أرشيف المقالات

مختارات من رؤوس القوارير لابن الجوزي

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
مختارات من (رؤوس القوارير) لابن الجوزي
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فإن الإنسان يعيش بين أعداء أشداء أقوياء؛ أولهم: نفسه الأمارة بالسوء، وثانيهم: شيطانه الذي يجري منه مجرى الدم، وثالثهم: شياطين الإنس، ورابعهم ما يبث هنا وهناك مما يجعل القلوب تقسو والعيون تتحجر والنفوس تغفل؛ فتزداد الحاجة إلى المواعظ والرقائق التي تجعل القلوب تلين والعيون تدمع والنفوس تستيقظ، وأفضل زاجر وخير واعظ كلامُ الرحمن: القرآن العظيم، الذي لو أُنزل على جبالٍ لتصدعت من خشيته؛ قال الله جل جلاله: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهِم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم يا أيها البشر ألَّا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن أمر الله وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]".
 
وبعد كلام الرحمن يأتي كلام رسول الرحمن: نبيِّنا محمدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام، فلا يخلو كتاب من كتب أمهات الحديث من أحاديث لترقيق القلوب؛ ففي صحيح البخاري رحمه الله: كتاب الرقائق وغيره، وفي صحيح مسلم رحمه الله: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، والجنة وصفة نعيمها وأهلها، والزهد والرقائق، وفي جامع الترمذي رحمه الله: أبواب الزهد، وصفة القيامة، والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سنن ابن ماجه رحمه الله: أبواب الزهد، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله: كتاب قيام الساعة والنفخ في الصور والبعث والنشور، وكتاب الجنة والنار...؛ إلخ.
 
ومما ينفع في ترقيق القلوب وتلينها قراءة كتب السِّيَرِ والتراجم للعلماء والعباد والزهاد والصالحين من هذه الأمة، ومما ينفع كذلك قراءة كتب العلماء الذين لهم باعٌ في الوعظ والرقائق وفي مقدمتهم الإمام ابن الجوزي رحمه الله؛ فقد وهبه الكريم من واسع فضله، فمَلَكَ ناصية الوعظ؛ قال عنه ابن خلكان رحمه الله في كتابه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان): "الفقيه الحنبلي الواعظ ...
كان إمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ"، وقال عنه الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه النافع الماتع (سير أعلام النبلاء): "كان رأسًا في التذكير بلا مدافعة ...
فهو حامل لواء الوعظ والقَيِّم بفنونه ...
أحب الوعظ ولهج به وهو مراهق، فوعظ الناس وهو صبي".
 
له رحمه الله مصنفات كثيرة في فنون عديدة منها كتب في الوعظ والرقائق، أسأل الكريم أن يعين على انتخاب أبرز ما فيها من مواعظَ ورقائقَ، والبداية ستكون بكتابه: (رؤوس القوارير) الذي انتخبه من كتابه (المدهش في الوعظ والمحاضرات)؛ قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: "إن كتابي الموسوم بـ(المدهش في الوعظ والمحاضرات) غزُر علمه وكبر حجمه؛ فاستطاله المَلُولُ واستكثره المشغول؛ فانتخبت هذا منه ...
وسميته (رؤوس القوارير)، والله الموفق لكل مطلوب، والهادي لكل محبوب".
 
فهو رحمه الله انتخب كتابه (رؤوس القوارير) من كتابه (المدهش في الوعظ والمحاضرات)، وكاتب هذه السطور سينتخب من كتابه (رؤوس القوارير) بعضَ الفصول، أسأل الله أن ينفع بها ويبارك فيها.
 
• ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون؟ ما هذه الرَّقدة وأنتم مستيقظون؟ كيف نسيتم الزاد وأنتم راحلون؟ أين مَن كان قبلكم؟ ألا تتفكرون؟ أما رأيتم كيف نازلهم نازل المنون ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [يس: 50]، لو حضرتِ القلوب لجرت من العيون عيون، كأنكم بالآلام قد اعترضت، وبالأجسام قد انقضت، وبالأوصال قد فصلت، وبالخصال قد حصلت.
فرحم الله عبدًا أعتق نفسه من رق شهواتها، ونظر لها قبل مماتها.
 
• تنبه أيها الشاب لاغتنام العمل، تيقظ أيها الكَهْلُ قبل خيبة الأمل، بادر أيها الشيخ فكأن قد قيل: رَحَل، كأنك بالموت قد ألقاك صريعًا، وبالندم قد أبكاك نجيعًا، وبالأسف قد ضربك ضربًا وجيعًا، وبمَلَكِ الموت قد أقبل إليك سريعًا.
 
والجبين من العرق يرشح، والطرف من الفَرَقِ يسفح، والروح في الفلق يسبح، وأنت تبسط كفًّا وتقبض كفًّا، والملكُ يكفُّك عن التصرف كفًّا، وسفينة الحسرات في موج العبرات تتكفَّا، ثم يُرمى بك في جانب اللحد وتُحفى وتلقى، ما على الله لا يخفى، فتبقى في تلك الحفرة كالمأسور، تمضي عليك الأزمان والعصور، إلى أن ينفخ في الصور.
 
هذا وقد سمعت عذاب القبور، ثم يقوم نادمًا يوم النشور، والأرض تزلزل والسماء تمور، والجلود تشهد والنار تفور، والأسف شديد والكتاب منشور، والسؤال دقيق ولستَ بمعذور، والحساب قد فصل وحُصِّل ما في الصدور، والصراط عجيب لا يشبه الجسور، وقد ذلَّ وقلَّ وكَلَّ الجَسُورُ.
 
• يا مظهرًا من الخشوع ما ليس في باطنه، لا تَبِعْ ما ليس عندك، الرياء عيب في رئة الإيمان يسل المرض إلى السُّلال.
 
• وصال الدنيا مقرون بالشتات، والحياة الشائقة سابقة إلى الممات، والأعراض فيها أغراض لسهام النائبات ...
ويكفيكم عظةً سلب الآباء والأمهات.
 
• أين الذين سادوا وشادوا أوطانًا، وحكموا وأحكموا بنيانًا، وجمعوا فحشدوا أموالًا وأعوانًا، وغفل كلٌّ منهم عن مصيره وتوانى، عوضوا بأرباح الهوى خُسرانًا، وأُخرجوا عن ديارهم بعد الجموع وحدانًا؟
 
وما استصحب الجَمُوع للذهبِ إذ ذَهَبَ إلا أكفانًا، يُحملون على الأعناق ولا يُسمَّون ركبانًا، وينزلون بطون الألحاد ولا يُحسبون ضِيفانًا، متقاربين في القبور ولا يعدون جيرانًا.
 
أوَ ليس قد رأينا كيف ينقلون وما وعظنا ولا كفانا؟
فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل كأنك بطرفك حين الموت يسيل، والروح تُنزعُ والكرب ثقيل، والنُّقلة قد أزِفت وأين المقيل؟
 
يا من تُعَدَّ أنفاسُه استدرِكْها، يا من ستفوت أيامه أدركها، أعز الخلق عليك نفسك فلا تُهلِكها، كم أغلقتَ بابًا على قبيح! وكم أعرضت عن قول النصيح! وما يخطر على قلبك نزول الضريح، والوعيد عندك صوت الريح.
 
أَعْظَمَ اللهُ أجرَك في عمرٍ قد مضى، ما رُزقت فيه العفو ولا الرضا، انقضت فيه اللذات كما انقضى، وصارت الحسرات من الشهوات عوضًا.
 
• يا راقدًا في نوم الغفلة مشغولًا بأحلام الأمل، أنت تجود بالعمر في اللهو جودَ حاتمٍ ...
وتعِدُ بالتوبة وعد عُرقوب، والزمان يأكل عمرك أكل السوس، وكأنك بالموت أسرع من طرف يحملك إلى القبر ...
فتندم على التفريط.
 
• أيها المذنب، قف بالباب إذا نام الناس، وابسط لسان الاعتذار ونكِّسِ الرأس، وامدد يد السؤال ولا بأس، وقل: ليس عندي سوى الفقر والإفلاس.
 
• تفكَّروا هادم اللذات مساءً وصباحًا، وتفكروا في بِلَى وجوهٍ قد كُنَّ صِباحًا، فقد أفصحت الغِيَرُ بالعبر إفصاحًا.
 
• إخواني، كيف يغتر من تُعدَّ أنفاسه؟ وكيف يقر من قرُب اختلاسه؟ فَنِيَتْ والله الأيامُ، ولكن بخطايا وآثام، وكأن قد نزل بكم الحِمام، فأخرجكم عن الأيامى والأيتام.
 
أول ما تلقاكم عند حلول القبر الندامة، وآخر ما ترون عند القيام القيامة.
فرحِمَ الله عبدًا علِم أن الدنيا دار غرور ففارق ما فيها من الشرور ...
ولاحظ قرب الآخرة فصاحبُ الصُّورِ قد التقم الصُّورَ.
 
• يا من يجمع الأموال ويخبَؤها، ويخدش أعراض الخلائق وينكَؤها، ثم لا يستحل أهلها ولا يرفؤها، يا ويحَ نفسٍ في الذنوب منشؤها، والمختار عندها من الأمور أردؤها، تعصي ليلًا ونهارًا وتنسى من يكلؤها.
 
• إخواني، أين ذهب الإخوان؟ أما نزلوا اللحود وفارقوا الأوطان؟ أما دخل الخبر في خبر كان؟
أغِبْتُم أم شربتم بلاذرَ النسيان؟ إلى متى هذا الجور والشَّطَط؟ إلى كم هذا التهافت والغلط؟ البِدارَ البدار فأيام الاقتدار لُقط.
 
• أزِفَ الرحيلُ وما حصل الزاد، وقرُب التحويل وكلما جاء الزلل زاد.
• يا لرحيلك ما أعجله! يا لسفرك ما أطوله! يا لطريقك ما أهوله!

شارك الخبر

المرئيات-١