أرشيف المقالات

اسم الله التواب: تأصيلا وفقها

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
اسم الله التواب
تأصيلًا وفقهًا


"التواب" من أسماء الله الجليلة التي يُعتبَر التعبُّد بها توفيقًا من الله تعالى لمن أحَبَّهم من عباده، وسبيلًا لتحقيق التوازُن الرُّوحي، والاستقرار النفسي في حياة مَنِ اصطفاهم للأوْبة إليه، والرجوع إلى دينه، اسم يُدخِل السُّرورَ على عباد الله، ويطرُد اليأسَ من رحمة الله.
 
لقد دار اسم الله "التواب" في كتاب الله إحدى عشرة مرة، قُرِنَ في تسع منها باسم الله "الرحيم"؛ منها قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64].
 
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:






وكذلك التَّوَّابُ مِن أوْصافِه
والتَّوْبُ في أوْصافه نوعانِ


إذْنٌ بتوبةِ عَبْدِهِ وقَبُولها
بَعْدَ المتابِ بمنَّةِ المنَّانِ






 
ولا شَكَّ أن الإنسان خُلِقَ ضعيفًا، مُعَرَّضًا لفتن الدنيا ومُغْرياتها، قد تغلبُه نفسُه، ويستحوذ عليه هواه، فيقع في المعصية؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
 
بل الذنب والخطأ من طَبْع الإنسان، وبهما يعلم أنَّ له ربًّا يحِبُّ توبة عبده ويفرح بها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((للَّـهُ أشَدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتَتْ منه، وعليها طَعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضطجَع في ظِلِّها، قد أَيِسَ مِن راحلته، فبينا هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال مِن شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّكَ، أخطأَ مِن شدة الفرح))؛ متفق عليه.
 
بل الإذناب من لوازم هذا الإنسان الخطَّاء، الذي جعل الاستغفار له ملاذًا، والتوبة للخالق طهارة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تُذنِبُوا، لذهب الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يُذنِبُون، فيستغفرون الله، فيغفِر لهم))؛ مسلم، و((كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون))؛ صحيح سنن الترمذي.
 
ومن جميل رِفْق الله عز وجل بنا أنَّه لا يُؤاخِذنا بذُنُوبنا، إذًا لهلكنا جميعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45]، ولكنه لُطف الله بعباده، ورحمته بضَعفهم، وإقرار بنقصهم.
ولَسْتُ بِمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّهُ *** على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ؟
 
وفي ذلك من تسلية المذنبين، والرِّفْق بالخاطئين، وفَسْح الأمل أمام المتجاوزين - ما يحمِلُهم على الرجوع إلى ربِّهم، والتوبة إليه من ذنوبهم، ولو مع تَكرار الوقوع فيها، والضَّعف أمام سُلْطانها، شريطة عدم الإصرار وتعمُّد الاقتراف؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
 
ومن عظيم البشارات في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن عَبْدًا أصابَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ أذنبْتُ، فاغفِرْ لي، فقال ربُّه: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكَث ما شاء الله، ثم أصابَ ذنبًا، فقال: ربِّ، أذنبْتُ آخَر، فاغفِرْه، فقال: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكَث ما شاء الله، ثم أذنبَ ذنبًا، قال: ربِّ، أذنبْتُ آخَر، فاغفرْهُ لي، فقال: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، فَلْيَعْمَلْ ما شاء))؛ متفق عليه.
 
قال ابن رجب رحمه الله: ((فَلْيَعْمَل ما شاء))؛ يعني: ما دام على هذه الحال، كلما أذنب ذنبًا استغفَر منه.
 
وقيل للحَسَن رحمه الله: ألا يستحيي أحدُنا من ربِّه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود؟ فقال: "ودَّ الشيطان لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تَملُّوا من الاستغفار".
 
ونقل صاحب (الحلية) عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أنه قال: "أيُّها الناس، مَنْ ألمَّ بذنبٍ فليستغفِرِ اللهَ وليتُبْ، فإن عاد فليستغفِرِ اللهَ وليَتُبْ، فإن عاد فليستغفِرِ اللهَ وليَتُبْ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقةٌ في أعناق الرجال، وإن الهلاك كلَّ الهلاك في الإصرار عليها".
 
ومِن لُطف الله تعالى بنا أن جعل رحمتَه تَسَعُ كلَّ شيء، فأوصانا بالتمسُّك بها، وعدم القُنُوط منها، مهما عظُمَت الذنوب، وتراكمَت الخطايا؛ فقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
 
ولا شَكَّ أن التوبة مُطهِّرةٌ للنفوس من الأكدار، وداعيةٌ القلوبَ إلى الانشراح والاستبشار؛ قال ابن القيم رحمه الله: "أمَّا تأثير الاستغفار في دَفْعِ الهمِّ والغَمِّ والضِّيْق، فمِمَّا اشترك في العلم به أهلُ الملَلِ وعُقلاءُ كلِّ أُمَّة أن المعاصي والفساد تُوجِب الهمَّ والغَمَّ وضِيقَ الصَّدْر، ولا دواء لها إلا بالتوبة".
 
وقال الشعبي رحمه الله: "التائبُ من الذَّنْب كمَنْ لا ذَنْبَ له".
 
بل إن من العجب أن التوبة لا ترفَعُ الذنب فقط؛ بل تُحِيلُه إلى حسناتٍ مُضاعفةٍ، وأُجورٍ مُتكاثرةٍ؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
 
ومن رائق الوقائع أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت رجلًا عمل الذنوب كُلَّها، فلم يترُكُ منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترُكْ حاجَةً ولا داجَةً إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال: ((فهل أسلمْتَ؟))، قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، قال: ((نَعَم، تفعل الخيرات، وتترُك السيئات، فيجعلهن الله لك خيراتٍ كُلَّهُنَّ))، قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟ قال: ((نعم))، قال: الله أكبر، فما زال يُكبِّر حتى توارى))؛ صحيح الترغيب.
 






يا نفْسُ تُوبي فإنَّ الموتَ قد حانا
واعْصي الهوى فالهوى ما زال فتَّانا


أما تريْنَ المنايا كيف تَلقُطُنا
لَقْطًا وتُلْحِقُ أُخْرانا بأُولانا


في كُلِّ يومٍ لنا مَيْتٌ نُشِيِّعُه
نرى بمصْرَعِهِ آثارَ مَوْتانا






 
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمَ التوَّابين، وسيِّد الآيبين؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إنِّي لأستغفر الله وأتُوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرةً))؛ البخاري.
 
وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها الناس، تُوبُوا إلى الله، فإني أتوبُ في اليوم إليه مائة مرة)).
ومن جميل قول أحد الحكماء: "حرفة العارف ستة أشياء: إذا ذكر الله افتخَر، وإذا ذكر نفسَه احتقر، وإذا نظَر في آيات الله اعتبر، وإذا هَمَّ بمعصية أو شهوة انزجَر، وإذا ذكر عفْوَ الله استبشر، وإذا ذكر ذنوبَه استغفر".
 
وقد جعل العلماء للتوبة الصحيحة خمسة شروط:
1- أن تكون خالصةً لله، دافعَها التقرُّب إلى الله، والخوف من عقابه، والطَّمَع في عَفْوِه ورِضاه.
2- الإقلاع عن المعصية وتركها فورًا؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17].







بادِرْ إلى التَّوبةِ في وَقْتِها
فالمرْءُ مَرْهُونٌ بما قَدْ جَناهْ


وانتهِز الفرصةَ إن أمكنت
ما فاز بالكَرم سوى مَنْ جَناهْ






 
3- الندم على المعصية، والحزن على ارتكابها، حزنًا يُوجِب الانكسار بين يدي الله، والتذلُّل له؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الندم توبةٌ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.
 
4- العزم على عدم الرجوع إليها؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]: "هو الرجل يعمل الذنب ثم لا يعود إليه".
 
5- صدروها في زمن قبولها، وهو قبل أن تبلغ الرُّوح الحلقوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ))؛ صحيح سنن الترمذي، وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تابَ قبلَ أن تطلُعَ الشمسُ من مغربها، تاب الله عليه))؛ مسلم.
 
قال بعض الحكماء: "إنما تعرف توبة الرجل في أربعة أشياء: أن يمسكَ لسانَه من الفُضُول والغِيبة والكذب، ألَّا يرى لأحد في قلبه حَسَدًا ولا عداوةً، أن يفارق أصحابَ السُّوء، أن يكون مستعدًّا للموت، نادمًا مستغفرًا لما سلف من ذُنُوبه، مجتهدًا في طاعة ربِّه".
 






عُد للصَّواب وقَبْلَ الفوت يعقبُنا
وقبل أن نلتقي موتًا بلا حينِ


إنَّ الإلهَ إذا ما قُمْتَ مُكْتَئِبًا
حُزْنًا على الذَّنْبِ يرضى دَمعة العينِ


وتوبةُ العبدِ مِن عِصيانه زمنًا
تُرْسي الذُّنُوب إلى حُسْنى وتَحسينِ






 
أما فقه هذا الاسم الجليل، فيُوقِفنا على جملة دروس؛ منها:
1- إنما تمام التوبة بردِّ المظالم إلى أصحابها، إذا كان الذَّنْب في حقِّ الآدميين، قال أبو بكر الرقاق: "التوبة النصوح، هي ردُّ المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات"، فالمعصية في جنْب الله تُمحى بالتوبة والاستغفار، أما إذا كانت متعلِّقة بحقوق الآدميين؛ كالغِيبة، أو الاتِّهام بالباطل، فلا تبرأ الذمَّة منها إلا بإعلام المغتاب أو المتهم بذلك، واستحلاله ممَّا جناه في حقِّه، وأن يعود إلى مواطن غِيبته واتهامه، فيذكره بالخير، ويُكثِر من بيان محاسنه والثناء عليه.
 
وإذا كانت الجناية أخذَ مالٍ، أو غصْب أرض، أو سرقة متاعٍ، فلا تتمُّ التوبة إلا بردِّ ذلك لصاحبه، والاعتذار منه؛ لأن المجني عليه سيُطالب بحقوقه يوم القيامة كاملة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كانت له مَظْلمةٌ لأحدٍ مِن عِرضه أو شيء، فليتحلَّلْه منه اليوم، قبل ألَّا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدر مَظْلمتِه، وإن لم تكن له حسناتٌ، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه))؛ البخاري.
 
2- ليتحقَّق التائبُ من صحَّة توبته، لا بُدَّ أن يُحِسَّ بالندم على المعصية يعتصِرُ قلبَه، وبنفسه تنكسِر لمولاها على تجاوُز حدوده، وعدم استحضار عظمته، وهي التوبة النصوح؛ أي: الخالصة.
 
وقد وصفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: "أن تذيب نفسَك في طاعة الله كما ربَّيْتها في المعصية، وأن تُذِيقَها مرارةَ الطاعة كما أذَقْتَها حلاوةَ المعصية".
 
وقال فيها سعيد بن المسيب رحمه الله: "التوبة النصوح: توبة تنصحون بها أنفسكم".

وقال فيها محمد بن كعب القرظي رحمه الله: "التوبة النصوح تجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللِّسان، والإقلاع بالأبدان، وإظهار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الخلَّان".

وقال فيها رويم الراعي رحمه الله: "هي أن تكون لله وجْهًا بلا قفًا، كما كنتَ له عند المعصية قفًا بلا وجهٍ".

وسُمِّيَتْ نصوحًا أيضًا لما فيها من نُصْح المسلمين ممَّا تاب الله عليك منه، قال السدي رحمه الله: "لا تصحُّ التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحَّت توبتُه، أحَبَّ أن يكون الناسُ مثلَه".
 
3- ومن فقه اسم الله: "التَّوَّاب"، الهرع إلى الله عند نزول المصائب، وحلول الكوارث؛ من زلازلَ، وفيضانات، وأمراض، وحروب وغيرها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 42، 43].
 
وقد ثبت عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أنه لما وقع الزلزال في زمانه، كتب إلى عُمَّاله في البلدان، وحثَّهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله، والضراعة إليه، والاستغفار من ذنوبهم.
 
بل إن دعاء الله تعالى باستحضار الندم على الذنوب والمعاصي سبيلٌ لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فإنه لم يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيء قطُّ، إلَّا استجاب الله له))؛ صحيح سنن الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كَرْبٌ أو بَلاءٌ من بلايا الدنيا، دعا به يُفَرَّج عنه؟))، فقيل له: بلى، فقال: ((دعاء ذي النون: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]))؛ صحيح الجامع.
 
4- تكرار التوبة حينًا بعد حين، وعدم اعتقاد أن الإقلاع عن المعصية ينهي التوبة منها؛ فالله تعالى وجَّه الأمر بها إلى المؤمنين قبل غيرهم، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو النبي المصطفى يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، فكما أن الأغسال تتكرَّر لإزالة الأوساخ، فكذلك التوبة تتكرَّر لإزالة آثار الذنوب من القلوب، وعلاج الأخطاء المرتكبة بقصد وبغير قصد؛ ولذلك قُرِنَت التوبة بالطهارة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].
 
وتكرار التوبة دليلٌ على يقظة تشمير أولي الألباب الذين أيقنوا أن الموت بالأبواب، وأن الأجل في كتاب.
 






ما زال يلهَج بالرحيلِ وذِكْرِهِ
حتَّى أناخَ ببابه الجمَّالُ


فأصابَه مُتيقِّظًا مُتشمِّرًا
ذا أُهْبةٍ لم تُلْهِهِ الآمالُ






 
وما أهلك كثيرًا من العصاة إلَّا الغفلة عن التوبة، والركون إلى متع الحياة وشهواتها، حتى تصلَّب حِسُّهم، وقَسَتْ قلوبُهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18].
بل منا من يرى الجنائز كلَّ يوم، ويزور المقابر كلَّ يوم، ويفقد أحِبَّته كل يوم، ومع ذلك لا يرعوي، ولا يعود بالندم على ذنوبه، والبكاء على خطيئته.
 






تُروِّعُنا الجنائزُ مُقْبِلاتٍ
فنلهُو حين تذْهَبُ مُدْبِرات


كروعة ثلَّة لِمُغار ذئبٍ
فلمَّا غابَ عادَتْ راتِعات






 
5- عدم اليأس من التوبة، مهما عظُمت المعصية، واشتدَّت الخطيئة، فالله كريم جوَاد، رحيم توَّاب على من ندم وتاب، وأيقن أن إلى ربِّه الرجوع والمآب.
ولأنْتَ تَوَّابٌ ودَوْمًـا لم تَزَل *** غفَّار معصية الغويِّ إذا ندِم
 
ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئةٌ مثلها أو أغفر، ومَنْ تقرَّبَ منِّي شِبْرًا، تقرَّبْتُ منه ذِراعًا، ومَنْ تقرَّبَ منِّي ذراعًا، تقَّربْتُ منه باعًا، ومَنْ أتاني يمشي، أتيتُه هرولةً، ومن لقِيني بقُراب الأرض (ما يقارب ملأها) خطيئةً لا يُشرِك بي شيئًا، لقيتُه بمثلها مغفرةً)).






ولَمَّا قَسا قَلْبي وضَاقَتْ مذاهبي
جَعَلْتُ الرَّجا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّما


تعاظَمَني ذنبي فلَمَّا قَرَنْتُهُ
بعَفْوِكَ ربِّي كان عَفْوُكَ أعْظَما


فمَا زِلْتَ ذا عَفْوٍ عن الذَّنْبِ لم تزَلْ
تجُودُ وتعفو مِنَّةً وتكَرُّما






 
كان الفضيل بن عياض رحمه الله شاطرًا يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجُدْران إليها، إذ سمِع تاليًا يتلو: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]، فلما سمِعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سائل، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلًا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تُبْتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورةَ البيت الحرام.

ومن القصص المعاصرة الحقيقية: ما رواه أحد الصالحين، قال: كنتُ أمشي في سيارتي بجانب السوق، فإذا شابٌّ يعاكس فتاةً، فتردَّدْتُ هل أنصحه أم لا؟ ثم عزمْتُ على أن أنصحَه، فلما نزلتُ من السيارة، هربَتِ الفتاةُ، وخاف الشابُّ، وتوقَّع أنني من لجنة المتابعة أو من الشرطة، فسلمْتُ عليه، وقلت له: إنما أنا أخٌ أحببْتُ لك الخير، فأحببْتُ أن أنصحَكَ، وبدأتُ أُذكِّره بالله حتى ذَرَفَتْ عيناه، ثم تفرَّقنا، وقد أخذْتُ رقم هاتفَه، وأخذ رقم هاتفي، وبعد أسبوعين، اتصلتُ عليه، وفرح كثيرًا لما سمِع صوتي، وضربْتُ معه موعدًا أزوره بعد العصر، فجاءني ضيوفٌ، وتأخَّرْتُ عنه قرابة الساعة، وعندما طرقْتُ الباب فتح لي والدُه، فسلَّمْتُ عليه، وقلتُ: فلانٌ موجودٌ؟ فأخذ ينظر إليَّ بعينين دامعتين، وقال: يا ولدي، لقد دفنَّاه قبل قليل، بعد أن صلَّى الظهر، ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن، وعاد إلى البيت، ونام القيلولة، فلمَّا أردْنا إيقاظَه للغداء، فإذا رُوحُه قد فاضَتْ إلى الله.
 






فيا عبدًا يَضِيقُ بكُلِّ إثْمٍ
ويرجُو اللهَ تسديدًا خُطاه


تقدَّمْ نحْوَ بابِ اللهِ تظْفَرْ
بتِرْحابٍ تُردِّدُه سَماه


كريمٌ لا يُخيِّبُ ظَنَّ عَبْدٍ
تُمَدُّ إليه في ذُلٍّ يداه

شارك الخبر

المرئيات-١