هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين


الحلقة مفرغة

مطالبة الذين اتخذوا من دون الله آلهة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فموضوع حديثنا هذه الليلة: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

ولعلنا نقف وقفات قد تطول حول آيات طويلة من كتاب الله عز وجل تؤيد هذا المعنى، وهي تطالب الناس جميعاً بأن يكون منطق الحجة والبرهان ولغة الدليل هي السائدة في الدعوى، فلا سيدعي أحد دعوى إلا بدليل وبرهان وحجة، وفي النقاش والحوار يكون النقاش والحوار أيضاً للحجة والبرهان، وحين حاولت أن أورد بعض الآيات في كتاب الله عز وجل رأيت آيات كثيرة جداً تشير إلى هذا المعنى، وهذا لعمق هذه القضية، ولكونها قضية مرتبطة بالمنهج، بالتلقي والحوار، والدعوة والإقناع.. كل هذه القضايا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمنطق البرهان والدليل والحجة.

وسبق أن تحدثنا حول المنهج وأهميته، وحول بعض جوانب الخلل في المنهج، وأننا بحاجة إلى أن نترسم ضوابط ومعالم للمنهج.

إن وقوعنا في خطأ في قضية جزئية واحدة أمر قد يتجاوز، ثم هو أمر قد تكون تبعته ليست ذات بأس، أما أن يكون الخلل والخطأ في المنهج فإن هذا مدعاة لتوالد الأخطاء، ومدعاة لتكاثرها وتعاظمها، ومن هنا كان لا بد من الحديث عن المنهج، والحديث عن المنهج أيضاً ينبغي أن يكون مربوطاً بما سبق أن قلناه سابقاً، فليس ما نعيشه ونتوهمه ونتلقاه هو بالضرورة المنهج الذي نرسم من خلاله ما نراه من اقتناعات ومناهج، والذي نقيس من خلاله الناس ونجعله كالمسطرة التي نقيس بها بعد الناس ودنوهم من المنهج.

القرآن يطالب بالبرهان ويطالب بالدليل، وأن يكون منطق الناس ورائدهم هو البرهان والدليل، وهذا الأمر نراه في كتاب الله عز وجل كثير، يتمثل من خلال أمور وجوانب عدة:

الأمر الأول: المطالبة بالحجة والبرهان عند الدعوى.

وهذا نجده في كتاب الله عز وجل كثيراً، بل مع فئات لا يشك أحد في بطلان دعواهم وأنها لا تعدو أن تكون دعوى صادرة عن الهوى والتشهي، وعارية عن الدليل والحجة، ومع ذلك يطالبهم الله سبحانه وتعالى بالبرهان.

أولاً: قد طلب الذين اتخذوا من دونه سبحانه وتعالى آلهة -وهل يشك عاقل في بطلان هذه الدعوى- طالبهم سبحانه وتعالى بالبرهان: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64].

وفي سورة المؤمنون يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117] ومن يشك في بطلان ألوهية غير الله؟ ومن قد يختلج لديه شك في أن الله سبحانه وتعالى الرزاق الخالق هو الواحد الأحد المستحق للعبادة؟ لكن من ادعى خلاف ذلك فليأت بالبرهان والدليل والحجة، والذي معه الحق ويملك الحق لا يخشى بحال من مطالبة الناس بالدليل، ولا يخشى مطالبة الناس بالبرهان.

إنك تستطيع أن تطرح أي قضية على بساط البحث بكل وضوح وكل صراحة، وتستطيع أن تتحدى كل من يعارضك ويناقشك في هذه القضية التي تدعو الناس إليها، ولو كانت قضية بدهية، ولو كانت أكبر قضية من القضايا، هل هناك قضية أوضح وأجلى من قضية تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، ومع ذلك يطالب الله عز وجل أولئك الذين تنكبوا الطريق وعارضوا بالبرهان.

وهكذا شأن من يحمل الحق، إن من يحمل الحق لا يخشى من الحوار، لا يخشى من النقاش، لا يخشى من الجدل؛ لأنه يملك الحق الذي لا لبس فيه ولا غموض، فما دام لديه برهان فليطالب الناس بالبرهان والحجة.

مطالبة الذين ادعوا لله الولد

ثانياً: طالب الله الذين اتخذوا الولد معه سبحانه وتعالى، مع شناعة هذه القضية: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:88-94] ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يونس:68].

وفي سورة الصافات: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:151-157].

وفي سورة الكهف يقول سبحانه وتعالى: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:4-5].

مطالبة الذين جعلوا الملائكة إناثاً

مطالبة الذين جادلوا في آيات الله

رابعاً: أيضاً طالب الله عز وجل بالبرهان والحجة والدليل أولئك الذين جادلوا في آيات الله عز وجل، ففي سورة غافر: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر:35] إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56].

وفي سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8].

وفي سورة لقمان يقول سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان:20]، ولفظة العلم ترادف في كتاب الله عز وجل البرهان والحجة والدليل، إن العلم في شريعتنا ليست قضية لا يدركها إلا خاصة من الناس، قد يسوغ هذا الأمر عند النصارى الذين يرون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في فهم الكتاب المقدس، وفي تفسيره، وبيان مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا الأمر سائغاً عند أولئك الذين يجعلون لهم أئمة عدد شهور العام هم وحدهم المؤهلون لمعرفة الدين، وهم وحدهم الذين يفهمون مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا سائغاً عند أهل الخرافة الذين يرون أن التلميذ ينبغي أن يكون عند شيخه كالميت عند مغسله يقلبه كيف شاء، أما المسلمون فهم يقرءون في كتاب الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]، ومن يقول إن هذه الآيات يخاطب بها اثنا عشر إماماً، أو تخاطب بها فئة خاصة من الناس، فليأت بالبرهان والحجة والدليل.

إذاً: فقضية العلم ونفي العلم ونفي البرهان كلها تدور حول قضية الدليل، ولهذا قال أهل العلم: إن المقلد الذي يأخذ الحكم دون دليل ليس طالب علم.

والعلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد مستويان

مطالبة الذين ساووا بين المسلمين والمجرمين

مطالبة اليهود والنصارى فيما ادعوا على الله

سادساً: طالب الله عز وجل بالبرهان إخوان القردة اليهود والنصارى، وقد اعتاد الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم أن أولئك لا يعرفون منطق الدليل ولا البرهان والحجة، أولئك لا يحسبون لكلماتهم أي حساب، فهم إما قوم مغضوب عليهم قد لعنهم الله عز وجل وطبع على قلوبهم، أو قوم ضالون، فاليهود قوم قد غضب الله عز وجل عليهم وطبع على قلوبهم، وصاروا لا يحسبون لكلمتهم حساباً، أليسوا هم القائلون: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]؟ تعالى الله عما يقولون، أليسوا هم القائلون أخزاهم الله: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]؟ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] يلعنهم الله عز وجل في كتابه لعنات متتابعة إلى يوم القيامة، ومع سخف مقالتهم وشناعتها وسخف مقالة إخوانهم من الضالين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، هم أولئك الذين أعاروا عقولهم لطغاة الرهبنة والقساوسة حتى يفكروا بالنيابة عنهم، وحتى يفهموا الكتاب المقدس بالنيابة عنهم، وحتى يمسخوا عقولهم ويقولون: ليس لكم حق في فهم كتاب الله عز وجل، مع ذلك يدعي اليهود والنصارى دعوى عريضة مضحكة: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، فيجادلهم الله بالقرآن، يجادلهم بالحجة والبرهان والدليل، يقول الله سبحانه وتعالى حاكياً مقالتهم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

نعم إن كان لديكم دليل أو حجة أو برهان فهاتوا برهانكم، وهاتوا دليلكم.

وكل ما سبق من المطالبة بالدليل والبرهان، من مطالبة الذين اتخذوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، ومن مطالبة الذين اتخذوا الولد مع الله سبحانه وتعالى ونسبوا إليه الولد، ومن مطالبة الذين جعلوا الملائكة وهم عباد الرحمن إناثاً، ومن مطالبة المجادلين في آيات الله سبحانه وتعالى بغير علم، ومن مطالبة أولئك الذين ادّعوا التسوية في الدار الآخرة بين المؤمنين والكفار، وأخيراً مطالبة اليهود والنصارى بالدليل والبرهان على دعواهم أنهم وحدهم الذين يدخلون الجنة..

إن كل ما سبق يعطينا دلالة أنه لا يحق لأحد أن يدّعي دعوى إلا ببرهان وحجة وسلطان مبين، وأيضاً أنه لا يحق لامرئ أن يجادل أو يناقش، أو يُبطل دعوى أخرى إلا بالبرهان والحجة والسلطان.

ويتنوع الحديث عن الدليل في القرآن، فتارة يأتي بالبرهان، وتارة بالحجة، وتارة بالسلطان، وتارة بالعلم..، وكلها معان لها أثر ولها وقع في بيان مصدر التلقي، والحجة، والدليل، والجدل، والحوار..، كله إنما ينبغي أن يكون بلغة الدليل والحجة والبرهان، والكتاب، والعلم، والسلطان.. وهي كلها معان تدور حول معنى الحجة وبعيداً عن العاطفة، بعيداً عن الأحكام المسبقة، بعيداً عما سماه الله عز وجل أماني ودعاوى كاذبة.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فموضوع حديثنا هذه الليلة: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

ولعلنا نقف وقفات قد تطول حول آيات طويلة من كتاب الله عز وجل تؤيد هذا المعنى، وهي تطالب الناس جميعاً بأن يكون منطق الحجة والبرهان ولغة الدليل هي السائدة في الدعوى، فلا سيدعي أحد دعوى إلا بدليل وبرهان وحجة، وفي النقاش والحوار يكون النقاش والحوار أيضاً للحجة والبرهان، وحين حاولت أن أورد بعض الآيات في كتاب الله عز وجل رأيت آيات كثيرة جداً تشير إلى هذا المعنى، وهذا لعمق هذه القضية، ولكونها قضية مرتبطة بالمنهج، بالتلقي والحوار، والدعوة والإقناع.. كل هذه القضايا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمنطق البرهان والدليل والحجة.

وسبق أن تحدثنا حول المنهج وأهميته، وحول بعض جوانب الخلل في المنهج، وأننا بحاجة إلى أن نترسم ضوابط ومعالم للمنهج.

إن وقوعنا في خطأ في قضية جزئية واحدة أمر قد يتجاوز، ثم هو أمر قد تكون تبعته ليست ذات بأس، أما أن يكون الخلل والخطأ في المنهج فإن هذا مدعاة لتوالد الأخطاء، ومدعاة لتكاثرها وتعاظمها، ومن هنا كان لا بد من الحديث عن المنهج، والحديث عن المنهج أيضاً ينبغي أن يكون مربوطاً بما سبق أن قلناه سابقاً، فليس ما نعيشه ونتوهمه ونتلقاه هو بالضرورة المنهج الذي نرسم من خلاله ما نراه من اقتناعات ومناهج، والذي نقيس من خلاله الناس ونجعله كالمسطرة التي نقيس بها بعد الناس ودنوهم من المنهج.

القرآن يطالب بالبرهان ويطالب بالدليل، وأن يكون منطق الناس ورائدهم هو البرهان والدليل، وهذا الأمر نراه في كتاب الله عز وجل كثير، يتمثل من خلال أمور وجوانب عدة:

الأمر الأول: المطالبة بالحجة والبرهان عند الدعوى.

وهذا نجده في كتاب الله عز وجل كثيراً، بل مع فئات لا يشك أحد في بطلان دعواهم وأنها لا تعدو أن تكون دعوى صادرة عن الهوى والتشهي، وعارية عن الدليل والحجة، ومع ذلك يطالبهم الله سبحانه وتعالى بالبرهان.

أولاً: قد طلب الذين اتخذوا من دونه سبحانه وتعالى آلهة -وهل يشك عاقل في بطلان هذه الدعوى- طالبهم سبحانه وتعالى بالبرهان: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64].

وفي سورة المؤمنون يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117] ومن يشك في بطلان ألوهية غير الله؟ ومن قد يختلج لديه شك في أن الله سبحانه وتعالى الرزاق الخالق هو الواحد الأحد المستحق للعبادة؟ لكن من ادعى خلاف ذلك فليأت بالبرهان والدليل والحجة، والذي معه الحق ويملك الحق لا يخشى بحال من مطالبة الناس بالدليل، ولا يخشى مطالبة الناس بالبرهان.

إنك تستطيع أن تطرح أي قضية على بساط البحث بكل وضوح وكل صراحة، وتستطيع أن تتحدى كل من يعارضك ويناقشك في هذه القضية التي تدعو الناس إليها، ولو كانت قضية بدهية، ولو كانت أكبر قضية من القضايا، هل هناك قضية أوضح وأجلى من قضية تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، ومع ذلك يطالب الله عز وجل أولئك الذين تنكبوا الطريق وعارضوا بالبرهان.

وهكذا شأن من يحمل الحق، إن من يحمل الحق لا يخشى من الحوار، لا يخشى من النقاش، لا يخشى من الجدل؛ لأنه يملك الحق الذي لا لبس فيه ولا غموض، فما دام لديه برهان فليطالب الناس بالبرهان والحجة.

ثانياً: طالب الله الذين اتخذوا الولد معه سبحانه وتعالى، مع شناعة هذه القضية: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:88-94] ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يونس:68].

وفي سورة الصافات: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:151-157].

وفي سورة الكهف يقول سبحانه وتعالى: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:4-5].

رابعاً: أيضاً طالب الله عز وجل بالبرهان والحجة والدليل أولئك الذين جادلوا في آيات الله عز وجل، ففي سورة غافر: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر:35] إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56].

وفي سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8].

وفي سورة لقمان يقول سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان:20]، ولفظة العلم ترادف في كتاب الله عز وجل البرهان والحجة والدليل، إن العلم في شريعتنا ليست قضية لا يدركها إلا خاصة من الناس، قد يسوغ هذا الأمر عند النصارى الذين يرون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في فهم الكتاب المقدس، وفي تفسيره، وبيان مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا الأمر سائغاً عند أولئك الذين يجعلون لهم أئمة عدد شهور العام هم وحدهم المؤهلون لمعرفة الدين، وهم وحدهم الذين يفهمون مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا سائغاً عند أهل الخرافة الذين يرون أن التلميذ ينبغي أن يكون عند شيخه كالميت عند مغسله يقلبه كيف شاء، أما المسلمون فهم يقرءون في كتاب الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]، ومن يقول إن هذه الآيات يخاطب بها اثنا عشر إماماً، أو تخاطب بها فئة خاصة من الناس، فليأت بالبرهان والحجة والدليل.

إذاً: فقضية العلم ونفي العلم ونفي البرهان كلها تدور حول قضية الدليل، ولهذا قال أهل العلم: إن المقلد الذي يأخذ الحكم دون دليل ليس طالب علم.

والعلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد مستويان


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2589 استماع
الشباب والاهتمامات 2464 استماع
وقف لله 2325 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2257 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
كلانا على الخير 2189 استماع
يا فتاة 2183 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2087 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2084 استماع