ماذا نريد من المرأة؟


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فعنوان حديثنا في هذا اللقاء: ماذا نريد من المرأة؟

هُنئ أحدهم بالبنت فقال: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.

فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال

والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطاً، واستأنس نشاطاً، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.

إن المرأة المسلمة لها دور -ولا شك- تحتاجه الأمة في كل عصر ووقت، وفي هذا العصر -عصر هذه الصحوة المباركة- نحن أحوج ما نكون إلى دور المرأة، ذلك أن أمام الصحوة تحديات كبيرة، وأهدافاً طموحة، وتطلعات عالية، لا يمكن أن تتم بجهد الرجال وحدهم، ولا يمكن أبداً أن نستغني عن دور المرأة وجهدها.

ثم إن الصحوة الإسلامية تواجه تحدياً شرساً من أعدائها وكيداً وتآمراً، لهذا فهي أحوج ما تكون إلى أن تستنفر قواها، وأن تستثمر طاقاتها أجمع، والمرأة المسلمة جزء -ولاشك- من طاقة هذه الأمة، فنحن أحوج ما نكون إليه.

وإنما الآخر كالأول، لقد قرأتِ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت أنه على مدى صفحات تاريخ سيرته صلى الله عليه وسلم لا تخطئك المرأة أبداً، فهناك في الفترة المكية، مرحلة الاستضعاف والتعذيب والإيذاء والمضايقة، مرحلة بداية الدعوة، قرأنا للمرأة دوراً بارزاً.

ويبدو أمامك اسم خديجة رضي الله عنها التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة وفية، وكانت معه كخير ما تكون المرأة مع الرجال، حتى بشرها الله سبحانه وتعالى ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فهي لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، وحازت قصب السبق في اتباعه، ولذلك استحقت هذا الوعد وهذه البشارة منه سبحانه وتعالى، يحملها جبريل، ويبلغها محمد صلى الله عليه وسلم.

وتقرئين أيضاً سيرة سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، وأسماء ذات النطاقين، وغيرهن من النساء المؤمنات اللاتي كان لهن دور بارز في تلك المرحلة الحرجة من مراحل الدعوة، وهي مرحلة الدعوة المكية.

وأما في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنك ترين أيضاً نماذج من ذلك، ترين أم سليم بنت ملحان وأم سلمة وصفية وعائشة وحفصة ، وسائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وترين أم عمارة نسيبة بنت كعب وسائر المؤمنات من الصحابيات.

إن هذا يعطينا شعوراً وقناعة بأننا نحتاج إلى دور المرأة، والآخر كالأول، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فما دام للمرأة دور هناك فلها دور أيضاً هنا.

صفية بنت عبد المطلب وأسماء بنت أبي بكر

وحديثنا في هذا اللقاء -معشر الأخوات الكريمات- يدور حول محاور ثلاثة:

أولها: المرأة أم:

إنك على مدى التاريخ القريب والبعيد لابد أن تري أسماء لامعة كتبت في صفحات بيضاء ناصعة في تاريخ أمتها، وتلك الأسماء -القائدة والمجاهدة والعالمة والمصلحة- أياً كان موقعها لابد أنه كان وراء كل منهما امرأة صالحة أعدت هؤلاء حتى صاروا إلى ما صاروا إليه، وهذا الأمر ليس حكراً على المسلمين، بل حتى سائر الأمم -الصادقون منهم- يعترفون بدور المرأة في ذلك.

حين هنئ لنكولن أحد الزعماء الأمريكان قال: لا تهنئوني وهنئوا أمي؛ فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا.

ولسنا بحاجة إلى أن نستعرض سيرة هذا الرجل وأشباهه؛ فأمامنا صفحات واسعة قد لا نستطيع أن نأتي على جزء يسير منها في هذا اللقاء، أمامنا صفحات واسعة من تاريخ أمتنا، من أولئك النساء اللاتي كان لهن دور في إعداد الرجال على مدى تاريخ هذه الأمة الطويل.

فها هي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تقبل حين استشهد حمزة رضي الله عنه؛ لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فيقول صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير : (دونك أمك فامنعها)، وأكبر همه صلى الله عليه وسلم ألا يجد بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: دونك لا أم لك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها بذلك، فقال: (خل سبيلها)، فأتت إلى صفوف الناس، حتى أتت إلى أخيها، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، وقالت لابنها: قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله!

وحين كان لـعبد الله بن الزبير ما كان دخل على أمه، فقال: يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من نهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟

فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير ! والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل!

فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله.

وحين قتل رضي الله عنه دخل ابن عمر المسجد فأبصره مطروحاً قبل أن يصلب، فقيل له: هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل، فقالت له أسماء رضي الله عنها: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

واسمعي إلى ما قالته للحجاج حين قتل ابن الزبير ، دخل عليها فقال لها: يا أمه! إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكني أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد رأيناه -تعني المختار - وأما المبير فأنت. فقال لها: مبير المنافقين.

وفي رواية عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث، وهو مصلوب، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج : أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟! قالت: والله ما كان منافقاً، كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت! قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في ثقيف كذاب ومبير) الحديث.

إن تلك الروح العالية التي كانت لدى أسماء رضي الله عنها هي التي صنعت الاستبسال والشجاعة في ابن الزبير رضي الله عنه.

ويحتاج المصلحون الذين يدفعون أرواحهم وحياتهم وما لديهم ثمناً لدعوتهم وعقيدتهم، وترخص عندهم الأمور في سبيل الله سبحانه وتعالى، يحتاجون إلى مثل هذه الأم التي تدفعهم إلى ميدان البطولة، تدفعهم إلى ميدان الاستشهاد، تدفعهم إلى ميدان تحمل ضريبة كلمة الحق، وضريبة الموقف الحق حين يشعر صاحبه أنه إنما عمل لله، وأنه إنما قام لله، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذه الأم.

بعيداً عن تلك الأم التي تخدر، والتي تخاف على ابنها من مصائب الدنيا، وها هي هند بنت عتبة رضي الله عنها أم معاوية بن أبي سفيان كان يفتخر بها إذا افتخر فيقول: أنا ابن أمي هند .

أم عمارة وأم عاصم

وأيضاً من النساء اللاتي سطر لهن التاريخ صفحة سامقة عالية في ميدان الأمومة لأولئك الرجال الصادقين أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، هي أم عبد الله بن زيد الأنصاري الذي وصف حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وروي أنه قتل مسيلمة ، وأم حبيب بن زيد الذي قابل مسيلمة في القصة المشهورة حين قطع مسيلمة -عليه من الله ما يستحق- أعضاءه قطعة قطعة، وهو يرفض أن يجيبه إلى ما يدعو.

ولها مواقف مشهورة مشهودة في التاريخ ليس هذا وقت الحديث عنها، إنما نحن نحكي عن أم عمارة نسيبة رضي الله عنها جانب الأمومة، وكيف خرجت أولئك الأبناء.

وأم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي أم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان لها دور في تربيته وإصلاحه.

وأمير المؤمنين في الأندلس عبد الرحمن الناصر حكم خمسين سنة وستة أشهر، ووطئت أقدام جيوشه بلاد فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، الذي أزعج أوروبا، قتل أبوه وعمره واحد وعشرون يوماً فانفردت أمه بتربيته، فكان هذا الرجل من نتاجها.

نماذج من أمهات العلماء

وفي ميدان العلم والفقه نرى أيضاً أن الأمهات كان لهن دور بارز في إعداد الرجال، سفيان الثوري الإمام الفقيه المحدث الذي قال فيه الأوزاعي : لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان .

سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة، روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لـسفيان : يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم.

وقالت له توصيه: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.

والإمام الفقيه الثبت إمام أهل الشام وفقيههم أبو عمرو الأوزاعي الذي قال فيه بقية : إنا لنمتحن الناس بـالأوزاعي ، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة.

كان يتيماً فقيراً في حجر أمه، فنقلته من بلد إلى بلد، حتى تعلم وبلغ مرتبة الإمامة والفقه.

والإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن قصته مع أبيه مشهورة رواها ابن خلكان ، وذلك أن أباه فروخ فارق أمه وهي حامل به، وترك عندها ثلاثين ألف ديناراً، وأوصاها بحملها خيراً، ففارقها إلى ميدان الجهاد، وغاب هناك سنوات طويلة، فعاد بعد أكثر من ثلاثين سنة، عاد ليطرق بيته فخرج إليه ابنه ربيعة ، فقال له: كيف تهجم على بيتي وأهلي؟! فقال له: كيف أنت تدخل بيتي؟ فعلت أصواتهما، وارتفعت خصومتهما، حتى جاء الإمام مالك واللجج والخصومة بينهما، فقال: أنا صاحب هذا البيت أنا فروخ ، فسمعت أم ربيعة صوته وسمعت كلامه فعرفت أنه زوجها، فنادته وقالت: هذا ولدك فتعانقا.

ثم سألها عن المال الذي أودعها إياه، فقالت: إني دفنته واختبأته، ونام ثم لما استيقظ قالت له: اذهب واشهد صلاة الفجر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب ورأى رجلاً قد اجتمع حوله أفواج من الناس يستمعون إليه فسأل وهو مطرق رأسه خجلاً منه، فإذا هو ابنه ربيعة ، فعاد إلى زوجه فوصف لها ما وصف، فقالت: أيسرك هذا أم الدنانير؟ قال: والله! هذا أحب إلي، فأخبرته أنها أنفقتها في تعليمه.

لقد كان وراء الإمام ربيعة رحمه الله تلك الأم التي ربته وتعاهدته حتى بلغ ما بلغ.

والإمام مالك أيضاً الذي درس على ربيعة قال لأمه: أذهب فأكتب العلم. فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، قال: فألبستني وعممتني، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.

والإمام الشافعي الإمام الفقيه المجدد، مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وتنقلت به من غزة مهبطه إلى مكة مستقر أخواله، وكانت من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة.

وحصلت لها قصة مشهورة عند أحد قضاة مكة، ذلك أنها شهدت هي وأم بشر فأجاز شهادتهما فذكرته بقول الله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].

والمهدي الخليفة العباسي الذي كان يلقب بقصاب الزنادقة وعدو الزنادقة أجمع المؤرخون أنه نتاج تربية أمه الخيزران التي أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي .

ولله در القائل:

وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة

وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات

موضي بنت أبي وهطان

ومن النماذج القريبة زوجة الأمير محمد بن سعود رحمه الله موضي بنت أبي وهطان كان لها دور كبير في إقناعه بمناصرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد أتاها أخوا الإمام محمد بن سعود وطلبا منها أن تقوم بهذا الدور في إقناعه أن يتبنى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته، فما زالت به حتى أقنعته بذلك، وأمرته أن يذهب إليه ويقابله، وتم ما تم حتى كتب الله النصر والتمكين لدعوة هذا الإمام المجدد بتوفيق الله سبحانه وتعالى بعد أن ناصره هذا الإمام الصادق، وهي أم الإمام عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود رحمه الله الذي بلغ الغاية في العدل والعلم والورع، ولقب بمهدي زمانه.

وهي نماذج طويلة -أختي الفاضلة- من الأمهات اللاتي صنعن القادة وأصحاب المواقف، واللاتي صنعن الفقهاء والعلماء، واللاتي صنعن المصلحين، لقد كان وراء كل واحد من أولئك أم صالحة، تعاهدته بالرعاية والتربية والإحسان حتى أبلغته ما بلغ.

أتظنين أن تلك الأم التي تربي ابنها على أن يخاف حتى من ظله، التي تربي ابنها على أن يخاف من أي هاجس، وتخلق القلق والجزع والخوف والجبن لديه، أترين هذه قادرة أن تنتج ابناً يقول كلمة الحق حين يحتاج إلى ذلك؟

أترينها تنتج ابناً يحمل السلاح والجهاد في سبيل الله حين تفتقر الأمة إلى أمثاله؟

أم ترينها تنتج مصلحاً يدع الدنيا ويطلقها وراء ظهره؛ ليحمل على عاتقه أمانة الدعوة والإصلاح؟

أم ترين أن تلك المرأة التي تربي ابنها على حب الدنيا والتعلق بها وبمتاعها الزائل، أو تربي ابنها على أن يلبي داعي شهواته ورغباته، فلا ترى أن يكدر نومه، ولا أن يقلق راحته، ولا أن يهب عليه الهواء، أترين هذه الأم قادرة أن تنتج طالباً للعلم حاملاً لرسالته، متحملاً المشقة واللأواء والنصب في سبيل تحصيل العلم الذي ينفعه الله سبحانه وتعالى ويهديه به، ومن ثم يحمله بعد ذلك إلى أمته؟

إن أولئك الذين يتحدث عنهم التاريخ من القادة والمصلحين والحكماء والعلماء والدعاة، إن أولئك وغيرهم إما أن تكون وراء كل واحد منهم أم صالحة تعاهدته بالرعاية والتنشئة، أو أن يكون يتيماً، أو يكون قد خلف وصايا أمه المخذلة وراء ظهره، أما أولئك الذين يرضعون الجبن ويتربون في كنف المذلة والعار فلا يرتجى منهم أن يصلوا إلى هذه المنازل ولا أن يبلغوها.

والأمة -أخواتي الفاضلات- أحوج ما تكون في هذه المرحلة إلى هؤلاء المصلحين والعلماء والدعاة والقائلين بالحق والقادة والمجاهدين، هي أحوج ما تكون إلى هذا الصنف الفريد من الناس، ولاشك أن كل واحد من هؤلاء لابد أن تكون له أم، فهلا أخذت على عاتقك أن تدعي ابنك ليكون من هؤلاء؟

هلا أخذت على عاتقك وأنت تداعبين ابنك وهو صغير أن يبلغ مبلغ الرجال، وأن تعديه لذلك، وتربيه على هذه المهمة، وأن تنشئيه من صغره وهو يحمل قضية الإسلام، وقضية الدين، وقضية هذه الأمة، ألا يعيش لنفسه، إنما يعيش لدين الله سبحانه وتعالى، أن يشعر بأن الدنيا لا قيمة لها، ولا تعدل جناح بعوضة، وأنت حين تقومين بهذا الجهد فإنك تقدمين خيراً عظيماً لهذه الأمة، وتؤدين دوراً لن يؤديه إلا أنت، فهل أنت فاعلة ذلك؟

وحديثنا في هذا اللقاء -معشر الأخوات الكريمات- يدور حول محاور ثلاثة:

أولها: المرأة أم:

إنك على مدى التاريخ القريب والبعيد لابد أن تري أسماء لامعة كتبت في صفحات بيضاء ناصعة في تاريخ أمتها، وتلك الأسماء -القائدة والمجاهدة والعالمة والمصلحة- أياً كان موقعها لابد أنه كان وراء كل منهما امرأة صالحة أعدت هؤلاء حتى صاروا إلى ما صاروا إليه، وهذا الأمر ليس حكراً على المسلمين، بل حتى سائر الأمم -الصادقون منهم- يعترفون بدور المرأة في ذلك.

حين هنئ لنكولن أحد الزعماء الأمريكان قال: لا تهنئوني وهنئوا أمي؛ فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا.

ولسنا بحاجة إلى أن نستعرض سيرة هذا الرجل وأشباهه؛ فأمامنا صفحات واسعة قد لا نستطيع أن نأتي على جزء يسير منها في هذا اللقاء، أمامنا صفحات واسعة من تاريخ أمتنا، من أولئك النساء اللاتي كان لهن دور في إعداد الرجال على مدى تاريخ هذه الأمة الطويل.

فها هي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تقبل حين استشهد حمزة رضي الله عنه؛ لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فيقول صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير : (دونك أمك فامنعها)، وأكبر همه صلى الله عليه وسلم ألا يجد بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: دونك لا أم لك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها بذلك، فقال: (خل سبيلها)، فأتت إلى صفوف الناس، حتى أتت إلى أخيها، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، وقالت لابنها: قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله!

وحين كان لـعبد الله بن الزبير ما كان دخل على أمه، فقال: يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من نهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟

فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير ! والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل!

فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله.

وحين قتل رضي الله عنه دخل ابن عمر المسجد فأبصره مطروحاً قبل أن يصلب، فقيل له: هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل، فقالت له أسماء رضي الله عنها: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

واسمعي إلى ما قالته للحجاج حين قتل ابن الزبير ، دخل عليها فقال لها: يا أمه! إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكني أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد رأيناه -تعني المختار - وأما المبير فأنت. فقال لها: مبير المنافقين.

وفي رواية عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث، وهو مصلوب، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج : أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟! قالت: والله ما كان منافقاً، كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت! قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في ثقيف كذاب ومبير) الحديث.

إن تلك الروح العالية التي كانت لدى أسماء رضي الله عنها هي التي صنعت الاستبسال والشجاعة في ابن الزبير رضي الله عنه.

ويحتاج المصلحون الذين يدفعون أرواحهم وحياتهم وما لديهم ثمناً لدعوتهم وعقيدتهم، وترخص عندهم الأمور في سبيل الله سبحانه وتعالى، يحتاجون إلى مثل هذه الأم التي تدفعهم إلى ميدان البطولة، تدفعهم إلى ميدان الاستشهاد، تدفعهم إلى ميدان تحمل ضريبة كلمة الحق، وضريبة الموقف الحق حين يشعر صاحبه أنه إنما عمل لله، وأنه إنما قام لله، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذه الأم.

بعيداً عن تلك الأم التي تخدر، والتي تخاف على ابنها من مصائب الدنيا، وها هي هند بنت عتبة رضي الله عنها أم معاوية بن أبي سفيان كان يفتخر بها إذا افتخر فيقول: أنا ابن أمي هند .

وأيضاً من النساء اللاتي سطر لهن التاريخ صفحة سامقة عالية في ميدان الأمومة لأولئك الرجال الصادقين أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، هي أم عبد الله بن زيد الأنصاري الذي وصف حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وروي أنه قتل مسيلمة ، وأم حبيب بن زيد الذي قابل مسيلمة في القصة المشهورة حين قطع مسيلمة -عليه من الله ما يستحق- أعضاءه قطعة قطعة، وهو يرفض أن يجيبه إلى ما يدعو.

ولها مواقف مشهورة مشهودة في التاريخ ليس هذا وقت الحديث عنها، إنما نحن نحكي عن أم عمارة نسيبة رضي الله عنها جانب الأمومة، وكيف خرجت أولئك الأبناء.

وأم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي أم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان لها دور في تربيته وإصلاحه.

وأمير المؤمنين في الأندلس عبد الرحمن الناصر حكم خمسين سنة وستة أشهر، ووطئت أقدام جيوشه بلاد فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، الذي أزعج أوروبا، قتل أبوه وعمره واحد وعشرون يوماً فانفردت أمه بتربيته، فكان هذا الرجل من نتاجها.

وفي ميدان العلم والفقه نرى أيضاً أن الأمهات كان لهن دور بارز في إعداد الرجال، سفيان الثوري الإمام الفقيه المحدث الذي قال فيه الأوزاعي : لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان .

سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة، روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لـسفيان : يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم.

وقالت له توصيه: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.

والإمام الفقيه الثبت إمام أهل الشام وفقيههم أبو عمرو الأوزاعي الذي قال فيه بقية : إنا لنمتحن الناس بـالأوزاعي ، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة.

كان يتيماً فقيراً في حجر أمه، فنقلته من بلد إلى بلد، حتى تعلم وبلغ مرتبة الإمامة والفقه.

والإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن قصته مع أبيه مشهورة رواها ابن خلكان ، وذلك أن أباه فروخ فارق أمه وهي حامل به، وترك عندها ثلاثين ألف ديناراً، وأوصاها بحملها خيراً، ففارقها إلى ميدان الجهاد، وغاب هناك سنوات طويلة، فعاد بعد أكثر من ثلاثين سنة، عاد ليطرق بيته فخرج إليه ابنه ربيعة ، فقال له: كيف تهجم على بيتي وأهلي؟! فقال له: كيف أنت تدخل بيتي؟ فعلت أصواتهما، وارتفعت خصومتهما، حتى جاء الإمام مالك واللجج والخصومة بينهما، فقال: أنا صاحب هذا البيت أنا فروخ ، فسمعت أم ربيعة صوته وسمعت كلامه فعرفت أنه زوجها، فنادته وقالت: هذا ولدك فتعانقا.

ثم سألها عن المال الذي أودعها إياه، فقالت: إني دفنته واختبأته، ونام ثم لما استيقظ قالت له: اذهب واشهد صلاة الفجر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب ورأى رجلاً قد اجتمع حوله أفواج من الناس يستمعون إليه فسأل وهو مطرق رأسه خجلاً منه، فإذا هو ابنه ربيعة ، فعاد إلى زوجه فوصف لها ما وصف، فقالت: أيسرك هذا أم الدنانير؟ قال: والله! هذا أحب إلي، فأخبرته أنها أنفقتها في تعليمه.

لقد كان وراء الإمام ربيعة رحمه الله تلك الأم التي ربته وتعاهدته حتى بلغ ما بلغ.

والإمام مالك أيضاً الذي درس على ربيعة قال لأمه: أذهب فأكتب العلم. فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، قال: فألبستني وعممتني، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.

والإمام الشافعي الإمام الفقيه المجدد، مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وتنقلت به من غزة مهبطه إلى مكة مستقر أخواله، وكانت من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة.

وحصلت لها قصة مشهورة عند أحد قضاة مكة، ذلك أنها شهدت هي وأم بشر فأجاز شهادتهما فذكرته بقول الله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].

والمهدي الخليفة العباسي الذي كان يلقب بقصاب الزنادقة وعدو الزنادقة أجمع المؤرخون أنه نتاج تربية أمه الخيزران التي أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي .

ولله در القائل:

وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة

وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2591 استماع
الشباب والاهتمامات 2466 استماع
وقف لله 2328 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2263 استماع
كلانا على الخير 2242 استماع
يا أهل القرآن 2192 استماع
يا فتاة 2187 استماع
الطاقة المعطلة 2122 استماع
علم لا ينفع 2091 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2086 استماع