الحور بعد الكور


الحلقة مفرغة

حكم الربا كثيرة منها: المحافظة على مال المسلم، وتوجيهه للاستثمار المشروع الذي لا حيلة فيه ولا خداع، كما أن من الحكم تجنيب المسلم ما يؤدي إلى هلاكه، وفتح أبواب الخير والبر ليتزود المسلم لآخرته.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة القائمين على هذا المركز على حسن ظنهم ودعوتهم لأتشرف باللقاء بإخواني وأحبابي الشباب، وقد سرني كثيراً أن أرى مثل هذا العدد في مثل هذه المدينة يجتمع في مثل هذه المراكز الصيفية.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب القائمين عليها، وأن يجعل ذلك في موازين حسناتهم يوم يلقونه.

موضوع محاضرتنا -أيها الإخوة- هو: الحور بعد الكور.

ولعل الكثير يتساءل عن العنوان ومدلوله، وقد وقع اختياري على هذا العنوان؛ نظراً لأنه كان دعاءً يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال)، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه .

وفي رواية أخرى: (الحور بعد الكون).

إذاً: فالحور بعد الكور أمر كان يستعيذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ما معنى الحور بعد الكور؟

الحور: يقول صاحب لسان العرب: يقال: حار إلى الشيء وحار عنه، أي: رجع إليه ورجع عنه، فالحور إذاً هو الرجوع إلى الشيء أو الرجوع عن الشيء.

أما المقصود بهذا الدعاء في الحديث فيفسره الإمام الترمذي رحمه الله وهو أحد الذين خرجوا هذا الحديث: بأنه الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية.

وأستأذن الإخوة الأكارم الأساتذة والآباء أن أبسط قليلاً في الحديث؛ نظراً لأن الموضوع يعني بدرجة كبيرة الشباب حتى يكون الموضوع مدركاً للجميع، سواءً الإخوة الحاضرون معنا أو من كان يسمعه من خلال التسجيل.

أيها الشباب! ظاهرة ولا شك تدركونها جميعاً وتسركم، وهي ظاهرة الإقبال الطيب من الشباب على طريق الاستقامة وطريق الخير، فنرى الكثير من الشباب يتوافدون الآن -ولله الحمد- على المساجد، يتوافدون على مثل هذه المراكز، على مثل هذه اللقاءات، قد تغيرت الصورة، أولئك الشباب الذين كانوا في السابق يتزاحمون إلى ملاعب الكرة، أولئك الشباب الذين كان هم أحدهم شهوته ودنياه العاجلة، أصبح يحمل في طياته همة عالية، فلم تعد مشكلة هذا الشاب أنه لا يستيقظ لصلاة الفجر، إنما هو الآن يسعى ويسأل عن الوسائل التي تعينه على قيام الليل، ونراه يحرص ويجتهد على أن يكون له حظ من صيام النوافل.

هذا الشاب قد أصبحت همته عالية، أصبح يتطلع إلى أن يخدم أمته، أصبح يتطلع إلى أن يفتح له باب الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولعلنا قد رأينا النماذج الكثيرة من هؤلاء، ورأينا النماذج من إخواننا وأحبابنا الذين قضوا نحبهم في أرض الجهاد هناك، هذه الظاهرة ولله الحمد ظاهرة طيبة وتبشر بالخير.

ولكنا نرى أيضاً في أثناء هذه الظاهرة، أن هناك عدداً يحور ويتنكب الطريق بعد أن هداه الله سبحانه وتعالى، فهذا الأمر يتطلب منا وقفة لدراسة مثل هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها حتى نقي أنفسنا أولاً، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للهداية أسباباً، وجعل للضلالة أسباباً.

فالله سبحانه وتعالى يقول مثلاً: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] ، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الجهاد في سبيل الله من الأمور التي تجلب الهداية للعبد، وأن الإنسان إذا جاهد في الله سبحانه وتعالى استحق أن يكافئه الله بالهداية إلى طريقه؛ هذا المجاهد يستحق أن يهديه الله لأنه يريق دمه في سبيل الله حتى ينقذ الناس من الضلال، فيجزيه الله سبحانه وتعالى من جنس عمله.

ويقول الله عز وجل أيضاً في آية أخرى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].

وفي الجانب الآخر أيضاً -جانب الضلال- يقول الله سبحانه وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف:146]، ويقول في آية أخرى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].

إذاً: -معشر الشباب- الضلالة والهداية بيد الله سبحانه وتعالى ولا شك، ولكن هناك أسباب من سلكها سهّل الله له طريق الهداية، ومن سلك أسباب الضلالة قاده ذلك -عافانا الله وإياكم- إلى الضلالة وإلى خاتمة السوء.

أنتم تعلمون جميعاً وتدركون أن الله سبحانه وتعالى من صفاته العدل، فلا يمكن أن يظلم أحداً سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يظلم الله عز وجل عبداً مثقال ذرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فهل تتصورون معي أن شاباً يقبل على الله سبحانه وتعالى ويتوجه إلى الله عز وجل بقلبه وقالبه، ثم بعد ذلك يضله الله ويصرفه الله دون سبب أو تقصير منه؟

لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يظلم مثقال ذرة، وعندما يسلك العبد طريق الضلالة، لا شك أن إرادة الله فوق كل شيء، لكن الله عز وجل قد جعل للهداية أسباباً وجعل للضلالة أسباباً.

معشر الشباب! النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، إذاً: فهي قضية جدير بنا أن نحرص على معرفتها أشد الحرص، وما حالنا وحال الصالحين فضلاً عن حال أنبياء الله فضلاً عن حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

معشر الشباب: الفتن والصوارف عن طريق الخير في هذا العصر أكثر، فأنت هنا تسمع الكلمة الناصحة، تسمع ما يرقق قلبك، أو تسمع ذلك في خطبة الجمعة، أو في اللقاءات الطيبة مع إخوانك الأخيار، ولكنك عندما تذهب إلى المنزل سترى في أجهزة اللهو ما يهدم كل ما بنيته، عندما تذهب إلى محل تجاري تقابلك المجلات التي تحمل تلك الصور الفاتنة، عندما تجلس مع فلان وفلان من زملائك في الدراسة أو الفصل أو الحي ماذا يتحدث هؤلاء؟ وعم يتحدثون؟

الكثير من الشباب حديثهم وهمهم هو الشهوات المحرمة وتحصيلها، ففي خضم هذا الواقع الذي هو مليء بما يفتن الشاب ويصده عن دينه، يكون جديراً بالشاب وواجباً عليه أن يحرص على أن يتعرف على أسباب الهداية، وأن يتعرف أيضاً على أسباب الحور، عله أن يجتنبها حتى يوفقه الله سبحانه وتعالى إلى سلوك الطريق المستقيم، وقبل ذلك كله وبعده هو توفيق الله سبحانه وتعالى وهدايته.

وهنا سؤال مهم: عندما نتحدث مثلاً عن هذه المشكلة فهل يعني أنها أصبحت مشكلة سائدة؟ أصبحت مشكلة عامة؟ ما مدى حجم هذه المشكلة وانتشارها؟ فلابد أن نضع الأمور في نصابها، ولابد أن نتعرف على حجم هذه المشكلة ولا نعطيها أكثر من حجمها، بحيث يتخيل كل من يسمعنا أن الفئة الكثيرة من الشباب الذين سلكوا طريق الاستقامة ينحرف عن الطريق المستقيم، وأيضاً لا نبالغ في الطرف الآخر وندس رءوسنا في التراب، ونقول: إن هذه حالات أصلاً غير موجودة أو حالات نادرة جداً، نحن يبدو لنا بادئ ذي بدء أن المشكلة كبيرة.

نعم يا إخوة! المشكلة ضخمة عندما نخسر واحداً، لا شك أن ذاك الشاب الذي رأيناه قد سلك طريق الاستقامة نتمنى أن نبذل كل ما نملك ويستمر على هذا الطريق، ولا شك والله إنه ليسوؤنا أن يتنكب واحد من هؤلاء الشباب الطريق، والأمة أحوج ما تكون إلى مثل هذه الطاقات، ومن هنا تبدو ضخامة المشكلة، لكن السؤال: ما نسبة هذه المشكلة؟ ما حجم هؤلاء الذين ينحرفون بالنسبة إلى أولئك الذين يستمرون على طريق الاستقامة؟ نحن يخيل لنا في البداية -كما قلت- أنها مشكلة منتشرة، ومشكلة عامة وقضية خطيرة كما يثير الكثير من الشباب.

فأولاً: سأضرب لكم مثالاً: أنت الآن -مثلاً- عندما تذهب من هنا إلى مدينة عنيزة وترى ثلاثة حوادث في الطريق، تتخيل أن الحوادث كثيرة جداً، تتخيل أنه ليس هناك من أحد يسير من هذا الطريق إلا وهو معرض لأن يقع عليه الحادث، تتجاوز -مثلاً- مدينة عنيزة إلى مدينة بريدة وترى أيضاً أربعة حوادث، فتشعر بأن هذه المشكلة مشكلة عامة، تشعر بأن كل من سار في هذا الطريق معرض للحادث، لأن السيارات التي تسير في الطريق السليم ولا تتعرض للحادث لا تلفت انتباهك، لا يلفت انتباهك إلا الحالة الشاذة، حتى تصل إلى النسبة الحقيقية لحجم هذه الحوادث، خذ عدد السيارات التي أصابها حوادث وانسبها إلى عدد السيارات التي سارت ولم يصبها الحادث.

فكذلك نأتي إلى هذه الظاهرة، أنت مثلاً عندما تعرف أحد الشباب كان مستقيماً ثم قابلته بعد فترة ورأيته قد انحرف، ثم يمر عليك نموذج آخر، وثالث ورابع وخامس، تتخيل أن المشكلة عامة، لكن الآخر الذي كنت تعرفه مستقيماً، ثم قابلته بعد سنوات وهو لا زال على طريق الاستقامة لا يلفت انتباهك؛ لأن هذا سائر على الأصل.

على كل حال أنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة، لكن أقول: إنه مع عنايتنا بهذا الأمر يجب ألا نضخمه، وأن نخيل للناس ونتخيل أن أكثر وعامة من يسلك هذا الطريق يتنكب الطريق، ولكن المشكلة تبقى مشكلة خطيرة، لأن القضية ليست مجرد خسارة مادية بل كون الإنسان يتنكب هذا الطريق معناه أن يخسر دنياه وآخرته، فهي قضية لا تقبل التنازل، هذا أمر.

الأمر الثاني: أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى هذه الطاقات، فلا شك أن سقوط واحد يعني أننا تأخرنا قليلاً، ونحن نحتاج إلى أن نبحث عما يدفعنا إلى الأمام.

ضعف الإيمان

الأسباب لهذه الظاهرة أسباب كثيرة ومتنوعة، وقد يكون بعضها داخلاً في بعض، فأول سبب وأهم هذه الأسباب هو ضعف الإيمان.

قد يكون الشاب مستقيماً يسلك طريق الاستقامة ويجالس الأخيار، لكن إيمانه ضعيف، لذلك مثل هذا الإنسان الذي لا يملك قدراً من الإيمان يعينه على الثبات على هذا الطريق عندما تعرض له شهوة أو شبهة أو له فتنة يمكن أن ينصرف عن الطريق.

عندما نأتي بعود مثلاً ونحفر له في الأرض بحيث تكون قاعدته غير صلبة قد يثبت، لكن عندما يأتي أدنى هواء يسقطه، السبب ليس في مجيء الهواء والرياح، إنما السبب أن القاعدة غير ثابتة، لكن عندما أحفر له في الأرض وأثبته بقوة لا يمكن أن يسقط اللهم إلا إذا أتت العواصف التي تهوي بكل شيء، فهذا أمر آخر، فالسبب هنا والعامل الرئيسي والأساس هو الإيمان.

ولذلك لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وسأله، قال: هل يرتد أحد من أصحابه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً.

وانظروا في أحداث الردة، لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت فئام من العرب وقبائل بأكملها، بل لم يبق على الإسلام إلا عدد محدود بالنسبة إلى المناطق التي دخلها الإسلام في ذاك الوقت، لكن من الذي ثبت على الإسلام، هل ارتد أحد من أهل بدر، هل ارتد أحد من الذين بايعوا تحت الشجرة، هل ارتد أحد من المهاجرين والأنصار، من الذين عاشوا الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟

عامة الذين ارتدوا هم من الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، فعامة الذين ارتدوا هم من حديثي عهد بالإسلام، لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، لم يعمر الإيمان قلوبهم، أما أهل مكة والمدينة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120]، أولئك ثبتوا وصمدوا، بل حتى ترى هذا النموذج في أحدهم لما كان في غزوة أحد لما قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم قتل في المعركة قال: وماذا تصنعون بالحياة بعده؟ اذهبوا فموتوا على ما مات عليه.

إذاً: هذا يعطينا درساً أنه كلما كان المرء أقوى إيماناً وأقوى صلة بالله سبحانه وتعالى كان أكثر ثباتاً، فقد دخلت جزيرة العرب في الإسلام، لكن حصلت الهزة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن موته أمر ليس يسيراً على المسلمين، فأهل المدينة أصابتهم هزة، وبعضهم لم يصدق الخبر، لكن قرأ عليهم أبو بكر الآية، وانتهت الصدمة فاطمئنوا ووثقوا، وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ودفنوه، لكن قبائل أخرى ارتدوا من أول صدمة وأول فتنة واجهتهم وخرجوا عن دين الإسلام.

إذاً: يا شباب! الإيمان هو الأساس، ولذا يجب أن نعنى بإيماننا وأنتم تدرسون في العقيدة أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فعليك أن تحرص على أن تسلك أسباب زيادة الإيمان، وتنمي هذا الإيمان في قلبك، وأن تتجنب وتحذر كل الحذر من الأمور التي تنقص من إيمانك، فإنك قد لا تواجه بعد ذلك أي فتنة وأي شهوة تواجهك، أو أي شبهة تصدك عن دين الله سبحانه وتعالى.

السير وراء الشهوات

السبب الثاني: وهو أيضاً لا يقل خطورة عن هذا السبب وخاصة في مرحلة الشباب فإنه يعتبر عاملاً أساسياً، بل الكثير من الحالات التي مرت علي، ومنذ فترة وأنا أنزعج وأظن كل واحد منكم ينزعج حين يرى مثل هذه الظاهرة، وعندما أكتشف مثل هذه المشكلة أحاول أن أعرف السبب؛ لأنها قضية تعنينا جميعاً، أولاً حتى نتجنبها وحتى نتناصح فيما بيننا وننصح إخواننا.

فالسبب الثاني هو: السير وراء الشهوة.

وخاصة في مرحلة الشباب، وخاصة في هذا العصر، حيث تفتحت الأبواب أمام الشباب بالشهوات، وتفنن الأعداء في صد الشباب عن دينهم وفي إثارة الغرائز، واستعملوا كل ما تفتقت عنه المدنية الحديثة وكل ما تفتق عنه العلم الحديث لإثارة هذه الغرائز.

الآن يا شباب هؤلاء الذين يصنعون الأفلام، والذين يجلبون لكم هذه الأفلام الساقطة التي يراها الكثير من الشباب، هل تتخيلون أنهم أناس يريدون المادة فقط، أم أن هناك أيادي ًتريد أن تفتك بهؤلاء الشباب؟

المجلات التي ترونها وللأسف حتى في محلات التموينات، هذه المجلة التي تراها مزينة بصورة المرأة الفاتنة؛ أتدري لم يصنع هؤلاء ذلك؟

الإعلانات التي تشاهد أحياناً في المجلات وفي التلفاز، عندما يراد الإعلان يؤتى بامرأة جميلة فاتنة لتقوم بالإعلان عن هذه السلعة.

فمن وراء ذلك؟ قد يكون فئة من المغفلين النفعيين الماديين الذين يريدون المال على حساب الأخلاق والقيم، ولكن أجزم أن هناك فئة كبيرة جداً يهمها دمار الشباب، يهمها إثارة الفتن وإثارة الغرائز.

فأقول: الشاب حين يكون حديث عهد بهذه المرحلة، والشهوة تتوقد لديه، ولم يتيسر أمامه الطريق الشرعي لصرف الشهوة فيما أحل الله عز وجل من الزواج، فالذي يحصل أن الشاب يقتنع بطريق الاستقامة ويسلك طريق الاستقامة ويذهب مع الناس الأخيار ويأتي معهم، ولكنه قد يأتي إلى البيت في يوم من الأيام فيجلس أمام التلفاز فيرى تلك الصورة الفاتنة، تلك المرأة فتفتنه تلك الصورة ويتعلق بها، ثم يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم، وحتى يوقعه الشيطان في معصية وكبيرة من الكبائر، حينئذٍ يقول له الشيطان: لا أمل لك بعد ذلك في التوبة والرجوع أبداً، ويقوده بمجرد نظرة واحدة، أو بمجرد تعلق بشهوة محرمة واحدة، يقوده بعد ذلك إلى طريق الانحراف وطريق الضلال، وهي قضية خطيرة عندما يسترسل فيها أحد.

أي معصية قد يفعلها الإنسان وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام لا ينتهي أثرها، ليست القضية أنك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو إلى ذاك الغلام تكتب عليك سيئة وتنتهي، نعم هي سيئة تكتب عليك وستحاسب عليها، فإن شاء الله عفا عنك أو عاقبك، لكن لا تقف القضية عند هذا الحد، فإن هذه النظرة يعقبها ما بعدها، أنت تنظر النظرة ويزول أمامك هذا الذي نظرت إليه، ثم بعد فترة عندما تذهب للمنزل يبدأ الشيطان يحرك هذه الصورة في ذهنك، وتبدأ تتدرج القضية إلى تفكير، ثم يطول التفكير حتى يستولي على الشاب حتى يفكر في هذه الشهوة في صلاته وهو بين يدي الله عز وجل! ماذا بقي لله سبحانه وتعالى؟

تستولي عليه هذه الشهوة حتى يبدأ يفكر في تفريغ هذه الشهوة فيما حرم الله، فقد يقع أحياناً في العادة السرية، ثم وقوعه في هذه المعصية يسهل له ما بعدها، حتى تقوده إلى التهاون بالنظرة الأخرى، ثم بعد ذلك يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من النظر، ويوصي صاحبه وصهره علياً رضي الله عنه يقول: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانيةقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:30-31].

وإذا تبدت أمامك تلك الصورة التي قد تنال من قلبك شيئاً، فتذكر تلك الصورة التي لا يمكن أن تقارن أبداً بهذه الصورة، تذكر تلك التي لو اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لملأت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).

وفي الحديث الآخر أيضاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة يدخلون الجنة على هيئة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم.. إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم زوجان من الحور العين يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)، اختر أحد البديلين، واعلم أنك عندما تفتح أمامك أبواب الشهوات وأبواب النظرة الحرام، وتصرف نظرك لله سبحانه وتعالى، أن ذلك مهر تقدمه بعد ذلك للحور العين، ذاك النعيم الذي لا يمكن أن يزول ولا يمكن أن يحول أبداً.

التهاون بالمعاصي

السبب الثالث: التهاون بالمعاصي.

الله سبحانه وتعالى حكى عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، هؤلاء فروا من الزحف، والفرار من الزحف ليس من الكبائر فحسب بل هو من السبع الموبقات، هؤلاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين فروا من الزحف في غزوة أحد، فما السبب؟ قال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، فبسبب بعض ذنوبهم وبعض سيئاتهم استزلهم الشيطان حتى أوقعهم في تلك الكبيرة، وماذا عسى أن تكون سيئات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ في غزوة أحد قبل أن يعز الإسلام ما كان يدخل في الإسلام إلا الصادقون، ولا شك أن السابقين في الدخول للإسلام ليسوا مثل غيرهم، ومع ذلك لما فعلوا بعض السيئات تسلط عليهم الشيطان وأوقعهم في الفرار من الزحف، ولكن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم كما في آخر الآية، فأنت عندما تتهاون بالمعصية الصغيرة تفعلها مرة أخرى، فيزول استقباح المعصية من نفسك، فتصبح تتجرأ على المعصية التي هي أكبر منها حتى تتجرأ على الكبائر، وتتجرأ على الفواحش، ثم تعرض بعد ذلك وتسير في طريق الغافلين.

ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ما تحقرون من أعمالكم كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وذا بعود حتى أشعلوا نارهم وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه)، يضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بليغاً، مثل قوم جاءوا في واد وأرادوا أن ينضجوا عشاءهم، فما وجدوا حطباً، فجاء كل واحد بعود، ووضعوا هذه الأعواد فأشعلوا تلك النار، فتخيل تلك النار التي ستنتج نتيجة هذه الأعواد، ومن هذا المعنى يعظك أحد السلف قائلاً:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

فالجبل عبارة عن حصيات صغيرة، لو جئنا الآن إلى جبل عظيم وفجرناه لتفتت إلى حجارة صغيرة جداً، فإذا جمعت هذه الحجارة فستكون كوماً هائلاً لا يمكن أن تتصوره.

ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة فيقول: (يا عائشة ! إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً)، فالحذر الحذر معشر الشباب من المعاصي!

وقلنا لكم في السبب الأول: إن من أهم الأسباب ضعف الإيمان، وقلنا لكم: إن هناك أموراً يزيد بها الإيمان وأموراً ينقص بها الإيمان، ومما ينقص الإيمان المعصية، وعندما يفعل الإنسان معصية يتجرأ على التي تليها، ثم يتجرأ على التي تليها حتى يتجرأ بعد ذلك على الكبائر والفواحش كما أسلفنا، ثم بعد ذلك يقول: إنني لا أستحق أصلاً أن أسير في طريق الصالحين، وأنا إنسان ملوث سيئ، وأنا إنسان منافق أظهر ما لا أبطن، ثم بعد ذلك ينحرف ويسير في طريق الضلال، عافانا الله وإياكم.

عدم العناية بتربية النفس والصلة بالله

السبب الرابع: عدم عناية الشاب بتربية نفسه وصلته بالله سبحانه وتعالى.

يكون الشاب مثلاً قد وفقه الله لصحبة صالحة يذهب هو وإياهم ويأتي هو وإياهم، يذهبون مثلاً إلى مثل هذه المراكز الصيفية، أو إلى حلقة من حلق القرآن، أو إلى أي مكان يجتمع فيه الشباب الأخيار، قد يسافرون، يقرءون القرآن، يصلون، يسمع المواعظ معهم، وهو يذهب بدافع من نفسه، ويشعر فعلاً بالارتياح، لكنه عندما يرجع إلى المنزل لا يهتم بنفسه، ولا يعتني بنفسه، ويعتبر أن القضية تنتهي عندما يسير مع الأخيار.

ولا شك يا إخوة أن مجرد مسايرة الأخيار لا تكفي، لكن يجب أن ننتقل إلى الخطوة الثانية، فكل إنسان سيقدم إلى الله وحده: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95]. (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان).

الذي يحصل أن الشاب يذهب مع الأخيار ويأتي، وهو صاحب نية صادقة، ويشارك معهم في أعمال الخير والطاعة، لكنه لا يعتني بنفسه عندما يكون في المنزل، فلا يحرص على العبادة، وليس له نصيب من قراءة القرآن، ولا من قيام الليل ولا من غيرها من العبادات التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة أعمال السر، لابد أن يكون لنا منها نصيب؛ لأن لها أثراً في إصلاح النفس، وأثراً في صلة النفس بالله سبحانه وتعالى، فليس بالضرورة أن تقوم ثلث الليل كله، ولكن ربع ساعة أو نصف ساعة، بل لو لم تستطع أن تقوم الليل فصل قبل أن تنام ركعتين واطمئن فيهما، أمسك المصحف واقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى بتدبر وتمعن، قف مع نفسك وتفكر في الدار الآخرة، تفكر في حياة البرزخ، ليكن لنفسك حظ من العبادة، اعتن بنفسك، لا يمكن ولا يليق أبداً أن يعطي أحد الآخرين وكالة عن نفسه، فهذه أمور أنت فيها مسئول عن نفسك: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ولن ينفعك مجرد كونك تسير مع فلان أو فلان أو فلان من الناس.

لا شك أن هذه الخطوة مطلوبة وندعو كل شاب أن يحرص عليها، وهي خطوة مجالسة الأخيار، لكن يجب أن ننتقل إلى الخطوة الثانية وهي أن نعتني بأنفسنا بعد ذلك، وأن نحرص على أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، ونصيب من الصلاة، ونصيب من الصيام، ومن أعمال السر بيننا وبين الله عز وجل، فإن لذلك أثراً عظيماً في إصلاح النفس.

الغثائية وعدم القناعة

السبب الخامس: الغثائية وعدم القناعة.

الأمة الإسلامية تشكو من الغثائية، كم من الناس من يشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غثاء كغثاء السيل)، بعد انتشار الصحوة أصبح يوجد نوع من الغثائية، يكون الشاب مثلاً له أخ مستقيم أو ابن عم أو قريب، أو نشأ في بيت محافظ، ويؤتى به إلى مثل هذا المركز ويرى العدد الكبير من الشباب الطيبين، وعندما يذهب ليصلي في الجامع يرى ذلك، وعندما يذهب إلى الحرم المكي أو إلى المحاضرات يرى عدداً كبيراً من الشباب الطيبين، فأصبح جواً عاماً، وسار مع الناس وليس عنده قناعة تامة، يعني ليس عنده تلك الرغبة القوية بحيث يشعر أن هذا الطريق لابد أن يسلكه، يشعر أن هذا هو ما أمره الله سبحانه وتعالى، ويشعر أن الطريق الآخر طريق ضلال وانحراف، وأن هذا لا خيار له فيه أصلاً، وهو لا يسلك هذا الطريق لأنه جالس مع فلان وفلان من الناس.

فعندما يكون مستوى القناعة عنده ضعيفاً وإنما يأتي عن عاطفة واستجابة لدعوة فلان أن يكون مع الأخيار، يكون عنده استعداد لأن يتخلى عن الطريق لأي مشكلة تعرض له.

وهنا لابد أن يكون عندنا قناعة، وأن نعرف أن القضية مستقبل، أنتم الآن اعتدتم أن تسمعوا من آبائكم ومن أساتذتكم وممن حولكم: يا بني أنت لابد أن تعتني بمستقبلك، فهو يدرس ويجتهد في الدراسة حتى يعتني بمستقبله، يريد أن يحصل على تقدير عال حتى يؤمن مستقبله، وهكذا يصبح هذا المستقبل هاجساً، بل يصبح أحياناً وللأسف وثناً، فهو يسترخص كل شيء لأجل هذا المستقبل، وما هو المستقبل الذي يتجه إليه الجميع؟ فعندما يقال: أمِّن مستقبلك ماذا تفهم من هذه الكلمة؟ تفهم من هذه الكلمة أنه يلزمك أن تحصل على مركز وظيفي أو مركز اجتماعي مرموق، وفي النهاية ستموت وترحل، الرجل الذي حصل على مركز اجتماعي عال مثل الرجل الفقير الصعلوك الذي لا مال له، سيرحلون جميعاً ولا فرق، فما هو المستقبل الحقيقي إذاً؟

المستقبل الحقيقي: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، هذا هو المستقبل الذي يجب أن نتطلع إليه، والذي يجب أن نرتب أمورنا وحياتنا على أساسه، يؤتى بالموت على هيئة كبش، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت. ويقال: يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.

نعم لا شك أن الشاب سيحرص على أن يؤمن له وظيفة، وأن يكون له مركز اجتماعي مناسب، ولكن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن نسعى إليه، ونربط أمورنا كلها به هو هذا المستقبل.

إذاً: فأنت يجب أن تعرف أن طريق الاستقامة وطريق الالتزام ومعاشرة الأخيار ليست مجرد عواطف، ولكن القضية مستقبل، فتسلك هذا الطريق وأنت تعرف نهايته، وتسلك الطريق الآخر وتعرف نهايته.

عدم الجدية

السبب السادس: عدم الجدية:

بعض الناس عنده استعداد أن يخرج مع الأخيار في رحلة قد يكون فيها فوائد طيبة، وفيها مجال للانبساط وحظ النفس، ممكن أن يأتي ويشارك في المركز الصيفي وما فيه من البرامج الجادة، لكنه سيجد فيه برامج رياضية، وسيجد فيه ما يزيل السأم عن النفس، ولا شك أن النفس تميل إلى مثل هذا الأمر، لكن عندما تأتينا أشياء جادة، كأن يقال: هناك درس علمي فمن يريد أن يبقى فليبق، والذي يريد أن ينصرف فلينصرف، ستجد أن هذا الدرس لا يقبل عليه إلا عدد أقل، عندما يكون هناك برامج جادة كأن يقال للشاب: نريدك أن تقرأ هذا الكتاب، وحجمه 300 صفحة أو 400 صفحة، أو عندما يقال له في أمر من باب الجهاد في سبيل الله عز وجل.

نحن نمني أنفسنا بالجهاد، ويحدث الواحد نفسه فيقول: الآن أتمنى إن شاء الله أن يتاح لي المجال للجهاد والشهادة، لكن هذه أماني، وعندما تأتي الحقيقة تتغير الصورة، وأظن أنه قد مرت بكم تجربة وكانت الأحداث بعيدة عنكم، ومع ذلك أصبحت القلوب ترجف، وأصبح الإنسان يريد أن يبذل كل شيء ليسلم فقط من هذا الخطر الداهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77].

نحن لا نريد مظهراً خارجياً في شاب يلتزم بالأمور المظهرية فيقصر ثيابه ويعفي لحيته ويحافظ على السنن الرواتب وغيرها من الأمور، وهذه أمور مطلوبة، لكن أقول: العبرة بالصبر على التكاليف الجادة مثل أن يصبر الإنسان على الفتن، أن يصبر على المصائب، أن يعد نفسه للجهاد في سبيل الله.

هل تتخيلون أن يزيد عدد الشباب الأخيار ثم يصبحوا آباء ومسئولين، وبعد فترة تقوم عندنا دولة إسلامية وخلافة إسلامية؟ لا، فلابد أن تحصل فتن ولابد أن تراق دماء: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فأقول: الطريق الذي تسلكونه طريق سجن، طريق مصائب، طريق يحتاج إلى أن يضحي الإنسان بماله وبراحته، بل أحياناً يضحي بنفسه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

إذاً: نعود إلى ما أشرنا إليه، فنقول: إن بعض الشباب قد يكون شخصية غير جادة، يسلك طريق الاستقامة وقت الراحة، لكن عندما تأتي قضايا جادة تتطلب الصبر والتضحية يحس أنه مهدد أن يصيبه ما يصيبه، وسرعان ما يهلك، ولذلك تصبح الفتن هي المحك؛ لأن أكثر ما يكون التساقط عند الفتن، وسميت فتناً لأنها تصفي الناس وتميز سالصادقين: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].

فأقول: يجب أن نربي أنفسنا على الجدية، ولا حرج أن يكون لنا حظ من اللهو المباح في لقاءاتنا مع زملائنا وإخواننا، يكون لنا حظ مثلاً من الرياضة المباحة، لكن بشرط أن نتطلع إلى أمور أعلى، ونكون جادين، ولا نكون شخصيات هازلة.

ضعف الشخصية

ننتقل بعد ذلك إلى السبب السابع: ضعف الشخصية:

بعض الناس عندما يكون مع الأخيار سرعان ما يتحول زاهداً ورعاً تقياً صالحاً، لكنه ليس عنده ثبات، فبعد يوم أو يومين يعاشر فلاناً من الناس فسرعان ما ينصرف وينحرف.

وهناك قضية تحصل كثيراً وهي أن الشاب يكون له زملاء أخيار يذهب معهم ويأتي معهم، فيسافر مثلاً إلى بلدة أخرى أو هم يسافرون مثلاً ولا يذهب معهم، فينقطع عنهم مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، فأحياناً تجده قد رجع بغير الوجه الذي ذهب به كما يقال، تغير وجهه جملة وتفصيلاً، لماذا؟

لأن الرجل -كما قلنا سابقاً- ما كان يعتني بنفسه، فلم لكن له حظ من عبادة الله وطاعة الله عز وجل، وأيضاً هو رجل ضعيف الشخصية سرعان ما يتأثر، وأي إنسان يستطيع أن يقوده، وأن يؤثر عليه.

الإعجاب بالنفس والغرور

السبب الثامن: الإعجاب بالنفس والغرور:

والذي أوقع الشيطان فيما أوقعه فيه هو إعجابه بنفسه وغروره، ومهما كان عليه الإنسان من الإيمان والتقوى والصلاح فبدون تثبيت الله وتوفيق الله عز وجل لن يستطيع الثبات أبداً.

الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان يقول في قيام الليل: (اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو بهذا الدعاء عبثاً، بل إن الله يقول له: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تثبيت الله، فغيره من باب أولى.

المشكلة أن بعض الشباب يحس بأنه قد وصل إلى مرحلة استقرار، وأصبح عارفاً لكل شيء، وأنه إنسان ليس عنده أي قصور، وقد أصبح الآن بحاجة إلى أن يعطي، وليس بحاجة إلى ما يزيد إيمانه وطاعته، وعندما يشعر الإنسان بأنه اكتمل فقد بدأ النقص، وهذا ما يريده الشيطان.

فالحذر الحذر -يا شباب- من الإعجاب بالنفس، وعندما تتخيل أنك صاحب عبادة، فتذكر سيرة العباد واقرأ سير العباد لترى المسافة الشاسعة بينك وبينهم.

وعندما ترى نفسك وصلت منزلة من الورع والزهد فاقرأ سير الزهاد وأهل الورع.

وعندما تتخيل أنك بذلت جهداً في الدعوة فاقرأ سير الأنبياء، واقرأ سير السابقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم لترى المسافة الشاسعة بينك وبين أولئك، ومع ذلك كان أولئك يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل أن يثبتهم على هذا الطريق وأن يهديهم إلى الطريق المستقيم؛ فهل أنت خير منهم؟!

الغلو

السبب التاسع: الغلو.

وهذا أحياناً ما يسلكه الشيطان، فعندما يجد الإنسان عنده حماس أكثر يصعب أن يأتيه من طريق التقصير؛ فيأتيه من طريق الغلو، كيف يكون، والسؤال: كيف يكون الغلو سبباً للانحراف؟

يكون سبباً للانحراف إما أن يبتدع أصلاً، ويصبح مثل المبتدعة الخوارج وغيرهم، فيبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، أو العكس الذي يحصل كثيراً مثلاً عندما يأتي الشاب وقد يكون صاحب معاص وتقصير على نفسه فيتوب ويلتزم، فيقول: أنا الآن صاحب تقصير وإهمال، ولا يغسل عني هذه الذنوب إلا أن أقبل إقبالاً صادقاً على الله عز وجل، فيكلف نفسه من الأعمال ما لا يطيق ويتعب نفسه ويرهقها، ثم النتيجة أنه يتحمل شهراً، أو شهرين، لكن بعد ذلك لا يستطيع أن يتحمل، فإذا لم يتحمل لا يعود إلى الاعتدال، ولو كان سيعود إلى الاعتدال فلا إشكال، لكن يعود إلى الطريق السابق، وإلى الاتجاه الآخر.

فحذار حذار من الغلو، وعندما نحذر من الغلو، لا يعني ذلك أنا ندعو إلى التساهل، فمعنى الغلو إنما نفهمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ألا تكلف نفسك من الأعمال ما لا تطيق، ولكن أيضاً لا تستلم للكسل حذراً من أن تقع في الغلو، فالاعتدال والتوسط هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيقول: (إياكم والغلو في الدين).

عدم القدرة على استغلال الوقت

السبب العاشر: عدم قدرة الشاب على استغلال وقته:

كيف يكون هذا السبب؟ نعم سبق أن أشرت إليه، مثلاً عندما يكون الشاب له زملاء أخيار يجلس معهم، ويحفظون عليه وقته، لكن انقطع عنهم لسبب أو لآخر، يبقى في المنزل يوم يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام وما اعتاد أن يستغل وقته استغلالاً جيداً، فينصرف إلى اللهو والشهوات، ويكون معرضاً لأن يذهب مع فلان أو فلان من الناس، والشيطان يتمنى هذه اللحظة، ولو كان قد تعود على أن يستغل وقته لكان سيستغل جزءاً من وقته في حفظ القرآن، وجزءاً منه في القراءة، وجزءاً في سماع أشرطة إسلامية، وجزءاً في صلة رحمه، المهم أنه سيستغل وقته فيما ينفعه، وجزءاً يصرفه في اللهو المباح الذي لا يأخذ عليه عامة وقته، ومهما كان عليه الإنسان من العبادة والطاعة إذا لم يتعود على أن يستغل وقته فإنه إذا بقي لوحده فارغاً في البيت فلن يستطيع وسيفشل ويتعب، ولذا يجب أن نعود أنفسنا على استغلال أوقاتنا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك مؤدياً إلى الانحراف عافانا الله وإياكم.

الفتن والمحن

السبب الحادي عشر: الفتن والمحن:

ولذلك بعدما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتد ناس، كما روى ذلك الحاكم والبيهقي ؛ لأنها قضية مفاجأة لا يتحملها كل إنسان، النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة يسرى به من مكة إلى المسجد الأقصى ثم يعرج به إلى السماء، ويعود في نفس الليلة! قضية لا يصدقها إلا إنسان يؤمن بالغيب فعلاً، ولذلك ارتد بعض من كانوا أسلموا عندما سمعوا بهذا الأمر، والردة العظمى حصلت كما أشرنا في بداية المحاضرة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أذكركم بما قلته في أول المحاضرة أن هذه الفتن إنما تفتن وتصد من كان ضعيف الإيمان، أما من كان قوي الإيمان، فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويعينه.

ضغط الدنيا

السبب الثاني عشر: ضغط الدنيا:

أحياناً يكون الشاب في بيت غير محافظ، بيت سيئ فيه فتن، فيقاوم ويقاوم وبعد ذلك لا يستطيع الثبات، وأحياناً يكون له أبناء عم أو أبناء خالة أو غيرهم من الأقارب، فيصبح يقضي وقته معهم، فعندما تأتي مناسبة زواج مثلاً يجلس معهم، وقد لا يكونون بلغوا الغاية من الانحراف، لكن على الأقل عندهم ما عند غيرهم من الشهوات، فعندما يجلس معهم يسخرون منه، ولا يستطيع أن يظهر بالمظاهر التي اعتاد عليها، فيبدأ يترك السنة الراتبة مجاملة، يأخذ معهم في الحديث في أمور لا ترضي الله ورسوله، وهكذا يتنازل تدريجياً، حتى سرعان ما يهوي ولا يستطيع أن يتحمل مثل هذا الضغط الذي يواجه مرة بالسخرية ومرة باللمز ومرة بصورة أو بأخرى.

الإنسان الذي عنده قوة إيمان وثبات وصلة بالله سبحانه وتعالى يستطيع أن يواجه ويقاوم كل هذه الفتن وهذه الصوارف.

وجود بعض الرواسب

السبب الثالث عشر: وجود بعض الرواسب:

قد يتوب الشاب مثلاً ويلتزم، لكن يبقى عنده قضايا لم يتخلص منها كمعصية أو شهوة معينة، أو قضية تبقى معه ويأتي ما ينميها ويثيرها فتقضي عليه وتعيده إلى ما كان عليه.

الجليس والصحبة

السبب الرابع عشر والأخير: وتعمدت أن أؤخره لأهميته؛ فالشيء إنما يقدم لأهميته ويؤخر أيضاً لأهميته؛ لأن ما يؤخر يكون غالباً آخر ما يبقى في الذهن.

والسبب الرابع عشر هو الجليس والصحبة:

فالصحبة قد تكون صحبة عامة وقد تكون خاصة، فمثلاً أي شاب عنده مجموعة من الأقران والزملاء، هم جلساؤه، هذه القضية نتفق عليها، وما أظنكم بحاجة إلى أن أتحدث معكم عن أثر الجليس، لكن النقطة التي أشير إليها الآن لأهميتها هو الجليس الخاص، فيأتي الشاب مع مجموعة طيبة ومع أناس أخيار يعتبرهم صحبة له، ثم يصطفي داخل هذه المجموعة اثنين أو ثلاثة تجده يذهب معهم ويأتي معهم دائماً، وعندما تقابلهم تستطيع أن تكتشف هذه العلاقات الخاصة، فتجده لا يذهب إلا مع فلان ولا يأتي إلا مع فلان، فهنا يحصل الخلل، فقد يكون المجموعة خيرة ومع ناس أخيار ومستقيمين، ولكن قد يكون مع أحدهم ممن التحق بهم حديثاً أو ليس على مستوى أولئك، فيكون عنده ضعف وعنده بعض الشهوات، فعندما ضعيف مع ضعيف يكونان ضعيفين، وقد يجتمع الثالث فيكونون ثلاثة ضعفاء، فيجر بعضهم بعضاً ويهوي بعضهم ببعض.

فيجب -يا شباب- أن نختار لأنفسنا الجليس وخاصة الجليس الخالص، ولا يكفي مجرد الانتماء إلى مجموعة خيرة، لكن حتى داخل هذه المجموعة الخيرة يجب أن تصطفي من ترى أنه أقوى منك إيماناً وأكثر منك طاعة لله سبحانه وتعالى، ولا تختر أضعف المجموعة وأقلها، فيهوي بك وتهوي به، ويأخذ بعضكم بيد بعض حتى تخرجون خارج هذه الدائرة.

الأسباب لهذه الظاهرة أسباب كثيرة ومتنوعة، وقد يكون بعضها داخلاً في بعض، فأول سبب وأهم هذه الأسباب هو ضعف الإيمان.

قد يكون الشاب مستقيماً يسلك طريق الاستقامة ويجالس الأخيار، لكن إيمانه ضعيف، لذلك مثل هذا الإنسان الذي لا يملك قدراً من الإيمان يعينه على الثبات على هذا الطريق عندما تعرض له شهوة أو شبهة أو له فتنة يمكن أن ينصرف عن الطريق.

عندما نأتي بعود مثلاً ونحفر له في الأرض بحيث تكون قاعدته غير صلبة قد يثبت، لكن عندما يأتي أدنى هواء يسقطه، السبب ليس في مجيء الهواء والرياح، إنما السبب أن القاعدة غير ثابتة، لكن عندما أحفر له في الأرض وأثبته بقوة لا يمكن أن يسقط اللهم إلا إذا أتت العواصف التي تهوي بكل شيء، فهذا أمر آخر، فالسبب هنا والعامل الرئيسي والأساس هو الإيمان.

ولذلك لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وسأله، قال: هل يرتد أحد من أصحابه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً.

وانظروا في أحداث الردة، لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت فئام من العرب وقبائل بأكملها، بل لم يبق على الإسلام إلا عدد محدود بالنسبة إلى المناطق التي دخلها الإسلام في ذاك الوقت، لكن من الذي ثبت على الإسلام، هل ارتد أحد من أهل بدر، هل ارتد أحد من الذين بايعوا تحت الشجرة، هل ارتد أحد من المهاجرين والأنصار، من الذين عاشوا الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟

عامة الذين ارتدوا هم من الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، فعامة الذين ارتدوا هم من حديثي عهد بالإسلام، لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، لم يعمر الإيمان قلوبهم، أما أهل مكة والمدينة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120]، أولئك ثبتوا وصمدوا، بل حتى ترى هذا النموذج في أحدهم لما كان في غزوة أحد لما قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم قتل في المعركة قال: وماذا تصنعون بالحياة بعده؟ اذهبوا فموتوا على ما مات عليه.

إذاً: هذا يعطينا درساً أنه كلما كان المرء أقوى إيماناً وأقوى صلة بالله سبحانه وتعالى كان أكثر ثباتاً، فقد دخلت جزيرة العرب في الإسلام، لكن حصلت الهزة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن موته أمر ليس يسيراً على المسلمين، فأهل المدينة أصابتهم هزة، وبعضهم لم يصدق الخبر، لكن قرأ عليهم أبو بكر الآية، وانتهت الصدمة فاطمئنوا ووثقوا، وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ودفنوه، لكن قبائل أخرى ارتدوا من أول صدمة وأول فتنة واجهتهم وخرجوا عن دين الإسلام.

إذاً: يا شباب! الإيمان هو الأساس، ولذا يجب أن نعنى بإيماننا وأنتم تدرسون في العقيدة أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فعليك أن تحرص على أن تسلك أسباب زيادة الإيمان، وتنمي هذا الإيمان في قلبك، وأن تتجنب وتحذر كل الحذر من الأمور التي تنقص من إيمانك، فإنك قد لا تواجه بعد ذلك أي فتنة وأي شهوة تواجهك، أو أي شبهة تصدك عن دين الله سبحانه وتعالى.

السبب الثاني: وهو أيضاً لا يقل خطورة عن هذا السبب وخاصة في مرحلة الشباب فإنه يعتبر عاملاً أساسياً، بل الكثير من الحالات التي مرت علي، ومنذ فترة وأنا أنزعج وأظن كل واحد منكم ينزعج حين يرى مثل هذه الظاهرة، وعندما أكتشف مثل هذه المشكلة أحاول أن أعرف السبب؛ لأنها قضية تعنينا جميعاً، أولاً حتى نتجنبها وحتى نتناصح فيما بيننا وننصح إخواننا.

فالسبب الثاني هو: السير وراء الشهوة.

وخاصة في مرحلة الشباب، وخاصة في هذا العصر، حيث تفتحت الأبواب أمام الشباب بالشهوات، وتفنن الأعداء في صد الشباب عن دينهم وفي إثارة الغرائز، واستعملوا كل ما تفتقت عنه المدنية الحديثة وكل ما تفتق عنه العلم الحديث لإثارة هذه الغرائز.

الآن يا شباب هؤلاء الذين يصنعون الأفلام، والذين يجلبون لكم هذه الأفلام الساقطة التي يراها الكثير من الشباب، هل تتخيلون أنهم أناس يريدون المادة فقط، أم أن هناك أيادي ًتريد أن تفتك بهؤلاء الشباب؟

المجلات التي ترونها وللأسف حتى في محلات التموينات، هذه المجلة التي تراها مزينة بصورة المرأة الفاتنة؛ أتدري لم يصنع هؤلاء ذلك؟

الإعلانات التي تشاهد أحياناً في المجلات وفي التلفاز، عندما يراد الإعلان يؤتى بامرأة جميلة فاتنة لتقوم بالإعلان عن هذه السلعة.

فمن وراء ذلك؟ قد يكون فئة من المغفلين النفعيين الماديين الذين يريدون المال على حساب الأخلاق والقيم، ولكن أجزم أن هناك فئة كبيرة جداً يهمها دمار الشباب، يهمها إثارة الفتن وإثارة الغرائز.

فأقول: الشاب حين يكون حديث عهد بهذه المرحلة، والشهوة تتوقد لديه، ولم يتيسر أمامه الطريق الشرعي لصرف الشهوة فيما أحل الله عز وجل من الزواج، فالذي يحصل أن الشاب يقتنع بطريق الاستقامة ويسلك طريق الاستقامة ويذهب مع الناس الأخيار ويأتي معهم، ولكنه قد يأتي إلى البيت في يوم من الأيام فيجلس أمام التلفاز فيرى تلك الصورة الفاتنة، تلك المرأة فتفتنه تلك الصورة ويتعلق بها، ثم يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم، وحتى يوقعه الشيطان في معصية وكبيرة من الكبائر، حينئذٍ يقول له الشيطان: لا أمل لك بعد ذلك في التوبة والرجوع أبداً، ويقوده بمجرد نظرة واحدة، أو بمجرد تعلق بشهوة محرمة واحدة، يقوده بعد ذلك إلى طريق الانحراف وطريق الضلال، وهي قضية خطيرة عندما يسترسل فيها أحد.

أي معصية قد يفعلها الإنسان وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام لا ينتهي أثرها، ليست القضية أنك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو إلى ذاك الغلام تكتب عليك سيئة وتنتهي، نعم هي سيئة تكتب عليك وستحاسب عليها، فإن شاء الله عفا عنك أو عاقبك، لكن لا تقف القضية عند هذا الحد، فإن هذه النظرة يعقبها ما بعدها، أنت تنظر النظرة ويزول أمامك هذا الذي نظرت إليه، ثم بعد فترة عندما تذهب للمنزل يبدأ الشيطان يحرك هذه الصورة في ذهنك، وتبدأ تتدرج القضية إلى تفكير، ثم يطول التفكير حتى يستولي على الشاب حتى يفكر في هذه الشهوة في صلاته وهو بين يدي الله عز وجل! ماذا بقي لله سبحانه وتعالى؟

تستولي عليه هذه الشهوة حتى يبدأ يفكر في تفريغ هذه الشهوة فيما حرم الله، فقد يقع أحياناً في العادة السرية، ثم وقوعه في هذه المعصية يسهل له ما بعدها، حتى تقوده إلى التهاون بالنظرة الأخرى، ثم بعد ذلك يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من النظر، ويوصي صاحبه وصهره علياً رضي الله عنه يقول: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانيةقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:30-31].

وإذا تبدت أمامك تلك الصورة التي قد تنال من قلبك شيئاً، فتذكر تلك الصورة التي لا يمكن أن تقارن أبداً بهذه الصورة، تذكر تلك التي لو اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لملأت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).

وفي الحديث الآخر أيضاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة يدخلون الجنة على هيئة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم.. إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم زوجان من الحور العين يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)، اختر أحد البديلين، واعلم أنك عندما تفتح أمامك أبواب الشهوات وأبواب النظرة الحرام، وتصرف نظرك لله سبحانه وتعالى، أن ذلك مهر تقدمه بعد ذلك للحور العين، ذاك النعيم الذي لا يمكن أن يزول ولا يمكن أن يحول أبداً.

السبب الثالث: التهاون بالمعاصي.

الله سبحانه وتعالى حكى عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، هؤلاء فروا من الزحف، والفرار من الزحف ليس من الكبائر فحسب بل هو من السبع الموبقات، هؤلاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين فروا من الزحف في غزوة أحد، فما السبب؟ قال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، فبسبب بعض ذنوبهم وبعض سيئاتهم استزلهم الشيطان حتى أوقعهم في تلك الكبيرة، وماذا عسى أن تكون سيئات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ في غزوة أحد قبل أن يعز الإسلام ما كان يدخل في الإسلام إلا الصادقون، ولا شك أن السابقين في الدخول للإسلام ليسوا مثل غيرهم، ومع ذلك لما فعلوا بعض السيئات تسلط عليهم الشيطان وأوقعهم في الفرار من الزحف، ولكن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم كما في آخر الآية، فأنت عندما تتهاون بالمعصية الصغيرة تفعلها مرة أخرى، فيزول استقباح المعصية من نفسك، فتصبح تتجرأ على المعصية التي هي أكبر منها حتى تتجرأ على الكبائر، وتتجرأ على الفواحش، ثم تعرض بعد ذلك وتسير في طريق الغافلين.

ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ما تحقرون من أعمالكم كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وذا بعود حتى أشعلوا نارهم وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه)، يضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بليغاً، مثل قوم جاءوا في واد وأرادوا أن ينضجوا عشاءهم، فما وجدوا حطباً، فجاء كل واحد بعود، ووضعوا هذه الأعواد فأشعلوا تلك النار، فتخيل تلك النار التي ستنتج نتيجة هذه الأعواد، ومن هذا المعنى يعظك أحد السلف قائلاً:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

فالجبل عبارة عن حصيات صغيرة، لو جئنا الآن إلى جبل عظيم وفجرناه لتفتت إلى حجارة صغيرة جداً، فإذا جمعت هذه الحجارة فستكون كوماً هائلاً لا يمكن أن تتصوره.

ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة فيقول: (يا عائشة ! إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً)، فالحذر الحذر معشر الشباب من المعاصي!

وقلنا لكم في السبب الأول: إن من أهم الأسباب ضعف الإيمان، وقلنا لكم: إن هناك أموراً يزيد بها الإيمان وأموراً ينقص بها الإيمان، ومما ينقص الإيمان المعصية، وعندما يفعل الإنسان معصية يتجرأ على التي تليها، ثم يتجرأ على التي تليها حتى يتجرأ بعد ذلك على الكبائر والفواحش كما أسلفنا، ثم بعد ذلك يقول: إنني لا أستحق أصلاً أن أسير في طريق الصالحين، وأنا إنسان ملوث سيئ، وأنا إنسان منافق أظهر ما لا أبطن، ثم بعد ذلك ينحرف ويسير في طريق الضلال، عافانا الله وإياكم.