. إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) فالذي يفتري الكذب لا يؤمن بالله، وأصل النفاق مبني على الكذب.

فالمنافقون الذين أظهروا خلاف ما أبطنوا كذبوا ليسوا بواضحين، بل متلونين، يلبسون لكل زمن ما يناسبه، فهم لبسوا لزمن الإسلام، الذي هو زمن التوحيد وقوة الدين، لبسوا له اللباس من الظاهر فأظهروا الدين، ليحقنوا دماءهم ويحموا أموالهم، ويصونوا أعراضهم، ولكنهم في حقيقتهم الداخلية كفار، ولهذا سمّاهم الله كاذبين، وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10].

فهم كذبوا على الله، وتلونوا بلون ليس بلونهم الطبيعي، فلونهم الداخلي الأصيل هو: الكفر، ولكنهم أظهروا لوناً آخر من أجل أن يخدعوا الناس، فخدعهم الله وكذبهم، ونفى عنهم الإيمان فقال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فمثلهم كمثل الحرباء، وتعرفون الحرباء، نسميها عندنا باللسان العامي (الفاشة)، هذه (الفاشة): دويبة تأتي في الأرض طولها تقريباً شبر، وهذه تستطيع أن تتلون بلون المكان التي هي فيه، فإذا وجدتها في شجرة والشجرة خضراء تجدها خضراء، فإذا أخذتها بعود أو بيدك ووضعتها في الطين تخرج غبراء مثل الطين، وإذا أخذتها ووضعتها في حجرة سوداء تخرج سوداء مثل الغرفة، وإذا رميتها في طين أصفر تخرج صفراء مثل الطين، فهي تأخذ لون المكان التي هي فيه، لماذا؟ من أجل أن تخدع الإنسان حتى لا يراها.

ولهذا ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أن هذا المنافق وأمثاله من أهل النار، فقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:38-45] يعني: لم يكن لنا اتجاه، ولم يكن لنا مبدأ، ولم يكن لنا دين، وإنما إن جلسنا مع الطيبين ظهرنا طيبين، وإن جلسنا مع العصاة والفجرة أصبحنا عصاة وفجرة، وإن جلسنا مع المغنين أصبحنا مغنين، المهم أنهم يلبسون لكل جوٍ ما يناسبه، وهذا هو الكذب وهذا هو الخداع، وهذا هو الغرور.

يقول الله عز وجل: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسوأ شيء عنده، كما قالت عائشة رضي الله عنها: [ما كان شيء أسوأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يعلم عن أصحابه أو عن أحد من أصحابه كذباً، وكان لا يرضى حتى يعلم أنه أحدث توبة] فإذا وقع من رجل كذبة نبذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضى عنه إلا أن يعلم أنه أحدث لله توبة، يعني نقلة من حياة الكذب والدجل إلى حياة الوضوح والصدق؛ لأن هذا هو خلق المؤمن.

حديث في وصف عذاب الكذاب

جاء في صحيح البخاري من حديث سَمُرة بن جندب رضي الله عنه -والحديث صحيح، حديث الرؤية الطويل- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة الفجر أقبل علينا بوجهه وقال: من رأى منكم رؤيا البارحة؟ فإن رأى أحد منا شيئاً قصه، فقال صلى الله عليه وسلم يوماً: أما أنا فقد رأيت البارحة) وذكر الحديث الطويل أنه جاءه رجلان فأخذاه وقالا له: انطلق، فانطلق معهما ورأى عدة مشاهد، ومن ضمن هذه المشاهد مشهد يتعلق بالكذب، وهو: (قال: أتاني رجلان، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم وبيده كلّوب من حديد يدخله في شدقه -الشدق طرف الفم- فيشرشره حتى يبلغ به قفاه - أي: يمزقه- ثم يفعل ذلك بشدقه الآخر) أي: يُغلق الكلّوب ويربطه في طرف شدقه ثم يشرشر فاه حتى يبلغ قفاه، ثم لا ينتهي حتى يعود إلى الآخر فيجده قد صح فيصنع به كما صنع بالأول، ثم إذا انتهى انتقل إلى الآخر: (فقلت ما هذا؟ قالا لي: انطلق فانطلقت معهما) يقول في آخر المشاهد: (قالا له: أما الرجل الذي رأيته يشرشر شدقه بالكلّوب فهو الرجل يكذب الكذبة تبلغ الآفاق).

أي أن هذا الرجل مصنع للكذب، يُورد للأمة الكذب، ويصدره لهم وينشرونه، وتروج الأراجيف والأكاذيب بين الناس، وأصلها من هذا الرجل، فهذا عذابه في النار، أعاذنا الله وإياكم من النار.

علاقة الكذب بالنفاق والخيانة والفجور

يقول إسماعيل بن واسط سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول -يعني: قبل عام- ثم بكى فقال: إياكم والكذب فإنه مع الفجور، وهما في النار) هذا الحديث أخرجه الإمام ابن ماجة والنسائي في اليوم والليلة وسنده حسن، وقال الحسن : [كان يقال: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، واختلاف القول والعمل، واختلاف المدخل والمخرج، وأن الأصل الذي بني عليه النفاق هو الكذب] وقال عليه الصلاة والسلام: (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب) يقول: أعظم خيانة أن يعيرك شخص سمعه، ويشغل نفسه، ويُظهر لك اهتمامه، وأنت تصنف عليه كذباً، هو لك به مصدق وأنت تعلم أنك تكذب عليه، هذا أعظم خيانة له.

والحديث أخرجه الإمام البخاري في الصحيح ، وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وكبرت خيانة: أي أعظم خيانة للمسلمين، أن تأتي إلى رجل وتخبره بخبر فيصغي لك وأنت تعلم أنك له كاذب، وهو يصدقك في ذلك، هذه عظيمة جداً؛ لأنه لو علم أنك كذَّاب هل سيستمع إليك؟ فلو قلت له: دعني أقول لك كلاماً كذباً؛ لقال لك: شكراً لا نريد الكذب، لا أحتاج أن تخبرني بالكذب.

فهذه خيانة له أن تضيع وقته، وتسترعي انتباهه، وتشد نفسه، ثم تعطيه كلاماً لا أساس له في الواقع؛ لأنه سيبني على هذا الكلام أحكاماً وتصرفات، وربما ينقل هذا الكلام للآخرين، بينما كان الأساس منك أنت أيها الإنسان الذي خنته وأخبرته بغير الواقع.

قال ابن مسعود رضي الله عنه -والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم - قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا) فالصدق بر يوصلك إلى البر، والبر طريق إلى الجنة، والرجل يصدق باستمرار ويتحرى الصدق، يعني: لديه حيطة وحذر، فلا يستطيع أن يقول شيئاً غير الصدق، وما دام على هذا الوضع، لا يزال يصدق ويتحرى الصدق فإن الله يكتبه صديقا، وإذا كتبه الله صديقاً أفلح ونجح، لأن الله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69].

فمنزلة الصديقين بين النبيين والشهداء، أي أنها منزلة أرفع من منزلة الشهداء وتحت النبيين، فالصديقية منزلة بين النبوة وبين الشهادة: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]. (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب -أي: يبحث عن الكذب ويفتش عنه، وعن الذي يضحك الناس، وما الذي ينقل للناس، وماذا يقول للناس، ولو كان كذباً، فتجده يتحراه يعني يتوقعه ويبحث عنه- حتى يُكتب عند الله كذابا) فإذا كتبه الله كذَّاباً فقد خسر وهلك، والعياذ بالله، والحديث كما ذكرنا في الصحيحين.

الكذب من أقبح القبائح ومن أعظم المعائب، ومن أسوأ الأخلاق، والنفوس الأبية في الإسلام وفي الجاهلية ترفضه وتأباه، ليس هناك أحد يحب الكذب خلقاً، وجاء الدين الإسلامي ليؤصل ويقعِّد ويبني ويؤسس هذا الدين على الصدق، ولذا فالذي يكذب ليس بمؤمن حقيقةً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في موطأ الإمام مالك - (أيكون الرجل جباناً، قال: نعم) يعني: قد يجبن في لحظة من اللحظات، وإلا فالخلق الأصيل عند المؤمن الشجاعة في الحق وفي سبيل الله، لكن قد يحصل له في يوم من الأيام أن يكون جباناً (قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم) يعني: قد يحصل وإلا فصفته الأساسية اللازمة له هي الكرم، ولكن قد ينتابه شيء من البخل في لحظة من اللحظات، وفي ساعة من ساعات الضعف البشري بحكم نقص الإنسان (قالوا: أيكون المؤمن كذاباً، قال: لا. إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) فالذي يفتري الكذب لا يؤمن بالله، وأصل النفاق مبني على الكذب.

فالمنافقون الذين أظهروا خلاف ما أبطنوا كذبوا ليسوا بواضحين، بل متلونين، يلبسون لكل زمن ما يناسبه، فهم لبسوا لزمن الإسلام، الذي هو زمن التوحيد وقوة الدين، لبسوا له اللباس من الظاهر فأظهروا الدين، ليحقنوا دماءهم ويحموا أموالهم، ويصونوا أعراضهم، ولكنهم في حقيقتهم الداخلية كفار، ولهذا سمّاهم الله كاذبين، وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10].

فهم كذبوا على الله، وتلونوا بلون ليس بلونهم الطبيعي، فلونهم الداخلي الأصيل هو: الكفر، ولكنهم أظهروا لوناً آخر من أجل أن يخدعوا الناس، فخدعهم الله وكذبهم، ونفى عنهم الإيمان فقال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فمثلهم كمثل الحرباء، وتعرفون الحرباء، نسميها عندنا باللسان العامي (الفاشة)، هذه (الفاشة): دويبة تأتي في الأرض طولها تقريباً شبر، وهذه تستطيع أن تتلون بلون المكان التي هي فيه، فإذا وجدتها في شجرة والشجرة خضراء تجدها خضراء، فإذا أخذتها بعود أو بيدك ووضعتها في الطين تخرج غبراء مثل الطين، وإذا أخذتها ووضعتها في حجرة سوداء تخرج سوداء مثل الغرفة، وإذا رميتها في طين أصفر تخرج صفراء مثل الطين، فهي تأخذ لون المكان التي هي فيه، لماذا؟ من أجل أن تخدع الإنسان حتى لا يراها.

ولهذا ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أن هذا المنافق وأمثاله من أهل النار، فقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:38-45] يعني: لم يكن لنا اتجاه، ولم يكن لنا مبدأ، ولم يكن لنا دين، وإنما إن جلسنا مع الطيبين ظهرنا طيبين، وإن جلسنا مع العصاة والفجرة أصبحنا عصاة وفجرة، وإن جلسنا مع المغنين أصبحنا مغنين، المهم أنهم يلبسون لكل جوٍ ما يناسبه، وهذا هو الكذب وهذا هو الخداع، وهذا هو الغرور.

يقول الله عز وجل: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسوأ شيء عنده، كما قالت عائشة رضي الله عنها: [ما كان شيء أسوأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يعلم عن أصحابه أو عن أحد من أصحابه كذباً، وكان لا يرضى حتى يعلم أنه أحدث توبة] فإذا وقع من رجل كذبة نبذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضى عنه إلا أن يعلم أنه أحدث لله توبة، يعني نقلة من حياة الكذب والدجل إلى حياة الوضوح والصدق؛ لأن هذا هو خلق المؤمن.

جاء في صحيح البخاري من حديث سَمُرة بن جندب رضي الله عنه -والحديث صحيح، حديث الرؤية الطويل- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة الفجر أقبل علينا بوجهه وقال: من رأى منكم رؤيا البارحة؟ فإن رأى أحد منا شيئاً قصه، فقال صلى الله عليه وسلم يوماً: أما أنا فقد رأيت البارحة) وذكر الحديث الطويل أنه جاءه رجلان فأخذاه وقالا له: انطلق، فانطلق معهما ورأى عدة مشاهد، ومن ضمن هذه المشاهد مشهد يتعلق بالكذب، وهو: (قال: أتاني رجلان، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم وبيده كلّوب من حديد يدخله في شدقه -الشدق طرف الفم- فيشرشره حتى يبلغ به قفاه - أي: يمزقه- ثم يفعل ذلك بشدقه الآخر) أي: يُغلق الكلّوب ويربطه في طرف شدقه ثم يشرشر فاه حتى يبلغ قفاه، ثم لا ينتهي حتى يعود إلى الآخر فيجده قد صح فيصنع به كما صنع بالأول، ثم إذا انتهى انتقل إلى الآخر: (فقلت ما هذا؟ قالا لي: انطلق فانطلقت معهما) يقول في آخر المشاهد: (قالا له: أما الرجل الذي رأيته يشرشر شدقه بالكلّوب فهو الرجل يكذب الكذبة تبلغ الآفاق).

أي أن هذا الرجل مصنع للكذب، يُورد للأمة الكذب، ويصدره لهم وينشرونه، وتروج الأراجيف والأكاذيب بين الناس، وأصلها من هذا الرجل، فهذا عذابه في النار، أعاذنا الله وإياكم من النار.

يقول إسماعيل بن واسط سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول -يعني: قبل عام- ثم بكى فقال: إياكم والكذب فإنه مع الفجور، وهما في النار) هذا الحديث أخرجه الإمام ابن ماجة والنسائي في اليوم والليلة وسنده حسن، وقال الحسن : [كان يقال: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، واختلاف القول والعمل، واختلاف المدخل والمخرج، وأن الأصل الذي بني عليه النفاق هو الكذب] وقال عليه الصلاة والسلام: (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب) يقول: أعظم خيانة أن يعيرك شخص سمعه، ويشغل نفسه، ويُظهر لك اهتمامه، وأنت تصنف عليه كذباً، هو لك به مصدق وأنت تعلم أنك تكذب عليه، هذا أعظم خيانة له.

والحديث أخرجه الإمام البخاري في الصحيح ، وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وكبرت خيانة: أي أعظم خيانة للمسلمين، أن تأتي إلى رجل وتخبره بخبر فيصغي لك وأنت تعلم أنك له كاذب، وهو يصدقك في ذلك، هذه عظيمة جداً؛ لأنه لو علم أنك كذَّاب هل سيستمع إليك؟ فلو قلت له: دعني أقول لك كلاماً كذباً؛ لقال لك: شكراً لا نريد الكذب، لا أحتاج أن تخبرني بالكذب.

فهذه خيانة له أن تضيع وقته، وتسترعي انتباهه، وتشد نفسه، ثم تعطيه كلاماً لا أساس له في الواقع؛ لأنه سيبني على هذا الكلام أحكاماً وتصرفات، وربما ينقل هذا الكلام للآخرين، بينما كان الأساس منك أنت أيها الإنسان الذي خنته وأخبرته بغير الواقع.

قال ابن مسعود رضي الله عنه -والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم - قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا) فالصدق بر يوصلك إلى البر، والبر طريق إلى الجنة، والرجل يصدق باستمرار ويتحرى الصدق، يعني: لديه حيطة وحذر، فلا يستطيع أن يقول شيئاً غير الصدق، وما دام على هذا الوضع، لا يزال يصدق ويتحرى الصدق فإن الله يكتبه صديقا، وإذا كتبه الله صديقاً أفلح ونجح، لأن الله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69].

فمنزلة الصديقين بين النبيين والشهداء، أي أنها منزلة أرفع من منزلة الشهداء وتحت النبيين، فالصديقية منزلة بين النبوة وبين الشهادة: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]. (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب -أي: يبحث عن الكذب ويفتش عنه، وعن الذي يضحك الناس، وما الذي ينقل للناس، وماذا يقول للناس، ولو كان كذباً، فتجده يتحراه يعني يتوقعه ويبحث عنه- حتى يُكتب عند الله كذابا) فإذا كتبه الله كذَّاباً فقد خسر وهلك، والعياذ بالله، والحديث كما ذكرنا في الصحيحين.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [7] 1،2 2793 استماع
من أسباب عذاب القبر .. الديون والنياحة [11] 2593 استماع
من أسباب عذاب القبر 2063 استماع
من أسباب عذاب القبر .. أكل الربا [10] 1941 استماع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [2] 1784 استماع
من أسباب عذاب القبر الحلقة [6] 1،2 1031 استماع