خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33614"> شرح كتاب زاد المستقنع
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح زاد المستقنع باب الموصى به
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى به].
شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ما يتعلق بالشيء الموصَى به، ويعتبر هذا الشيء ركناً من أركان الوصية؛ لأن الإنسان يعهد بالشيء إلى غيره، وهذا الشيء منه ما تصح الوصية به، ومنه ما لا تصح الوصية به.
فنظراً لاختلاف حكم الشرع فيه؛ ناسب أن يعقد المصنف رحمه الله له باباً مستقلاً، فيبيّن ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يُوصَى به، ومن عادة الشريعة أنّها تُفرِّق في محل العقود، فالموصَى به مَحَلٌ للوصية، كما أن الشيء المَبيع محل لعقد البيع، والشيء المؤجر محل للإجارة، والشيء الموهوب محل للهبة.
فتارة تُشدد الشريعة في الأشياء التي هي محل للعقود، وتشترط شروطاً لابد من توفرها للحكم بصحة عقودها، وهذا التشدد من الشريعة قَصَدت به حفظ الحقوق للناس، فلا تقصد به تضييقاً عليهم، ولا تعسيراً في تشريعاتها لهم، وإنما قصدت حفظ الحقوق، فالشيء المبيع له شروط، والشيء المؤجر له شروط، والشيء الموهوب، والشيء الموصَى به، كل ذلك له شروط معينة.
فتارة تكون الشروط قوية -كما ذكرنا- وتارة تكون خفيفة، والموصَى به أمره خفيف، والشرع يخفف في شروطه، والعلماء رحمهم الله يبينون جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الشيء الموصى به، ويظهر من خلال هذا البيان أن الشريعة قصدت التوسعة، والسبب في هذا: أن يعلم طالب العلم أن الشيء الموصَى به في الغالب أشبه بالهبة، والشخص إذا وهب الشيء فهو محسن متفضل، والله تعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91].
فلك أن توصي بالقليل، ولك أن توصي بالكثير، ما دام أنه دون الحد الذي حده الشرع، ولك أن تزيد عن هذا الحد إذا سامح أصحاب الحق -وهم الورثة- فأجازوا وصيتك.
والمقصود: أن الشيء الذي يُوصَى به تارة يكون مأذوناً بالوصية به، وتارة يكون غير مأذونٍ به.
فهنا يتكلم العلماء رحمهم الله على الأشياء التي يكون من حق الإنسان أن يُوصِي بها، فإذا تضمنت الوصية بالشيء ما يقصده الشرع من حصول المحبة، وحصول البر والإحسان والصلة والرفق، أجازت الشريعة الوصية، وإذا تضمن الشيء الموصَى به ما يكون وسيلة لحرام، أو يكون وسيلة إلى غرض يهدم أصول الشريعة أو يعارضها؛ فحينئذٍ لا تجوز الوصية، فلو وصَّى بكتبٍ محرمة، ككتب السحر، وكتب الضلالات التي فيها الأمور التي تؤثر في العقيدة وتُضِل الناس، فلا تجوز الوصية؛ لأن هذا شيء مُوصَى به محرم.
كذلك لو وصَّى بآلات اللهو التي لم يأذن بها الشرع فإنه يتضمن معارضة الشرع؛ ولو قالت الشريعة: تجوز الوصية بذلك، لتناقضت، فكيف تقول: إنها آلات محرمة، ثم تجيز الوصية بها؟ فلابد من أن يكون المحل الذي ترد عليه الوصية مأذوناً به شرعاً، ولأجل التفريق بين ما يحل وما يحرم وما يُباح؛ فإنه لا بد من بيان المسائل والأحكام التي سيعرِّج المصنف رحمه الله في بيانها.
يقول رحمه الله: (باب الموصى به)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالشيء الذي يجوز أن يُوصَى به، والشيء لا يجوز أن يُوصَى به.
حكم الوصية بما يعجز عن تسليمه
قوله: (تصح بما يُعجز عن تسليمه)، الشيء المعجوز عن تسليمه يصح في بعض الأحيان أن تتعامل وتتعاقد به، كما في الوصية هنا، ولا يصح في بعض الأحيان التعامل به، فلو كان الشيء المعجوز عن تسليمه مُباعاً؛ لم يصح البيع.
والمقصود بالمعجوز عن تسليمه: عجز عن الشيء إذا لم يستطع، ومعنى ذلك: أنك تُوصِي بشيءٍ أنت عاجزٌ عن دفعه وإيصاله للمُوصَى له، ويعجز من يقوم مقامك من الورثة عن إيصاله إلى الموصَى له.
وقوله: (كآبق) أي: مثل العبد إذا أبق وشرد عن سيده، ولم يستطع معرفة مكانه، أو لم يستطع أخذه؛ فحينئذٍ يكون معجوزاً عن تسليمه، فصاحبه المالك له يعجز عن تسليمه، وإذا وصَّى بعبدٍ آبق، أو بعيرٍ شارد، وهم يمثلون بهذه الأمثلة لأنها كانت في زمانهم، كما إذا شرد البعير، أو شردت البقرة، أو شردت الشاة؛ فحينئذٍ يصعُب أن يحصل الإنسان عليه في الغالب، فإذا لم يستطع أن يجده فإنه لن يستطع تسليمه للغير، فهو معجوزٌ عن تسليمه.
فكل شيء فُقد ولم يستطع صاحبه أن يعرف مكانه، أو عرف مكانه ولكنه لا يستطيع أخذه، مثل: المغصوب ونحوه؛ فإنه معجوزٌ عن تسليمه، فهذا النوع من الأشياء لا يجوز أن تتعامل به في عقود المعاوضات.
فلا تُجيز لك الشريعة أن تبيع شيئاً معجوزاً عن تسليمه، ولكن تجيز لك أن تُوصِي به.. وما الفرق بين الأمرين؟
لأنه في البيع إذا اشترى منك إنسان شيئاً ضائعاً منك؛ كساعة مفقودة، أو بعير شارد، أو دابة فرت منك، أو طير طار منك، كان عندك ثم طار؛ فإنه في هذه الحالة تُغرِّر به؛ لأنه يُحتمل أن يأخذ ذلك الشيء ويحتمل ألا يأخذه، والغالب أنه لا يأخذه، فأصبحت آخذاً لمال أخيك بدون حق.
وهذه العلة أشارت إليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، ثم علل عليه الصلاة والسلام وقال كما تقدم معنا في البيع: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أي: أخبرني، لو بعت هذا الشيء المعجوز عن تسليمه ولم يستطع من اشتراه منك أن يصل إليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام (فبم تستحل مال أخيك؟) أي: بأي حق تأخذ الخمسمائة ريال التي دفعها لك أخوك المسلم لقاء ذلك البعير، فإذا أصبح غير مستطيع الوصول إلى البعير، كان أخذك لهذه الخمسمائة من أكل المال بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فبم تستحل مال أخيك؟).
وهذا يدل على أن الشريعة في المعاوضات تريد إيصال كل عِوض إلى صاحبه، وهذا هو ما قرره الأئمة رحمهم الله، ولـشيخ الإسلام رحمه الله في بيع المعدوم كلام نفيس في مجموع الفتاوى، بين أن العدل أَن يُعطى كل ذي حق حقه في المعاوضات.
فمن اشترى شيئاً لقاء شيء فإنه ينبغي أن يُمكّن من ذلك الشيء الذي اشتراه؛ فإذا لم يُمكَّن منه فقد ظُلِم؛ لأنه أعطى غيره ولم يأخذ منه، وهو إنما أعطى الغير ليأخذ؛ فالبائع أعطى السلعة من أجل أن يأخذ الثمن، والمشتري أعطى الثمن من أجل أن يأخذ السلعة؛ فإذا ظلم أحدهما الآخر فأخذ منه ولم يعط، فقد أكل ماله بالباطل، وهذا هو الذي جعل الأمر يختلف بين الوصية وبين البيع، وحينئذٍ في الوصية حينما يقول الشخص: أوصيت ببعيري الشارد لمحمد، فهذه الوصية ليس لها عوض يقابلها، أي: لم يدفع محمد مالاً إلى الميت الذي وصَّى، وإنما تفضل الميت وتبرع وأحسن وأفضل حينما قال: هذا البعير الشارد أَعطوه محمداً، فإن حصل محمد على البعير الشارد فقد تحقق المقصود والموصِي له أجره، وإن لم يحصل فلا ضرر عليه؛ لأنه لم يدفع شيئاً في مقابل هذا البعير.
ومن هنا صحت الوصية بالمجهول، وصحت بالمعدوم، وصحت بالمعجوز عن تسليمه؛ لأنه لا غرر في ذلك، فتصح الوصية بالبعير الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فلو أن سمكة كان يملكها ثم سقطت في الماء فوهبها، صحّت؛ لأن هذا كله لا غرر فيه على الموصَى له.
وقوله: (وطير في الهواء) الطير في الهواء -طبعاً- يصعب الوصول إليه، ولكن أياً ما كان فالوصية تخالف البيع؛ لأن الوصية لا عوض فيها، والبيع فيه عوض.
حكم الوصية بالمعدوم
والمعدوم: هو غير الموجود والذي يُرجَّى حدوثه، وقد لا يحدث أصلاً؛ لكنه معدوم، فالنخل له زمان يكون الثمر موجوداً فيه، وزمان لا يوجد فيه الثمر، فلو جاء الموصِي في الزمان الذي ليس فيه ثمر -والذي يسمونه مرحلة السكون، وهي تقارب شهرين يسكن فيها النخل فلا طلع فيه ولا ثمر، والشهران هذان اللذان هما بين الجَدّاد جَد النخل وبين الطلع- فلو وصّى فيهما فقال: ثلث ثمر البستان السنة القادمة؛ فأثناء الوصية يكون معدوماً، أي: غير موجود؛ فحينئذٍ تَصِح، والذي يُخرجه البستان يعطى منه النصيب الذي وصى به.
وقوله: (كما يحمل حيوانه وشجرته أبداً).
أي: كالذي يحمل حيوانه، مثلما ذكرنا في الناقة والبقرة والشاة والشجر والنخيل، كأن يقول: نخل البستان، أو يكون عنده عنب؛ فيقول: ثم العنب للسنة القادمة أوصيت به لفلان، أو أوصيت به لأبناء عمومتي، أو نحو ذلك، يختص بها من سَمّى في وصيته؛ فإنه يصح.
وقوله: (أو مدة معينة).
سواء كان مطلقاً أو مقيداً أو مدة معينة، فيقول: أوصيت بثمرة بستاني هذه السنة، أو أوصيت بثمرة بستاني لمدة سنتين لمحمد، أو ثلاث سنوات لأرحامي أو قرابتي، أو نحو ذلك.
وقوله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية).
الفاء: للتفريع، وذلك من دقة العلماء رحمهم الله، وهم يذكرون الأمثلة من باب ترتيب الأفكار في الذهن، وهذا يُعين طالب العلم على فهم المسائل، ويعين المفتي على الإفتاء، ويعين القاضي على القضاء، فعند العلماء أصول، وعندهم فروع مترتبة على هذه الأصول، ولذلك قسمت المسائل في الأبواب والفصول حتى تُركِّز وتنتبه لها، فالأبواب الرئيسية تعتبر أصولاً، ثم الفصول مبنية على هذه الأصول، ثم قد يكون في داخل الفصل والباب أصل وفرع.
فأول ما تبحث في مشروعية الشيء، أي: في إذن الشرع به، فإذا ثبت هذا الشيء، فتقول: ما الذي ينبني أو يترتب على ثبوته؟ فإنه هنا عندما قال: ثمرة بستاني للسنة القادمة لمحمد، ويقتضي عقلاً إما أن يحمل البستان وإما ألا يحمل، فالفاء هنا للتفريع.
فيريد أن يبيِّن حالة عدم خروج الثمرة؛ لأن السؤال الذي يحتاجه من يستفتي ويقضى به في القضاء هو في حالة عدم وجود شيء، فقد يأتي الموصَى إليه ويطالب الورثة ببديل، ويقول: ما دام أن الوصية ثابتة، ولي عند الموصي هذا الشيء الذي وصَّى به؛ فإنني لم أجد شيئاً؛ لأن الثمرة لم تخرج، ولذلك أُطالبكم ببدل وعوض عنه من ماله.
فنقول في هذه الحالة كما يقول المصنف رحمه الله:
(فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية)، فلا شيء له، وهذا لا شك أنه عين العدل والإنصاف، حيث وصَّى بثمرة بستانه، فإذا لم يخرج من البستان شيء فلا شيء له؛ لأن هذا مترتب على وجود شيء من البستان، أما إذا لو يوجد شيء فلا شيء له.
حكم الوصية بكلب الصيد ونحوه
بيّن المصنف رحمه الله أنه يجوز ويصح للمسلم أن يُوصِي بشيء معدوم وبشيء معجوزٍ عن تسليمه، ولكن إذا كان الشيء الموصَى به فيه منفعة، وهذه المنفعة مأذون بها في أحوال ضيِّقة وخاصة؛ فإنه لا يصح إلا الذي أذِن به الشرع، مثال ذلك: الكلب، فإن الكلب -أكرمكم الله- منه ما حرم الشرع، ومنه ما أذن بمنافعه، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نوع من الكلاب، وحرّم اتخاذ الكلاب مُطلقاً في الأصل، ثم خصَّص واستثنى عليه الصلاة والسلام ثلاثة أنواع من الكلاب: كلب الصيد، وكلب الحراسة في الماشية والزرع.
فهذا الذي استثناه عليه الصلاة والسلام هو الذي يجوز للمسلم أن يتخذه من الكلاب، فله أن يتخذ كلباً من أجل الصيد، أو يتخذ كلباً من أجل أن يحرس زرعه وحرثه وما يكون في بستانه، ويتخذ كلباً لحراسة الماشية من الذئب ونحوه، فهذا الذي أذن به الشّرع يجوز أن يوصي به إذا كانت فيه هذه المنفعة، وهي منفعة الصيد، ولذلك قال: (بكلب صيد)، حتى يفهم أن كلب الحرث والماشية كذلك؛ فإذا وصَّى بكلب الحرث والماشية صحت الوصية؛ فلا يفهم منه كلب الصيد فقط؛ لأن الحاجة في الحرث والماشية أشد من الصيد، وهذا من دقة المصنف حيث إنه ينبه بالأدنى على الأعلى.
فلما قال: (كلب صيد) شمل ذلك كلب الحرث وكلب الماشية، والإذن بكلب الصيد -من ناحية فقهية- أقوى من الإذن بكلب الحرث والماشية؛ لأن الإذن بكلب الصيد جاء نصاً في القرآن، حيث قال الله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، والإذن بكلب الماشية والزرع جاء بالسنة في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية).
فهذا نوع من التمثيل قصد به المصنف أن يُبيِّن أن كل شيء فيه منفعة وأصله محرم -أي: فيه أشياء محرمة ومنافع مباحة- فإنه تجوز الوصية به إذا كان للشيء المباح.
وقد ذكر هذه المسألة وفصّل فيها الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وذكر من ذلك: الوصية بالطبل وبالدُّف، وكذلك بآلات اللهو، وبيّن أن الأشياء المحرمة مطلقة التحريم لا تجوز الوصية بها مطلقاً، فلو وصَّى بآلات محرمة فلا تصح الوصية، وهي باطلة، ولو وصى بخمرٍ أو ميتةٍ أو خنزيرٍ فإنها لا تصح الوصية، لكن لو وصَّى بدفٍ حلت وصحت الوصية، وهي وصيَّة مأذون بها شرعاً، والدُّف حلال لمن وُصِّي له؛ لأن الشرع أذن به في النكاح.
فهذا عند العلماء رحمهم الله أصل في المنافع، فبعد أن وَصَّى بالذوات، شرع في بيان المنافع، فكل ما كانت فيه منفعة مباحة وَصَّى صاحبه قبل موته بمنافعه إلى شخص؛ أُعطي هذه المنافع ومُكِّن منها.
فمثلاً: البيت فيه منفعة السكن، والسيارة فيها منفعة الركوب، والفندق فيه منفعة السكن أيضاً، ونحو ذلك، فهذه الأشياء لو أُعطيت منافعها مدة معلومة لشخص معين، أو وُصِّي بها مدة معلومة؛ صحَّت الوصية تلك المدة، ومُكِّن من أخذ حقه منها، بناء على وصية الميت المالك لذلك الشيء.
حم الوصية بالزيت المتنجس
هناك الزيت النجس والزيت المتنجس، فالزيت النجس: هو النجس بعينه، ولا يمكن بحال أن تطهره، فلو جئنا وأخذنا زيتاً مستخرجاً من شحوم الميتة ومن أدهانها، فإنه نجس، ونجاسته عينية، ولو صببت عليه ماء الدنيا كله لما طهره، ولو طبخته فإنه لا يطهُر أيضاً؛ لأنه نجسٌ بعينه.
والمتنجس: هو الشيء الذي يكون في أصله طاهراً ودخلت عليه النجاسة، فتقول: هذا ثوب متنجس، أي: دخلت عليه النجاسة ويقبل التطهير.
فهناك فرق بين النجس وبين المتنجس، فما كان من الأشياء المتنجسة ويمكن تطهيره فإنه يجوز بيعه، فمثلاً: لو كان الثوب متنجساً صح بيعه، لكن لو كان زيتاً نجساً لم يصح بيعه ولا شراؤه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله : (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ -أي: أدهانها والزيوت المستخلصة منها والسمن ونحوه- فإنه يطلى بها السفن ويُستصبح بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! حرِّمت عليهم الميتة فجملوا شحومها ثم أذابوها فباعوها؛ فاستحلوا ما حرم الله عليهم بأدنى الحيل).
فهذا يدل على أن النجس بعينه لا يجوز بيعه، ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (لا، هو حرام) أي: لا يجوز الانتفاع بالأدهان النجسة بأعيانها؛ لأنه لا يمكن تطهيرها، لكن لو كان عند إنسان زيت زيتون وقع فيه بول، أو اختلط بنجاسة، فعند العلماء خلاف: إذا تنجس الزيت فهل تكون نجاسته نجاسة ممازجة أم نجاسة مجاورة؟ وهذا قد سبق الكلام عليه في باب بيع الزيت.
فحينئذٍ: لو كان الزيت متنجساً لا نجساً بعينه؛ فقال -مثلاً-: زيت الزيتون هذا الذي وقعت فيه نجاسة وصّيت به لمحمد، أو وصيت به لزيد، صحت الوصية؛ لأنه يمكن تطهير هذا الزيت؛ إما بالطبخ وإما بالغسل، وقد قلنا: يُغسل الزيت بأن تزيد ماءً على النجاسة الواقعة فيه بما يخالط هذه النجاسة ويذهب عينها.
والدليل على ذلك: حديث الأعرابي، فإنه لما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصب عليه ذنوب من ماء، وهذا الذنوب أكثر من البول، فدل ذلك على أن النجاسة إذا ورد عليه الماء الطهور الأكثر منها طهرها، فالزيت المتنجس عندما يقع فيه البول فإنه لا يمازجه ممازجة تامة، وحينئذٍ يبقى منفصلاً عنه، وتجد طبقة البول منفصلة عن طبقة الزيت؛ لأن الزيت والسمن لا يقبلانها؛ ففي هذه الحالة يُصب عليه الماء، فيختلط الماء بالبول، ويُصبح بكثرته مكاثراً له، ويُحكم بطهارة ذلك النجس، وحينئذٍ يُحكم بطهارة الزيت، ويصح الانتفاع به أكلاً وشرباً ودهاناً، كما سبق بيانه في كتاب البيع.
وقوله: [وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تجز الورثة].
فإذا كان وصّى بالزيت، أو وصى بالكلب، أو وصى بالأشياء التي ذكرناها من المعدومات والمعجوز عن تسليمها، وكانت تعادل الثلث؛ فإنه يأخذها كاملة. وإن كانت دون الثلث؛ فإنه يأخذ ما يعادل الثلث من المال كله من ذلك الشيء الذي وصّى به، فيكون له ثلثه.
وقال بعض العلماء: له ثلث المعين، فإذا قال: هذا المعين لفلان؛ فإنه حينئذٍ يشاركه الورثة في ثلثيه، ولكن العمل بما ذكرناه، أنه يستحقه كاملاً إن كان ذلك الشيء دون الثلث، وقد اختار المصنف رحمه الله ما ذكرناه من أنه يقتطع ثلث الموصَى به، وقد بيّنا أن الصحيح أنه يقتطعه كاملاً إذا كان يعادل الثلث فأقل.
وقوله: [ولو كثر المال إن لم تجز الورثة].
(ولو) إشارة إلى الخلاف، وإذا أجازت الورثة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما زاد عن الثلث إذا أجازه الورثة فإنه نافذ، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في حكم من وصى بما هو أكثر من الثلث، بأن وصيته تصح وتمضي إذا أجاز الورثة؛ لأن الحق لهم، وهل يكون ذلك تنفيذاً للوصية أو يكون عطية مستأنفة؟ بينا هذه المسألة وبينا أقوال العلماء رحمهم الله فيها.
حكم الوصية بالمجهول
أي: وتصح الوصية بمجهول، فلو أن رجلاً عنده سيارات فقال: وصيت بسيارة من سياراتي لمحمد، أو وصيت بعبد من عبيدي، أو بشاة من غنمي، أو بناقة من إبلي ونحو ذلك، فإذا وصى بمجهول فهناك حالتان:
الحالة الأولى: أن يقول: بعبد من عبيدي.
والحالة الثاني: أن يقول: بعبد.
ونمثل بما هو موجود الآن، فإن قال: وصيت بعمارة من عماراتي إلى خال أولادي، ولنفرض أن عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة تعادل مليون ريال، فإنه: يعطى عمارة من هذه العمارات الثلاث، وهنا يختلف العلماء، فإذا كانت العمائر متفاوتة، ففيها العمائر الغالية الجيدة، وفيها العمائر التي هي دون ذلك؛ فعند ذلك يأخذ أقل ما يصدق عليه أنه عمارة منها، أي: أقلها ثمناً وأقلها قيمة مما يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه وصّى بعمارة من عماراته، واليقين أن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: بعمارة من عماراتي، فأقل ما يصدق عليه أنها عمارة يعطاها، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ومنهم أئمة الحنابلة رحمهم الله.
وخالف بعض الفقهاء كبعض أصحاب الإمام الشافعي فقالوا: يعطى أحسن العمائر، فيبحث عن أفضلها وأغلاها ثمناً وأجودها ثم يُعطى ذلك.
والصحيح: أنه يُنظر إلى أقل ما يصدق عليه أنه عمارة، كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: عمارة من عماراتي، فهذا الوصف يصدق على أقل عمارة، فهي عمارة من عماراته، فلو كان يريد الأجود للزمه أن يقول: أفضلها وأحسنها؛ لأنه وصف زائد عن الاستحقاق، فكان الواجب ذكره، فلما لم يذكره فهمنا أنه يريد أقل ما يصدق عليه أنه عمارة.
وهذا من جهة الألفاظ، ولذلك لو أن شخصاً قال: إذا نجح ولدي فللّه عليّ أن أطعم مسكيناً، فإذا قال ذلك ولم يحدد، فنقول له: أطعم أقل ما يصدق عليه أنه إطعام، وهذا في الاستحقاقات، فعلى هذا نقول: إنه يعطى أقل هذه العمائر مما يصدق عليه الوصف الذي ذكره في الوصية.
وفي الحالة الثانية إذا قال: أوصيت بعمارة لفلان، فإذا لم يكن عنده عمائر، فلا إشكال أنه يؤخذ من ماله ما يكفي لشراء أقل ما يصدق عليه أنه عمارة في عرفنا، فمثلاً: لو وجدنا أن العمارة في عرفنا تصدق على دورين، أو على ثلاثة أدوار، فنشتريها بحسب العرف.
فننظر إذا كانت قيمة هذه العمارة مثلاً خمسمائة ألف، والذي ترك ثلاثة ملايين، فهي إذاً هي دون الثلث، فيشترى له عمارة بخمسمائة ألف ويُعطاها، لكن لو قال في هذه الحالة: أوصيت بعمارةٍ، وعنده عمائر، وعنده سيولة، فهل نعطي الموصى له من العمائر التي يملكها الشخص، أم أن الورثة يشترون له عمارة من الخارج؟
والسبب في هذا: أنه ربما تكون عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة بمليون، مع أنه لو اشتُريت له عمارة من الخارج فستكون قيمتها مائة ألف، فمن مصلحة الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، فقال بعض العلماء: ما دام أنه قال: أوصيت بعمارة، وسكت، ولم يبيِّن أنها من عمائره؛ فحينئذٍ من حق الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، ويكون حينئذٍ قد برئت الذمة، ويستحق هذا الشيء الذي يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه لو كان يريد من عمائره لقال: بعمارة من عمائري.
وعلى هذا تدخل مسألة السيارة، ومسألة المزرعة، فإذا كان يملك مزارع فحينئذٍ من حق الورثة صرفه عن مزارعه بشراء مزرعة؛ لأن الوصية تصح بذلك.
قالوا: لأنه لو أراد مزرعته لقال بمزرعة من مزارعي، وبسيارة من سياراتي، وبعمارة من عمائري، فلما قال: بسيارةٍ، أو أرضٍ، أو بكتابٍ، أو بمزرعةٍ، فحينئذٍ أقل ما يصدق عليه هذا الوصف يشترى ويعطاه.
اعتبار العرف في الوصية بالمجهول
هناك ثلاثة أنواع من الحقائق، يسميها العلماء: الحقائق:
النوع الأول: الحقيقة اللغوية.
النوع الثاني: الحقيقة العرفية.
النوع الثالث: الحقيقة الشرعية.
فالحقيقة اللغوية: هي التي تعارف عليها واصطلح عليها أهل اللغة، واللسان العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، على خلاف في مسألة الاحتجاج بصدر الإسلام في الشواهد والأشعار، وإن كان الصحيح أنه يُعتبر من الحقائق اللغوية ويُعمل بها.
وهذه الحقائق، والمسمّيات اللغوية، قد تكون في بعض الأحيان أعم من المسميات الشرعية، فمثلاً: الصلاة، فالصلاة في لسان العرب تشمل الدعاء، وتشمل الرحمة، وتشمل البركة، ثم جاءت الشريعة -وهذه هي حقيقة شرعية- وأطلقت الصلاة على عبادة مخصوصة، وإن كانت الشريعة تستعمل في بعض الأحيان الصلاة بالمعنى العام الذي هو الدعاء، كقول كعب بن عجرة رضي الله عنه: (كم أجعل لك من صلاتي؟) يعني: من دعائي.
وقد تأتي بمعنى الرحمة: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56]؛ لأن الصلاة من الله على نبيه عليه الصلاة والسلام رحمته له عليه الصلاة والسلام.
فالشاهد: أنه إذا استعملت الصلاة بمعنى الرحمة، أو البركة، أو الدعاء، فهذه حقيقة لغوية وإطلاق لغوي، وإذا استعملت الصلاة بمعنى العبادة المعروفة ذات الركوع والسجود، المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم بنية التقرب إلى الله عز وجل؛ فهذا لا إشكال أنه حقيقة شرعية.
ومثلاً: الوضوء، فالوضوء في لغة العرب: غسل الشيء، تقول: توضأت؛ إذا غسلت يديك، وإذا أردت الحقيقة الشرعية تقول: توضأ، وقصدك: غسل ومسح الأعضاء التي أُمر المسلم بغسلها ومسحها، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الجنب لما سُئل هل ينام وهو جنب؟ فقال لـعمر : (توضأ واغسل ذكرك ثم نم).
فهل نحمل قوله: (توضأ) على الحقيقة اللغوية ونقول: مراد النبي صلى الله عليه وسلم غسل مواضع الأذى وغسل الفرج؟ أم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء المعروف الخاص بالأعضاء؟ وهذا من تعارض الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية.
أيضاً: يتعارض العرف مع الحقيقة اللغوية كما تتعارض الشرعية، فمثلاً: لو أن شخصاً قال: والله لا آكل اللحم -والفقيه وطالب العلم لا بد أن يفهم هذه الحقائق ومدلولاتها، وما الذي يُقدَّم منها- فهل معنى ذلك: أننا نحرم عليه لحم الإبل والبقر والغنم والطيور والأسماك والصيد وكل ما يصدق عليه أنه لحم في لغة العرب؟ أم أننا نخصص التحريم، ونقول له: يحرم عليك اللحم التي تأكله في عرفك وبيئتك؟ لأنه لو قال: نحن في بيئتنا لا نأكل إلا لحم الدجاج، وإذا قصد الدجاج فحينئذٍ لا إشكال، لكن لو قال: والله لا آكل اللحم، فهل نصرفه إلى ما يتعارف عليه، أو نصرفه إلى الحقيقة اللغوية؟
هذه كلها مباحث ومسائل يبحثها العلماء رحمهم الله ويتعرضون لها؛ لأنها تتصل بأحكام شرعية مهمة.
وكذلك هنا الذي وصى، فإن قال: أوصيت بمزرعة لمحمد، وقد يكون ثرياً، وهناك مزارع بمليون، ومزارع بنصف مليون، ومزارع بمائة ألف، فهل نقول: العبرة به هو أم العبرة بعرفه وبيئته وما يصدق عليه أنه مزرعة؟ نقول: العبرة بالعرف والبيئة، فنشتري له أقل ما يصدق عليه أنه مزرعة.
وكذلك لو قال: أوصيت لمحمد بسيارة، وهذا الغني الثري لو أراد أن يشتري سيارة لنفسه لاشترى بمائتي ألف، فهل معنى ذلك: أن الورثة يُطالَبون بشراء سيارة ذات القيمة الغالية بناءً على الشخص الموصي؟ نقول: لا، وهذا الذي قصده المصنف في عرفه.
مسألة ثانية: لما قال بالعُرف، فالعبرة بعرف الموصِي، لأنك تجد السيارات في بعض الدول تُشترى -مثلاً- بخمسة آلاف ريال، وفي بعض الدول تشترى بعشرة آلاف، وفي دول أخرى بمائة ألف، وفي بعضها بأكثر، فنقول: العبرة بعرف الموصي، أي: بيئته التي هو فيها، ومدينته التي هو فيها، فأقل ما يصدق عليه أنه سيارة، فتشترى له، وتتم الوصية على هذا الوجه.
إذا أوصى بثلث ماله ثم طرأ مال جديد
يقول رحمه الله: (وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً) أي: طرأ المال بعد الوصية، وهذا هو المراد بالاستحداث، وصورة المسألة ومثالها: شخصٌ وصى بمليون، وهو يملك مليونين، فالمليون يعادل النصف، فاستحدَث مالاً، أي: طرأ مالٌ بعد الوصية، فأصبح يملك ستة ملايين، فأصبح المليون دون الثلث، فإذا حدث شيء بعد الوصية وعند الموت، كان الذي أوصى به دون الثلث، ونفذت الوصية ومضت، وفائدة هذه المسألة أيضاً في النسب والتقديرات، فإنه لم يوص بمبلغ معين -وفي الصورة الأولى أوصى بمبلغ معين- فاستحدث مالاً في الأنصبة، وهذا مراد المصنف، كأن يقول: أوصيت بثلث مالي، وهو يملك ستة ملايين، فمعناه: أنه سيكون للموصَى له مليونان، والمليونان تعادلان ثلث الستة ملايين، وبعدما انتهت الوصية ملك -مثلاً- ستة ملايين أخرى، فحينئذٍ تنتقل الوصية من المليونين إلى أربعة ملايين، فالنسب تدخل في المستحدثات، فكلما حدث من زيادة فإن النسبة تدخل عليه؛ لأنه قال: بثلث مالي.
والعبرة بماله عند وفاته، والعكس بالعكس، فلو حدث نقص فإنه حينئذٍ يؤثر، فلو قال مثلاً: أوصيت بثلث مالي، وكان يملك ستة ملايين، فقلنا: الأصل أن الموصى له يأخذ مليونين، ثم حدث انكسار وعجز، فأصبح يملك ثلاثة ملايين؛ فإنه يعطى مليوناً واحداً، فيحتمل الغرم والغنم.
مسألة دخول الدية في الإرث والوصية
الذي عليه العمل عند الأئمة والعلماء أن الدية موروثة وتدخل في الإرث، ولذلك قال الإمام أبو عبد الله إمام أهل السنة رحمه الله أحمد بن حنبل : (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في الإرث)، يعني: أنها تدخل في الميراث.
فالمرأة ترث من دية زوجها، ويرث الزوج من دية زوجته، فالدية تابعة للإرث، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة الإسلام.
وعلى هذا فقوله: (ولو دية) إشارة إلى خلافٍ، فبعض العلماء يقول: إن الدية لا يُدخل فيها الوصية، ولا ترفع نصيب الموصَى له؛ لأن الدية -مثلاً- لو كانت مائة ألف لرفعت نصيب الموصَى له.
فلو قال مثلاً: وصيت بثلث مالي، وعنده عشرون ألف ريال؛ فثلث المال سيكون دون السبعة آلاف بكسر؛ لكن لو أدخلنا الدية، والدية مائة ألف، فسيكون ثلث ماله أربعين ألفاً، فيأخذ أربعين ألفاً؛ لأنه يصبح الذي تركه الموصي مائة وعشرين ألفاً، مائة من الدية، والعشرين من أصل المال، فيصبح تاركاً لمائة وعشرين، فيأخذ ثلثها وهو أربعون ألفاً، وعلى كل حال: فإن الوصية تدخل وتحتسب من الدية، والدية تورث.
بطلان الوصية بتلف المعين الموصى بها
عند العلماء: المعين والموصوف في الذمة، وهذا من أروع ما تميزت به هذه الشريعة الإسلامية، التي جاءت بتشريعات وأحكام ومسائل وافية شاملة عامة كاملة، وهذا من أعجب ما يكون، أن الشريعة دخلت حتى في تفصيلات العقود، فتفرِّق بين التعيين والوصف في الذمة.
والعلماء يقسمون الأشياء في العقود إلى: معين، وموصوف في الذمة.
فأنت إذا بعت، أو أجّرت، أو وهبت، فإما أن يقع عقدك على معين، أو موصوف في الذمة، فالمعين كأن تقول له: بعني بهذه العشرة، فهذا معين، فلو تلفت العشرة فسد البيع، ولا يقام غيره إذا كان المبيع على معيّن يفوت بفواته، هذا إذا تم التعاقد على معين يفوت بفواته، وفي الإجارة على مركوب معين، فلو قال: استأجر امرأة لترضِع طفلاً معيناً، ثم أصيب هذا الطفل بمرض وتعذَّر إرضاعه؛ انفسخت الإجارة.
وكذلك لو استأجر داراً وقال: أؤجرك هذه العمارة، وهذه كلها معينات، وبناءً على ذلك: لو جئت تشتري كتاباً، وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة ريال، ثم دفعت العشرة الريال وخرجت من المكتبة فوجدت الكتاب قد طُمست منه صفحة أو صفحتان، فرجعت إليه، وقلت له: هذا الكتاب فيه صفحة مطموسة أو صفحتان، وهذا عيب يؤثر، فرُد لي العشرة، فقال: لن أرد العشرة ولكن سأعطيك بدلاً منه؛ فهنا ليس من حقه أن يعطيك بدلاً منه؛ لأن البيع وقع على معين يفوت بفواته، لكن لو قلت له: أعطني نسخة من بداية المجتهد، أو من زاد المستنقع، فقال لك: بعشرة ريال، فجاءك بنسخة ووجدت فيها عيباً، ولو كانت كلها مطموسة الصفحات، فقلت له: أعطني العشرة، فهنا لا تملك إلزامه؛ لأن البيع كان على موصوف في الذمة، ومن حقه أن يأتي ببديل عن الذي اشتريته.
إذاً: العقود إما أن تكون على شيء معين يفوت العقد بفواته، وإما أن تكون على موصوف في الذمة.
وهنا في الوصية يبحث العلماء في محل الوصية في المعين والموصوف، فحينما يقول: أوصيت بعمارة، وذكر أوصافها، فهذا وصف يصدق على كل عمارة تتحقق فيها هذه الأوصاف التي ذكرها الموصي، أما لو قال: وصيت بهذه السيارة، وهذه السيارة دون الثلث، ثم شاء الله عز وجل عندما توفي أن تلفت السيارة؛ فعند ذلك تبطل الوصية، وإن قال: وصيت بهذه الشاة، فلما توفي ماتت الشاة، فحينئذٍ تبطل الوصية؛ لأنه يستحيل تنفيذ الوصية؛ فحينئذٍ تبطل وتفوت بفواته، وهذا هو معنى قوله: (بمعيّن).
وهذه المسألة قد حُكي الإجماع عليها، وممن حكى الإجماع عليها الإمام ابن المنذر رحمه الله، ونَقَل هذا عن الإمام ابن قدامة رحمه الله، وغيرهم من الأئمة، حيث قال: أجمع كل من نحفظ عنه العلم -يعني: من الأئمة والعلماء رحمهم الله جميعاً برحمته الواسعة- أن الوصية بالمعيّن إذا تلف فاتت بفواته. أي: يُحكم ببطلانها.
قال رحمه الله: [وإن أتلف المال غيره فهو للموصَى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة].
يعني: إذا وصَّى بسيارة لمعيَّن صحّت الوصية، وإذا تلفت هذه السيارة فاتت الوصية بفواتها.
وفائدة هذه المسألة الأولى التي ذكرنا فيها الإجماع: أنه لو تلفت السيارة وقال الموصَى له: أريد بدلاً عنها؛ لأن الميت وصّى لي، وقد تلفت السيارة، فأعطوني بدلاً عنها؛ لم يكن من حقه ذلك؛ لأنه وصّى له بمعين فات بفواته.
والعكس: فلو وصَّى له بسيارة، وكانت السيارة دون الثلث أثناء الوصية، ثم لما توفي الموصي أو قبل وفاة الموصي، وهناك أموال غير السيارة، فشاء الله عز وجل أنه توفي عن مزرعة والسيارة، فالسيارة قيمتها تعادل الثلث من المال، فمثلاً: قيمة المزرعة مائة ألف، والسيارة قيمتها خمسون ألفاً، فالسيارة تعادل ثلث المال، فعند ذلك صحت الوصية ومضت؛ لكن أراد الله عز وجل أن احترقت المزرعة أو تلفت، فأصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال، أو تلفت بالكلية فلم تساو شيئاً، فأصبح حينئذٍ لا يوجد إلا السيارة، فحينئذٍ يكون له ثلثها، ولا يدخل عليه الضرر -من حيث الأصل-، لكن لا يؤثر فوات المال من غيره على الموصَى به، فلا يفوت الوصية كلها؛ لأن تلف غيرها ليس تلفاً لها بعينها، وحينئذٍ تبقى الوصية في المعين كما هي.
قال رحمه الله: [تصح بما يعجز عن تسلميه؛ كآبق وطير في الهواء، وبالمعدوم، كما يحمل حيوانه وشجرته أبداً أو مدة معينة، فإن لم يحصل منه شيءٌ بطلت الوصية].
قوله: (تصح بما يُعجز عن تسليمه)، الشيء المعجوز عن تسليمه يصح في بعض الأحيان أن تتعامل وتتعاقد به، كما في الوصية هنا، ولا يصح في بعض الأحيان التعامل به، فلو كان الشيء المعجوز عن تسليمه مُباعاً؛ لم يصح البيع.
والمقصود بالمعجوز عن تسليمه: عجز عن الشيء إذا لم يستطع، ومعنى ذلك: أنك تُوصِي بشيءٍ أنت عاجزٌ عن دفعه وإيصاله للمُوصَى له، ويعجز من يقوم مقامك من الورثة عن إيصاله إلى الموصَى له.
وقوله: (كآبق) أي: مثل العبد إذا أبق وشرد عن سيده، ولم يستطع معرفة مكانه، أو لم يستطع أخذه؛ فحينئذٍ يكون معجوزاً عن تسليمه، فصاحبه المالك له يعجز عن تسليمه، وإذا وصَّى بعبدٍ آبق، أو بعيرٍ شارد، وهم يمثلون بهذه الأمثلة لأنها كانت في زمانهم، كما إذا شرد البعير، أو شردت البقرة، أو شردت الشاة؛ فحينئذٍ يصعُب أن يحصل الإنسان عليه في الغالب، فإذا لم يستطع أن يجده فإنه لن يستطع تسليمه للغير، فهو معجوزٌ عن تسليمه.
فكل شيء فُقد ولم يستطع صاحبه أن يعرف مكانه، أو عرف مكانه ولكنه لا يستطيع أخذه، مثل: المغصوب ونحوه؛ فإنه معجوزٌ عن تسليمه، فهذا النوع من الأشياء لا يجوز أن تتعامل به في عقود المعاوضات.
فلا تُجيز لك الشريعة أن تبيع شيئاً معجوزاً عن تسليمه، ولكن تجيز لك أن تُوصِي به.. وما الفرق بين الأمرين؟
لأنه في البيع إذا اشترى منك إنسان شيئاً ضائعاً منك؛ كساعة مفقودة، أو بعير شارد، أو دابة فرت منك، أو طير طار منك، كان عندك ثم طار؛ فإنه في هذه الحالة تُغرِّر به؛ لأنه يُحتمل أن يأخذ ذلك الشيء ويحتمل ألا يأخذه، والغالب أنه لا يأخذه، فأصبحت آخذاً لمال أخيك بدون حق.
وهذه العلة أشارت إليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، ثم علل عليه الصلاة والسلام وقال كما تقدم معنا في البيع: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أي: أخبرني، لو بعت هذا الشيء المعجوز عن تسليمه ولم يستطع من اشتراه منك أن يصل إليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام (فبم تستحل مال أخيك؟) أي: بأي حق تأخذ الخمسمائة ريال التي دفعها لك أخوك المسلم لقاء ذلك البعير، فإذا أصبح غير مستطيع الوصول إلى البعير، كان أخذك لهذه الخمسمائة من أكل المال بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فبم تستحل مال أخيك؟).
وهذا يدل على أن الشريعة في المعاوضات تريد إيصال كل عِوض إلى صاحبه، وهذا هو ما قرره الأئمة رحمهم الله، ولـشيخ الإسلام رحمه الله في بيع المعدوم كلام نفيس في مجموع الفتاوى، بين أن العدل أَن يُعطى كل ذي حق حقه في المعاوضات.
فمن اشترى شيئاً لقاء شيء فإنه ينبغي أن يُمكّن من ذلك الشيء الذي اشتراه؛ فإذا لم يُمكَّن منه فقد ظُلِم؛ لأنه أعطى غيره ولم يأخذ منه، وهو إنما أعطى الغير ليأخذ؛ فالبائع أعطى السلعة من أجل أن يأخذ الثمن، والمشتري أعطى الثمن من أجل أن يأخذ السلعة؛ فإذا ظلم أحدهما الآخر فأخذ منه ولم يعط، فقد أكل ماله بالباطل، وهذا هو الذي جعل الأمر يختلف بين الوصية وبين البيع، وحينئذٍ في الوصية حينما يقول الشخص: أوصيت ببعيري الشارد لمحمد، فهذه الوصية ليس لها عوض يقابلها، أي: لم يدفع محمد مالاً إلى الميت الذي وصَّى، وإنما تفضل الميت وتبرع وأحسن وأفضل حينما قال: هذا البعير الشارد أَعطوه محمداً، فإن حصل محمد على البعير الشارد فقد تحقق المقصود والموصِي له أجره، وإن لم يحصل فلا ضرر عليه؛ لأنه لم يدفع شيئاً في مقابل هذا البعير.
ومن هنا صحت الوصية بالمجهول، وصحت بالمعدوم، وصحت بالمعجوز عن تسليمه؛ لأنه لا غرر في ذلك، فتصح الوصية بالبعير الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فلو أن سمكة كان يملكها ثم سقطت في الماء فوهبها، صحّت؛ لأن هذا كله لا غرر فيه على الموصَى له.
وقوله: (وطير في الهواء) الطير في الهواء -طبعاً- يصعب الوصول إليه، ولكن أياً ما كان فالوصية تخالف البيع؛ لأن الوصية لا عوض فيها، والبيع فيه عوض.