التربية الجادة .. ضرورة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذا هو الدرس السابع من الدروس التربوية أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والبركة، وأن يعيننا على إتمامها والاستفادة منها.

وهذا الموضوع إنما هو امتداد للموضوع السابق، فنحن كما أننا بحاجة إلى القناعة بأهمية التربية والحديث عن ضرورتها، والعناية بها نحن كذلك نحتاج إلى نوع من التربية، إن المجتمعات والمؤسسات التربوية، والتجمعات بل الأفراد جميعاً يمارسون التربية لأنفسهم، وليست كل تربية هي التربية التي نريد، فنحن نريد التربية التي تهيئ المرء ليكون عبداً حقاً لله سبحانه وتعالى، ليكون أهلاً أن يتحمل هذه الرسالة وأن يحمل هذا الدين، ومن ثم كان لا بد من الحديث عن التربية الجادة.

وقد نتساءل ماذا نعني بالتربية الجادة، لعل هذا التساؤل تزول الحاجة له عند الحديث عن جوانب هذا الموضوع، ولكننا يمكن أن نقول باختصار: إن التربية الجادة يمكن أن نعرفها من خلال برامجها، فهي تلك التربية التي تحتوي على برامج جادة وعلى برامج طموحة تهدف إلى الارتقاء بالمتربي إلى منازل عالية وإلى منازل الرجال.

ويمكن أن نتعرف إليها من خلال الهدف التي تؤدي إليه، والنتيجة التي تصل إليها ألا وهي إعداد الرجل الجاد، الرجل الجاد ليس هو قليل الدعابة والهزل، الرجل الجاد هو صاحب الهدف، الذي يسري في أعماقه وروحه، الرجل الجاد هو من يتوجه بالعبادة الحقة لله سبحانه وتعالى، هو الجاد في طلبه للعلم الشرعي، هو الجاد في دعوته إلى الله عز وجل، هو الرجل القادر على اتخاد القرار الحاسم في الوقت المناسب، هو الرجل الشجاع، هو الرجل غير الهياب، إن مواصفات الرجل الجاد مواصفات أشمل وأتم من أن تكون ذاك الرجل قليل الضحك كما قد يتبادر للذهن، وماذا نريد من إنسان صموت قليل الضحك قليل الكلام وهو في مقابل ذلك قليل العمل وقليل الإنتاج، فلعل بعض الجمادات تكون أكثر هدوءاً وأقل كلاماً وحديثاً من الكثير من أولئك، وما تغني شيئاً، فنحن نريد بالرجل الجاد الرجل العامل الذي يقول الكلمة حين ينبغي أن تقال، يعمل العمل حين ينبغي، صاحب المبادرة في حياته كلها، ونحن بحاجة إلى أن نتخلص من وهم الجماهير والانخداع بها.

إننا نرى الآن أفواجاً هائلة تفد إلى الله سبحانه وتعالى، ونرى هذه الصحوة المباركة تمتد على قنوات ومجالات شتى، وهي ظاهرة ولا شك تبشر بالخير وتسر كل مسلم، ولكننا ينبغي أن لا نفرط في التفاؤل وأن لا نعطي هذه الجماهير أكبر مما تستحق، وأن لا نعول عليها فقد تخذلنا حين نحتاج إليها، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، ونخشى أن تتحول هذه الغثائية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستصيب الأمة: (قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) نخشى أن تتحول هذه الغثائية إلى تيار الصحوة، فيصبح عندنا تياراً قوياً جارفاً فيما نتصور، ولكنه غثاء كغثاء السيل.

إنني لست أتشاءم ولا أقلل من الإنجازات، ولست أنظر بنظرة سوداوية إلى إنجازات هذه الصحوة، ولكنني أيضاً أخشى أن يصيبنا داء غيرنا الذين يتحدثون عن الإنجازات ويتحدثون عن الأرقام ويهتمون بالعدد، وأن ترى الحديث كثيراً في القرآن في ذم الاغترار بالكثرة والاغترار بالعدد، إننا مع حرصنا على تكثير سواد الصحوة وعلى سواد المنتمين لهذا الطريق والخير ينبغي أن لا نخدع بهذه الجماهير، وينبغي أن نشعر ونوقن أن هذه الجماهير بحاجة إلى تربية، تربية جادة، تربية عميقة، تربية طويلة تحتاج إلى جهود يتظافر عليها الجميع، وما كنا نظن أنه سيأتي الوقت الذي نحتاج إلى أن نقنع الناس بالحاجة إلى التربية، أن نتحدث عن أهمية التربية والحاجة إليها، إنها قضية ينبغي أن تكون بدهية، ينبغي أن تكون مستقرة لدى الجميع، وقد كانت كذلك فترة من الزمن ولكن حين امتد الخير وانتشر رواقه، ودخل من دخل أصابنا ما أصابنا فأصبحنا بحاجة إلى أن نقرر البدهيات، وبحاجة إلى أن نتحدث عن أهمية التربية، إننا الآن بحاجة إلى أن نتحدث عن وسائل حديث في التربية، بحاجة إلى أن نتحدث عن مشكلات تربوية، بحاجة إلى أن نتحدث عن برامج التربية عن مضمون التربية وما يتعلق بها، وينبغي أن نتجاوز تلك المرحلة التي نقنع فيها الناس بضرورة التربية والحاجة إلى التربية، هذا مدخل بين يدي هذا الموضوع، والذي سيتضمن النقاط الآتية، مبررات المطالبة بالتربية الجادة، ثمار التربية الجادة، صور من نتائج التربية الجادة، حين تتخلف التربية الجادة، والمفاهيم المغلوطة، مقترحات للنقلة.

إننا حين نطالب المربين جميعاً سواء كانوا آباءً أو أساتذة أو معلمين، سواء كانوا مشايخ في حلق العلم، أو كانوا طلبة للعلم في برامجهم مع إخوانهم، أياً كان أولئك المربين إننا حين نطالب هؤلاء بالتربية الجادة ننطلق من مسوغات ومبررات عدة أولها ما سبق الحديث عنه في الدرس السابق الذي أشرت إليه: حاجتنا إلى التربية.

ولقد ذكرت هناك مسوغات عدة تبرر الحاجة الملحة للعناية بالتربية، لعلي أذكرها الآن إجمالاً، منها:

مسوغات سبق الحديث عنها

ضخامة الدور المنوط بهذه الصحوة.

كثرة الفتن والمغريات.

أن هناك معان لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التربية، معاني الصبر والوفاء والكرم والشجاعة إلى غير ذلك.

عمق الخلل التربوي في المجتمع، الخلل في واقع الصحوة، الفصام في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق، توسع مجالات الدعوة وجوانبها.

تلك أمور سبق الحديث عنها بالتفصيل والإفاضة في ذلك الدرس.

تحدثنا عنها وذكرنا أنها مسوغات للمطالبة بالتربية، وهي الأخرى أيضاً مسوغات للمطالبة بالتربية الجادة، ومن هنا فلست بحاجة إلى تكرار الحديث عنها، فمن لم يحضر الدرس عليه أن يرجع إليه ويستمع إليها حينئذ، أنتقل إلى مسوغات أخرى غير تلك المسوغات، منها:

نصوص الكتاب والسنة

أننا حين نقرأ في نصوص الكتاب والسنة نجد أن هناك نصوصاً متضافرة في الكتاب والسنة تخاطب المسلمين على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى أن يؤخذ بجدية، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:2-5].

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل أمراً ثقيلاً، أمراً جاداً كان يحتاج معه إلى أن يفرض عليه صلى الله عليه وسلم قيام الليل هو وأصحابه، فقاموا شهراً حتى ورمت أقدامهم ثم نزل التخفيف بعد ذلك، واختلف هل بقي قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه نسخ وصار في حقه نافلة، هذا الموضوع لا يعنينا، لكن لماذا فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين قيام الليل في تلك الفترة؟ أخبر الله سبحانه وتعالى بالحكمة، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:2-6].

لقد كان هذا القول الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم ثقيلاً، هل كان ثقيلاً بألفاظه وحروفه؟ أبداً فهو ميسر وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، لكنه كان ثقيلاً بتبعاته، كان ثقيلاً يحتاج إلى نفس جادة، إلى نفس تربت تربية تؤهلها لأن تحمل هذه الرسالة.

من هذه النصوص قول الله سبحانه وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:142-143].

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

إن هذه النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى تعطينا دلالة واضحة على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى نفوس عالية، وإلى همم تربت تربية جادة عميقة تحتمل هذا الأمر وتحمل هذا الدين.

كيفية بداية الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم

أمر ثالث: كيف بدأ الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؟

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء ويتعبد فبينما هو كذلك أتاه الملك فغطه غطة قوية حتى بلغ منه الجهد فقال: (اقرأ قال: ما أنا بقارئ، ثم أرسله ثم غطه ثم أرسله ثلاث مرات، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2] فعاد النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده إلى خديجة رضي الله عنها)، ما السر أن يأتي الوحي بهذه الطريقة وبهذه القوة؟ إنه إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل قضية جادة، قضية تحتاج إلى همة وعزيمة قوية.

إن الإجابة على هذا كله نقرأها في قوله سبحانه وتعالى، في هذه الآيات التي هي من أول ما نزل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:5-6].

وحين نقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من النصوص التي تؤيد ما نقول، فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات) إن طريق الجنة طريق محفوف بالمكاره فلن يوصل إلى الجنة إلا من خلال سلوك هذا الطريق، الطريق المليء بالمكاره والأشواك، إذاً فلن يسلك هذا الطريق إلا الرجل الجاد، إذاً الرجل الذي سيتربى ليصل إلى هذه المنزلة وليحقق هذا الهدف بحاجة إلى أن يتربى تربية جادة ليتأهل لبلوغ وتجاوز هذه المكاره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (استعن بالله ولا تعجز) (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم في هذه الأرض أن يستعين بالله ولا يعجز، أن يكون رجلاً هماماً، رجلاً صاحب قرار يستعين بالله سبحانه وتعالى ولا يعجز ويدع الكسل.

أيضاً من المؤيدات والمبررات دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو، بل كان يدعو كل صباح: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) إن العجز والكسل من أكبر معوقات الرجل الجاد، إن الرجل غير الجاد لا يمكن أن نصفه بأدق من هذا الوصف: إنه رجل عاجز وكسول، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله كل يوم من هذا الداء من العجز والكسل، إذاً فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله رجلاً جاداً، رجلاً متخلصاً من هذه العوائق.

ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة

رابعاً: ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة، حديث يحتاج إلى وقفة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا عاد أحدكم أخاه فليقل: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة) والحديث رواه الحاكم من حديث ابن عمر ، ورواه أيضاً الحاكم والإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو .

إن هذا الحديث يعطينا شعوراً بأن وظيفة المسلم وظيفة جادة، وظيفة عمل، فهو يدعى له بالشفاء لأجل أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، يدعى له بالشفاء لأجل أن يبادر فينكأ العدو ويهين العدو ويواجه العدو فيجاهد في الله سبحانه وتعالى، ويمشي إلى الصلاة وإلى عبادة الله عز وجل، إذاً فهو حين يسعى إلى الشفاء وحين يدعى له بالشفاء لا يدعى له بالشفاء لمجرد أن يكون صحيح البدن سليماً، إنما لأجل أن يعود إلى دوره الطبيعي في الحياة، وهو أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، وهذا يعطينا دلالة على أن الأصل في حياة المسلم حال الصحة أن ينكأ العدو ويمشي إلى الصلاة، وليست القضية مربوطة فقط بقضية الجهاد وحدها والمشي إلى الصلاة، إنما هي رمز فنكء العدو يتمثل في أن يكون المرء جاداً عاملاً لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، يكون شوكة في حلوق أعداء الله عز وجل أياً كان هؤلاء الأعداء، ينكؤهم بالكلمة الصادقة، ينكؤهم بالعمل الجاد المثمر، ينكؤهم بالجهاد في سبيل الله حين يرفع لواء الجهاد، إنه رجل يحمل في قلبه العمل والحيوية والهم لهذا الدين، وهو أيضاً يمشي إلى الصلاة، فهذا رمز لاجتهاده وجده في عبادة الله سبحانه وتعالى.

الأصل في الحياة الجدية

هذا هو المبرر الخامس، أن الحياة أصلاً لا يعيش فيها إلا الرجل الجاد، تأمل في تاريخ الدول والأمم ترى الأمة التي سادت وكونت حضارة لا بد أن تكون أمة جادة، لا بد أن يملك أفرادها قدراً من الجدية يؤهلهم إلى أن يصلوا إلى هذه المنزلة وإلا لن يصنعوا شيئاً، وإلا سيكونوا كبني قومنا من المسلمين الذين تتاح أمامهم الموارد الكثيرة: الموارد الاقتصادية، والموارد البشرية وكل الطاقات والإمكانات متاحة للمسلمين، لكنك تجد أنه يغلب عليهم الكسل والتواني ودنو الهمة، ومن ثم فاقهم وسبقهم غيرهم، أنت لا ترى شعباً حقق انتصاراً وحقق إنجازاً أياً كان هذا الإنجاز، إنجازاً مادياً، إنجازاً عسكرياً، إنجازاً في نظم الحياة إلا وترى وراء ذلك رجالاً جادين أياً كان أولئك الرجال، صاحب الدنيا والمال إنه رجل جاد لا يمكن أن يحصل المال ويكسب ويربح إلا ذاك الرجل الجاد الذي يفرغ حياته ووقته لكسب هذا المال والاحتيال عليه بأي وسيلة وأي طريقة بغض النظر عن سلامة طرقه وعن سلامة منهجه، لكنه رجل لم يحصل ما حصل إلا بالجد، إنك حين تتأمل في هذه الحياة ترى أنه لا يمكن أن يحقق امرؤ نجاحاً إلا من خلال الجد والعمل.

فالمؤسسة التي تريد أن تحقق نجاحاً لا بد أن تكون مؤسسة جادة، الفرد الذي يريد أن يحقق النجاح في حياته الخاصة في دراسته، في تعلمه، في أي شأن من شئون الحياة لا بد أن يكون رجلاً جاداً.

الأمة والدولة لا يمكن أن تنجح ولا يمكن أن تحقق الإنجازات إلا عندما تكون جادة، تعمل أكثر مما تتكلم، تحمل رجالاً صادقين جادين عاملين أكثر من مجرد مهرجين وأناس يجيدون فن النفاق والحديث، ومن هنا فعندما تتأمل في التاريخ القديم والحديث ترى أن هذا سر من أسرار نجاح الجميع.

جهاد وجهاد لا قتال فيه

الأمر السادس: جهاد وجهاد لا قتال فيه، تقول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) هنا عائشة تقول: نرى الجهاد أفضل الأعمال، هذا الجهاد هو أفضل الأعمال، وهو الذي لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله. قال: لا تطيقونه فعندما ألحوا عليه، قال: (هل تطيق إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام؟ قال: من يطيق ذلك؟ قال: لا يعدل الجهاد شيء)، هذا الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد يطيب لنا أن نسمع الحديث عن الجهاد وعن البطولات، نقرأ في الكتب، نسمع الروايات عن البطولات مع الجهاد، ويستلقي الإنسان على فراشه ويمني نفسه بالجهاد لكنه ينسى أن الجهاد يعني: قعقعة السلاح، الجهاد يعني: الخوف، يعني: الرعب، يعني: مواجهة العدو، يعني: مواجهة الأخطار كلها، يعني: أن يواجه الحرب والبرد والخوف والهلع والجوع والظمأ والعطش، يعني: أن يواجه كل ما يواجهه الإنسان من مصائب في هذه الحياة، هذا الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، أليس يعطينا دلالة أن الأصل في حياة المسلمين هي الحياة الجادة؟ أليس يعطينا دلالة أننا بحاجة إلى أن نربي الرجال الذين يتهيئون لهذه المواقف.

أما الإنسان الذي يفزع بمجرد أي موقف، الذي يخاف ويذعر من مجرد أي صيحة، الإنسان الذي ليس لديه أي استعداد أن يتحمل الجوع والعطش والحر والبرد لا يتحمل هذه الأمور ليس مؤهلاً أن يعيش في الحياة فضلاً أن يكون مؤهلاً لأن يجاهد.

ثم جهاد لا قتال فيه الحج، الحج الذي يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم ليس الحج الذي يحصل الآن، والذي تتنافس فيه مؤسسات الحج في تقديم وسائل الراحة، يبعد مخيمنا عن الجمرات 100 متر فقط، أو 40 متر فقط، لدينا معجون أسنان، لدينا مشروبات على مدار الساعة إلى غير ذلك، ليس هذا هو الحج الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلكم جميعاً أدركتم الحج الذي فعلاً فيه المشقة والتعب والنصب، هذا الحج الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهاد لا قتال فيه، هذه صورة من الأعمال فعلاً والعبادات التي يجب أن يكون المسلم متهيئاً لها، فهذا الجهاد يجب على كل المسلمين أن يحدثوا أنفسهم به، الحج فرض على كل مسلم أن يؤديه مرة في العمر، هذا الحج الذي كان يركب فيه المسلم راحلته وكان يتعب وينصب إلى وقت قريب جداً أدركناه جميعاً، كنا نعرف أن الحج هو عنوان المشقة والتعب؛ ولهذا عندما يقال: فلان مريض فيسأل: ما به؟ يقال: قدم من الحج، لا يستغرب الناس؛ لأن الأصل أن الذي يقدم من الحج أن يصاب بالمرض أو على الأقل التعب والإرهاق.

الفتن

سابعاً: الفتن، فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن تحاصر المرء في مجتمعاتنا الإسلامية لا يصمد أمامها إلا الرجل الجاد، الرجل الذي تربى تربية جادة، وقد سبق الحديث عنها في الدرس الماضي.

كيف ساد الرجال

ثامناً: كيف ساد الرجال؟ حين نقرأ في سير السلف، نرى أمراً عجباً كيف كان أولئك يتربون التربية الجادة؟ كيف كان أولئك ينظرون إلى الحياة، يقول عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: سمعت أبي يقول: كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس أو يصبحوا، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي عياش وغيره، الإمام أحمد يريد أن يخرج إلى الدرس قبل أن يؤذن الفجر فتأخذ أمه بثيابه رحمة به وشفقة عليه حتى يؤذن الناس، والآن عندما تطلب من أحد الشباب موعداً بعد الفجر، أو الساعة السابعة يقول لك: يا أخي صعب. يعني: ما نستطيع نرتاح قليل، إلى غير ذلك من أساليب الاعتذار التي تنم فعلاً عن تخلف الجدية.

ابن أبي حاتم يقول: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، أيك وجدوا فرصة ليأكلوا طعاماً دسماً، لما أتوا للشيخ ووجدوه مريضاً، قال: فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة، لم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

والآن عندما تقدم للشباب وجبة غير مناسبة لهم تسمع الحديث والكلام: وجبة جافة.. إلى غير ذلك من التمعر والحديث، فليس عنده استعداد أن يتحمل أن يجوع يوماً من الأيام أو على الأقل أن يشبع، لكنه من طعام لا يشتهيه، أولئك الرجال إذا كنا جادين نريد أن نتربى مثل أولئك الرجال، فلنقرأ في سيرهم ونعرف كيف كانوا؟

كيف انتصرت الدعوات

تاسعاً: كيف انتصرت الدعوات، نحن نحلم أن نرفع راية الإسلام، نحلم أن نرفع الغشاوة عن هذه الأمة، أن ننصر الإسلام، ونتخيل أننا بهذه النفوس المريضة وهذه التربية الهزيلة نستطيع أن ننتصر، لعلنا قرأنا جميعاً غزوة أحد، قرأنا غزوة الخندق، جيش العسرة، قرأنا النماذج وقرأنا سير الدعاة والمصلحين والمجددين مما يضيق الوقت عن عرض الأمثلة منه فرأينا كيف انتصرت الدعوات، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، نحن بين خيارين إن كنا نريد أن نحقق النصر، إن كنا نريد أن ننصر هذه الدعوة فلنعلم أن الطريق شاق، طريق يحتاج إلى رجال، يتربون تربية جادة، تربية حازمة، وإن كنا نريد أن نسير الهوينا فعلينا أن نعلم أن الثريا أقرب إلينا مما نريد.

أول الأربعة

عاشراً: أول الأربعة، استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم: (من علم لا ينفع) في أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وما رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أنس ، وما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر ، وما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة ، وما رواه النسائي أيضاً عن أنس ، كل هذه الأحاديث يستعيذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وفي بعضها يقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وعلم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع).

ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) رواه ابن ماجة وابن حبان من حديث جابر .

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه) إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من العلم الذي لا ينفع، وعندما تقرأ في كتب آداب العالم والمتعلم تجد أن السلف يحذرون من الانشغال بالعلم الذي لا ينفع، ماذا يعني هذا؟ أليس يعني: الجدية؟ أليس يعني: أن يكون المرء جاداً، حتى طلب العلم، حتى تعلم العلم، لا يسأل ولا يتعلم إلا ما ينفعه، لقد عاتب الله سبحانه وتعالى عباده، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189].

سأل الناس عن الهلال ما باله يبدو صغيراً ثم يكبر؟ فأجابهم الله بغير سؤالهم: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] بما ينفعهم، ثم قال: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189].

قيل في تأويل هذه الآية: إن معنى هذه الآية أن سؤالكم عما لا ينفع إنما هو إتيان للبيوت من ظهورها، فأتوا البيوت من أبوابها، ائتوا العلم من الطرق الموصلة إليه، واسألوا عما ينفعكم.

ضخامة الدور المنوط بهذه الصحوة.

كثرة الفتن والمغريات.

أن هناك معان لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التربية، معاني الصبر والوفاء والكرم والشجاعة إلى غير ذلك.

عمق الخلل التربوي في المجتمع، الخلل في واقع الصحوة، الفصام في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق، توسع مجالات الدعوة وجوانبها.

تلك أمور سبق الحديث عنها بالتفصيل والإفاضة في ذلك الدرس.

تحدثنا عنها وذكرنا أنها مسوغات للمطالبة بالتربية، وهي الأخرى أيضاً مسوغات للمطالبة بالتربية الجادة، ومن هنا فلست بحاجة إلى تكرار الحديث عنها، فمن لم يحضر الدرس عليه أن يرجع إليه ويستمع إليها حينئذ، أنتقل إلى مسوغات أخرى غير تلك المسوغات، منها:

أننا حين نقرأ في نصوص الكتاب والسنة نجد أن هناك نصوصاً متضافرة في الكتاب والسنة تخاطب المسلمين على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى أن يؤخذ بجدية، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:2-5].

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل أمراً ثقيلاً، أمراً جاداً كان يحتاج معه إلى أن يفرض عليه صلى الله عليه وسلم قيام الليل هو وأصحابه، فقاموا شهراً حتى ورمت أقدامهم ثم نزل التخفيف بعد ذلك، واختلف هل بقي قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه نسخ وصار في حقه نافلة، هذا الموضوع لا يعنينا، لكن لماذا فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين قيام الليل في تلك الفترة؟ أخبر الله سبحانه وتعالى بالحكمة، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:2-6].

لقد كان هذا القول الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم ثقيلاً، هل كان ثقيلاً بألفاظه وحروفه؟ أبداً فهو ميسر وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، لكنه كان ثقيلاً بتبعاته، كان ثقيلاً يحتاج إلى نفس جادة، إلى نفس تربت تربية تؤهلها لأن تحمل هذه الرسالة.

من هذه النصوص قول الله سبحانه وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:142-143].

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

إن هذه النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى تعطينا دلالة واضحة على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى نفوس عالية، وإلى همم تربت تربية جادة عميقة تحتمل هذا الأمر وتحمل هذا الدين.

أمر ثالث: كيف بدأ الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؟

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء ويتعبد فبينما هو كذلك أتاه الملك فغطه غطة قوية حتى بلغ منه الجهد فقال: (اقرأ قال: ما أنا بقارئ، ثم أرسله ثم غطه ثم أرسله ثلاث مرات، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2] فعاد النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده إلى خديجة رضي الله عنها)، ما السر أن يأتي الوحي بهذه الطريقة وبهذه القوة؟ إنه إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل قضية جادة، قضية تحتاج إلى همة وعزيمة قوية.

إن الإجابة على هذا كله نقرأها في قوله سبحانه وتعالى، في هذه الآيات التي هي من أول ما نزل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:5-6].

وحين نقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من النصوص التي تؤيد ما نقول، فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات) إن طريق الجنة طريق محفوف بالمكاره فلن يوصل إلى الجنة إلا من خلال سلوك هذا الطريق، الطريق المليء بالمكاره والأشواك، إذاً فلن يسلك هذا الطريق إلا الرجل الجاد، إذاً الرجل الذي سيتربى ليصل إلى هذه المنزلة وليحقق هذا الهدف بحاجة إلى أن يتربى تربية جادة ليتأهل لبلوغ وتجاوز هذه المكاره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (استعن بالله ولا تعجز) (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم في هذه الأرض أن يستعين بالله ولا يعجز، أن يكون رجلاً هماماً، رجلاً صاحب قرار يستعين بالله سبحانه وتعالى ولا يعجز ويدع الكسل.

أيضاً من المؤيدات والمبررات دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو، بل كان يدعو كل صباح: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) إن العجز والكسل من أكبر معوقات الرجل الجاد، إن الرجل غير الجاد لا يمكن أن نصفه بأدق من هذا الوصف: إنه رجل عاجز وكسول، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله كل يوم من هذا الداء من العجز والكسل، إذاً فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله رجلاً جاداً، رجلاً متخلصاً من هذه العوائق.

رابعاً: ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة، حديث يحتاج إلى وقفة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا عاد أحدكم أخاه فليقل: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة) والحديث رواه الحاكم من حديث ابن عمر ، ورواه أيضاً الحاكم والإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو .

إن هذا الحديث يعطينا شعوراً بأن وظيفة المسلم وظيفة جادة، وظيفة عمل، فهو يدعى له بالشفاء لأجل أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، يدعى له بالشفاء لأجل أن يبادر فينكأ العدو ويهين العدو ويواجه العدو فيجاهد في الله سبحانه وتعالى، ويمشي إلى الصلاة وإلى عبادة الله عز وجل، إذاً فهو حين يسعى إلى الشفاء وحين يدعى له بالشفاء لا يدعى له بالشفاء لمجرد أن يكون صحيح البدن سليماً، إنما لأجل أن يعود إلى دوره الطبيعي في الحياة، وهو أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، وهذا يعطينا دلالة على أن الأصل في حياة المسلم حال الصحة أن ينكأ العدو ويمشي إلى الصلاة، وليست القضية مربوطة فقط بقضية الجهاد وحدها والمشي إلى الصلاة، إنما هي رمز فنكء العدو يتمثل في أن يكون المرء جاداً عاملاً لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، يكون شوكة في حلوق أعداء الله عز وجل أياً كان هؤلاء الأعداء، ينكؤهم بالكلمة الصادقة، ينكؤهم بالعمل الجاد المثمر، ينكؤهم بالجهاد في سبيل الله حين يرفع لواء الجهاد، إنه رجل يحمل في قلبه العمل والحيوية والهم لهذا الدين، وهو أيضاً يمشي إلى الصلاة، فهذا رمز لاجتهاده وجده في عبادة الله سبحانه وتعالى.

هذا هو المبرر الخامس، أن الحياة أصلاً لا يعيش فيها إلا الرجل الجاد، تأمل في تاريخ الدول والأمم ترى الأمة التي سادت وكونت حضارة لا بد أن تكون أمة جادة، لا بد أن يملك أفرادها قدراً من الجدية يؤهلهم إلى أن يصلوا إلى هذه المنزلة وإلا لن يصنعوا شيئاً، وإلا سيكونوا كبني قومنا من المسلمين الذين تتاح أمامهم الموارد الكثيرة: الموارد الاقتصادية، والموارد البشرية وكل الطاقات والإمكانات متاحة للمسلمين، لكنك تجد أنه يغلب عليهم الكسل والتواني ودنو الهمة، ومن ثم فاقهم وسبقهم غيرهم، أنت لا ترى شعباً حقق انتصاراً وحقق إنجازاً أياً كان هذا الإنجاز، إنجازاً مادياً، إنجازاً عسكرياً، إنجازاً في نظم الحياة إلا وترى وراء ذلك رجالاً جادين أياً كان أولئك الرجال، صاحب الدنيا والمال إنه رجل جاد لا يمكن أن يحصل المال ويكسب ويربح إلا ذاك الرجل الجاد الذي يفرغ حياته ووقته لكسب هذا المال والاحتيال عليه بأي وسيلة وأي طريقة بغض النظر عن سلامة طرقه وعن سلامة منهجه، لكنه رجل لم يحصل ما حصل إلا بالجد، إنك حين تتأمل في هذه الحياة ترى أنه لا يمكن أن يحقق امرؤ نجاحاً إلا من خلال الجد والعمل.

فالمؤسسة التي تريد أن تحقق نجاحاً لا بد أن تكون مؤسسة جادة، الفرد الذي يريد أن يحقق النجاح في حياته الخاصة في دراسته، في تعلمه، في أي شأن من شئون الحياة لا بد أن يكون رجلاً جاداً.

الأمة والدولة لا يمكن أن تنجح ولا يمكن أن تحقق الإنجازات إلا عندما تكون جادة، تعمل أكثر مما تتكلم، تحمل رجالاً صادقين جادين عاملين أكثر من مجرد مهرجين وأناس يجيدون فن النفاق والحديث، ومن هنا فعندما تتأمل في التاريخ القديم والحديث ترى أن هذا سر من أسرار نجاح الجميع.

الأمر السادس: جهاد وجهاد لا قتال فيه، تقول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) هنا عائشة تقول: نرى الجهاد أفضل الأعمال، هذا الجهاد هو أفضل الأعمال، وهو الذي لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله. قال: لا تطيقونه فعندما ألحوا عليه، قال: (هل تطيق إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام؟ قال: من يطيق ذلك؟ قال: لا يعدل الجهاد شيء)، هذا الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد يطيب لنا أن نسمع الحديث عن الجهاد وعن البطولات، نقرأ في الكتب، نسمع الروايات عن البطولات مع الجهاد، ويستلقي الإنسان على فراشه ويمني نفسه بالجهاد لكنه ينسى أن الجهاد يعني: قعقعة السلاح، الجهاد يعني: الخوف، يعني: الرعب، يعني: مواجهة العدو، يعني: مواجهة الأخطار كلها، يعني: أن يواجه الحرب والبرد والخوف والهلع والجوع والظمأ والعطش، يعني: أن يواجه كل ما يواجهه الإنسان من مصائب في هذه الحياة، هذا الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، أليس يعطينا دلالة أن الأصل في حياة المسلمين هي الحياة الجادة؟ أليس يعطينا دلالة أننا بحاجة إلى أن نربي الرجال الذين يتهيئون لهذه المواقف.

أما الإنسان الذي يفزع بمجرد أي موقف، الذي يخاف ويذعر من مجرد أي صيحة، الإنسان الذي ليس لديه أي استعداد أن يتحمل الجوع والعطش والحر والبرد لا يتحمل هذه الأمور ليس مؤهلاً أن يعيش في الحياة فضلاً أن يكون مؤهلاً لأن يجاهد.

ثم جهاد لا قتال فيه الحج، الحج الذي يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم ليس الحج الذي يحصل الآن، والذي تتنافس فيه مؤسسات الحج في تقديم وسائل الراحة، يبعد مخيمنا عن الجمرات 100 متر فقط، أو 40 متر فقط، لدينا معجون أسنان، لدينا مشروبات على مدار الساعة إلى غير ذلك، ليس هذا هو الحج الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلكم جميعاً أدركتم الحج الذي فعلاً فيه المشقة والتعب والنصب، هذا الحج الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهاد لا قتال فيه، هذه صورة من الأعمال فعلاً والعبادات التي يجب أن يكون المسلم متهيئاً لها، فهذا الجهاد يجب على كل المسلمين أن يحدثوا أنفسهم به، الحج فرض على كل مسلم أن يؤديه مرة في العمر، هذا الحج الذي كان يركب فيه المسلم راحلته وكان يتعب وينصب إلى وقت قريب جداً أدركناه جميعاً، كنا نعرف أن الحج هو عنوان المشقة والتعب؛ ولهذا عندما يقال: فلان مريض فيسأل: ما به؟ يقال: قدم من الحج، لا يستغرب الناس؛ لأن الأصل أن الذي يقدم من الحج أن يصاب بالمرض أو على الأقل التعب والإرهاق.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2585 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2323 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2117 استماع
علم لا ينفع 2084 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2073 استماع